فلسفة إسلامية

(بالتحويل من الفلسفة الإسلامية)

الفلسفة الإسلامية. هي تطوّر في الفلسفة يتميّز بالانتماء إلى التقاليد الإسلاميّة. هناك مصطلحان في اللغة العربيّة يترجمان إلى اللاتينية "Philosophy" وهما "فلسفة" والتي تشير إلى الفلسفة وكذلك المنطق والرياضيات والفيزياء، و"علم الكلام"؛ والتي تُشير إلى علم يهدف لإثبات العقائد الدينية بالحجج العقلية.

عرف المسلمون الفلسفة من خلال اليونانيين. فقد ذكر الخوارزمي (ت 387هـ، 997م) في مفاتيح العلوم "أن الفلسفة مشتقة من كلمة يونانية وهي فيلاسوفيا وتفسيرها محبة الحكمة، فلما عُرّبت قيل: فيلسوف، ثم اشتقت الفلسفة منه، ومعنى الفلسفة علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح. وتنقسم إلى قسمين أحدهما الجزء النظري والآخر الجزء العملي. ومنهم من جعل المنطق قسمًا ثالثًا غير هذين، ومنهم من جعله جزءًا من أجزاء العلم النظري، ومنهم من جعله آلة للفلسفة، ومنهم من جعله جزءًا منها وآلة لها. هذه هي الفلسفة، فما الفلسفة الإسلامية إذن؟ يرى بعض الفلاسفة هي مجموعة الأفكار التي ارتآها الكندي والفارابي وابن سينا ومن سار على نهجهم في الله والعالم والنفس الإنسانية.

يرى ابن رشد (ت 595هـ، 1198م) في فصل المقال ¸أن النظر في كتب القدماء ـ يقصد بالقدماء هنا فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ـ واجب بالشرع، إن كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها ـ وهو الذي جمع بين أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة، والثاني: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية ـ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس، إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدّي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى·. فالفلسفة عند ابن رشد تفتح باب العلم بالله ومعرفته حق المعرفة.

ويرى ابن خلدون (ت 808هـ، 1406م) في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.· ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·.

ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. من هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.

ويذهب الكندي (ت نحو 260هـ، 873م) إلى أن الفلسفة هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف لأن علم العلة في نظره أشرف من علم المعلول، والعلم التام هو علم العلة. ويرى الفارابي (ت 339هـ، 950م) أن الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة ويقسمها إلى حكمة إلهية وطبيعية ورياضية ومنطقية. ويعطيها الشيخ الرئيس ابن سينا (ت428هـ، 1037م) طابعًا نفسيًا فيقول: الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية. ويقسم الحكمة كذلك إلى نظرية يتعلمها الإنسان، ولا يعمل بها، وحكمة عملية مدنية ومنزلية وأخلاقية.

بدأت الفلسفة الإسلاميّة المبكّرة مع يعقوب بن اسحاق الكندي في القرن الثاني من التقويم الإسلامي (أوائل القرن التاسع الميلادي) وانتهت مع ابن رشد في القرن السادس الهجري (أواخر القرن الثاني عشر الميلادي)، وتزامن ذلك -على نطاق واسع- مع الفترة المعروفة باسم العصر الذهبيّ للإسلام. تميّزت وفاة ابن رشد بنهاية تخصّص معيّن من الفلسفة الإسلامية يدعى عادةً بالمدرسة المشّائيّة العربية بشكلٍ فعليّ، وانخفض النشاط الفلسفيّ بشكلٍ كبير في الدول الإسلامية الغربية مثل الأندلس وشمال إفريقيا.

استمرّت الفلسفة الإسلاميّة لوقت طويل في البلدان الشرقيّة الإسلاميّة، ولا سيما في الدولة الصفويّة الفارسيّة وفي الإمبراطوريات العثمانيّة والمغوليّة، حيث واصلت العديد من مدارس الفلسفة ازدهارها: السينوية (نسبةً إلى ابن سينا)، والرشدية (نسبةً إلى ابن رشد)، والفلسفة الإشراقيّة، والفلسفة الصوفيّة، وفلسفة الحكمة المتعالية، وفلسفة أصفهان.

قدّم ابن خلدون، في مقدّمته مساهمات مهمّة في فلسفة التاريخ. ازداد الاهتمام بالفلسفة الإسلاميّة خلال حركة النهضة العربية "اليقظة" في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، واستمرّ حتى يومنا هذا.

كان للفلسفة الإسلاميّة تأثير كبير في أوروبا المسيحيّة، بحيث أدّت ترجمة النصوص الفلسفيّة العربيّة إلى اللاتينيّة "إلى حدوث تحوّل في جميع التخصّصات الفلسفيّة تقريبًا في العالم اللاتيني في العصور الوسطى"، مع تأثير قويّ بشكل خاصّ للفلاسفة المسلمين المتخصّصين بالفلسفة الطبيعية وعلم النفس والميتافيزيقيا.

وحول هذه المفاهيم، كان يتناول فلاسفة الإسلام الفلسفة مقتفين أثر الأساتذة القدماء من حكماء اليونان. فكانوا تارة يقتربون من أساتذة اليونان وتارة يبتعدون عنهم، ولم ينتهجوا منهجًا مستقلاً في التفلسف ولم يخالفوا رأي القدماء إلا في المسائل التي تخرجهم من ملة الإسلام، وظلوا أساتذة في هذا العلم في ظل أساتذة الفلسفة السابقين.

مقدّمة

يشير مصطلح "الفلسفة الإسلاميّة" إلى الفلسفة المُنتجة في العالم الإسلاميّ، وهو مصطلح عامّ يمكن تعريفه واستخدامه بطرقٍ مختلفة. ويعني المصطلح بمعناه الأوسع نظرة العالم إلى الإسلام كما هو مستمدٌّ من النصوص الإسلاميّة المتعلّقة بخلق الكون وإرادة الخالق. بمعنى آخر، يشير إلى أيٍّ من مدارس الفكر التي ازدهرت في ظلّ الإمبراطوريّة الإسلاميّة أو في ظلّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة والحضارة الإسلاميّة. وبالمعنى الضيّق فإنّ كلمة فلسفة هي ترجمة لـ Falasafa والتي تُشير إلى مدارس الفكر الخاصّة التي تعكس بمعظمها تأثير المناهج الفلسفيّة اليونانيّة مثل الأفلاطونيّة والأرسطيّة.

ليس بالضرورة أن تُعنى الفلسفة الإسلاميّة بالقضايا الدينيّة، ولا ينتجها المسلمون حصريّاً. كما أنّ كلّ مدارس الفكر داخل الإسلام لا تعترف بفائدة أو شرعيّة البحث الفلسفيّ. يجادل البعض بأنه لا يوجد مؤشّر على أنّ المعرفة والخبرة المحدودتين للبشر يمكن أن تصل بك إلى الحقيقة. من المهمّ أيضًا ملاحظة أنّه في حين إمكانيّة التعرّف على "العقل" كمصدر للتشريع في الإسلام، فقد يكون له معنى مختلف تمامًا عن "العقل" في الفلسفة.

يتّسم تاريخ الفلسفة الإسلاميّة بالخلافات حول كيفيّة تفسير الموضوع بشكل صحيح. تتضمّن بعض القضايا الرئيسيّة الأهمية النسبيّة للمفكّرين الشرقيّين مثل ابن سينا والمفكرين الغربيين مثل ابن رشد، وإمكانيّة قراءة الفلسفة الإسلاميّة بالقيمة الاسميّة لها أم ينبغي تفسيرها بدراسة ما بين السطور. يؤكّد مؤيّدو الفرضيّة الأخيرة، مثل ليو شتراوس، ميلَ الفلاسفة الإسلامييّن للكتابة بطريقة أخفت المعاني المنشودة الحقيقيّة بهدف تجنّب الاضطهاد الديني، لكن وبالطرف المقابل فهناك علماء آخرون مثل أوليفر ليمان لا يوافقون على هذه النظريّة.

متى نشأت الفلسفة الإسلامية وكيف

إذا كانت كلمة فلسفة يونانية الأصل وكان المسلمون قد نظروا في فلسفة اليونان، فكيف وصلت الفلسفة إلى المسلمين مع فارق المسافة والثقافة واللغة؟ وهل كان علم الحق الأول عند المسلمين مستخرجًا من الكتاب والسنة؟ أو أن هناك مؤثرات أخرى جعلت من اتجه من المسلمين يتجه صوب الفلسفة؟ الشاهد التاريخي يقول إن القرآن والسنة لم يدفعا المسلمين إلى التفلسف ـ إلا من باب التأمُّل الذي أمروا به ـ بل كانت هناك مؤثرات خارجية وفدت إلى ديار المسلمين إثر عصور الترجمة، وحاول العلماء الذين خاضوا في هذه العلوم الجديدة الوافدة التوفيق بين رصيدهم من العلوم النقلية الشرعية وبين العلوم العقلية الفلسفية المنقولة باللغة السريانية أو العبرانية عن اللغة اليونانية. وقد أثْرت حركة الترجمة الحياة العلمية عند المسلمين خاصة في مجال العلوم الطبيعية. لكن على الرغم من ذلك فإن هناك بعض الملاحظات التي أبداها علماء المسلمين على حركة الترجمة، منها أن المترجمين لم يكونوا من أهل الاختصاص في العلوم التي نقلوها وحدث ما كان يخشاه علماء المسلمين من التصحيف والتحريف في اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، وكان ذلك أشد وضوحًا فيما نقلوه من الفلسفة اليونانية. إن المترجمين نقلوا ـ مثلاً ـ كتابالربوبية لأفلوطين ونسبوه خطأً لأرسطو. وغلب على ظن كثير من متفلسفة الإسلام أن الربوبية حقيقة لأرسطو ووقعوا في مغالطات الذين كانوا يقولون بالتوفيق بين الفلسفة والدين، والعقل والنقل. ومن ناحية أخرى، فإن بعض المترجمين كانوا قومًا أهل دين: منهم النساطرة النصرانيون الذين كانوا ينشرون النصرانية في كل محفل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ومنهم اليهود الذين كانوا يرون في الإسلام مزاحمًا ومنافسًا فكريًا فأرادوا أن يستبعدوه ليخلو لهم الجو. هذا فيما يتعلق بالعلوم النظرية، أما العلوم التطبيقية، فقد برع فيها المسلمون واستفادوا أيما فائدة من الترجمات والشروح على الترجمات التي وصلت إليهم من العلوم اليونانية عن طريق السريانية. ظهرت هذه الترجمات بعد الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي ولم يكن دور العصر الأموي كبيرًا في الترجمة إلا أن العصر العباسي كان عصر الترجمة الزاهر.

حركة الترجمة في العصر الأموي

لم يؤدِّ الأمويون دورًا كبيرًا في حركة الترجمة، بل كان دورهم ثانويًا إبان الفتوحات الإسلامية لأنهم كانوا حريصين على حماية الثغور وفتح البلدان وتأمين الدولة الجديدة، ما عدا الدور الذي أدَّاه خالد بن يزيد الذي ترك الإمارة والحكم وكرّس جهده للطب وترجمة كتب الكيمياء والطب إلى العربية. وظهر في هذا العصر الطبيب ما سرجويه، وكان ينقل من السريانية إلى العربية. ودارت في هذا العصر مناقشات وجدال حول الإمامة والجبر والاختيار كانت إرهاصًا بظهور الفرق الإسلامية فيما بعد.

حركة الترجمة في العصر العباسي

بدأت الترجمة في هذا العصر في خلافة المنصور ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى السريانية وظهرت أسماء بعض المترجمين في هذا العصر أمثال سرجيوس الرأس عيني أو الرسعني الذي ترجم آثار جالينوس في الطب والأخلاق وآثار أرسطو المنطقية إلى السريانية، وعبدالله بن المقفع الذي ترجم من الفارسية إلى العربية حكايات كليلة ودمنة، وقيل إنه ترجم بعض كتب أرسطو في المنطق. وازدهرت حركة الترجمة في عصر المأمون إذ إنه أسس في بغداد مدرسة الحكمة أو بيت الحكمة سنة 217هـ، 832م وائتمن يحيى بن ماسويه عليه، وخلف يحيى تلميذه الشهير حنين بن إسحق في الفترة الواقعة بين سنة 194-260هـ، 809-873م، وكان حنين أشهر مترجم للمؤلفات اليونانية إلى السريانية والعربية دون منازع، وكذلك كان ابنه إسحاق بن حنين وابن أخيه حبيش بن الحسن. ومن الأسماء التي لمعت في فن الترجمة يحيى بن البطريق (مطلع القرن التاسع الميلادي) وعبد المسيح بن عبدالله بن ناعمة الحمصي (النصف الأول من القرن التاسع)، وهو الذي كان مساعدًا للفيلسوف الكندي وقد ترجم لأرسطو، وإليه يرجع الفضل في ترجمة كتاب الربوبية (إثولوجيا) المنسوب إلى أرسطو وكان قد وضعه أفلوطين الإسكندري. وكذلك لمع اسم قسطا بن لوقا البعلبكي، وقد كان طبيبًا وفيلسوفًا وفيزيائيًا معروفًا ترجم شروح الإسكندر الأفروديسي ويوحنا فيلويون على كتاب الطبيعة لأرسطو. وله شروح جزئية للكون والفساد لأرسطو، وله رسالة في الفرق بين الروح والعقل، وله بحوث في الشفاء شبيهة بعلم النفس المعاصر. وفي القرن العاشر الميلادي، ظهرت أسماء مثل أبي بشر متى القنائي (ت 329هـ،940م) والفيلسوف النصراني يحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق (ت 364هـ، 974م) وتلميذه أبي الخير بن الخمار (ولد 331هـ، 942م). وقد ظهرت في هذا العصر مدرسة الرَّهَا وكانت تضم صابئة حران الذين كانوا يدينون بالمعتقدات الكلدانية القديمة ويهتمون بالدراسات الرياضية والفلكية والروحية بالإضافة إلى الأفلاطونية الفيثاغورثية المحدثة. ومن أشهر المترجمين في مدرسة الرها ثابت بن قرة، وقد ترجم العديد من المؤلفات الرياضية والفلكية.

لماذا اشتغل المسلمون بالفلسفة

لم يهتم المسلمون بالآداب اليونانية لأنها كانت وثنية في مبدئها ومنتهاها فلم يحفلوا بها كثيرًا. وكانت معرفتهم بالفلسفة اليونانية عن طريق بلوتارك الذي نقل عن ديوجين اللايرتي، وفرفوريوس، وجالينوس. ولذلك كانت معرفتهم بالفلسفة السابقة لسقراط مزيجًا من الأساطير والخرافات التي نسبوها إلى فلاسفة اليــونان المتأخــرين في مدرسة الإسكندرية.

وقد عرف المسلمون الفلاسفة الذين جاءوا قبل سقراط كأنبا دقليس الذي كانوا يسمونه ابن دقليس، وديموقريطس وفيثاغورث، وكذلك عرفوا السوفسطائيين أمثال بروتاغوراس وجورجياس وعرفوا سقراط عن طريق ما كتبه عنه إسكانوفان في التعاليق وكتبوا عن سيرة سقراط وموته ودفاعه عن فكره حتى موته.

وكذلك عرفوا أفلاطون واعتبروه أقرب الفلاسفة إليهم لأنه تكلم عن الخلق الإلهي وأثبت وجود الصانع وبرهن على وجود النفس وخلودها وكان تأثيره فيهم كبيرًا. تأثر به الكندي والفارابي وابن سينا وكل التيار الإشراقي الصوفي ومن دار في فلكهم. وتأثر هؤلاء أيضًا بأفلوطين صاحب الأفلاطونية المحدثة والمذهب الإشراقي. وقد كان أرسطو مثار إعجاب فلاسفة الإسلام إذ إنهم، كما كانوا يجلّون أفلاطون الإلهي، أصبحوا يقدرون أرسطو العقلي إعجابًا بعلمه وعقله وإجلالاً لفلسفته. لكنهم وضعوا حول سيرته روايات وأساطير قصصية كانت من عمل مدرسة الإسكندرية والسريان المتأخرين، ونُسبت إليه كتب كثيرة لم تكن من تأليفه، نذكر منها على سبيل المثال، كتاب التفاحة وكتابالربوبية واشتغلوا بكتبه كثيرًا لا سيما كتب المنطق، وكذلك عرفوا كتبه في الأخلاق والطبيعيات والسياسة. وقام فلاسفة الإسلام بمحاولة الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون وأرسطو. وعندما توغل المسلمون في الفلسفة وفي شروح أرسطو ومنطقه وأقيسته وأصبحوا أساتذة وطال باعهم في التفلسف، حصلت في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين حركة ترجمة عكسية من العربية إلى اللاتينية. وقد أثرت هذه الترجمات على الفكر الأوروبي وأعادت إلى الأوروبيين التراث اليوناني مزيدًا ومنقحًا ومشروحًا ومعلقًا عليه، ونشأت مدرسة أوروبية في العصور الوسطى تُسمى بالرشدية لقيامها على آراء الفيلسوف المسلم ابن رشد الذي كانوا يعرفونهبأفروس وعرفوا ابن سينا بأفيسينا، وكان كتاب القانون في الطب لابن سينا يدرَّس في جامعات فرنسا إلى القرن الثالث عشر الميلادي كما عرفته أيضًا قاعات أكسفورد إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي. وقد كانت الفلسفة الإسلامية الجسر الذي نقل الفلسفة اليونانية إلى أوروبا.

