فريدريك نيتشه

(بالتحويل من نيتشه)

فريدريش فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) (15 أكتوبر 1844 - 25 أغسطس 1900) فيلسوف، ناقد ثقافي، شاعر وملحن ولغوي، وعالم كلاسيكي وباحث في اللاتينية واليونانية، ألماني. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث، ومن أعظم الفلاسفة تأثيراً في القرن العشرين، فقد تأثر به كثير من الفلاسفة والكتّاب وعلماء النفس في القرن العشرين تأثرًا شديدًا.

والعلماء الذين فشلوا فى أن يطرحوا على أنفسهم وأفكارهم الأسئلة الحادة التىطرحوهاعلى الآخرين، وهو رد الفعل الذى قاد ه إلى أن يعارض أفكار الرشد و النزعة العلمية والمذهب الإنسانى الذى يفترض أن المجتمعات الغربية الحديثة تتسم بها. وفى مواجهة هذا، استمسك نيتشه بمثل النزعة المفردية، والاعتماد على الذات، والتنافس، وحكم الصفوة. وثمة ثلاثة مصطلحات تلخص الخلاف المستمر حول أفكاره، والنتائج المترتبة على مساءلته لذاته، وهى: "العدمية" و "إرادة القوة"و"السوبرمان" (الإنسان الأعلى). ويعد ماكس فيير وميشيل فوكو من بين أولئك الذين تأثروا بأعماله.

ولد نيتشه بسكسونيا، وكان أبوه وجده قسيسيْن بروتستانتيين. ودرس في جامعتي بون وليبزج. بدأ حياته المهنية في دراسة فقه اللغة الكلاسيكي، قبل أن يتحول إلى الفلسفة. وعندما كان عمره 24 سنة فقط صار أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل بسويسرا في 1869. وهناك أصبح الصديق المقرب إلى الموسيقار ريتشارد فاجنر، ولكن هذه الصداقة انتهت بالعداء. وفي سنة 1870م أصبح نيتشه مواطنًا سويسريًا. وبعد أن درَّس في الجامعة عشر سنوات فقط استقال في عام 1879 بسبب المشاكل الصحية التي ابتلي بها معظم حياته وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهم كتبه. وفي عام 1889م وفي سن الرابعة والأربعين، عانى نيتشه من انهيار وفقدان لكامل قواه العقلية لم يُشف منه أبدًَا. عاش سنواته الأخيرة في رعاية والدته وشقيقته، حتى توفي عام 1900.

كان من أبرز الممهّدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميز. كتب نصوصاً وكتباً نقدية حول الدين والأخلاق والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية والمثالية الألمانية. وكتب عن الرومانسية الألمانية والحداثة أيضاً، بلغة ألمانية بارعة. يُعدّ من بين الفلاسفة الأكثر شيوعاً وتداولاً بين القراء.

أُعجب نيتشه بدرجة كبيرة بالحضارة الإغريقية الكلاسيكية. وفي كتابه الأول ميلاد المأساة (1872م)، قدم نظرية ثورية عن طبيعة المأساة والحضارة الإغريقية. فقد قال إن الفهم الصحيح لهما يكون باعتبارهما نتائج الصراع بين اتجاهين إنسانيين أساسيين: الاتجاه الأبولوني وهو الرغبة في الوضوح والنظام، ويرمز لهما بأبولو إله الشمس الإغريقي. والاتجاه الآخر الديونيسي وهو دافع بدائي غير عقلاني نحو الفوضى ويرمز له بإله الخمر ديونيسيوس.

كما يعتبر نيتشه أحد العظماء (ما لم يكن الأعظم) فى مهاجمة الأفكار والمعتقدات التقليدية، ولذا فقد فهم البعض نيتشه باعتباره المبشر بعدد من الظواهر المتباينة، كالنازية وما بعد الحداثة. وكثيراً ما تُفهم أعماله على أنها حامل أساسي لأفكار الرومانسية والعدمية ومعاداة السامية وحتى النازية، لكن بعض الدارسين يرفضون هذه المقولات بشدة ويقولون بأنه ضد هذه الاتجاهات كلها. كما تعرض للاتهام بالعنصرية والعداء لليهود. وكان ذلك إلى حد كبير بسبب قيام أجهزة الدعاية النازية بنشر كتبه. يُعدّ نيتشه إلهاما للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان. روّج لأفكار اعتقد كثيرون أنها مع التيار اللاعقلاني. استخدمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية والنازية. رفض نيتشه المثالية الأفلاطونية، والمسيحية والأديان والميتافيزيقيا بشكل عام. ودعا إلى تبني قيم أخلاقية جديدة، وانتقد الكانتية والهيغلية.

وقد انتقد نيتشه الدين في ذلك الوقت، وأعلن في كتابه هكذا تكلم زرادشت (1883 ـ 1885م) أن الله قد مات. وكان يعني بذلك أن الدين قد فقد معناه وسطوته على الناس ولم يعد يصلح لأن يكون أساسًا للقيم الأخلاقية. وكان يعتقد بأن الوقت قد حان لأن ينظر الناس نظرة نقدية نحو قيمهم التقليدية ومصادر هذه القيم.

سعى نيتشه إلى تبيان أخطار القيم السائدة، عبر الكشف عن آليات عملها عبر التاريخ، كالأخلاق السائدة، والضمير. يعد نيتشه أول من درس الأخلاق دراسة تاريخية مفصلة. قدم نيتشه تصوراً مهماً عن تشكل الوعي والضمير، فضلاً عن إشكالية الموت. كان نيتشه رافضاً للتمييز العنصري ومعاداة السامية والأديان ولا سيما المسيحية، لكنه رفض أيضاً المساواة بشكلها الاشتراكي أو الليبرالي بصورة عامة.

وقد حاول نيتشه إعادة تقييم كل القيم في كتبه مثل، وراء الخير والشر (1886م)؛ أصل الأخلاق (1887م). فقال إن المحاربين الذين سيطروا على المجتمع في البداية قد عرَّفوا قوتهم وطبقتهم النبيلة بأنها شيء طيب، وأن ضعف العامة هو شيء رديء. وفيما بعد عندما بدأ رجال الدين والعامة يسيطرون على المجتمع، نظروا في ضعفهم وتواضعهم وعدوه شيئًا طيبًا وأن قسوة المحاربين التي كانوا يرهبونها عدّوها شيطانًا. وقد انتقد نيتشه هذه المجموعة الثانية من القيم، لأنها مبنية على الخوف والكراهية، ونسب هذه القيم إلى التقاليد اليهودية والنصرانية. وقد تكرر انتقاده للنصرانية.

وكان نيتشه يفاخر بأنه أحد الفلاسفة القلائل الذين يعرفون علم النفس جيدًا. وكانت نظرية نيتشه الأساسية في علم النفس تقول إن كل تصرفات الإنسان تهدف في تحركها أساسًا إلى الرغبة في القوة (إرادة القوة). ولم يعن بذلك أن الناس كانوا يرغبون في تغلب بعضهم على بعض عضليًا فقط، ولكنه كان يعتقد أن الناس يريدون القوة للسيطرة على مشاعرهم المنطلقة. وكان يعتقد أن السيطرة على النفس التي يتمتع بها النساك والفنانون هي نوع من القوة أرقى من القهر العضلي الذي يمارسه القوي على الضعيف. وكان رجل نيتشه المثالي أو (السوبرمان) هو الشخص العاطفي الذي يتعلم كيف يسيطر على عواطفه ويوجهها وجهة نافعة. وقال نيتشه إن الناس يجب أن يقبلوا ويحبوا حياتهم بصورة كاملة إلى درجة الرغبة في أن يختاروها ويعيشوها مرة أخرى بمتعها ومعاناتها، مرات لا نهاية لها.

وهو يبدو بصفة أساسية على أنه غاضب بسبب الافتقار إلى الاتعكاسية - النقد والتأمل العميق - (انظر الإثنوميثودولوجيا) بين الفلاسفة والعلماء الذين فشلوا في أن يطرحوا على أنفسهم وأفكارهم الأسئلة الحادة التي طرحوها على الآخرين، وهو رد الفعل الذي قاده إلى أن يعارض أفكار الرشد والنزعة العلمية والمذهب الإنساني الذي يفترض أن المجتمعات الغربية الحديثة تتسم بها. وفي مواجهة هذا، استمسك نيتشه بمثل النزعة الفردية، والاعتماد على الذات، والتنافس، وحكم الصفوة، وثمة ثلاثة مصطلحات تلخص أفكاره، والنتائج المترتبة على مساءلته لذاته، وهي: "العدمية: و"إرادة القوة" و"السوبرمان" (الإنسان الأعلى). ويعد ماكس فيبر وميشيل فوكو من بين أولئك الين تأثروا بأعماله.

ومعظم كتب نيتشه متاحة فى ترجمات حديثة جيدة. ومن أشهر أعماله كتاب: العلم السعيد (الصادر عام ١٨٨٢)، وكتاب: هكذا تكلم زرادشت (الذى صدر فى الفترة من عام ١٨٨٣ حتى ١٨٩٢ )، وكتاب: ماوراء الخير والشر (الصادر عام ١٨٨٦)، وكتاب: حول أصول الأخلاق (الصادر عام ١٨٨٧)، وكتاب: الإنسان السوبر (الصادر عام ١٩.٨).

ولادته ونشأته

الشباب (1844 - 1866)

ولد فريدريك نيتشه في 15 أكتوبر عام 1844 في قرية ريكن بالقرب من بلدة لوتسن في مقاطعة ساكسونيا التابعة لبروسيا، ابنًا لقس بروتستانتي لوثري. وكان أجداده من جهتي الأب والأم ينتمون للكنيسة البروتستانتية منذ حركة الإصلاح في القرن السادس عشر، وكان العديد من أفراد أسرته السابقين قساوسة. ادعى نيتشه نفسه في سنواته الأخيرة، أنه ينتسب إلى النبلاء البولنديين، لكن هذا أمر لا يمكن تأكيده. سماه والده فريدريك لأنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه فريدريش الكبير ملك بروسيا. حيث كان والده مربياً للعديد من أبناء الأسرة الملكية.

ولدت شقيقته إليزابيث في عام 1846. بعد وفاة والده القس كارل لودفيج نيتشه في عام 1849 وشقيقه الأصغر عام 1850، انتقلت الأسرة إلى ناومبورغ. وقد أصبح صديق الأسرة برنارد داشسيل -وزير العدل في وقت لاحق- رسميا الوصي على الشقيقين اليتيمين فريدريك وإليزابيث. بعد وفاة والده -وهو في الخامسة من عمره- عرف انقلاباً وجَّهه إلى التشاؤم.

بين 1850 إلى 1856 عاش نيتشه في "أسرة من النساء"، هم أمه وأخته وجدته وعمتيه غير المتزوجتين والخادمة. بعد وفاة الجدة في 1856، تمكنت أم نيتشه من أن تستأجر مسكنا مستقلا لها ولأطفالها. دخل نيتشه في أول الأمر مدرسة عامة للبنين، لكنه شعر أنه معزول جدا هناك، فأُرسل إلى مدرسة خاصة، حيث كون صداقات مع أبناء الأسر الراقية. وعاش حياة مدرسية عادية ومنضبطة، وسماه أصدقائه القسيس الصغير لقدرته على تلاوة الإنجيل بصوت مؤثر. عام 1854 (في سن العاشرة) دخل المرحلة المتوسطة بفضل قدراته الفنية واللغوية الخاصة.