تأثير الفلسفة في المتكلمين

كان المتكلمون يدافعون عن العقيدة ويقارعون الخصوم الحجة بالحجة. وعندما شاع الاشتغال بالفلسفة والمنطق اليوناني، خاضوا في مسائل المنطق للدفاع عن العقيدة، ومنهم من لم تعجبه أساليب اليونان ففضل أساليب القرآن في الحجاج ومقارعة الخصوم، ومنهم من اشتغل بالمنطق وقضاياه باعتباره أداة من أدوات المعرفة. وكانت لهم مآخذ على منطق أرسطو وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ، 1328م) الذي قال إن منطق أرسطو لا يحتاج إليه الذكي ولا يستفيد منه الغبي لأنه تحصيل حاصل، وذكر أن المنطق يتأثر باللغة، وكذلك منطق اليونان قد تأثر باللغة اليونانية بكل ما فيها من وثنيات، ولذلك يُخشى على من ليس لهم علم بذلك من معاطب الطريق. نخلص من هذا إلى أن تأثير الفلسفة في المتكلمين وفي علماء المسلمين لم يكن تأثير الأستاذ على التلميذ، كما تدّعي بعض الدوائر الاستشراقية، بل هو في جملته تأثير عكسي، تأثير الذي يريد أن يعرف الشر لكي لا يقع فيه، وقد عرفوا لهم الفضل وحفظوه فيما ليس فيه شر.

التأثيرات التكوينيّة

المصادر الرئيسية للفلسفة الكلاسيكيّة أو الإسلاميّة المبكّرة هي دين الإسلام نفسه (وخاصّة الأفكار المستخلصة والمفسرة من القرآن) والفلسفة اليونانية التي ورثها المسلمون الأوائل نتيجة الفتوحات، إلى جانب الفلسفة الهندية الموجودة قبل الإسلام والفلسفة الفارسية. تركّزت العديد من النقاشات الفلسفية المبكرة حول التوفيق بين الدين والعقل الذي تجسّده الفلسفة اليونانية.

مفهوم الفلسفة في الإسلام

طالع أيضًا: علم الكلام، وفلسفة صوفية، و الحسنات والسيئات

الكلمة الأقرب لكلمة فلسفة هي كلمة "حكمة"، وهي مستخدمة في النصوص الإسلامية الأساسية (القرآن والسنة)، لهذا نجد الكثير من الفلاسفة المسلمين يستخدمون كلمة "حكمة" كمرادف لكلمة "فلسفة" التي دخلت إلى الفكر العربي الإسلامي. كلمة "الفلسفة" هي كلمة يونانية الأصل، وهي تتكون من مقطعين يونانيين هما: "philien" ومعناها "يحب"، و"sophia" ومعناها "الحكمة"، وعلى هذا يكون الفيلسوف "philosopher" هو الشخص الذي يحبُّ الحكمة، أو هو "محبُّ الحكمة". وللفلسفة تعريفات عدة عند فلاسفة المسلمين، منها ما ذكره الكندي بقوله: «"إنها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان؛ لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق"». وإن كانت كلمة فلسفة ضمن سياق الحضارة الإسلامية بقيت ملتصقة بمفاهيم الفلسفة اليونانية الغربية، فإنه عندما نحاول أن نتحدث عن فلسفة إسلامية بالمفهوم العام كتصور كوني وبحث في طبيعة الحياة، لا بد أن نشمل معها المدارس الأخرى تحت المسميات الأخرى، وأهمها علم الكلام وأصول الفقه وعلوم اللغة (راجع : تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية، مصطفى عبد الرازق).

و أهم ما يواجه الباحث أن كلا من هذه المدارس قد قام بتعريف الحكمة أو الفلسفة وفق رؤيته الخاصة واهتماماته الخاصة، في مراحل لاحقة دخل المتصوفة في نزاعات مع علماء الكلام والفلاسفة لتحديد معنى كلمة الحكمة التي تذكر في الأحاديث النبوية وكثيرا ما استخدم العديد من أعلام الصوفية لقب (حكيم) لكبار شخصياتهم مثل الحكيم الترمذي. بأي حال فإن لقب (فيلسوف/فلاسفة) ظل حصرا على من عمل في الفلسفة ضمن سياق الفلسفة اليونانية ومن هنا كان أهم جدل حول الفلسفة هو كتابي (تهافت الفلاسفة للغزالي وتهافت التهافت لابن رشد).وللعلم كتاب تهافت الفلاسفة للغزالى قصد به تهافت الفلاسفة على مواضيع الميتافزيقا والغوص فيها هي وشروح ارسطو لأن الأمام أبو حامد الغزالى كان من الفلاسفة المتصوفه.

و يجدر الإشارة هنا إلى أن تغيّر النظر إلى مفهوم الفلسفة تبعا لتنوع الأجوبة على سؤال "ما الفلسفة؟" الذي قد يتحول - نتيجة بزوغ فرع آخر في الفلسفة وهو فلسفة الفلسفة أو المصطلح الذي يفضله الدكتور طه عبد الرحمن فقه الفلسفة في كتابه "فقه الفلسفة"- إلى (ما "ما الفلسفة؟" ؟).. الخ، إذا رأينا تصنيف الفلسفة إلى فلسفة قديمة وأخرى جديدة حيث أن الأولى فلسفة في الوجود والثانية فلسفة في المعرفة، فإن الإتجاه الإسلامي سيتميز بفلسفة - أي بفلسفة في المعرفة - خاصة به إذا نظرنا إلى علوم المناظرة العقدية (مناهج الكلام، مناهج أهل الحديث.) وعلوم الحديث وأصول الفقه ومناهج التفسير وغيرها من المعارف التي تهتم بتدشين المناهج إلى جانب دراسة المضامين اعتمادا على المصدرين المنقول الصحيح والمعقول الصريح أو الوحي والعالم أو بتعبير الدكتور جعفر شيخ إدريس وحيُ الله وخلقُ الله.

بدايات الفلسفة الإسلامية

المقالة الرئيسة: قائمة الفلاسفة المسلمين

إذا اعتبرنا تعريف الفلسفة على أنها محاولة بناء وتصور ورؤية شمولية للكون الحياة، فإن بديات هذه الأعمال في الحضارة الإسلامية بدأت كتيار فكري في البدايات المبكرة للدولة الإسلامية بدأ بعلم الكلام، ووصل الذروة في القرن التاسع عندما أصبح المسلمون على اطلاع بالفلسفة اليونانية القديمة والذي أدى إلى نشوء رعيل من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يختلفون عن علماء الكلام.

علم الكلام كان يستند أساسا على النصوص الشرعية من قرآن وسنة وأساليب منطقية لغوية لبناء أسلوب احتجاجي يواجه به من يحاول الطعن في حقائق الإسلام، في حين أن الفلاسفة المشائين، وهم الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية، فقد كان مرجعهم الأول هو التصور الأرسطي أو التصور الأفلوطيني الذي كانوا يعتبرونه متوافقا مع نصوص وروح الإسلام. و من خلال محاولتهم لاستخدام المنطق لتحليل ما إعتبروه قوانين كونية ثابتة ناشئة من إرادة الله، قاموا بداية بأول محاولات توفيقية لردم بعض الهوة التي كانت موجودة أساسا في التصور لطبيعة الخالق بين المفهوم الإسلامي لله والمفهوم الفلسفي اليوناني للمبدأ الأول أو العقل الأول.

تطورت الفلسفة الإسلامية من مرحلة دراسة المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل والتعبّد إلى مرحلة دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية ولكن النقطة المشتركة عبر هذا الامتداد التأريخي كان معرفة الله وإثبات الخالق. بلغ هذا التيار الفلسفي منعطفا بالغ الأهمية على يد ابن رشد من خلال تمسكه بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة. أول من برز من فلاسفة العرب كان الكندي الذي يلقب بفيلسوف العرب، من ثم كان الفارابي الذي لقب بالمعلم الأول وتبنى الكثير من الفكر الأرسطي من العقل الفعال وقدم العالم ومفهوم اللغة الطبيعية. أسس الفارابي مدرسة فكرية كان من أهم اعلامها : الأميري والسجستاني والتوحيدي. كان الغزالي أول من أقام صلحا بين المنطق والعلوم الإسلامية حين بين أن أساليب المنطق اليوناني يمكن ان تكون محايدة ومفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية. توسع الغزالي في شرح المنطق واستخدمه في علم أصول الفقه، لكنه بالمقابل شن هجوما عنيفا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين المشائين في كتاب تهافت الفلاسفة، رد عليه لاحقا ابن رشد في كتاب تهافت التهافت.

في إطار هذا المشهد كان هناك دوما اتجاه قوي يرفض الخوض في مسائل البحث في الإلهيات وطبيعة الخالق والمخلوق وتفضل الاكتفاء بما هو وارد في نصوص الكتاب والسنة، هذا التيار الذي يعرف "بأهل الحديث" والذي ينسب له معظم من عمل بالفقه الإسلامي والاجتهاد كان دوما يشكك في جدوى أساليب الحجاج الكلامية والمنطق الفلسفية. و ما زال هناك بعض التيارات الإسلامية التي تؤمن بأنه "لا يوجد فلاسفة للإسلام"، ولا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب السنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضُّلال".

في مرحلة متأخرة من الحضارة الإسلامية، ظهرت حركة نقدية للفلسفة أهم أعلامها : ابن تيمية الذي يعتبر في الكثير من الأحيان أنه معارض تام للفلسفة وأحد أعلام مدرسة الحديث الرافضة لكل عمل فلسفي، لكن ردوده على أساليب المنطق اليوناني ومحاولته تبيان علاقته بالتصورات الميتافيزيقية (عكس ما أراد الغزالي توضيحه) وذلك في كتابه (الرد على المنطقيين) اعتبر من قبل بعض الباحثين العرب المعاصرين بمثابة نقد للفلسفة اليونانية أكثر من كونه مجرد رافضا لها، فنقده مبني على دراسة عميقة لأساليب المنطق والفلسفة ومحاولة لبناء فلسفة جديدة مهدت للنقلة من واقعية الكلي إلى اسميته.

التناقض مع الفلسفة اليونانية

كان مفهوم الخالق الأعظم لدى الفلاسفة اليونانيين يختلف عن مفهوم الديانات التوحيدية. فالخالق الأعظم في منظور أرسطو وأفلاطون لم يكن على اطلاع بكل شيء ولم يظهر نفسه للبشر عبر التاريخ ولم يخلق الكون ولن يحاسبهم عند الزوال وكان أرسطو يعتبر فكرة الدين فكرة لاترتقي إلى مستوى الفلسفة.

يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية القديمة بصورة عامة إلى مرحلتين:

  • مرحلة ماقبل سقراط التي إتسمت برفضها للتحليلات الميثولوجية التقليدية للظواهر الطبيعية وكان نوع التساؤل في حينها (من أين أتى كل شيء ؟) وهل يمكن وصف الطبيعة باستعمال قوانين الرياضيات وكان من اشهرهم طاليس الذي يعتبره البعض أول فيلسوف يوناني حاول إيجاد تفسيرات طبيعية للكون والحياة لاعلاقة لها بقوى إلهية خارقة فعلى سبيل المثال قال ان الزلازل ليس من صنيعة إله وإنما بسبب كون الأرض اليابسة محاطة بالمياه وكان أناكسيماندر أيضا من ضمن هذا الرعيل وكان يؤمن بالقياسات والتجربة والتحليل المنطقي للظواهر وكان يعتقد ان بداية كل شيء هي كينونة لامتناهية وغير قابلة للزوال وتتجدد باستمرار، من الفلاسفة الآخرين في هذا الجيل، بارمنيدس، ديمقراطيس، أناكسيمين ميلتوسي.
  • مرحلة سقراط وما بعده والتي تميزت باستعمال طريقة الجدل والمناقشة في الوصول إلى تعريف وتحليل وصياغة أفكار جديدة وكان هذا الجدل عادة مايتم بين طرفين يطرح كل طرف فيهما نظرته بقبول أو رفض فكرة معينة وبالرغم من أن سقراط نفسه لم يكتب شيئا ملموسا إلا ان طريقته أثرت بشكل كبير على كتابات تلميذه أفلاطون ومن بعده أرسطو.من وجهة نظر أفلاطون فإن هناك فرقا جوهريا بين المعرفة و الإيمان فالمعرفة هي الحقيقة الخالدة أما الإيمان فهو احتمالية مؤقتة أما أرسطو فقد قال إنه لمعرفة وجود شيء ما علينا معرفة سبب وجوده ووجود أو كينونة فكرة الخالق الأعظم حسب أرسطو هو فكرة التكامل والمعرفة على عكس فكرة المخلوق الباحث عن الكمال ولتوضيح فكرته أورد أرسطو مثال التمثال وقال ان هناك 4 أسباب لوجود تمثال :
  • أسباب مادية مرده إلى المادة التي صنع منها التمثال.
  • أسباب غرضية مرده إلى الغرض الرئيسي من صنع التمثال.
  • أسباب حرفية مرده الشخص الذي قام بصنع التمثال.
  • أسباب إرضائية مرده الحصول على رضا الشخص الذي سيشتري التمثال.

استفاد أرسطو من نظرية سقراط القائلة إن كل شيء غرضه مفيد لابد ان يكون نتيجة لفكرة تتسم بالذكاء واستنادا إلى هذه الفكرة استنتج أرسطو ان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة وهذه الكينونة الأولية هي انطباع أرسطو عن فكرة الخالق الأعظم لكن أرسطو لم يتعمق في كيفية وغرض منشأ الكون من الأساس.

الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية المبكرة

في العصر الذهبي للدولة العباسية وتحديدا في عصر المأمون بدأ العصر الذهبي للترجمة ونقل العلوم الإغريقية والهلنستية إلى العربية مما مهد لانتشار الفكر الفلسفي اليوناني بشكل كبير وكانت المدرسة الفلسفية الأكثر شيوعا خلال العصر الهلنستي هي المدرسة الأفلاطونية المحدثة التي كان لها أكبر تأثير في الساحة الإسلامية في ذلك الوقت. تحاول الفلسفة الإفلاطونية المحدثة التي أحدثها أفلوطين أساسا الدمج بين الفكر الأرسطي والأفلاطوني والتوفيق بينهما ضمن إطار معرفي واحد وتصور وحيد لعالم ماتحت القمر وما فوق القمر. الأفلاطونية المحدثة أيضا ترتبط ارتباطا وثيقا بالمفاهيم الغنوصية التي تتوافق مع بعض أفكار الديانات المشرقية القديمة. أهم تجليات هذه الأفلاطونية المحدثة والغنوصية تجلت في أفكار أخوان الصفا في رسائلهم والتي شكلت الإطار الفكري المرجعي للفكر الباطني.

لاحقا بدأت تظهر من جديد عملية فصل للمدرستين الإفلاطونية والأرسطية، حيث ظهر العديد من العجبين بقوة بناء النظام الفكري الأرسطي وقوة منطقه واستنتاجه وكان أهم شارحيه وناشري المدرسة الأرسطية هو ابن رشد، لم تعدم الساحة الإسلامية أيضا انتقال بعض الأفكار الشكوكية التي عمدت إلى نقد الأفكار الميتافيزيقية الإسلامية وكانت تبدي الكثير من الأفكار التي توصف بالإلحاد حاليا اهمهم : ابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي.

الهرمسية والإفلاطونية المحدثة

أول ما وجد في منطقة الشرق الأدنى (سوريا والعراق ومصر) بعد دخول الإسلام من دراسات فلسفية كانت الثقافة الهيلينية التي كانت تسيطر عليها الإفلاطونية المحدثة إضافة إلى الهرمسية التي كانت مختلطة بجماعات الصابئة في حران وعقائد وأفكار المانوية والزرادشتية. تشكل الهرمسية والإفلاطونية المحدثة مجموعة رؤى هرمسية وإطار فلسفي لرؤية كونية غنوصية أو تدعى أحيانا يالعرفانية. تنسب الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الإله.غير ان العديد من البحاث الحديثة (أهمها دراسة فيستوجير) تؤكد أن تلك المؤلفات الهرمسية ترجع إلى القرنين الثاني والثالث للميلاد وقد كتبت في مدينة الإسكندرية من طرف أساتذة يونانيين. وبشكل عام تقدم الرؤية الهرمسية تصورا بسيطا عبارة عن إله متعال منزه عن عن كل نقص ولا تدركه الأبصار ولا العقول. بمقابله توجد المادة وهي أصل الفوضى والشر والنجاسة. أما الإنسان فهو مزبج جسم مادي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، وجزء شريف أصله من العقل الكلي الهادي هو النفس الشريفة. تتصارع في الإنسان جزءاه الطاهر والنجس وتتصارع فيه الهواء بين رغبة بالالله ورغبة في الشر لذلك جاء الإله هرمس ليقوم بالوساطة بين الإنسان والإله المالله بتوسط العقل الكلي الهادي ليعلم الناس طريق الخلاص والاتحاد بالاله المالله (و هنا يحدث الفناء في مصطلح الصوفية). لكن هذا الطريق صعب لا يتحمله إلا النبياء والأتقياء والحكماء. النفس كائنات إلهية عوقبت بعد ارتكابها إثم لتنزل وتسجن في الأبدان ولا سبيل لخلاصها إلا بالتطهر والتأمل للوصول إلى المعرفة، هذه المعرفة لا تتم عن طريق البحث والاستدلال بل عن طريق ترقي النفس في المراتب الكونية والعقول السماوية.

عدم الفصل بين العالم العلوي والعالم السفلي، وقدرة النفس على التواصل مع العقول السماوية والإله المالله، إلهية النفس البشرية وشوقها للاتحاد والاندماج في الاله أو حلول الاله في العالم، وحدة الكون وتبادل التأثير بين مختلف الكائنات (نباتات، حيوانات، إنسان، اجرام سماوية سبعة أو الكواكب)، الدمج بين العلم والدين وعدم الاعتراف بسببية منتظمة في الطبيعة، دراسة العناصر وتحولاتها بشكل ممتزج مع السحر والتنجيم (أصول الخيمياء) : كل هذا يشكل مباديء الهرمسية والعرفانية وتشكل الأفلاكونية المحدثة عن طريق العقول السماوية العشرة ونظرية الفيض التي تنتقل من خلالها المعرفة من العقل الأول إلى الإنسان وبالعكس الإطار الفلسفي لهذه الأفكار.

فلسفة أرسطو

المقالة الرئيسة: أرسطو

لم يدخل أرسطو إلى الساحة العربية الإسلامية إلا بعد حملة الترجمة التي قام بها الخليفة المأمون. وتذكر المصادر ان أول كتاب تم ترجمته لأرسطو كان كتاب "السماء والعالم" من قبل يوحنا بن البطريق عام 200 هـ لكن حنين بن إسحاق اضطر إلى إعادة ترجمتها عام 260 هـ ويمكن اعتبار بداية دخول أرسطو الحقيق تمت على يد حنين وابنه اسحاق سنة 298 هـ. أما أرسطو المنحول فقد دخل عن طريق كتاب "أتولوجيا" الذي ترجمه ابن ناعمة الحمصي عام 220 هـ. ويبدو أن ابن المقفع وابنه محمد قد قاما أيضا بترجمة بعض كتب أرسطو مثل كتب "الأرغانون" وكتاب "التحليلات الأولى" وكتاب "المنطق لفورفوريوس". ويؤكد بول كراوس أنه لم يتم خلال الفترة الأولى قبل المامون ترجمة أي شيء عدا الأجزاء الثلاثة الأولى من الأرغانون التي تتناول المنطق فقط دون الفلسفة الولى والطبيعة على عادة المسيحيين السريان، لكن حركة الترجمة في عصر المأمون مددت ذلك لتشمل كتب أرسطو غير المنطقية. ويكفي أن نعرف ان كتاب "التحليلات الثانية" أو "البرهان" لم يترجم للعربية إلا في القرن الرابع الهجري على يد أبي بشر متى عام 328 هـ.

تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي

علم الكلام والمعتزلة

المقالات الرئيسة: علم الكلام و المعتزلة

كان علم الكلام مختصا بموضوع الإيمان العقلي بالله وكان غرضه الانتقال بالمسلم من التقليد إلى اليقين وإثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة المفيدة لليقين بها. علم الكلام كان محاولة للتصدي للتحديات التي فرضتها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساسا (مثل المانوية والزرادشتية والحركات الشعوبية) وعليه فإن علم الكلام كان منشأه الإيمان على عكس الفلسفة التي لا تبدأ من الإيمان التسليمي، أو من الطبيعة، بل تحلل هذه البدايات نفسها إلى مبادئها الأولى. هناك مؤشرات على إن بداية علم الكلام كان سببه ظهور فرق عديدة بعد وفاة الرسول محمد ،ومن هذه الفرق:

كان نشأة علم الكلام في التاريخ الإسلامي نتيجة ما إعتبره المسلمون ضرورة للرد على ما إعتبروه بدعة من قبل بعض "الفرق الضالة" وكان الهدف الرئيسي هو إقامة الأدلة وإزالة الشبه ويعتقد البعض إن جذور علم الكلام يرجع إلى الصحابة والتابعين ويورد البعض على سبيل المثال رد ابن عباس وابن عمر وعمر بن عبد العزيز والحسن بن محمد ابن الحنفية على المعتزلة، ورد علي بن أبي طالب على الخوارج ورد إياس بن معاوية المزني على القدرية والتي كانت شبيهة بفرضية الحتمية. كان علم الكلام عبارة عن دراسة "أصول الدين" التي كانت بدورها تتمركز على 4 محاور رئيسية وهي:

  • الالوهية: البحث عن اثبات الذات والصفات الالهية.
  • النبوة: عصمة الأنبياء وحكم النبوة بين الوجوب عقلاً، وهو مذهب المعتزلة والجواز عقلاً، وهو مذهب الاشاعرة.
  • الإمامة: الآراء المتضاربة حول رئاسة العامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي محمد.
  • المعاد: فكرة يوم القيامة وإمكان حشر الأجسام. ويدرج البعض عناوين فرعية أخرى مثل "العدل" و"الوعد" و"الوعيد" و"القدر" و"المنزلة".

دور الكندي في الفلسفة

المقالة الرئيسة: الكندي

كان يعقوب بن إسحاق الكندي (805 - 873) أول مسلم حاول استعمال المنهج المنطقي في دراسة القرآن، كانت أفكار الكندي متأثرا نوعا ما بفكر المعتزلة ومعارضا لفكر أرسطو من عدة نواحي. نشأ الكندي في البصرة واستقر في بغداد وحضي برعاية الخليفة العباسي المأمون، كانت اهتمامات الكندي متنوعة منها الرياضيات والعلم الفلسفة لكن اهتمامه الرئيسي كان الدين.

بسبب تأثره بالمعتزلة كان طرحه الفكري دينيا وكان مقتنعا بأن حكمة الرسول محمد النابعة من الوحي تطغى على إدراك وتحليل الإنسان الفيلسوف هذا الرأي الذي لم يشاركه فيه الفلاسفة الذين ظهروا بعده. لم يكن اهتمام الكندي منصبا على دين الإسلام فقط بل كان يحاول الوصول إلى الحقيقة عن طريق دراسة الأديان الأخرى وكانت فكرته هو الوصول إلى الحقيقة من جميع المصادر ومن شتى الديانات والحضارات.

كان الخط الفكري الرئيسي للكندي عبارة عن خط ديني إسلامي ولكنه اختلف عن علماء الكلام بعدم بقاءه في دائرة القرآن السنة وإنما خطى خطوة إضافية نحو دراسة الفلسفة اليونانية وقام باستعمال فكرة أرسطو والتي كانت مفادها ان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة فقام الكندي بطرح فكرة مشابهة ألا وهي إن لا بد من وجود كينونة ثابتة وغير متحركة لتبدأ نقطة انطلاق حركة ما. كان الكندي لحد هذه النقطة موافقا لأرسطو ولكنه ومن هذه النقطة أدار ظهره لفكر أرسطو ولجأ إلى القرآن لتكملة فكرته عن الخلق والنشوء واقتنع بأن الله هو الثابت وإن كل المتغيرات نشأت بإرادته.

لكن الفلسفة التقليدية اليونانية كانت لاتعترف بهذه الفكرة على الإطلاق وعليه فإن الكندي حسب تعريف المدرسة الفكرية اليونانية لايمكن وصفه بفيلسوف حقيقي ولكنه كان ذو تأثير على بداية تيار فكري حاول التناغم بين الحقيقة الدينية الميتافيزيقيا.

وفي عصره (عصر المعتصم) سيحاول الكندي أن ينخرط في معركة "نصرة العقل" ضد أفكار الهرمسية والأفلاطونية المحدثة لذلك سنجده يؤلف "الرد على المنانية والمثنوية" وسيرفض نظرية الهرمسية والأفلاطونية المحدثة عن وجود جملة من العقول السماوية (و هي الطريقة التي تجعل بها الهرمسية وسائط بين العقل الكلي أو العقل العاشر الفعال والإنسان) وهي أساس نظرية الفيض التي تجعل معرفة الإنسان قابلة للحصول عن طريق الفيض أو الغنوص.[١] يرفض الكندي هذا الاتصال ويميز بين "علم الرسل" الذي يحدث عن طريق الوحي (الوسيلة الوحيدة بين الله والإنسان) و"علم سائر البشر" الذي لا يحدث إلا عن طريق البحث والاستدلال والاستنتاج. في مجال الوجود وعلى عكس الفلاسفة اللاحقين سيتنى الكندي فكرة "حدوث العالم" مستندا إلى مجموعة من المفاهيم الأرسطية : فجرم العالم متناه والزمان متناه أيضا والحركة متناهية، إذا العالم متناه ومحدث : حسب تعبير الكندي : " الله هو العلة الأولى التي لا علة لها الفاعلة التي لا فاعل لها المتممة التي لا متمم لها، المؤيس الكل عن ليس والمصير بعضه لبعض سببا وعلة ". وواضح هنا أن أثر الثقافة الإسلامية واضح في كلام الكندي الذي لم يصله الكثير بعد من ترجمات كتب أرسطو.

إضافة لذلك يقرر الكندي أن الحقيقية الدينية والحقيقة الفلسفية واحدة فلا تناقض بينهما، غير أن ظاهر النص قد يوحي ببعض الاختلاف إذا لم يعمل العقل في مجال تأويل معقول.

بالمقابل سيؤلف الكندي "رسالة في الفلسفة الأولى" ليهديها إلى الخليفة المعتصم وهي بمجملها تخطئة لموقف الفقهاء والمتكلمين من علوم الأوائل (الفلسفة) والدعوة إلى الاستفادة لما ورد في علوم الأوائل من علوم مفيدة. الرسالة بمجملها تعتبر دفاعا عن الفلسفة وسط حالة الرفض لكل ما هو أجنبي لكنها لاترقى إلى تأسيس فهم وترسيخ الفكر الأرسطي بشكل واضح.

دور الرازي في الفلسفة

المقالة الرئيسة: الرازي

تميز الجيل الذي ظهر بعد الكندي بصفة أكثر حزما وراديكالية، فكان أبو بكر الرازي (864 - 923) الذي وصف بكونه ذو تيار فكري رفض إقحام الدين في شؤون العقل ورفض في نفس الوقت نظرة أرسطو للميتافيزيقيا وكان فكره أقرب إلى الغنوصية أو (العارفية) حيث قال الرازي إن من المستحيل ان يكون منشأ المادة عبارة عن كينونة روحية ورفض الرازي أيضا فكرة والتي كانت مفادهان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات ورفض في نفس الوقت تحاليل علماء الكلام عن الوحي والنبوة.

كان الرازي مقتنعا إن التحليل العقلي والمنطقي هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة وعليه فإن الكثير من المؤرخين لايعتبرون الرازي مسلما بالمعنى التقليدي للمسلم ويرى الكثيرون انه كان الانعطافة الحقيقية الأولى نحو الفلسفة والفيلسوف كما كان يعرف في الحضارة اليونانية. كان الرازي طبيبا بارعا ومديرا لمستشفى في الري في إيران وكان جريئا في مناقشة التيار الفكري الذي سبقه وكان مؤمنا إن الفيلسوف الحقيقي لايستند على تقاليد دينية بل يجب عليه التفكير بمنآى عن تأثير الدين وكان مقتنعا إن الاعتماد على الدين غير مثمر لاختلاف الأديان المختلفة في وجهات النظر حول الخلق وماهية الحقيقة.

أكبر نقد تم توجيهه إلى الرازي كان نقدا عميقا جدا بالرغم من بساطته والنقد البسيط العميق كان إذا كانت الفلسفة الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة فماذا عن عامة الناس أو الناس البسطاء الغير قادرين على التفكير الفلسفي هل يعني هذا بأنهم تائهون للابد، يأتي أهمية هذا النقد بسبب كون الفلسفة في المجتمع الإسلامي ولحد هذا اليوم مرتبطة بطبقة النخبة وباشخاص إتسموا بذكاء عالي وهذا كان مناقضا لمفهوم الأمة الإسلامية الواحدة والأفكار الروحية المفهومة من قبل الجميع وليس البعض.

دور الفارابي في الفلسفة

المقالة الرئيسة: الفارابي

بدأ الفارابي من نقطة الانتقاد الموجهة للرازي وللفلسفة بصورة عامة وكان النقد عبارة عن (فائدة الفلسفة في تنظيم الحياة اليومية) للإنسان البسيط الذي يرى الفلسفة شيئا بعيدا كل البعد عن مستوى أستيعابه ولايجد في ذلك النوع من المناقشات أي دور عملي ملموس في حياته اليومية. حاول أبو نصر محمد الفارابي (874 - 950) الفيلسوف من تركستان تضييق حجم الفجوة بين المسلم البسيط والفلسفة ويعتبره البعض رائدا في هذا المجال حيث حاول في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" التطرق إلى القضايا الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالإسلام. في كتاب "الجمهورية" طرح أفلاطون فكرة إن المجتمع المثالي يجب أن يكون قائده فيلسوفا يحكم حسب قوانين العقل المنطق وتبسيطها لتصبح مفهومة من قبل الإنسان البسيط. من هذه الفكرة حاول الفارابي ان يطرح فكرته حول إن الرسول محمد كان بالضبط ما حاول أفلاطون ان يوضحه عن صفات قائد "المجتمع الفاضل" لقدرته حسب تعبير الفارابي من تبسيط اللهم روحية عليا وإيصالها إلى الإنسان البسيط.