في 1857 (في سن الثالثة عشرة) ساعده القس غوستاف أوسوالد، الذي كان صديقا مقربا من والده، في الاستعداد لامتحان القبول في الثانوية. في 5 أكتوبر 1858 تم قبول نيتشه لمنحة دراسية في مدرسة الدولة المتقدمة "بفورتا" بالقرب من ناومبورغ، التي كانت معروفة عالميا، وكان مستواه الأكاديمي جيدا جدا. في وقت فراغه كان يكتب الشعر ويؤلف الموسيقى. وقد كان نيتشه كل حياته يحب الموسيقى الكلاسيكية وقام بمحاولات لتأليفها. درس في "بفورتا" حتى 7 سبتمبر عام 1864، التي كانت بيئتها مختلفة جدا عن بيئة أسرته المسيحية. تعلم هناك اللغات اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية، ليتمكن من قراءة أمهات الكتب بلغاتها الأصلية. وفي الفترة من 1860 إلى 1863 دخل الجمعية الأدبية "جرماينا".

في تلك الفترة تعرف نيتشه على الشاعر "إرنست أورتلب"، الذي كان غريب الأطوار ومعروفا بالتجديف وكان أكثر الوقت مخمورا. وقد وُجد ميتا في حفرة بعد أسابيع من لقاء نيتشه به. كان نيتشه معجبا به جدا، وقد تعرف من خلاله على موسيقى ريتشارد فاغنر.

الدراسة في الجامعة

في شتاء 1864 التحق نيتشه بجامعة بون، حيث درس فصلين دراسيين في فقه اللغة الكلاسيكي واللاهوت البروتستانتي وكان تلميذاً لرتشل ويان. بالإضافة إلى المنهج المقرر، كرس نيتشه نفسه لدراسة أعمال الهجيليين الشباب، بما في ذلك كتب برونو باور النقدية عن الإنجيل، وكتاب "حياة يسوع" لدافيد ستراوس، وخاصة كتاب "طبيعة المسيحية" للودفيغ فويرباخ الذي جاء فيه أن الناس هم الذين خلقوا الإله وليس العكس، وترك هذا أثرا على نيتشه الشاب. وقد شجعه ذلك (وخيب أمل والدته) في اتخاذ قرار ترك دراسة اللاهوت بعد فصل دراسي واحد. وفي رسالة لأخته -المتدينة- إليزابيث كتبها في يونيو 1865، ظهر فيها فقدانه للإيمان:

«ومن ثم فإن طرق الرجال تفترق: إذا كنت ترغب في سلام الروح والطمأنينة فعليك بالإيمان، وإذا كنت ترغب في أن تكون نصيرا للحقيقة، فعليك بالشك[١]»

واكتشف في نفس الوقت الفيلسوف الألماني شوبنهاور. إثر ذلك قرر نيتشه التركيز على دراسة علم اللغة. لم يكن مرتاحا للوضع في بون فانتقل لاحقا بأستاذه "فريدريش ريتشل" إلى جامعة لايبتزغ في عام 1865، حيث درس أربعة فصول دراسية. وهناك ظهرت أول منشورات نيتشه الفلسفية بعد فترة وجيزة. في ذلك العام درس نيتشه بدقة أعمال آرثر شوبنهاور وانغمس في قراءته. وهو مدين بصحوته الفلسفية لكتاب شوبنهاور "العالم كإرادة وتصور"، وقد ذكر في وقت لاحق أن شوبنهاور واحد من عدد قليل من المفكرين الذين يحترمهم، وكرس له مقالا بعنوان "شوبنهاور مربياً" في كتابه "تأملات قبل الأوان". تأثر أيضا -في تلك الفترة- بالفيلسوف الكانطي "فردرك ألبرت لانج" وكتابه "تاريخ المادية" الذي صدر عام 1866. خلال تلك الفترة أقام صداقة وثيقة مع زميله الباحث التاريخي "إروين رود"، واشتركا عام 1866 في تأسيس "جمعية فقه اللغة الكلاسيكي" في جامعة لايبزيغ.

ذلك العام، اندلعت الحرب النمساوية البروسية، واحتل البروسيون لايبزيغ. وفي 1867، على الرغم من ضعف بصره وكونه الابن الوحيد لأمه الأرملة، التحق نيتشه بالجيش الألماني المتصف بالصرامة تحت نظام "السنة الواحدة" إلى سلاح المدفعية البروسية في نومبورغ . في مارس 1868 تعرض لحادثة سقوط خطيرة من على الفرس وأصبح عاجزا عن المشي لأشهر. بعد أن وقع عن صهوة حصانه دفع هذا قائد فرقته أن يعفيه من الخدمة بعد إصابته. وقد استغل فترة علاجه للتفرغ وإنهاء دراساته الفلسفية في الجامعة، فأنهاها آخر ذلك العام. وقد ظل طول عمره متأثراً بالحياة العسكرية والأخلاق الإسبارطية التي عرفها في الجيش. في ذلك العام أيضا - خريف عام 1868 - كان لقاؤه الأول مع الموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاغنر ذا أهمية كبيرة. اهتم نيتشه في سنة التخرج بالمسرح والفلسفة الإغريقية القديمة حيث فضَّل الفلاسفة الذريين على الذين ظهروا فيما بعد كسقراط وأرسطو وتأثر بالفلسفة الأبيقورية بشكل خاص.