بهذه النظرة ابتعد الفارابي كليا عن مفهوم الخالق في الفلسفة اليونانية الذي كان بعيدا كل البعد عن هموم الإنسان البسيط والذي لم يخاطب الإنسان يوما، ولكن الفارابي ضل ملتقيا مع فكر أرسطو في نقطة إن قرار الخلق لم يكن عبثيا ولا متسرعا. استخدم الفارابي فكرة النشوء اليونانية التي كانت تختلف عن فكرة الخلق في الديانات التوحيدية فحسب النظرية اليونانية فإن النشوء يبدأ من كينونة أولية ثابتة ولكن سلسلة النشآت تخضع لقوانين طبيعية بحتة وليست لقوانين دينية أو إلهية. حاول الفارابي تطويع هذه الفكرة من النظرة التوحيدية للخلق فقال إن الإنسان بالرغم من منشأه على هذه الأرض فإنه امتداد لسلسلة من أطوار النشوء التي بدأت من المصدر إلى السماء العلى إلى الكواكب والشمس والقمر وإن الإنسان له القدرة بأن يزيل أتربة هذه التراكمات من النشوء لكي يرجع إلى الخالق الأولي وكان هذا التحليل بالطبع مخالفا لفكرة القرآن عن خلق الإنسان

الكثير من الدراسات تعتبر الفارابي أهم من استطاع إيصال وشرح علوم المنطق بالعربية، بالمقابل سنجد أن الفارابي كان يشغله هاجس الوحدة والتوحيد في ظل دول وإمارات إسلامية متفرقة في عهد الدولة الحمدانية، كان الفارابي يتطلع لتوحيد الملة عن طريق توحيد الفكر لذلك سنجده يحاول التوحيد بين الأمة (الشريعة) والفلسفة في كتاب الحروف وسيحاول أن يجمع بين رأي الحكيمين : أفلاطون وأرسطو في كتاب الجمع بين الحكيمين ، وسنجده أيضا عكس الكندي يحاول أن يدخل العرفان أو الغنوص في منظومته الفكرية فيقبل نظرية العقول السماوية والفيض لكن العرفان لا يتحقق عند الفارابي بنتيجة النفس والتأمل بل المعرفة والسعادة (الصوفية العرفانية) هي نتيجة المعرفة عن طريق البرهان. وكما في نظرية الإفلاطونية المحدثة : العقل الأول الواجب الوجود لا يحتاج شيئا معه بل يفيض وجوده فيشكل العقل الثاني فالثالث حتى العقل العاشر التي يعطي الهيولى والمادة التي تتشكل منها العناصر الأربعة للطبيعة : الماء والهواء والنار والتراب. والدين والفلسفة يخبراننا الحقيقة الواحدة فالفلسفة تبحث وتقرر الحقائق والدين هو الخيالات والمثالات التي تتصور في نفوس العامة لما هي عليه الحقيقة، وكما تتوحد الفلسفة مع الشريعة والملة كذلك يجب أن تبنى المدينة الفاضلة على غرار تركيب الكون والعالم بحيث تحقق النظام والسعادة للجميع. هذا كان حلم الفارابي المقتبس من فكرة المدينة الفاضلة لأفلاطون.

مدرسة الحكمة المتعالية

قام صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المتألهين الشيرازي بإحداث تغيير جوهري في "الفلسفة الإسلامية"، وذلك من خلال إحداثه لمدرسته الفلسفية المسمّاة: الحكمة المتعالية. وقد أضاف عددا كبيرا من المسائل الفلسفية، كما أنّه حاول تطبيق النظريات الفلسفية مع النصوص الدينية (أي الآيات القرآنية والروايات الشريفة).

كتاب الحروف

يحتل كتاب الحروف للفارابي أهمية خاصة بين أعماله ويعتبر الكتاب بحثا في الفلسفة الأولى، إضافة إلى نقاش علماء اللغة والكلام حول الكثير من الإشكاليات التي كانت تتعلق أساسا بعلاقة اللغة والمنطق وإشكالية اللفظ/المعنى عن طريق محاولة استنتاجية منطقية لتأسيس مفهوم الكلي وتشريع دور المنطق في البيئة الإسلامية التي كانت رافضة لها. يحاول الفارابي بداية شرح كيفية تكون المعرفة بدءا من الإحساس فالتجربة فالتذكر فالفكرة من ثم نشأة العلوم العملية والنظرية. وبين الفكرة ونشأة العلوم يضع الفارابي مرحلة نشوء اللغة : فبعد تولد الفكرة عند الإنسان تأتي الإشارة ثم التصويت (إخراج أصوات معينة) ومن تطور الأصوات تنشأ الحروف والألفاظ (و يختلف النطق حسب الجماعات البشرية وفيزيولوجيتها وبيئتها) وهكذا تتشكل الألفاظ والكلمات : المحسوس أولا ثم صورته في الذهن ثم اللفظ المعبر عنه. في مرحلة لاحقة تتكون العبارات والتعابير من دمج الكلمات والألفاظ لتعبر ليس فقط عن الأسياء بل عن العلاقات التي تربط بينها. الفارابي هنا يستخدم أسلوب برهانيا ليحدد العلاقة بين اللفظ والمعنى ويقرر أسبقية المعنى على اللفظ (مخالف بذلك لمدرسة أهل الكلام الذين يعطون الأسبقية للفظ على المعنى). وبنفس السياق أيضا يقرر أن نظام الألفاظ (اللغة) هي محاولة لمحاكاة نظام الأفكار (في الذهن) وما نظام الأفكار في الذهن إلا محاولة لمحاكاة نظام الطبيعة في الخارج من علاقات بين الأشياء الفيزيائية المحسوسة. إضافة إلى ذلك فقد تقرر نتيجة تحليل الفارابي أن هناك نظامين : نظام للألفاظ يحاول محاكاة ترتيب العلاقة بين المعاني في النفس، ونظام آخر مستقل للمفهومات والمعقولات تحاول محاكاة ترتيب الأشياء الحسية في الخارج الفيزيائي. ومن هنا ضرورة وجود علمين : علوم اللغة أو علم اللسان الذي يعنى بصر ألفاظ اللغة وعلاقاتها مع مدلولاتها ومعانيها. وعلم المنطق الذي يعنى بترتيب العقل للمفاهيم وطرق الاستنتاج السليم للقضايا من البدهيات أي قواعد التفكير السليم.

يلي ذلك حسب ترتيب الفارابي مرحلة جمع اللغة وصون الألفاظ من الدخيل والغريب ثم تقنين اللغة عن طريق وضع القواعد التي تضبط طريقة كتابتها ونطقها (نشأة علوم النحو)، وهكذا تتطور ما يمكن تسميته بالعلوم العامية.

يترافق ذلك مع تطور للعلوم العملية من قياس وتقنية، ومن ثم سيتلو ذلك نشأة العلوم القياسية التي تعرف بالعلوم الطبيعية، هي العلوم بحق ضمن المفهوم الأرسطي الذي يتبناه الفارابي أيضا أي علوم الرياضيات والمنطق ولأسلوب القياسي الاستنتاجي. فتتميز الطرق الاستدلالية : الخطبية والجدلية والسفسطائية والاللهمية (الرياضية) وأخيرا البرهانية ويتضح أن المعرفة اليقينية تنحصر في الطرق البرهانية، وهكذا تتشكل (الفلسفة) ليليها بعد الذلك نشأة (الشريعة) أو الدين أو بمصطلح الفارابي (الملة) فحسب الفارابي : الفلسفة يجب أن تسبق الملة وما الملة (الشريعة) إلا وسائل خطبية للجمهور والعوام لنقل الحقائق التي نتوصل لها عن طريق الفلسفة.[٢]

لكن في بعض الحالات (و يقصد هنا حالة الأمة الإسلامية) لا تتشكل الفلسفة في مرحلة مبكرة بل يتشكل الدين بشكل مسبق ومن هنا يحصل التعارض بين تأويلات الدين وتاوبلات الفلسفة وواجب الفلاسفة تبيين الحقائق بحيث يبدو ما تقرره الملة ليس إلا مجرد مثالات لما تقرره الفلسفة.

تأثير المذهب الإسماعيلي

لاقت محاولة الفارابي لتفسير النشوء في الفلسفة اليونانية والتي كانت مختلفة نوعا ما عن فكرة الخلق قبولا وتعاطفا من قبل الصوفية والإسماعيليين الذين تمكنوا من تشكيل كيان سياسي لهم في تونس وقاموا بتأسيس الدولة الفاطمية عام 909 والذي كان معارضا للخلافة السنية في بغداد وفي عام 973 امتد نفوذ الإسماعيليين إلى القاهرة وقاموا ببناء جامع الأزهر.

بدأ الفكر الإسماعيلي بالاقتناع بأن الإمام الشيعي هو بطريقة ما عبارة عن ظل الله في الأرض وكانت هناك قناعة بان الرسول محمد بن عبد الله عهد بالعلم الحقيقي إلى علي بن أبي طالب وسلالته من بعده وتم تسمية هذا العلم المتوارت "النور المحمدي". كان الفكر الإسماعيلي يعتقد إن الفلسفة تركز فقط على الجانب العقلي والمنطقي في الدين ولاتعير اهتماما إلى الجانب الروحي ولهذا نشأ تيار يركز على فهم المعاني الدفينة للقرآن وسمي هذا العلم (علم الباطن) وبدلا من استعمال العلم والقياسات لفهم العالم الخارجي استعمل الإسماعيليون تلك الوسائل لفهم التفكير الداخلي الباطني للإنسان.

قام الإسماعيليون بدمج بعض الأفكار الزردشتية مع الإفلاطونية المحدثة لتوضيح فكرتهم الفلسفية التي كانت عبارة عن فكرة قديمة نوعا ما ومفاده ان الحياة أو الحقيقة أو الأعمال اليومية لها وجهان وجه نراه في الحياة الدنيا ووجه خفي يقع في السماوات العلى وعليه وحسب هذا المفهوم فإن أي صلاة أو دعاء أو زكاة يقوم به الإنسان في هذه الحياة هي في الحقيقة نسخة مشابهة لنفس تلك الفعاليات في السماء العلى مع فرق مهم وهو ان نسخة السماء العلى هي الخالدة وذات ابعاد حقيقية وإن السماء العلى نفسها هي أكثر حقيقية من الحياة الدنيا.

من الجدير بالذكر ان فكرة بعدي الحياة الدنيا والسماء العلى كانت فكرة إيرانية قديمة تركها الفرس عندما اعتنقوا الإسلام ولكن الإسماعيليين أعادوها للحياة ودمجوها مع فكرة النشوء اليونانية وتحليل الفارابي القائلة إن الإنسان بالرغم من منشأه على هذه الأرض فإنه امتداد لسلسلة من أطوار النشوء التي بدأت من المصدر إلى السماء العلى إلى الكواكب الشمس القمر وإن الإنسان له القدرة بأن يزيل اتربة هذه التراكمات من النشوء لكي يرجع إلى الخالق الأولي.

كانت السماوات العشر التي تفصل الإنسان عن الله حسب المفهوم الإسماعيلي مرتكزة على الرسول محمد وأئمة الشيعة السبع حسب الإسماعيلية (علي، الحسن، الحسين، علي زين العابدين بن الحسين ،محمد الباقر بن علي ،جعفر الصادق بن محمد، إسماعيل بن جعفر الصادق)، ففي السماء الأولى كان الرسول محمد وفي السماء الثانية علي بن أبي طالب، وبعد الأئمة السبع وأخيرا وفي السماء الأقرب إلى الأرض كانت فاطمة ابنة الرسول محمد. وكان هذا بالطبع مخالفا لفكرة أرسطو وتحليل الفارابي لتلك الفكرة حيث كانت الفلسفة اليونانية تؤمن إن هناك "الأول" ومن هذا الأول نشأ "الثاني"الذي إتصف بالذكاء ونتيجة لقدرة الثاني على استيعاب فكرة الأول نشأ "الثالث" ومن الثالث نشأ "السماء العلى" ومنه نشأت النجوم والكواكب والشمس والقمر ومنه اتى العاشر والأخير الذي كان بمثابة جسر رابط بين الحياة الدنيا والسماء العلى [٣]

علم الباطن

تعتبر الباطنية فرقة من فرق الشيعة ويطلق عليه أيضا القرمطية أو القرامطة والإسماعيلية وكانوا يأمنون حسب تعبيرهم ان "لكل ظاهر باطنا والظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب المطلوب" ويعتقد ان لفظة الباطنية ظهرت مع ميمون بن ديصان الأحوازي الذي إختاره جعفر الصادق وصيا على حفيده محمد بن إسماعيل

كانت الفكرة الرئيسية لعلم الباطن هو معرفة الأبعاد الخفية للدين وتم التكثيف من استعمال الرموز التي حسب اعتقاد الإسماعيليين أظهرت حقائق عميقة لم يتمكن الحواس اوالمنطق من إدراكها. كانت الوسيلة الرئيسية هي التأويل والذي كان باعتقادهم سوف يرجع بهم إلى لحظة الوحي بالتالي إلى اللوح المحفوظ. حاول الفيلسوف الفرنسي هنري كوربين (1903 - 1978) توضيح فكرة التأويل حيث كان كوربن مهتما بتاريخ ودور الثقافة الشيعية فقال كوربن ان التأويل يمكن تشبيهه بالتناغم في الموسيقى حيث كان الإسماعيليون يزعمون إنهم قادرون على سماع عدة مستويات عند سماعهم لآية قرآنية وكانوا يحاولون سماع الصدى الفردوسي بالإضافة إلى الكلمات المجردة

طرح المفكر الإسماعيلي أبو يعقوب السجستاني (توفي عام 971) نظريته حول أفضل وسيلة لمعرفة كينونة وماهية الخالق الا وهي وسيلة نفي النفي، على سبيل المثال يبدأ المرء بالقول إن الله ليس كينونة وإن الله ليس بعالم كل شيء ثم يبدأ المرحلة الثانية وهي نفي هذا النفي بقول ان الله ليس ليس كينونة وإن الله ليس ليس بعالم كل شيء. كانت الفكرة الرئيسية من هذا الطرح هو محاولة إظهار ان اللغة الإنسانية غير قادرة على وصف طبيعة الخالق

بعد السجستاني حاول المفكر الإسماعيلي حميد الدين كرماني (توفي عام 1020) يوضح أهمية إسلوب نفي النفي في بعث الطمأنينة الداخلية إذا تم استعمالها بحكمة وإنها ليست عبارة عن خداع عقلي بل محاولة لتنوير الباطن. من الجدير بالذكر ان فلسفة نفي النفي يتم استعمالها بكثافة لحد هذا اليوم وخاصة في مجال البحوث الإحصائية العلمية حيث يبدأ الفرضية عادة بنفي ثم يتم نفي هذا النفي، على سبيل المثال يبدأ باحث ما بدراسة علاقة التدخين بالسرطان فيبدأ من فرضية انه لاعلاقة بين التدخين السرطان وتدريجيا من خلال الأرقام والأحصاءات يتم نفي هذا النفي. كانت لمدرسة الفكر الباطني والفكر الإسماعيلي أعظم الأثر في نشوء حركة إخوان الصفا الفلسفية لاحقا.

إخوان الصفا

طالع أيضاً: إخوان الصفا

تحت تأثير الفكر الإسماعيلي انبثقت جماعة اخوان الصفاء في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وكانت اهتمامات هذه الجماعة متنوعة وتمتد من العلم والرياضيات إلى الفلك و السياسة وقاموا بكتابة فلسفتهم عن طريق 52 رسالة مشهورة ذاع صيتها حتى في الأندلس ويعتبر البعض هذه الرسائل بمثابة موسوعة للعلوم الفلسفية، كان الهدف المعلن من هذه الحركة "التظافر للسعي إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس" للإطلاع على نبذة مختصرة من رسائل إخوان الصفا اقرأ هذا الرابط. من الأسماء المشهورة في هذه الحركة كانت أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني.

تأثرت رسائل إخوان الصفا بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وكانوا يأخذون من كل مذهب بطرف ولكنهم لم يتأثروا على الإطلاق بفكر الكندي واشتركت مع فكر الفارابي والإسماعيليين في نقطة الأصل السماوي للأنفس وعودتها إلى الله وكان فكرتهم عن منشأ الكون يبدأ من الله ثم إلى العقل ثم إلى النفس ثم إلى المادة الأولى ثم الأجسام والأفلاك والعناصر والمعادن النبات الحيوان فكان نفس الإنسان من وجهة نظرهم جزءا من النفس الكلية التي بدورها سترجع إلى الله ثانية يوم المعاد. الموت عند إخوان الصفا يسمى "البعث الأصغر"، بينما تسمى عودة النفس الكلية إلى الله "البعث الأكبر". وكان إخوان الصفا على قناعة إن الهدف المشترك بين الأديان والفلسفات المختلفة هو أن تتشبه النفس بالله بقدر ما يستطيعه الإنسان.

كانت كتابات إخوان الصفا ولا تزال مصدر خلاف بين علماء الإسلام وشمل الجدل التسائل حول الانتماء المذهبي للجماعة فالبعض إعتبرهم من أتباع المدرسة المعتزلية والبعض الآخر إعتبرهم من نتاج المدرسة الباطنية وذهب البعض الآخر إلى حد وصفهم بالإلحاد الزندقة ولكن إخوان الصفا أنفسهم قسموا العضوية في حركتهم إلى 4 مراتب:

  • مَن يملكون صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور. ولا يقل عمر العضو فيها عن خمسة عشر عامًا؛ ويُسمَّوْن بالأبرار والرحماء، وينتمون إلى طبقة أرباب الصنائع.
  • مَن يملكون الشفقة والرحمة على الأخوان. وأعضاؤها من عمر ثلاثين فما فوق؛ ويُسمَّوْن بالأخيار الفضلاء، وطبقتهم ذوو السياسات.
  • مَن يملكون القدرة على دفع العناد والخلاف بالرفق واللطف المؤدِّي إلى إصلاحه. ويمثل هؤلاء القوة الناموسية الواردة بعد بلوغ الإنسان الأربعين من العمر، ويُسمَّوْن بالفضلاء الكرام، وهم الملوك والسلاطين.
  • المرتبة الأعلى هي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا. وهي قوة الملكية الواردة بعد بلوغ الخمسين من العمر، وهي الممهِّدة للصعود إلى ملكوت السماء؛ وإليها ينتمي الأنبياء.[٤]

كتاب الإشارات لابن سينا

طالع أيضاً: ابن سينا

وصلت الفلسفة الإسلامية إلى إحدى قممها على يد ابن سينا (980 - 1037) الذي ولد لعائلة شيعية في إحدى قرى "بخارى" وتأثر منذ صغره بفلسفة الفارابي والإفلاطونية المحدثة. أدرك ابن سينا إن الفلسفة بحاجة إلى التأقلم مع متغيرات الإمبراطورية الإسلامية الذي أصبح فيه الخليفة بعيدا كل البعد عن صفات قائد المدينة الفاضلة التي دعى إليها أفلاطون وإعتبرها الفارابي مطابقة لصفات الرسول محمد. كان ابن سينا مقتنعا ان الرسول محمد هو أرفع شأنا من الفيلسوف لكونه معتمدا على الاتصال المباشر بالمعرفة الإلهية ولكنه وفي نفس الوقت كان معاديا لفكرة الأيمان الأعمى حيث كان ابن سينا متأثرا بفكر أرسطو باستعمال العقل المنطق والأدلة للوصول إلى ماهية الخالق بل اعتبر ابن سينا استعمال هذه الوسائل واجبا على كل مسلم لكي يحرر فكره من الخرافة الأساطير ومن الجدير بالذكر ان ابن سينا لم يكن عابدا متزهدا حيث ان هناك مصادر تشير إلى وفاته وهو في الثامنة والخمسين من العمر لإفراطه في شرب النبيذ ولكن لو كان كما يقال عنه لما كان ليتوصل لما أثبته من حقائق علمية في شتى المجالات ناهيك عن دوره الفعال في علم الفلسفة.

طرح ابن سينا فكرته في الإثبات العقلي على وجود الخالق التي يجب أن تبدأ حسب رأيه بفهم طريقة تفكير الإنسان أولا وأعطى مثال الشجرة لتوضيح فكرته. فالشجرة وحسب مثال ابن سينا تتألف من جذر وجذع واوراق ولحاء وعندما يحاول الإنسان فهم موضوع معين فيجب عليه تقسيم الموضوع إلى عدة أقسام ثانوية ويتوقف عملية التقسيم هذه لحد التوصل إلى جزء غير قابل للقسمة وسوف يساعد هذه الطريقة حسب رأي ابن سينا في الوصول إلى جوهر المسألة التي قد تم تعقيدها لأسباب خارجية.

كان ابن سينا موافقا لفكر أرسطو بأن الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة وأضاف ابن سينا بان انعدام المحرك الأولي معناه ان الكون كله عبارة عن فوضى ولكن الكون ليس بفوضى وعليه فإن خلقه من الأساس كانت منظمة ورجع ابن سينا إلى فكرة تبسيط الأشياء إلى أجزاءها الأولية البسيطة لغرض فهمها فقال ان الله فكرة الله هي البساطة نفسها حيث ان الفكرة غير قابلة لتقسيم أو تفريع أكثر.

قدم ابن سينا طرحه الفكري عن الخلق والنشوء الذي كان مشابها لفكرة الإفلاطونية المحدثة عن الفضاءات العشرة أو السماوات العشرة المتسلسلة لنشوء الكون التي تفصل الإنسان عن الله وركز على الطبقة الأخيرة أو الجسر الرابط بين الحياة الدنيا والسماء العلى وقال ان هذا الجسر عبارة عن الوحي من جبريل إلى الرسول محمد. في سنواته الأخيرة إنكب ابن سينا على كتابة كتابه المشهور كتاب "الإشارات" حيث كان هناك في هذا الكتاب توجه واضح وصريح نحو الفلسفة المشرقية وفيه ذكر مصطلح الإشراق وكان لهذا الكتاب أعظم الأثر في نشوء المدرسة الفكرية الإشراقية على يد يحيى السهروردي.

الغزالي والإسماعيليين

طالع أيضاً: أبوحامد الغزالي

بدأ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (1058 - 1111) التعمق في فائدة التحليل المنطقي والعقلي الفلسفة من الأساس في إثبات أو نفي الخالق، كان أبوحامد الغزالي باحثا من الطراز الرفيع حيث تولى وهو في الرابعة والثلاثين من عمره إدارة المدرسة النظامية في بغداد وكان الهدف الرئيسى للوزير السلجوقي نظام الملك من هذا التعيين هو قيام أبوحامد الغزالي بالتصدي للفكر الإسماعيلي لكن طموح أبوحامد الغزالي لم يتوقف عند هذه الرغبة الضيقة للوزير السلجوقي حيث أن بحثه عن اليقين المطلق عن طبيعة الخالق دفعه إلى التعمق في دراسة جميع المذاهب الفكرية والتوجهات الفلسفية وانتهى به البحث إلى الاستنتاج إن جميع الفلسفات والمدارس الفكرية السابقة قد فشلت في إثبات وجود الخالق لكون فكرة الخالق غير خاضعة للقياس من الأساس وأعلن في كتابه "تهافت الفلاسفة" فشل الفلسفة في إيجاد جواب لطبيعة الخالق وصرح إن الفلسفة يجب أن تبقى مواضيع اهتماماتها في المسائل القابلة للقياس والملاحظة مثل الطب والرياضيات الفلك واعتبر أبوحامد الغزالي محاولة الفلاسفة في إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان منافيا لمفهوم الفلسفة من الأساس.

كان لتعمق الغزالي في دراسة التيارات الفكرية والفلسفية السابقة دور سلبي فبدلا من اقترابه نحو اليقين بالخالق زاد اقترابه من الشك وانتهى به الأمر بالإصابة بمرض الكآبة وترك مهنة التدريس وكان في تلك الفترة من حياته مقتنعا ان الدليل الوحيد للوصول إلى اليقين بشأن وجود الخالق هو ملاقاته وجها لوجه بعد الموت. للخروج من هذه الأزمة بدأ الغزالي تدريجيا يقتنع إن هناك جانبا روحيا غير ملموس في الإنسان لايمكن تجاهله وبغض النظر عن منشأ هذا الجانب فإن هناك فصلا واضحا بين ما أسماه "عالم الشهادة" و"عالم الملكوت" ويقصد به الجزء الظاهر المحسوس والخاضع لقوانين الفيزياء مع الجزء المعنوي الغير الملموس.

استخلص الغزالي إلى فكرة أنه من المستحيل تطبيق قوانين الجزء المرئي من الإنسان لفهم طبيعة الجزء المعنوي وعليه فإن الوسيلة المثلى لفهم الجانب الروحي يجب أن يتم بوسائل غير فيزيائية واختار الغزالي طريق التصوف للوصول إلى اليقين بوجود الخالق أثناء الحياة بدلا من الانتظار إلى ما بعد الموت للوصول إلى الحقيقة. يظهر الطابع الصوفي للغزالي جليا في كتابه مشكاة الأنوار من خلال تفسيره للآية 35 من سورة النور والتي تنص على قالب:قرآن مصور حيث قال الغزالي إن النور المقصود هنا يشير إلى الله وإلى كل جسم مضيئ آخر مثل المشكاة والنجوم وحتى العقل المستنير لأن ضوء العقل المستنير قادر على عبور حاجز الزمن والفضاء وكان الغزالي يقصد بالعقل المستنير العقل القادر على التخيل والتصور وإدراك إن الجانب الروحي يتطلب نظرة غير حرفية وغير فيزيائية لفهمها.

بهذه النظرة ألغى الغزالي أي دور للفلسفة في إثبات أو عدم إثبات وجود الخالق من خلال طرحه الفكري بأنه لايمكن استعمال الفلسفة في الوصول إلى اليقين الذي لايقبل الجدل حول ماهية الله ففكرة الله كانت حسب نظره واقعة خارج نطاق التفكير المنطقي ولكن هذا التصريح الخطير لم تكن نهاية الفلسفة حيث قام ابن رشد من قرطبة بإحياء دور الفلسفة في الوصول إلى معرفة الله حيث اعتبر ابن رشد الفلسفة أعلى مراتب التدين.

مفهوم ابن رشد

طالع أيضاً: ابن رشد

من المفارقات التأريخية حول ابن رشد (1126 - 1198) هو اختلاف وجهات النظر حوله بين المسلمين المعاصرين له وبين وجهة نظر الغرب له، فقد إعتبره الغرب من أهم الفلاسفة المسلمين على الإطلاق حيث ترجمت أعماله إلى اللاتينية العبرية وأثرت أفكاره بشكل واضح على كتابات على الفلاسفة المسيحيين اليهود ومنهم بالتحديد توماس أكويناس (1225 - 1274) وألبرت الكبير (1206 - 1280) وموسى بن ميمون (1135 - 1204) وإرنست رينان (1823 - 1892) بينما لم يلق ابن رشد نفس الاهتمام من المعاصرين له حيث فضل الفيلسوفان المعاصران له، يحيى السهروردي ومؤيد الدين العربي إتباع منهج ابن سينا بدلا من منهج ابن رشد.

كان ابن رشد متعمقا في الشريعة الإسلامية بحكم منصبه كقاضي إشبيلية وحاول التقريب بين فلسفة أرسطو والعقيدة الإسلامية حيث كان ابن رشد مقتنعا انه لايوجد تناقض على الإطلاق بين الدين الفلسفة وإن كلاهما يبحثان عن نفس الحقيقة ولكن بإسلوبين مختلفين وقام بالرد على كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي في كتابه المشهور "تهافت التهافت" وأصر على عكس الغزالي على قدرة الفلسفة بإيصال الإنسان إلى اليقين الذي لايقبل الجدل حول ماهية الله.

شدد ابن رشد على نقطة في غاية من الأهمية كانت غائبة عن بال من سبقوه وهي إن الفلسفة وعلم الكلام الصوفية الباطنية وغيرها من التيارات الفكرية تشكل خطرا على الأشخاص الذين ليس لهم القدرة على التفكير الفلسفي وان الشخص الغير المتعمق أو الذي يأخذ بقشرة الفكرة سوف يتعرض إلى صراعات نفسية وفكرية تؤدي به إلى الشك والتشتت بدلا من اليقين والتنور.

في محاولة من ابن رشد لتضييق الفجوة بين الدين والفلسفة طرح ابن رشد فكرته حول أفضل وسيلة لتفسير الدين والخالق من وجهة نظر فلسفية فقال إن على الفيلسوف القبول ببعض الأفكار الدينية لكي يصبح فعالا في الوصول إلى طبيعة الخالق ومن هذه الأفكار:[٥]

  • وجود الله
  • وحدانية الله
  • كون الله ليس كمثله شيء
  • عدالة الله
  • الحياة بعد الموت
  • خلق الله للكون

قام ابن رشد بتوضيح فكرته أكثر قائلا ان القرآن على سبيل المثال قد ذكر ان الله قد خلق الكون ولكنه لم يوضح كيف تم هذا الخلق ومتى تم هذا الخلق وبهذا فإن القرآن قد فتح الباب على مصراعيه للفيلسوف بان يستعمل العقل المنطق للتعمق في هذه النقطة وبهذا اعتبر ابن رشد التحليل الفلسفي لأمور الدين قمة التدين وليس منافيا لمفهوم الدين.

العصر الحديث

بعد انتهاء العصر الذهبي للإمبراطورية الإسلامية، يمكننا ان نقول بشكل عام انه قد ساد نوع من الخمول في الحركة الفكرية والفلسفية. سادت في المناطق الإسلامية بين معظم الأوساط الدينية فلسفات أكثر ارتباطا بفلسفة الإشراق (السهروردي ومحي الدين بن عربي) وحكمة الماللهن (الملا صدرا) التي كانت أساسا تشكل الثقافة والعلم للطرق الصوفية التعبدية التي انتشرت بين سائر الناس. ولهذا الحكيم والفيلسوف مدرسة فلسفية وحكمية قائمة بذاتها وهي مدرسة الحكمة الماللهة ومن أهم مميزات هذه المدرسة انها وفقت بين القرآن والعرفان والبرهان.

لكن عودة الاتصال بالغرب بعد بدء الحملات العسكرية الأوروبية على البلدان الإسلامية أعاد من جديد ضرورة التفكير الفلسفي وطرح مفهوم النهضة بين مفكرين كانوا يحاولون الإجابة عن سؤال سبب التخلف.

سؤال التخلف سيسيطر على الساحة الفكرية وسيطرحه بداية بعض رجال الدين مثل : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان ورفاعة الطهطاوي إضافة لمفكرين أكثر علمانية أهمهم : شبلي شميل، ساطع الحصري. وسيقى هذا السؤال مطروحا بسبب فشل المحاولات القائمة على القومية العربية أو القوميات الدينية بعد الاستقلال في تجربة تحديث البلدان العربية والإسلامية. سيبقى السؤال مطروحا بأساليب مختلفة فمثلا سيؤلف أبو الحسن الندوي كتاب ماذا خسر العالم بتخلف المسلمين ؟.

لكن كل هذه المحاولات يمكن ان نقول أنها كانت تندرج في إطار الفكر عامة والفكر السياسي خاصة أكثر منها محاولات فلسفية عميقة، فأسئلة مثل : ما معنى الوجود وما هي ماهيته ؟ من النادر أن تبحث فيما تعاني أمة ما من مشكلة وجود حقيقة ومشكلة إثبات ذات.

ربما تكون إحدى المحاولات الفلسفية النادرة لمسلم في العصور الحديثة هي تجربة الشاعر المفكر محمد إقبال الذي صاغ معظم فكره تقريبا بشكل قصائد باللغتين الفارسية و الأردية. إضافة لبعض محاضرات في الفكر السياسي الإسلامي، وكتاب فريد من نوعه يدعى تجديد الفكر الإسلامي.

محاولات إعادة قراءة التراث

عربياً، منذ منتصف الثمانينات وطوال عقد التسعينات ستشهد الساحة الثقافية محاولات جديدة لحل سؤال النهضة المطروح دائماً وأبداً وستأخذ هذه المرة شكلاً فلسفياً أكثر عن طريق محاولة إعادة قراءة التراث الإسلامي بغية إيجاد حلول للسؤال العصي عن الحل. قد يرى البعض في هذه المحاولات تجارب لإعطاء الفكر العلماني الغربي جذوراً تراثية إسلامية، وبالتالي إعطاء الفكر الغربي نوعاً من المشروعية في الساحة الثقافية الإسلامية، وقد يراه آخرون محاولة لاستجداء حلول حقيقية وليس مجرد تلفيق وذلك من روح الأمة نفسها بحيث تكون النهضة متابعة لتجربتها الحضارية.

إحدى أهم وأوائل هذه التجارب ستكون مشروع عابد الجابري الذي بدأ من أواخر السبعينات في كتاب "نحن والتراث" لكنه سيتكامل في مشروع نقد العقل العربي الذي تألف من أربعة أجزاء: تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، وأخيراً العقل الأخلاقي العربي. بالمجمل، سيحاول الجابري أن يعيد تفكيك وتركيب التراث الإسلامي ليعين محددات العقل العربي : في الجزء الأول سيدرس ظروف تشكيل العقل العربي والأنظمة الفكرية التي تشكله، ثم يتابع في الجزء الثاني ليتابع دراسة النظمة الفكرية الثلاث التي حددها في الجزء الأول: البيان والعرفان والبرهان وسيستمر الجابري في تحليل البنى والإشكاليات في هذه الأنظمة المعرفية وصداماتها الفكرية والسياسية متحيزاً دوماً للنظام البرهاني (وهو بشكل أساسي الفكر الفلسفي اليوناني تحديداً الأرسطي) معتبراً ابن رشد الأبرز في تقديم المشروع البرهاني في الحضارة العربية، لكن هذا المشروع البرهاني لم يكتب له النجاح في الأرض الإسلامية لكنه سيتابع تقدمه في الغرب الذين سيتقبلون فكر ابن رشد وهو فكر أرسطي أصيل.