بروفيسور في جامعة بازل (1869 - 1878)

بناء على توصية من "فريدريش ريتشل" (أستاذه في جامعتي بون ولايبزغ) و"فيلهلم بيلفينجر" (أستاذ جامعي وسياسي سويسري)، عُين نيتشه -بسن الرابعة والعشرين- أستاذا مشاركا لعلم اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل في عام 1869، حتى قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه وقبل استلام شهادة التأهل للأستاذية. على الرغم من أن عرض التدريس هذا جاء في وقت كان فيه نيتشه يفكر في التخلي عن علم اللغة والاتجاه للعلوم. وحتى يومنا هذا، لا يزال نيتشه من بين أصغر الأساتذة المسجلين. عمل في نفس الوقت مدرسا للغات في الثانوية المتقدمة "ساحة الكاتدرائية" في بازل. وفي 28 مايو عام 1869 ألقى دؤس الافتتاح عن "هوميروس والفيلولوجيا القديمة". عمل عام 1870 على رسالته للدكتوراه التي لم يقدمها: مساهمات في نقد ودراسة مصادر ديوجانس اللايرتي.

بناء على طلبه، تخلى نيتشه عن الجنسية البروسية بعد انتقاله إلى بازل، وظل بدون جنسية بقية حياته. مع ذلك فهو قد خدم في الحرب الفرنسية البروسية لفترة قصيرة كمسعف على الجانب الألماني. وخلال ذلك الوقت، أصيب بأمراض الزحار والخناق، واحتاج لفترة نقاهة طويلة. نظر نيتشه بريب وتشكك إلى تأسيس الرايخ الألماني وحقبة أوتو فون بسمارك. لكنه تأثر بوحدة ألمانيا وزعيمها بسمارك ورأى فيه -في أول الأمر- كمالاً للشخصية الألمانية. يقول نيتشه في رسالة من عام 1868: "بسمارك يمنحني سعادة غامرة. أقرأُ خطَبه كما لو كانت نبيذا مُسكِرا". لكنه لاحقا وصفه بـ"المغامر المضحك".

في جامعة بازل عام 1870، تعرف على زميله أستاذ الإلهيات الملحد "فرانز أوفيربيك"، الذي ظل صديقا لنيتشه حتى فترة مشاكله العقلية. كما كان يكن تقديرا لزميله الأكبر سنا أستاذ التاريخ المعروف يعقوب بوركهارت وكان يشهد محاضراته. في الفترة من عام 1869 إلى 1872، كان نيتشه يزور باستمرار ريتشارد فاغنر في بيته تريشن بالقرب من في كانتون لوتسيرن.

في عام 1872، نشر نيتشه أول عمل مهم له، "ولادة المأساة من روح الموسيقى"، وهي دراسة تبحث أصل المأساة، وقد استبدل طرق الدراسة اللغوية الكلاسيكية بالدراسة الفلسفية التكهنية. يتحدث فيها عن الأساطير الإغريقية وارتباط الحضارة بالموسيقى. في تلك الدراسة طور أسلوبه في علم النفس، حيث حاول شرح المأساة اليونانية من خلال مفهومي أبولو-ديونيسوس. ولم يعجب البحث معظم زملائه الكلاسيكيين. وقد هاجم أستاذ فقه اللغة الكلاسيكي "أولريش موليندورف" دراسة نيتشه بكتاب "فيلولوجيا المستقبل". فتدخل صديقاه "إروين رود" (الذي كان بروفسورا في كيل) وفاغنر للدفاع عنه. عبر نيتشه بصراحة حول العزلة التي شعر بها داخل مجتمع علماء اللغة وحاول دون جدوى الانتقال إلى منصب في مجال الفلسفة في بازل. وإن كان كتابه "المأساة" قد لاقى بعض المديح. لام نيتشه الجامعات والمعاهد الألمانية على نبذها لشوبنهاور وغيره من الفلاسفة مما حدا بهم إلى نبذه هو الآخر حيث رأوا فيه عالماً لغوياً لا غير. وفي عام 1872، حضر حفلة وضع الحجر التأسيسي لمسرح بايرويت في مايو.

في عام 1873، بدأ نيتشه في تجميع كراسات تم نشرها بعد وفاته تحت عنوان "الفلسفة في العصر المأساوي لليونانيين". بين 1873 و1876، نشر أربعة مقالات طويلة منفصلة: "ديفيد شتراوس: المعترف والكاتب"، "حول استخدام وإساءة استخدام التاريخ من أجل الحياة"، "شوبنهاور كمعلم" و "ريتشارد فاغنر في بايرويت". ظهرت هذه المقالات الأربعة في وقت لاحق في كتاب تحت عنوان "تأملات قبل الأوان". اتجهت هذه المقالات نحو النقد الثقافي، في هجوم على الثقافة الألمانية النامية على ضوءأفكار شوبنهاور وفاغنر. ولم تلاق هذه المقالات صدى يذكر. وفي عام 1876، أقيمت الحفلات الموسيقية الأولي في بايرويت، وتعرف إلى زيه. ومن عام 1876 إلى 1877، قضى سنة إجازة، وفي سورنته عرف ملفيدا فون ميزنبوج. وكان آخر حديث له مع فاغنر.

القطيعة مع فاغنر

خلال ذلك الوقت، في حلقة فاغنر الثقافية، التقى نيتشه بهانز فون بولوف والكاتبة "مالويدا فون ميسنبوج"، وبدأت أيضا صداقته مع الفيلسوف "بول ري"، الذي حضّه في عام 1876 على رفض التشاؤم الذي رآه في كتاباته المبكرة. في ذلك العام أيضا أصيب نيتشه بخيبة أمل من "مهرجان بايرويت" الموسيقي الذي كان يقيمه فاغنر سنويا، حيث أثار اشمئزازه تفاهة العروض المقدمة وانحطاط الحضور. وكان ردة فعله موجهة بالأخص إلى فاغنر واستنكر احتفاءه بـ"الثقافة الألمانية" التي يراها نيتشه متناقضة، وكذلك احتفاله بشهرته وسط الجمهور الألماني. كل هذا دفع نيتشه لينأى بنفسه عن فاغنر.