الأهمية الأساسية لمشروع الجابري ستكون في أنه سيكون شرارة تشعل هذه الساحة الفكرية والنقدية في قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، وسيتعرض الجابري لردود من كافة الاتجاهات، فالاتجاهات العلمانية سيعتبرون أن الجابري بدأ يميل نحو الإسلامية، في حين سترد عليه محاولات أخرى بأنه بتبجيله لابن رشد يحاول فقط أن يثبت النظام الأرسطي أي الفكر الغربي.

نقد نقد العقل العربي سيكتبه جورج طرابيشي في دمشق، لكن في المغرب موطن الجابري سيرد عليه طه عبد الرحمن الذي يعتقد أن ابن رشد لم يكن سوى مقلدا لأرسطو وشارحا جيدا لأفكاره وليس له في الإبداع نصيب. محاول طه عبد الرحمن الأساسية ستكون في كتابه تجديد المنهج في قراءة التراث.

ظهرت أيضاً دراسة للمرزوقي، الفيلسوف التونسي، بعنوان إصلاح العقل في الفلسفة العربية وكتاب تجليات الفلسفة العربية: منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي : المرزوقي يحاول رسم نموذج يوضح به حركيات الفكر في ظل الثقافة الإسلامية وكيف أثرت على الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية. يعتبر المرزوقي أهم ما تم إنجازه في إطار الثقافة العربية الإسلامية هو تحرير مفهوم الكلي من إطار الواقعية إلى إطار الاسمية. وهذا هو ما ساعد لا حقا على تطوير العلوم والمعارف من رياضيات وفلك وميكانيك. فواقعية الكلي في إطار الفلسفة الأفلاطونية أو الأرسطية تجعل نتائج الفلسفة حقائق واقعية لا شك فيها وبالتالي الفلسفة كانت جامدة غير قابلة للتطوير. لكن تمازج تجربة تعقيل العلوم النقلية أي وضعها في إطار قوانين، وتجربة تنقيل العلوم الفلسفية الفكرية اليونانية وترجمتها قد فكك تدريجيا فكرة واقعية الكلي النظرية والعملية: هذا التفكيك سيتم بداية عن طريق نقد سيقوم به الغزالي وابن سينا، لكن تدشين الاسمية سيتم على يدي ابن تيمية وابن خلدون.

هذه الأفكار سترسم صورة مغايرة تماما عن نموذج الجابري الذي يدين الغزالي وابن سينا معتبرا إياهم من أنصار وناشري المنج العرفاني (العقل المستقيل)، كما سيعيد طرح شخصية ابن تيمية كلاعب أساسي في الساحة الفلسفية وهو كثيرا ما كان يعتبر مجرد فقيه حنبلي سلفي.

بعض قضايا الفلسفة الإسلامية

من المشكلات التي تعرَّض لها فلاسفة الإسلام بالجدال مشكلة إثبات وجود الله ، وصفاته ووجود العالم أحادث هو أم قديم، ومشكلة النفس الإنسانية، وهل هي موجودة وخالدة أم فانية؟ لقد تصدى الفلاسفة المسلمون لهذه المشكلات ودخل بعضهم في بطون فلاسفة اليونان ولم يستطيعوا أن يخرجوا منها، وظل فكر كثير منهم أسير التصورات اليونانية. ومن الذين تصدوا للدفاع عن الفلسفة والخوض في مسائلها الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وفيما يلي بعض آرائهم في هذه المشكلات الفلسفية.

القضية الأولى، الله

تناقش هذه القضية من خلال آراء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. أما الكندي فيعرف بأنه فيلسوف العرب لأن جذوره تمتد إلى أصل عربي قحطاني، كان أبوه من ملوك كندة بالعراق. انظر: الكندي، أبو يوسف. عرف الكندي الاعتزال فكان من متكلمي المعتزلة وعرف الفلسفة عن طريق الترجمة، وقيل كان يعرف اليونانية وترجم عن اليونانية، وكانت له علاقة بابن ناعمة الحمصي. وقد كان له اطلاع واسع على الترجمات العربية للكتب اليونانية وبخاصة فلسفة أرسطو كما أنه صحح بعض الترجمات وراجعها وألَّف رسالة في الفلسفة الأولى، وهي في البحث عن الإلهيات، وهي عنده من أشرف العلوم لأنها علم الحق. فالله عنده هو العلة الأولى، وهو الفاعل الأول والمتمم لكل شيء ومؤيِّس الكل عن ليس، والأيْسُ هو الوجود وضده اللّيْس وهو العدم، فالله هو موجد الكل من العدم. وقد تأثر الكندي في هذه الرسالة بكتاب الربوبية (إيثولوجيا) المنسوب لأرسطو، وهو كتاب يبحث في الإلهيات كتبه أفلوطين الإسكندري ونسبه فلاسفة الإسلام خطأ إلى أرسطو لأنهم لم يعرفوا أنه مَنْحول على أرسطو. وفكرة الأيْس عن ليْس (خلق الوجود عن عدم) فكرة أصيلة عند الكندي، وهي فكرة إسلامية تعني خلق العالم من عدم. والكندي في هذه المسألة يخالف رأي أرسطو الذي يقول بقدم العالم، وهذه إحدى المسائل التي جعلت الكندي مفكرًا أصيلاً في نظر بعض النقاد.

يقتفي الكندي هنا أثر أرسطو اليوناني ويقيم براهينه على وجود الله على نفس النسق الأرسطي الذي يستند إلى الحركة والكثرة والنظام في إثبات وجود الله. والبرهان الأول هو برهان الحدوث، فالشيء عنده لا يمكن أن يكون علة لذاته، أي لا يمكن أن يكون موجودًا لذاته. وجرم العالم عنده متناه أي أن له بداية في الزمن وما دام متناهيًا فهو موجود من العدم أي أنه أَيْس من ليْس، فهو حادث ولابد له من محدث، ومحدثه هو الله لَيْس أن الله هو علة حدوثه.

ويوافق الكندي علماء الطبيعة المحدثين في أن العالم له بداية في الزمن ، وهم يرجعون ذلك إلى ملايين السنين عندما كان الكون في حالة غازية سائلة ملتهبة، أما الكندي فقد ذهب مذهبًا آخر عندما نظر إلى كتلة العالم فرأى أنها إما أن تكون متناهية أو غير متناهية ووصل إلى أنها متناهية ومتميزة، ومن ثم عرف أن الوجود المتناهي لابد أن تكون له بداية في الزمن.

أما البرهان الثاني الذي يتخذه على وجود الله، فهو برهان الكثرة، فقد رأى الكندي أن الأشياء المحسوسة متكثرة بالأنواع ومتحدة بالأجناس، فالحيوان واحد بالجنس كثير بالأنواع، حيث يضم الإنسان والحمار والحصان... إلخ، فالاشتراك في الوحدة يرجع إلى علة أولى ما بعدها علة، هي علة اشتراكها في الوحدة. وهذه العلة الأولى هي الله.

أما البرهان الثالث، فهو برهان التدبير وهو دليل الغائية في الوجود المحسوس. فالعالم المحسوس لم يوجد عبثًا بل لابد له من مدبّر، ولا يمكن معرفة المدبّر إلا بمعرفة تدبيره، وهو الكون المحسوس المنتظم. وهذا الدليل اقتبسه الكندي من أرسطو.

يأتي بعد الكندي الفارابي وهو تركي الأصل من إقليم فاراب بتركيا وأمه فارسية. توفي سنة 339هـ، 950م. لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الثاني، (لتأثره بأرسطو الذي لقّبه مؤرخو الفلسفة بالمعلم الأول)، وذلك لتأثره كلية بفلسفة أرسطو. وقد عُرفت فلسفته بأنها فلسفة توفيقية يحاول فيها الفارابي أن يوفق بين عقيدته الإسلامية وفلسفة اليونان. انظر: الفارابي، أبو نصر.

أما دليله على وجود الله فهو دليل الوجوب والإمكان. يقسم الموجودات إلى قسمين: ممكن الوجود وواجب الوجود. وواجب الوجود عنده هو الموجود الذي وجوده من ذاته، فإذا فُرض عدم وجوده لكان ذلك مُحالاً. أما ممكن الوجود فهو الذي وجوده من غيره، فإذا فُرض عدم وجوده لما كان ذلك محالاً. والوجود الممكن يتعادل وجوده وعدمه، أي أن وجوده وعدمه سواء إلا إذا ترجح أحدهما على الآخر. فإذا ترجح وجوده كان لابد له من مرجح يرجح وجوده على عدمه أي لابد له من موجد ترجح عنده الوجود على العدم فأخرجه إلى الوجود. فلابد لكل موجود ممكن الوجود من مرجّح لوجوده على عدمه، ولا يمكن أن تمضي سلسلة المرجحات الممكنة الوجود إلى مالانهاية لأن هذا محال، فلابد إذن أن نصل إلى مبدأ أول أو سبب أول هو علة وجود كل الممكنات في العالم وهو الذي رجح وجود هذا العالم على عدمه وهو الله. وهو واجب الوجود بذاته ولا يحتاج إلى غيره أبدًا. وقد رفض الفارابي دليل الحكماء الطبيعيين الذين يرون أنه لابد من الاستدلال على وجود الله بآثاره لأن الصنعة تدل على الصانع، وهذا يعني أنهم يصعدون من الفعل إلى الفاعل، ومن المخلوق إلى الخالق، لكنه يرى أنهم يفكرون في الأفعال التي تصدر في العالم فلا يتجاوزون عالم الحوادث المتناقضة، ولا يجدون تصورات شاملة للموجودات. أما الفارابي، فقد أراد أن يصل إلى العلة الأولى الوحيدة، وهذه العلة الوحيدة هي واجب الوجود. ومعنى الموجود الواجب يحمل في ذاته البرهان على أنه واحد لا شريك له، فلو وجد موجودان كل منهما كامل الوجود وواجب الوجود لكانا متفقين من وجه ومتباينين من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحدًا بالذات، فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحدًا. فهو واحد بالذات لا تركيب فيه ولَيْس له ليس ولا يمكن حده، لكن الإنسان يثبت للبارئ أحسن الأسماء الدالة عليه وعلى منتهى كماله، وتأثر الفارابي هنا بفلسفة أرسطو في المحرك الأول.

وعمومًا كان للفارابي الفضل في توطيد أركان الفلسفة في العالم الإسلامي؛ فقد اتخذت شكلها التي آلت إليه بعد وفاته إلى أن جاء عصر ابن رشد؛ حيث مزج الفارابي بين الأفلاطونية والأفلوطينية من جهة والفلسفة الأرسطية المشائية من ناحية ثانية، ومن ثم نجد ذلك التشابه التام فيما ذكره الفارابي عن المدينة الجماعية في كتاب السياسة المدنية والديمقراطية التي وضعها أفلاطون.

ولأن الفارابي لم يكن لديه تلاميذ مباشرون، فقد أثر فيمن أتي بعده من الفلاسفة العرب والمسلمين، وكان على رأس هؤلاء الشيخ الرئيس ابن سينا الذي اعتمد على الفارابي في فهم الفلسفة اليونانية، وبالتالي في وضع كثير من الآراء والنظريات.

أما ابن سينا فقد عُرف عند مؤرخي الفلسفة بالشيخ الرئيس وذلك لاشتغاله بالعلم والوزارة، ولد بأفشنة بالقرب من بخارى بفارس سنة 370هـ،980م، وحفظ القرآن منذ نعومة أظفاره، وكان عنده شغف بالعلم ونهم لا ينقطع للاطلاع والقراءة فاشتغل بالطب والفلسفة والكيمياء والفقه والرياضة والهندسة، وبرع في كل ما درسه، وما جلس لأستاذ قط إلا صار أستاذًا لأستاذه. انظر: ابن سينا. وقد تأثر بأفلاطون وأرسطو عن طريق شروح الفارابي، وأما فلسفته، فكانت مزيجًا من الأفلاطونية والمشائية (فلسفة أرسطو).

ولإثبات وجود الله عند ابن سينا، فقد قسم الأدلة إلى قسمين: دليل عقلي ودليل حسي؛ أما الدليل العقلي فهو دليل الإمكان الذي ذهب إليه الفارابي حيث قسم الموجودات إلى واجب وممكن، فالواجب الوجود هو الذي متى فرض غير موجود عرض عنه محال. والممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود لم يعرض عنه محال، والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه، أي لافي وجوده ولا في عدمه.

وواجب الوجود إما أن يكون واجبًا بذاته وإما أن يكون بغيره. والبارئ عز وجل هو الواجب لذاته لا لشيء آخر. أما واجب الوجود بغيره فهو واجب الوجود لا بذاته؛ فالاحتراق مثلاً واجب الوجود لا بذاته ولكن عند التقاء القوة المحرقة والمحترقة، ومن هنا يتشعب الوجود إلى ثلاثة أقسام.واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بغيره، وممكن الوجود. وواجب الوجود هو العلة الأولى ومبدأ الوجود المعلول على الإطلاق، لأنه لا توجد سوى علة واحدة مطلقة هي واجب الوجود. والممكنات هي الموجودات الصادرة عنه التي تحتاج في وجودها الممكن إلى علة هي واجب الوجود، وترتفع الأسباب كلها إليه لأنه غاية الموجودات جميعًا وإليه ترجع الأسباب جميعًا. وكما ترى، فهذا الدليل هو عين الدليل الذي ذكره الفارابي لإثبات وجود الله، وهو دليل عقلي لأنه يستند إلى التأمل في مفهوم الواجب والممكن ومن ثم يصل عقليًا، عن طريق الاستنباط، إلى ضرورة وجود الواجب الوجود. ويرى بعد ذلك أننا يجب أن لا نستند في البرهان على الخالق إلى شيء من مخلوقاته لأننا نستطيع أن نصل إلى الوجود الأول الواجب الوجود عقليًا ونعرف أن وجوده عين ما هيته أي أنه وجود متحقق. وهو يختلف عن الدليل الأول في أن ابن سينا لا يستخدم المنطق بل يصل إلى الدليل بالحدس المباشر. والحدس ضرب من ضروب المعرفة المباشرة دون وسيط حسي، إذ إن ابن سينا هنا لم يستدل بالمخلوق على الخالق كما هو الحال في الدليل الكوني، بل حدس فكرة الموجود الأول من فكرة الوجود فقط ووصل إلى وحدانيته لأنه يشهد على ما بعده في الوجود.

يقول ابن سينا في الإشارات: ¸تأمل كيف لم يحتج برهاننا لثبوت الأول إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله، وإن كان ذلك دليلاً عليه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود، فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود، وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الإلهي:
﴿  سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم﴾  فصلت: 53


، أقول: هذا حكم لقوم، ثم يقول:
﴿ أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾  فصلت: 53


، أقول إن هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه". وابن سينا يعني بهذا أنه لم يستشهد بوجود المخلوق على وجود الخالق بل فعل عكس ذلك فاستشهد بوجود الخالق على وجود المخلوق. ويسميه الفلاسفةالدليل الوجودي.

يأتي بعد ابن سينا في هذه القضية العالم الأندلسي ابن رشد، الذي ولد بقرطبة عام 520هـ، 1126م ويسمى ابن رشد الحفيد لأن أباه كان قاضيًا وفقيهًا وكذلك جده لأبيه كان من أشهر فقهاء الأندلس، وقد كان هو فقيهًا وطبيبًا وفيلسوفًا، وقد تأثر بفلسفة أرسطو حتى سُمي بالشارح الأكبر لفلسفة أرسطو، وقد أثر في الفكر الفلسفي الغربي، وقامت مدرسة فلسفية غربية في القرون الوسطى تُسمى بالرشدية وتتميز فلسفته بالتوفيق بين الفلسفة والدين. انظر: ابن رشد .

يرى ابن رشد أن العالم يخضع للتغيُّر ويستلزم حركة أزلية تحتاج إلى محرك أزلي، وهذا المحرك الأزلي موجود وهو منشئ نظام العالم البديع. وقد أخذ ابن رشد هذا البرهان من كـتابالميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) لأرسـطو وتعليل هذا الدليل عنده أن كل متحرك له محرك وأن المتحرك إما أن يتحرك بالقوة؛ أي من جهة قابليته للحركة إذا حُرك، وإما أن يتحرك بالفعل، وأن سلسلة الحركة لابد أن تنتهي عند محرك أول لا يتحرك أصلاً ولا من شأنه أن يتحرك، وهو المحرك الأزلي ضرورة. لأننا لو قلنا إنه متحرّك لزم أن يكون له محرّك، وهكذا إلى مالانهاية، لذلك فالمحرك الأول عنده لا يتحرك بل هو محرك كل حركة.

القضية الثانية، العالم

يرى الكندي أن العالم خُلق من العدم. وهذا الرأي مخالف لرأي أستاذه أرسطو الذي يقول بأن العالم قديم وأنه ليس مخلوقًا من العدم. أما أفلاطون، فإنه قال بحدوث العالم وهذا جعل فلاسفة الإسلام ينحازون إليه. وقد استطاع الكندي أن يصل إلى دليل أصيل لخلق العالم يبين فيه أن العالم ليس بقديم كما كان يقول المعلم الأول أرسطو، واتفق الكندي مع أرسطو في القول بدليل الحركة لكنه وصل إلى نتيجة تختلف عن النتيجة التي وصل إليها أستاذه. وفحوى دليل الكندي أن كل ما في العالم متحرك والحركة لا تتم إلا في زمان، فإذا كانت حركة كان الزمان، وإذا لم تكن حركة لم يكن زمان.

والحركة هي حركة الجرم أو الكتلة، فإذا كان جرمٌ كانت حركة وإذا لم يكن جرمٌ لم تكن حركة، فالجرم أو الكتلة والحركة والزمن لا يسبق بعضها بعضًا بل تتساوى في الحدوث. والجرم متناه وحركته متناهية ولا يجوز أن نتخيل زمنًا لا متناهيًا إلا بالقوة (الإمكان). وبما أن الزمن في حقيقته متناه فلابد أن تكون له بداية. وبما أنه مقياس الحركة والحركة لا يمكن أن تكون بدون الموجودات المتحركة في العالم؛ فالحركة إذن محدثة والعالم محدث لأن له بداية في الزمن، وهو مخلوق لله تعالى. وهذا الدليل يتّفق مع الاعتقاد الإسلامي في أن الله تعالى خلق العالم من العدم وهو الذي أبدع ما فيه من آيات لأنه سبحانه هو الخالق البارئ المصور والمبدئ والمعيد.

يقول الفارابي إن الله منزَّه عن المادة، يعني أنه عقل محض لا يخالط المادة ولا يخلقها. أما كيف خلق الله العالم فيقول الفارابي كما قال أفلوطين (ت 352 ق.هـ، 270م) في كتابالربوبية (إيثولوجيا) إن الله لم يخلق هذا العالم الفاسد (المتغير) لكن العالم فاض عنه فيضًا وصدر عنه صدورًا عقليًا. والموجودات جميعًا تصدر عن علم الواحد. فالله يعقل ذاته ويصدر عنه العالم نتيجة لعلمه بذاته. والفيض يصدر آلياً عن الواحد وليس الوجود غاية لعلم الواحد بل يصدر الوجود عن الواحد تلقائيًا لكماله وجماله المطلق. وهنا يكرر الفارابي نظرية الفيض الأفلوطينية الإشراقية دون تعديل أو تبديل في مضامينها الأساسية التي تخرج عن الاعتقاد الإسلامي؛ لأن القول بفيض الوجود عن الله تعالى تلقائيًا دون إرادة منه، سبحانه، فيه تعطيل لصفة من صفاته، جل شأنه، هي صفة الخلق، فالله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وفيه تعطيل لصفة الإرادة، فالله مريد لما يخلق، فعال لما يريد. والفارابي بقوله هذا قد دخل في زمرة المعطلة.

أما كيف تصدر الموجودات عن الله، فالواحد عند الفارابي لا يصدر عنه إلا واحد لأنه عقل مفارق للمادة لا يقبل التكثر، فالفيض يصدر عن فعل التعقل الإلهي، ويتم صدور العقول عنه تنازليًا. ومراتب الوجود حسب هذا الترتيب تكون ستة:

يصدر في المرتبة الأولى العقل الأول وهو ممكن الوجود بذاته وواجب الوجود بالأول. والعقل الأول يعقل ذاته فتصدر عنه الموجودات التي هي دونه لكونه عالمًا بذاته وبأنه مبدأ النظام والخير في الوجود على ما يجب أن يكون عليه. وإنما علمه هو العلة لوجود الأشياء. ومن العقل الأول يفيض العقل الثاني الذي هو أيضًا جوهر غير مادي فيعقل الأول فيلزم عنه وجود العقل الثالث، ويعقل ذاته فتصدر عنه السماء الأولى. وكذلك العقل الثالث يعقل الأول فيصدر عنه عقل رابع ويعقل ذاته فتصدر عنه كرة الكواكب الثابتة. والعقل الرابع يعقل الأول فيصدر عنه عقل خامس ويعقل ذاته فيصدر عنه كرة زحل. والعقل الخامس يعقل الأول فيصدر عنه عقل سادس ويعقل ذاته فتصدر عنه كرة المشتري. وكذلك العقل السادس يعقل الأول فيصدر عنه عقل سابع ويعقل ذاته فيصدر عنه كرة المريخ. والعقل السابع يعقل الأول فيصدر عنه عقل ثامن ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة الشمس. والثامن يعقل الأول فيصدر عنه عقل تاسع ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة الزُهرة. والتاسع يعقل الأول فيصدر عنه عقل عاشر ويعقل ذاته فيصدر عنه وجود كرة القمر. أما العقل الحادي عشر، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول وعنده ينتهي وجود العقول والمعقولات، كما تنتهي عند كرة القمر الأجسام السماوية التي تتحرك دورًا. ويوجد دون فلك القمر عالم الكون والفساد أي عالم الصيرورة والتغير، وتتسلسل الكائنات في عالم الكون والفساد من الأخس إلى الخسيس حسب العنصر والمادة إلى أن تصل إلى مراتب المعادن فالنباتات والحيوانات غير الناطقة فالحيوان الناطق الذي لا يوجد أفضل منه. وكل موجود يحتاج في وجوده إلى مادة يخلق منها وصورة يُخلق عليها. وهكذا كان تصور الفارابي للخلق. وكما ترى فهو قد أخذه من أصول يونانية أتت إليه عن طريق أفلوطين، لكن أفلوطين نفسه لم يقل بالعقول العشرة بل كان الصدور عنده يبدأ من الأول الواحد فالعقل فالنفس الكلية. ويقول أبو البركات البغدادي (ت نحو 560هـ، 1165م) عن العقول العشر: ¸إن فلاسفة الإسلام أوردوها بدون برهان ووضعوها وضعًا بدون تحقيق أو بحث· ثم يقول : ¸كان الأحرى بهم أن يقولوا إنها وحي حتى يكف الناس عن التشنيع عليهم. ويقول عنها ابن رشد : ¸إن هذه الأشياء هي التي أضاعت هيبة فلاسفة الإسلام وجعلت الغزالي يُنعي عليهم تهافتهم.

القضية الثالثة، النفس

يجمع الكندي في مسألة النفس بين رأي الحكيمين أفلاطون وأرسطو ولا يزيد على ذلك شيئًا، ويقول إنها، أي النفس، ¸تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابلة للحياة·، وهي أيضًا ¸استكمال أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة·. هذا ما كان فيه الكندي على رأي أرسطو، أما النفس في رأي أفلاطون، فهي: ¸جوهر عقلي متحرك من ذاته·، وهي جوهر إلهي بسيط لا طول له ولا عرض ولا عمق، وهي نور الباري والعالم الشريف الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت، هو مقامها الأبدي ومستقرها الدائم. فالنفس عنده خالدة لكنه لا يقطع بشيء فيما إذا كانت قد وُجدت قبل البدن على زعم أفلاطون أم وجدت معه كما تقول الشريعة. وعلاقة النفس بالبدن عارضة وهي لا تفعل إلا بالبدن، وهي متحدة به لكنها تبقى بعد فنائه. وتسير النفس بعد موت البدن إلى المستقر الأعلى مباشرة. ومن النفوس ما فيها دنس فيقيم في كل فلك من الأفلاك مدة من الزمان حتى يتهذب وينقى ويرتفع إلى كوكب أعلى، فإذا صارت إلى الفلك الأعلى ونقيت غاية النقاء، وزالت أدناس الحس وخيالاته وخبثه منها، ارتفعت إلى عالم العقل، وطالعت نور البارئ، وفوض إليها البارئ أشياء من سياسة العالم تلتذ بفعلها والتدبير لها. وهذا التصوير لرحلة النفس بعد فناء الجسد إلى العالم العلوي فيه شبه كبير بما يسميه أفلاطون الجدل الصاعد. ويقسم الكندي قوى النفس إلى ثلاث هي: القوى الغضبية، والقوى الشهوانية، والقوى العقلية، وآلة النفس التي تشترك بها مع الحس والعقل هي الدماغ، وآلتها التي تدرك بها جميع المحسوسات هي أعضاء الحس الخمسة. ويقسم الكندي قوى النفس إلى الحاسة والمتوسطة والعاقلة. أما القوى الحاسة فهي التي تدرك صور المحسوسات في مادتها، وأما القوى المتوسطة فهي القوى المصورة والمتخيلة، وهي التي توجد صور الأشياء مع غيبة حواملها عنها، أي مع غيبة أعيانها ، وتستطيع أن تركب إنسانًا برأس حصان وتعمل في حالتي النوم واليقظة. ومنها القوى الحافظة وهي الذاكرة، ومنها القوى الغضبية وهي التي تدفع الإنسان إلى ارتكاب الأمر العظيم، ومنها الشهوانية الغازية، وهما القوتان اللتان بهما يحقق شهواته من المطعوم والمنكوح. أما القوى العاقلة، فهي التي تدرك صور المجردات دون مادة، أي القدرة على الفكر المجرد والانتقال من العقليات إلى العقليات. أما العقل عنده، فيكون بالقوة أي ممكنا ويخرج من الإمكان إلى الفعل أي إلى الوجود الحقيقي بفعل التعقل نفسه.

كان الفارابي في مسألة النفس تابعًا لفلاسفة اليونان خاصة الحكيمين أفلاطون وأرسطو. ويقسم الفارابي النفوس إلى نفس العالم ونفوس السماوات ونفس الإنسان ونفس الحيوان. وتتفاعل هذه النفوس فيما بينها لتقوم الحياة. وأعلاها نفوس السماوات والعالم، ويقل حظ النفس في الشرف والرفعة إلى أن تصل إلى النفس النباتية. وهذا الترتيب هو ترتيب أرسطو للنفوس. وذهب الفارابي مذهب أرسطو في تعريف النفس إذ قال إنها ¸استكمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة· ويقول الفارابي إن النفس هي صورة الجسد وإنها جوهر روحي مباين له. ويذهب الفارابي مذهبًا أفلاطونيًا حيث يتبع برهان أفلاطون في طبيعة النفس، فيقول: إن النفس تدرك المعقولات وهي معان مجردة فلابد أن تكون طبيعتها من طبيعة موضوعات إدراكها، فهي لذلك جوهر معقول وهي مستقلة عن آلتها الجسم. والنفس تدرك الأضداد، والمادة لا تستطيع أن تفعل ذلك فهي إذن مختلفة عن المادة، والعقل قد يقوى بعد الشيخوخة، لكن الجسد يضمحل، فالنفس إذن ليست من جنس الجسد. أما خلود النفس بعد فناء الجسد المادي، فالفارابي يقول بخلود النفس الفاضلة التي كانت تسعى لتحقيق السعادة، وذلك بتحصيل الفضائل العقلية، وأما النفوس التي كانت منغمسة في الشهوات، فهذه لا يضمن لها الفارابي بقاءً بعد الموت لأنها حينئذ تكون كالسباع والأفاعي مجرد هيولى، أي مادة تفنى بفناء الجسد، وتنتهي بانتهائه. والفارابي هنا أقرب إلى أفلاطون منه إلى أرسطو، ورأيه في فناء النفوس الخبيثة يتعارض مع رأي الشريعة التي تقول ببعث النفوس الخبيثة والطيبة يوم القيامة فتحاسب على ما قدمت إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

لكن تقسيم النفوس عنده هو نفس التقسيم الذي نجده عند أرسطو في كتاب النفس.

فالقوة الناطقة هي التي يميز بها الإنسان بين الأشياء العقلية ويعرف بها عمل الإرادة ويعمل بناء على توجيهاتها، والنزوعية هي التي يكون بها الحب والبغض والصداقة والعداوة، والمخيلة هي الذاكرة التي تحفظ رسوم الأشياء بعد غيابها، والحاسة هي التي تدرك المحسوسات عن طريق الحواس الخمس وتدرك اللذة والألم لكنها لا تميز بين الضار والنافع، وأما الحيوان غير الناطق، فتوجد عنده القوة الباقية دون الناطقة وبعضها عندها القوة النزوعية والحاسّية فقط.

أما القوة الناطقة عند الإنسان، فهي التي تعقل المعقولات وبها تحصل الصناعات والعلوم، ويقسمها الفارابي إلى العقل النظري والعقل العملي، فالنظري مهمته فعل التجريد والعملي يركِّب الأشياء ويوائم بينها. والنظري له مراتب، منها العقل الهيولاني، وهو بالقوة، والعقل بالملكة والعقل المستفاد. فالعقل الهيولاني أو المنفعل يكون فارغًا من المعلومات، ولكن له الاستعداد على تقبل المعلومات كلها كعقل الطفل.

أما العقل بالملكة أو العقل بالفعل، فيأتي في الرتبة بعد العقل الهيولاني، إذ إنه بعد أن يتقبل العقل المنفعل صور الأشياء يكتسب العقل بالقوة ما لم يكن فيه من قبل فيصبح عقلاً بالفعل بعد أن كان بالقوة ، وهكذا يستمر في العمل من القوة إلى الفعل على الدوام. والخروج من القوة إلى الفعل أو المعرفة المكتسبة يستفيدها العقل بالفعل من العقل الفعال الذي يسميه الفارابي الروح الأمين وروح القدس.

أما العقل المستفاد فهو العقل، وقد صار بالفعل وأصبح يعلم المعقولات كلها دون مادتها بل بصورها المجردة التي اكتسبها الإنسان الذي استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها وصار عقلاً بالفعل ومعقولاً بالفعل، وهو أرقى من العقل المنفعل وأكثر كمالاً منه وأكثر ابتعادًا عن المادة وأقرب إلى العقل الفعال الذي يشع عليه المعرفة إشعاعًا، وهذا هو ما يسميه الفارابي المعرفة الإشراقية. والذي نراه هنا أن الفارابي جمع بين فلسفتي أفلاطون وأرسطو؛ فبينما تراه أسند جزءًا من المعرفة إلى الحس ـ كما فعل أرسطو ـ يعود تارة أخرى إلى العقل الفعال لينهل منه معرفة يفيضها عليه العقل الفعال ـ كما فعل أفلاطون ـ وظل مخلصًا لفلسفة حكماء اليونان.

يقسم ابن سينا النفس إلى ثلاثة أقسام؛ النفس النباتية، وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي في إدراك الجزئيات وتحريك الإرادة، والنفس الحيوانية هي كمال لجسم طبيعي آلي في إدراك الجزئيات وتحريك الإرادة، والنفس الإنسانية، وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي في فعل الاختيار الفكري والاستنباط والاستقراء، أي إدراك الكلي بالنظر إلى أجزائه وإدراك الكليات المجردة.

براهين وجود النفس

هي البرهان الطبيعي والبرهان النفسي والبرهان الاستمراري وبرهان الإنسان المعلق في الهواء.

البرهان الطبيعي.

وهو دليل استفاده ابن سينا من فلسفتي أفلاطون وأرسطو، مؤداه أن أفعال الكائن الحي من تَغَذّ ونمو وتوليد وإحساس وحركة بالإرادة، لا يمكن أن تصدر عن الجسم وحده، ومن ثم لابد من التسليم بأنها تصدر عن مبدأ آخر في ذاتها غير الجسم وهو النفس.

البرهان النفسي.

النفس المدركة عند الإنسان تختلف عن الكائنات غير المدركة، فأفعال الإنسان، كالنطق وتصور المعاني الكلية العقلية المجردة ومعرفة المجهول من المعلوم، كل هذه ليست أفعالاً للجسم فلابد أنها أفعال النفس.