مع نشر كتابه "إنساني، إنساني جدا" في عام 1878 (وهو عبارة عن مجموعة من الأمثال التي تتراوح بين الميتافيزيقا والأخلاق إلى الدين والدراسات الجنسانية)، ظهر بوضوح أسلوب نيتشه الجديد، المتأثر بشكل كبير بكتاب "الفكر والواقع" للفيلسوف الروسي الكانطي "أفريكان سبير". حمل الكتاب رد فعل ضد الفلسفة المتشائمة لفاغنر وشوبنهاور. شاب البرود أيضا صداقة نيتشه برفيقيه "إروين رود" و"بول ديوسن".

بعد انحدار كبير في صحته، وتفاقم أمراض الطفولة (نوبات الصداع النصفي واضطرابات المعدة، فضلا عن قصر النظر الشديد الذي أدى في النهاية إلى العمى العملي) التي عطلته عن واجباته في التدريس، استقال نيتشه عام 1879 من منصبه في جامعة بازل.

كان نيتشه حين تعرَّف على ريشارد فاغنر قد رأى فيه تجسيداً للعبقرية وعاش معه فترة رافقه فيها في رحلاته، لكنه انقلب ضده وكانت القطيعة بينهما هي الشرارة التي أطلقت فكر نيتشه مثل العاصفة على القيم الأوروبية، إذ رأى في المسيحية انحطاطاً ونفاقا، وأن النمط الأخلاقي الصائب هو النمط الإغريقي الذي كان يمجد القوة والفن ويستخف بالرقة والنعومة وطيبة القلب التي رآها من صفات المسيحية.

التفرغ للفلسفة (1879 - 1888)

في سنة 1879، أصيب بمرض خطير، وترك كرسي الاستاذية في بازل بسبب المرض. دفعته أمراضه في البحث المستمر عن الظروف المناخية المثلى بالنسبة له، فسافر كثيرا وعاش في أماكن مختلفة ككاتب مستقل حتى عام 1889، جال أصقاع أوروبا لكي يجد مكان يناسب حالته الصحية، وأقام فترات الصيف في سلس ماريا جنوب شرقي سويسرا في أعالي الجبال. كان يعتمد قبل كل شيء على راتب التقاعد الممنوح له؛ كما كان يتلقى المساعدات المالية من حين لآخر من الأصدقاء. كان يقضي الصيف غالبا في سان موريتز في سويسرا، وفصل الشتاء في إيطاليا (جنوة، رابالو، تورينو) وفي فرنسا في نيس. بعد الاحتلال الفرنسي لتونس فكر في السفر إلى تونس كي يرى أوروبا من الخارج، لكنه استبعد الفكرة لأسباب صحية. كان يزور عائلته باستمرار في ناومبورغ، وكان دائم الخلاف ثم المصالحة مع أخته إليزابيث.

أثناء وجوده في جنوة، دفعه ضعف النظر إلى محاولة استخدام الآلات الكاتبة كوسيلة لمواصلة الكتابة. لكنه في النهاية، استعان بطالبين سابقين عنده، ليعملا لديه -تقريبا- كسكرتيرين. وتكفل أحدهما (بيتر غاست) بنقل ما كتبه نيتشه بخط يده، وظل "بيتر غاست" منذ ذلك الوقت ينسخ ويدقق ويصحح كل أعمال نيتشه تقريبا. كان غاست واحدا من عدد قليل جدا من الأصدقاء الذين سمح لهم نيتشه بانتقاده.

اللقاء مع لو سالومي

عام 1882 نشر جزءا من كتابه "الحكمة الماتعة" الذي يصفه نيتشه بأنه أقرب كتبه إليه. احتوى الكتاب على عدد كبير من القصائد، وظهرت فيه لأول مرة فكرة "موت الإله". في ذلك العام التقى لأول مرة بلو أندرياس سالومي (فتاة روسية عمرها 21) وأمضيا الصيف في تورينغن وكانت ترافقه أخته إليزابيث. لم يكن نيتشه يعتبر سالومي ندا مساويا له بل كطالبة موهوبة. وقد ذكرت سالومي أن نيتشه طلب منها الزواج في ثلاث مناسبات وأنها رفضت، على الرغم من أن مصداقية حديثها موضع تساؤل. كانت علاقة نيتشه بسالومي معقدة. وهي في الأساس صديقة صديقه "بول ري". فهو يذكر في اقتباسات له من تلك المرحلة: "خلف كل مشاعر الرجل تجاه امرأة، يقبع احتقار لجنسها"، "الإنسان شيء غير كامل أبدا. حبّ شخص ما سيدمرني"، "في كل حوار بين ثلاثة أشخاص، شخص ما يكون غير ذي ضرورة ويمنع تعمق الحوار".

انقطعت علاقة نيتشه مع سالومي في شتاء 1883، ويرجع ذلك جزئيا إلى مؤامرات أخته إليزابيث. أحبّ تلميذته الفتاة البروسية التي فارقته بعد رفضها له وزواجها ببتشارلز اندرياس، وقبل الأرض من تحت قدميها لكي تقبل به لكنها رفضته؛ فاستهام بها وقادته إلى الجنون. كما أنه وقع في الحب عدة مرات لكنه فشل بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات لذا اتسمت حياته بالكآبة حتى نهايتهاقالب:وفقاً لمن؟. وفي خضم نوبات متجددة من المرض، عاش نيتشه في عزلة بعد مقاطعته والدته وشقيقته بسبب سالومي، ففر إلى رابالو، وهناك كتب -في عشرة أيام فقط- الجزء الأول من كتابه الأشهر هكذا تكلم زرادشت، الذي مزج شعراً قوياً وحساساً مع مبادئ فلسفية مبتكرة وواقعية ونداء إلى نظرة فلسفية جديدة حيث أعاد النظر بالمبادئ الأخلاقية الفلسفية ولم تعد بعده الفلسفة الأخلاقية كما كانت. في تلك الفترة كان يجد صعوبة في النوم، وكان يتعاطى الأفيون (الذي كان شائعا في القرن 19). يقول في أحد رسائله: {{اقتباس|عزيزيّ، "لو" و "ري" ... اعتبراني كليكما، كما المخبول ملتهب الرأس الذي حيرته تماما العزلة الطويلة .. الحالة التي صرت إليها بعد أن تعاطيت جرعة كبيرة من الأفيون بسبب اليأس. بدلا من أن يضيع عقلي بسبب ذلك، أظن أن شيئا من عقلي قد عاد لي.

في 1883، حين كان يقيم في نيس، كان يصرف وصفات طبية لدواء هيدرات الكلورال المهدئ، وكان يذيلها بتوقيع "الدكتور نيتشه". أصيب نيتشه بمرض شديد وشارف على الموت حيث أوصى أخته وخاطبها قائلاً: إنما إذا ما متّ يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو عليّ بعض الترهات في لحظة لا أستطيع فيها الدفاع عن نفسي. (ولكن لم تتحقق أمنيته إذ تلى عليه القساوسة في ساعة دفنه). ولكنه بعد ذلك شفي وذهب إلى جبال الألب ليتعافى ويكمل كتابة هكذا تكلم زرادشت.

العزلة

بعد أن قطع نيتشه علاقاته الفلسفية مع شوبنهاور، وعلاقاته الاجتماعية مع فاغنر، لم يبق لنيتشه إلا عدد قليل من الأصدقاء. بعد كتاب "زرادشت" ذي الأسلوب الجديد، صارت أعمال نيتشه أكثر غرابة، واستقبلها السوق بأقل اهتمام. كان نيتشه يعرف ذلك ويشتكي منه، لكنه زاد من عزلته. ظلت كتبه غير مباعة إلى حد كبير. في عام 1885، لم يطبع إلا 40 نسخة فقط من الجزء الرابع من "زرادشت"، وزع معظمها بين الأصدقاء المقربين.

في عام 1883 حاول وفشل في الحصول على وظيفة محاضر في جامعة لايبزيغ. وقد اتضح له بعد ذلك، أنه نظرا لمواقفه من المسيحية ومن الإله، أصبح غير مقبول في أي جامعة ألمانية. يقول في رسالة لمساعده "بيتر غاست" أن قد أثارته "مشاعر الانتقام والاستياء ... وغضبي لأنني أدركت بكل معنى ممكن أن هذه الوسائل البائسة (سوء سمعة اسمي وشخصيتي وأهدافي) كافية لتأخذ مني الثقة والإمكانية في الحصول على تلاميذ".

في عام 1886 اختلف نيتشه مع ناشره "إرنست شميتسنر" بعد أن استاء من سوء تسويق كتبه. فقد رأى نيتشه أن كتبه "مهملة ومدفونة في هذا المستودع المعادي للسامية" واصفا شميتسنر وحركة معاداة السامية بأنه يجب "على كل عقل راشد أن يرفضها كلية وبكل ازدراء". بعد ذلك طبع نيتشه كتابه "ما وراء الخير والشر" على نفقته الخاصة. كما حصل على حقوق النشر لأعماله السابقة، وعلى مدى العام المقبل أصدر طبعات ثانية من كتبه "ولادة المأساة" و"إنساني، إنساني جدا" و"الحكمة الماتعة" وأضاف إليها مقدمات جديدة ليضع مجمل أعماله في سياق أكثر تماسكا. بعد هذا رأى أن عمله قد اكتمل، وأعرب عن أمله في أن يزداد قراؤه قريبا. في الواقع، ازداد الاهتمام بفكر نيتشه شيئا ما في ذلك الوقت، وإن كان ببطء وبالكاد لاحظه هو.

في عام 1886، تزوجت شقيقته إليزابيث وسافرت هي وزوجها إلى الباراغواي ليؤسسا "ألمانيا الجديدة" وهي مستعمرة ألمانية. استمرت علاقة نيتشه بأخته إليزابيث من خلال المراسلات، تخللتها فترات خلافات ومصالحات، ولم يلتقيا مرة أخرى إلا بعد انهياره العقلي. ظل نيتشه يتعرض لهجمات متكررة ومؤلمة من المرض، ما جعل العمل المتواصل مستحيلا. صاحب نيتشه الجهد سواء كان جسدياً أو عقلياً وكانت حياته حياة استثنائية في مصارعة الألم والصداع وآلام الرأس والاستفراغ نتيجة إلى مرض الزهري الذي التقطه من بيت دعارة في لايبزيغ. في عام 1887، كتب نيتشه مؤلفه المثير للجدل عن جنيالوجيا الأخلاق. خلال العام نفسه، اتجه لقراءة أعمال فيودور دوستويفسكي، وشعر مباشرة بقرابة بينهما. كما تبادل رسائل مع المؤرخ الفرنسي إيبوليت تين والناقد الدنماركي "جورج براندز". وقد دعاه "براندز" (الذي كان يدرّس فلسفة سورين كيركغور) إلى قراءة فلسفة كيركغور، فرد نيتشه بأنه سيأتي إلى كوبنهاغن ليقرأ كيركغور معه، لكن المرض منعه من الوفاء بهذا الوعد. في بداية عام 1888، قدم براندز -في كوبنهاغن- واحدة من أوائل المحاضرات عن فلسفة نيتشه.

على الرغم من أن نيتشه قد ذكر في نهاية كتابه "عن جنيالوجيا الأخلاق" أن عمله القادم سيكون بعنوان "إرادة القوة: محاولة لإعادة تقييم جميع القيم"، فإنه تخلى عن هذه الفكرة، وبدلا من ذلك استخدم بعض مسودات ذلك الكتاب في تأليف كتبه التي نشرها ذلك العام.