البرهان الاستمراري.

الجسم يخضع للتغيُّر والتبدُّل، لكن جوهر النفس يظل هو هو، ونستطيع أن نعرف ذلك من الذكريات المترابطة، فإذا تأمل الإنسان نفسه وجد أنه خلال عشرين سنة ظل هو هو، وإن تبدل جسمه وطرأ عليه كثير من التغير والتبدل، فالذات مستمرة الوجود.

برهان الإنسان المعلق في الهواء.

فحوى هذا الدليل أن الإنسان، وإن كان طائرًا أو معلقًا في الهواء، يستطيع أن يغفل عن أعضاء بدنه، لكنه لا يستطيع أن يغفل عن نفسه وشعوره بأنيته وهذا برهان على وجود النفس.

أما رأي ابن سينا في خلود النفس وبقائها بعد فَنَاء الجسد، فتصوره قصيدته العينية التي يقول في مطلعها:

هبطت إليك من المحل الأرفع  ورقاء ذات تعزُّزٍ وتمــــــــــــنُّع
محجوبة عن كل مقلة عارف  وهي التي سفرت ولم تتبرقــــع
وصلت على كُرْه إليك وربما  كرهت فراقك وهي ذات تفجُّع

إلى أن يقول:

سجعت وقد كُشف الغطاء فأبصرت  ماليس يُدرك بالعيون الهجّــــع
وغدت مفارقة لكل مُخلّفٍ  عنها حليف الترب غير مُشيَّع

والقصيدة طويلة وهي تكشف أن أصل النفس عند الشيخ الرئيس عُلْويٌّ، إذ إنها تفيض من العقل الفعال وهي روح لا تمسكه الحواس، وعلاقة الجسد بالنفس عَرَضيَّة، كأن يحط طائر على غصن. وآراء ابن سينا في النفس لا تخرج عن مقالة أفلاطون عن العالم غير المحسوس الذي هبطت منه النفس وهو عالم المُثُل ـ كل شيء في الأرض له مثاله في السماء ـ أما خلود النفس، فيقول ابن سينا إن الذي لا يفنى منها هو العقل الفعّال، أما النفس الناطقة فتفنى بفناء الجسد. ويورد ابن سينا مسألة العقول العشرة كما هي عند الفارابي، ويضيف إليها العقل القدسي، وهو العقل الذي عنده استعداد للاتصال بالعقل الفعال ولا يحتاج في هذا إلى مجهود أو تخريج وتعليم. والمعرفة عنده حدس مباشر من العقل الفعال دون وسائط مادية، والقوة القدسية عند ابن سينا توجد فقط عند الأنبياء، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية.

أما الموجودات عند ابن رشد فمنها ما هو مادي ومنها ما هو عقلي، والموجودات العقلية تتجلّى فيها الوحدة وكمال الوجود وهي مراتب بعضها فوق بعض، وكل العقول تعقل ذاتها وتعرف صلتها بالعلة الأولى، والمادة تنفعل أما العقل فيقبل.

والنفس الإنسانية عند ابن رشد تتعلق بالجسد كتعلق الصورة بالهيولى أي أنها علاقة عرضية تنتهي بفناء الجسد. ويرفض ابن رشد مذهب ابن سينا في بقاء النفوس المتكثرة ويقول إنها لا تبقى إلا باعتبارها كمالاً لجسدها. ورأي ابن رشد في النفس مزيج أفلاطوني أرسطي، فالعقل الهيولاني عقل أزلي، أما العقل المنفعل فهو استعداد الإنسان وقدرته على المعرفة العقلية، وهذا العقل يوجد بوجود الإنسان ويفنى بفنائه.

علماء الإسلام وردود أفعالهم تجاه الفلسفة

أبو حامد الغزالي

(450 - 505هـ، 1058 - 1111م).كان عصر أبي حامد الغزالي يعج بالفرق الإسلامية، فآلى على نفسه أن يعرف كل هذه الفرق ليتبين له الحق عندها من الباطل. ومن هنا بدأ رحلته في المعرفة التي كانت سائدة في زمانه فتعرف على كل الفرق معرفة الدارس الممحِّص، وعرف من بين هذه الفرق، الفلاسفة، فهضم ما عندهم وكتب في ذلك كتابين أحدهما مقاصد الفلاسفة عرض فيه آراءهم دون نقض وكتابًا أسماه تهافت الفلاسفة رد فيه على مزاعم الفلاسفة في قضايا الفلسفة الرئيسية في زمانه كالله والعالم والنفس.

أما وجود الله، عز وجل، فالدليل عليه عنده هو دليل الصنعة التي تدل على الصانع، يقول في كتابه إحياء علوم الدين: " إن هذا الأثر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصرّفة بمقتضى تدبيره". ويثبت الغزالي لله الصفات التي وصف بها الله تعالى نفسه.

والعالم عنده مخلوق لله تعالى وهو حادث، والله هو الذي أحدثه، أما قول الفلاسفة بقدم العالم، فلا يرى له تخريجًا مقبولاً، وينتقد الغزالي نظرية الفيض عند الفارابي وابن سينا ويرى أنها تعطيل لصفة الخلق عند الحق عز وجل. أما خلود النفس وبقاؤها بعد الموت، فيرى الغزالي أن النفوس الطيبة تخلد في الجنة والخبيثة تخلد في النار. ويعترف الغزالي بالحواس وسائل للمعرفة، ويرى أنها مفاتيح المعرفة، لكنه يرى أن المعرفة الحقة هي التي تكون عن طريق الحدس؛ أي المعرفة المباشرة. ويرى الغزالي أن الإيمان قد يقتضي من الإنسان البحث والنظر ومعرفة الاستدلال والاستنباط لإثبات وجود الله، لكنه يعتقد أن الإيمان في المحصلة النهائية نور يقذفه الله في قلب العبد فينكشف له اليقين انكشافًا. وهنا ترى أن الغزالي، وإن اختلف مع الفلاسفة كالفارابي وابن سينا في كثير مما ذهبوا إليه، من مذهب أهل اليونان في القول بقدم العالم وبالفيض بدلاً من الخلق من العدم ففارقوا الشرع، فالغزالي لم يفارق الشرع لكنه يتفق مع هؤلاء في فرع من فروع المعرفة، وهو المعرفة الحدسية أو المعرفة المباشرة أو الإدراك المباشر الذي لا يحتاج إلى وسائط حسية معرفية. ويعول الغزالي في النهاية على هذه المعرفة في تحصيل اليقين.

ابن تيمية

(661 - 728هـ، 1263 - 1328م). يختلف ابن تيمية عن الغزالي في أنه لم يقبل من الفلاسفة لا المقدمات ولا النتائج ونعى عليهم اعتمادهم على العقل وحده وسيلة للمعرفة فأنكر أدلة القائلين بالواجب الوجود، والممكن الوجود في إثبات وجود الله تعالى، وقال: ¸إن القائلين بواجب الوجود لم يقيموا دليلاً على واجب الوجود فإنهم جعلوا وجوده موقوفًا على إثبات (الممكن) الذي يدخل فيه القديم، فلا يمكن إثبات واجب الوجود على طريقتهم إلا بعد إثبات ممكن قديم، وهذا ممتنع في بديهة العقل·. انظر: ابن تيمية، تقي الدين.

ويقول ابن تيمية: ¸وأمكنهم أن يستدلوا على أن المحدَث لابد له من قديم وهو واجب الوجود ، ولكن أثبتوا قديمًا ليس بواجب الوجود، فصار ما أثبتوه من القديم يناقض أن يكون هو رب العالمين، إذ أثبتوا قديمًا ينقسم إلى واجب وإلى غير واجب. والواجب الذي أثبتوه قالوا: إنه يمتنع اتصافه بصفة ثبوته، وقالوا لا يكون صفة ولا موصوفًا البتة، وهذا ممتنع الوجود، لا ممكن الوجود، فضلاً عن أن يكون واجب الوجود·. وفند ابن تيمية آراء الفلاسفة في قدم العالم لأنهم يقولون إن الله فاعل بالإيجاب لا بالاختيار. فالله عنده فاعل قادر على الفعل منذ الأزل لكنه فاعل بالاختيار لأن الاختيار صفة تناسب الإله، فله أن يفعل وأن لا يفعل مع قدرته على الفعل والترك، فلا يجب عليه شيء. وقد علمنا من الفارابي وابن سينا وابن رشد كذلك أن الله خلق العالم ضرورة، وهذا هو الذي جعل ابن تيمية يقف مدافعًا عن الشرع والمعرفة النقلية التي يرى أنها لا تضاد العقل بل إن صريح المعقول عنده لا يتعارض مع صحيح المنقول. وقد كتب في ذلك كتابًا ضخمًا أسماه درء تعارض العقل والنقل انتصر فيه للفطرة السليمة والمنطق الفطري الذي لا يتعارض ولا يعارض النقل بالمقارنة مع المنطق الأرسطي الذي يخضع لمكونات ثقافية ولغوية تجعلنا نقبل منه ما تقبله فطرتنا السليمة ونرفض ما ترفضه.

خاتمة

بعد هذا العرض لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ينبثق السؤال:

هل توجد فلسفة إسلامية حقاً ؟

وهو سؤال صار تقليدياً منذ أن وضعه رينان وأجاب عنه باجابة قاطعة ربطها بفكرته عن الجنس السامي بعامة فقال «ان الفلسفة لم تكن أبدأ، عند الساميين، غير امر مستعار من الخارج تماما ودون خصب كبير، وتفليد للفلسفة اليونانية» لكن يسحب هذا الحكم نفسه على فلسفة العصور الوسطى في أوروبا المسيحية، فيقول بعد ذلك مباشرة: «ويجب أن نقرر الشيء عينه فيما يتصل بفلسفة العصور الوسطى» وقال أيضاً «ان الفلسفة لم تكن الا فترة عارضة episode في تاريخ الروح العربية. والحركة الفلفية الحقيقية للاسلام ينبغي أن نبحث عنها في الفرق الكلامية: القدرية، الجبرية، الصفاتية، المعتزلة، الباطنية، التعليمية، الأشعرية، وخصوصا في علم الكلام. لكن المسلمين لم يطلقوا أبداً على هذا اللون من المناقشات اسم «الفلسفة». اذ ان هذا الاسم لا يدل عندهم على البحث عن الحقيقة بعامة، وانما يدل على فرقة، ومدرسة خاصة هي الفلسفة اليوناية ومن بدرسونها. وحين يؤ رخ الفكر العربي، فمن المهم جدا الا ينخدع المرء بهذا الاشتباه. ان ما يسمى «فلسفة عربية» ليس الا قسيما محدوداً من الحركة الفلسفية في الاسلام، الى حد أن المسلمين أنفسهم كادوا أن يجهلوا وجودها»

ولم يشأ رينان ان يعدل عن رأيه هذا في مقدمة الطبعة الثانية، رغم ما وجه اليه من نقد، خصوصا من جانب هنري رتر Henri Ritter ، وقرر: «انني مصمم على اعتقاد أنه لم يهيمن على خلق هذه الفلسفة اتجاه عقائدي كبير dogmatique . ان العرب لم يفعلوا غير أغهم اعتنقوا adoptei نجموع المعارف اليونانية كما قبلها العالم كله حوالى القرنين السابع والثامن»(٢) ومن هنا يربط نشأة الفلسفة في الاسلام بحال الفلسفة عند للسريان وفي مدرسة الاسكندرية في هذين القرنين.

وآراء رينان هذه تحتاج الى الفحص والنقد:

١ - ذلك أنه يخلط في كلامه بين فكرة العنصر والجنس (السامي) من ناحية وبين فكرة الاسلام بوصفه دينا من ناحية أخرى. ولهذا يترجح في الرأي بين انكار وجود فلسفة «عربية» حينما يقصد العنصر والجنس، وبين الاقرار بوجودها حين يقصد ااسلام كجماعة شاملة لأجناس عديدة من بينها الجنس الآري (الفرس). وهذا الاضطراب هو الذي دعا بعض الباحثين المعاصرين الى اثارة مشكلة زائفة وهي : هل ينبغي تسمية هذه الفلسفة فلسفة «عربية» أو فلسفة «اسلامية»؟

وفي رأينا أنها مشكلة زائفة لأن المدلول واحد: فهي عربية لأن الكتب المؤلفة فيها قد كتبت باللغة العربية (الا في القليل النادر الذي لا يكسر القاعدة، تماماً كما كتب ديكارت وليبنتس وكنت بعض مؤلفاتهم باللاتينية الى جانب لغاتهم القومية، ومع ذلك لم يقل أحد اغهم من رجال الفلسفة «اللاتينية»!) ، - وهي اسلامية بمعى أن أصحابها عاشوا في دار الاسلام أي داخل نطاق العالم الاسلامي في العصر الوسيط، حتى لو كان البعض منهم لم يعتنق الاسلام ديناً.

٢ - كما أنه يخلط - وهو خلط لا يزال مستمرأ، بل بولغ فيه كثيراً في النصف قرن الأخير - بين الفلفة وبين التفكير بوجه عام سواء كان لاهوتيا أو صوفيا أو ما أشبه ذلك.

وفي رأينا أنه يجب ألا تطلق الفلسفة الآ على التفكير العقلي الخالص الذي لا يعترف بملكة أخرى للتفلسف غير العقل النظري المحض. ولهذ لا وجه أبداً لادراجعلم الكلام الوضعي والفرق الكلامية المختلفة التي تجول في اطار النصوص الدينية وتتند اليها في حجاجها - أقول لا وجه ابدأ لادراجها ضمن الفكر الفلسفي ولا بأوسع معانيه.

ومن هنا نرى أن من العبث، بل ومن الامعان في الجهل بحقيقة الفلسفة، أن نتلمس الفلسفة الاسلامية في غير الفلسفة بالمعنى الدقيق المحدود، أعني البحث العقلي المحض. ولهذ السبب استبعدنا من عرضنا هذا كل من لا ينتسبون الى الفلسفة بهذا المعنى الدقيق، من أمثال اخوان الصفا والغزالي والسهروردي المقتول، لأنم اما من أصحاب المذاهب المستورة الغنوصية (اخوان الصفا) أو من الصوفية والمتكلمين الوضعيين (الغزالي) أو من الصوفية النظريين (السهروردي المقترل)، ومكاهم انما يقع في تواريخ هذه التيارات.

ووصف هذه المدرسة الفلسفية بأنها «اسلامية» انما قصد به المعنى الحضاري واليا-ي: أي التي نشأت في اطار الحضارة الاسلامية التي يسودها الاسلام . اذ الفلسفة علم عقلي خالص، وتبعاً لذلك لا تقبل أن توصف بوصف ديني، شأنها شأن العلوم العقلية كالرياضيات والطب والفزياء والكيمياء، الخ فكما لا يجوز لنا أن نصف ألهندسة أو الطب أو الفيزياء بأنها وثنية و بوذية أو يهودية أو مسيجية الخ، فكذلك الشأن في الفلسفة. فاذا ما وصفت هذه العلوم بوصف «اسلامية» مثلا، فالمقصود بذلك هو المعنى الحضاري والسياسي فحسب.

والآن وقد فرغنا من بيان وجود هذه «الفلسفة الاسلامية»، والشروط التي ينبغي مراعاتها لفهم المقصود منها، يبقى السؤال الآخر وهو: أين الأصالة في هذه الفلسفة؟

والمقصود «بالاصالة» هنا «الجديد» فيها بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية.

وهنا ينبغي الا يبالغ المرء في تحديد المعيار، فيطلب أن يكون فيها نظراء لأفلاطون وأرسطو، بل ولا لأفلوطين، لأن هؤلاء عدموا النظير حتى كنت وهيجل. فمن الاسراف والشطط أن نحط من قدر هذه الفلسفة الاسلامية لأنها لم تنجب امثال افلاطون وأرسطو وأفلوطين.

لكن حسبها أنها أنجبت شارحا عظيما مثل ابن رشد، وأصحاب مذاهب شاملة في العالم مثل الفارابي وابن سينا، رغم قلة الأفكار الأصيلة التي ابتدعوها.

انظر أيضا

  1. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة ReferenceA
  2. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة ReferenceB
  3. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة muslimphilosophy.com
  4. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة al3an.net
  5. ^ خطأ استشهاد: وسم <ref> غير صحيح؛ لا نص تم توفيره للمراجع المسماة humanities.mq.edu.au