في نفس العام ألف نيتشه خمسة كتب. وقد تحسنت صحته مؤقتا، وفي الصيف كان في معنويات عالية. لكن كتاباته ورسائله من خريف عام 1888، تشير بالفعل إلى بدء إصابته بالوهام. كان يبالغ في رؤية ردود الفعل على كتاباته، خاصة كتابه المثير للجدل "قضية فاغنر". في عيد ميلاده ال44، قرر أن يكتب سيرته الذاتية "هو ذا الإنسان" بعد أن أنهى كتابيه "شفق الأصنام" (الذي كتبه في أسبوع) و"المسيح الدجال". وفي ديسمبر، في رسائل له مع الكاتب السويدي أوغست ستريندبرغ، اعتقد نيتشه أنه كان على وشك تحقيق انطلاقة دولية حيث حاول شراء حقوق كتبه القديمة من الناشر الأول، وكان يخطط لأن تترجم إلى اللغات الأوروبية الرئيسية. إضافة إلى ذلك، كان يعتزم تجميع ونشر مقالة بعنوان "نيتشه ضد فاغنر" وتجميع قصائد له في ديوان.

المرض العقلي والوفاة (1889 - 1900)

في 3 يناير 1889، تعرض نيتشه لانهيار عصبي. حيث لحق به شرطيان بعد اضطراب أحدثه في شوارع تورينو. القصة الحقيقية غير معلومة، لكن الشائع أن نيتشه سمع صهيل حصان يُجلد بالسوط في آخر ساحة قصر كارينيانو، فركض إلى الحصان ثم رمى ذراعيه حول عنقه واحتضنه ليحميه، ثم انهار على الأرض. شخص البعض سبب الانهيار على أنه شلل تدريجي نتيجة لمرض الزهري، ويعتبر هذا التحليل مثيرا للجدل حتى اليوم.

في الأيام القليلة التالية، بعث نيتشه بمجموعة رسائل قصيرة (عرفت فيما بعد باسم "رسائل الجنون") إلى عدد من الأصدقاء، من ضمنهم ياكوب بوركهارت وزوجة ريتشارد فاغنر، بعضها ذيّلت بتوقيع "ديونيسوس" وبعضها عليه توقيع "المصلوب". بعد رؤية تلك الرسائل تنبه أصدقاؤه وأمه فأُرسِل إلى مستشفى الأمراض النفسية. في لحظات معينة كان يظن نفسه شكسبير أو قيصر أو ملك إيطاليا أو فاغنر، أو يسوع ونابليون ووبوذا والاسكندر المقدوني.

في 6 يناير 1889، أطلع بوركهارت صديقه "فرانز أوفربك" على رسالة نيتشه. في اليوم التالي استلم أوفربك رسالة مماثله من نيتشه. قرر أصدقاء نيتشه أن عليهم إحضاره إلى بازل، فسافر أوفربك إلى تورينو وأتى بنيتشه وعرضه على عيادة نفسية في بازل. مع مرور الوقت اتضح أن نيتشه كان يعاني مرضا عقليا خطيرا، فقررت والدته نقله إلى مستشفى في ينا تحت إشراف طبيب النفس والأعصاب السويسري "أوتو بينزوانجر". في ذلك الشهر (يناير 1889) تم نشر كتاب نيتشه -الذي كان جاهزا- "أفول الأصنام". بين نوفمبر 1889 وفبراير 1890، حاول المؤرخ "يوليوس لانجبان" علاج نيتشه بنفسه، مدعيا بأن أساليب الأطباء كانت غير فعالة في علاج حالة نيتشه. وكانت والدة لانجبان قد تعرضت لمرض مماثل. تولى لانجبان علاج نيتشه لفترة لكنه لم ينجح. في مارس 1890، أخرجت أم نيتشه ابنها من المستشفى، وفي مايو 1890، جلبته إلى منزلها في ناومبورغ. كان نيتشه حتى ذلك الوقت يستطيع إجراء بعض المحادثات القصيرة.

خلال تلك الفترة كان صديقا نيتشه "فرانز أوفربك" و"بيتر غاست" يفكران فيما يجب القيام به بأعمال نيتشه غير المنشورة؛ فطبعا كتاب "نيتشه ضد فاغنر" في طبعة محدودة بخمسين نسخة، وقررا عدم نشر كتابي "المسيح الدجال" و"إيكو هومو" بسبب محتواهما الراديكالي. وفي ذلك الوقت بالذات بدأت أعمال نيتشه تلقى الاهتمام والاعتراف لأول مرة.

في عام 1893، عادت أخت نيتشه إليزابيث من الباراغواي بعد انتحار زوجها. قرأت إليزابيث ودرست كل أعمال نيتشه، وتولت مذّاك العناية بها ونشرها، فأسست عام 1894 "أرشيف نيتشه". بعد والدته في عام 1897 نقل نيتشه للإقامة في فايمار حيث تقيم أخته إليزابيث، التي تولت رعايته وسمحت بمجيء الزوار له، وكان منهم رودلف شتاينر (الذي ألف عام 1895 واحدا من أوائل الكتب التي تشيد بنيتشه). وقد استعانت إليزابيث بشتاينر لفترة لمساعدتها على فهم فلسفة شقيقها.

تم تشخيص مرض نيتشه في الأصل بأنه ناتج عن تفاقم مرض الزهري، وفقا للرؤية الطبية السائدة في ذلك الوقت. يرى معظم المعلقين أن انهياره العقلي ليس له علاقة بفلسفته، إلا أن جورج باطاي ألمح إلى عكس ذلك (هذا الإنسان المجسّد يجب أن يصاب بالجنون)، وكذلك التحليل النفسي الذي أجراه الفيلسوف الفرنسي "رينيه جيرار" الذي رأى فيه أن السبب هو خصومة نيتشه مع ريتشارد فاغنر. ومنذ ذلك الحين ظهرت تحليلات عديدة عن سبب الانهيار، منها تشخيص حدوث "مرض الهوس الاكتئابي ثم الذهان يليه الخرف الوعائي".

بين 1898 و1899، تعرض نيتشه مرتين على الأقل للسكتة الدماغية، التي سببت له شللا جزئيا جعله غير قادر على الكلام أو المشي. بحلول عام 1899 تعرض لخزل شقي (شلل نصفي سريري) في الجانب الأيسر من جسده. بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر أغسطس عام 1900، تعرض ليلة 25 أغسطس لسكتة دماغية أخيرة، وتوفي ظهر اليوم التالي. دفنته إليزابيث بجانب والده في كنيسة في لوتزن. ألقى صديقه وسكرتيره "بيتر غاست" كلمة التأبين في جنازته معلنا: "سيكون اسمك (المقدس) لجميع الأجيال القادمة!".

فلسفته

رأي نيتشه الإنسانية قد عاشت حتى الآن على عبادة أصنام، أصنام في الأخلاق، وأصنام في السياسة، وأصنام في الفلسفة. لهذا رأى أن مهمته هي الكشف عن هذه الأصنام وتحطيمها في كل ميدان من هذه الميادين الثلاثة.

تحطيم أصنام الأخلاق

يحتل بحث نيتشه التاريخي في تطور النظم والأحكام الأخلاقية الحديثة مكانة مركزية في فلسفته، خاصة في كتابيه ما وراء الخير والشر وجينالوجيا الأخلاق. رأى نيتشه أنه قد حدث تحول أساسي في التاريخ البشري من التفكير في "الجيد والسيء" إلى التفكير في "الخير والشر". وكانت نتيجة هذا البحث أن نيتشه "رأى أن هناك أنواعا عدة من الأخلاق نشأت عن كون مصادر الأخلاق عديدة، وأن المعايير والقيم الأخلاقية يخلقها أناس مختلفون".

ومن أجل تحطيم أصنام الأخلاق يتخذ نيتشه منهجاً للبحث خاصاً. فالمنهج الخاص بالبحث في الأخلاق له ثلاث خطوات: الأولى هي أن نصنف الأحكام الأخلاقية التي صدرت في الماضي عند مختلف الشعوب؛ ومن هذا التصنيف يتوافر لدينا تاريخ عام للأخلاق. فإذا انتهينا من إعداد هذا التاريخ، فعلينا أن نفسر الوقائع الأخلاقية ونعرف ما تدل عليه، فنحدد أي نوع من الناس كانت عندهم هذه الأخلاق، وما الصلة بين طبائعهم وأحوالهم النفسية وبين هذه القيم الأخلاقية التي اتخذوها. ثم تلي هذه الخطوة خطوة أخيرة، هي خطوة الحكم على كل صنف من هذه الأصناف، فنعلم حينئذ أي الأصناف أقدر على البقاء في الحياة والارتفاع بها والسمو بطبيعتها.

والخطوة الأولى قد قام بها الأخلاقيون الانجليز من قبل، أمثال استيورت مل واسبنسر ولبوّك وتيلور. وهؤلاء عرفهم نيتشه ودان لهم بالكثير من الملاحظات في هذا الباب. لكنهم لم يستطيعوا أن يخطوا الخطوتين التاليتين، فكان على نيتشه أن يخطوهما.

وأول نتيجة استخلصها نيتشه باستخدام هذا المنهج هي أنه رأى أن هناك أنواعاً عدة من الأخلاق، وأن لكل نوع منها طابعه الذي يميزه، وأن هذا الطابع الخاص إنما نشأ عن كون مصادر الأخلاق عديدة، وأن المعايير والقيم الأخلاقية يخلقها أناس مختلفون. واختلاف الأخلاق عند الناس يدل على أن مجموعة من الأحكام الأخلاقية بعينها لا يمكن أن يرجعها الانسان إلى النوع الانساني في ذاته «وإنما هي ترجع إلى وجود شعوب وأجناس إلخ، شعوب تريد أن تؤكد ذاتها بإزاء شعوب أخرى، وطبقات تريد أن تجعل بينها وبين الطبقات الأدنى منها حدًا فاصلاً"

ثم إنه يجب التفرقة بين الفعل الأخلاقي، وبين الحكم الأخلاقي. فالحكم الأخلاقي على الأفعال غير ثابت، ومختلف باختلاف الناس. وله دوافع عدة تؤدي إلى إصداره على النحو الذي يصدر عليه.

وهنا يحمل نيتشه على كل الأحكام الأخلاقية التي أصدرتها الإنسانية، مبيناً - في تحليل دقيق - الينابيع التي منها استقيت هذه الاحكام، كاشفاً عن المصادر الحقيقيه القوية معاً التي تصدر عنها، فاضحاً الأوهام التي وقعت الانسانية في أحابيلها حتى الآن، والتي أوقعت هي نفسها فيها عن طريق الغالبية العظمى منها، وهي الطبقة المنحطة وانتهى من هذا إلى نظريته المشهورة في التفرقة بين نوعين من الأخلاق: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد، أي الأخلاق التي كان مصدرها الممتازين من الإنسانية، والأخلاق التي كان مصدرها رعاعها والطبقات المنحطة فيها.

قال نيتشه: «في أثناء رحلاتي التي قمت بها خلال انواع الأخلاق الرفيعة أو الوضيعة التي سادت العالم، والتي لا زالت تسوده حتى اليوم، لاحظت وجود عدة صفات معينة بدت مقرونة بعضها ببعض، وظهرت دائماً في وقت واحد، حتى إني استطعت أن اكتشف وجود نوعين رئيسيين من الأخلاق مختلفين اختلافاً جوهرياً: فهناك أخلاق للسادة، وأخرى للعبيد . . وذلك لأن تحديد القيم الأخلاقية قام به: إما جنس السادة المسيطرين الشاعرين شعوراً كاملاً والفخورين بوجود مسافة طويلة تفصل بينهم وبين الجنس المسود المغلوب؛ أو قام بهذا التحديد جماعة الأتباع والرعية والعبيد المنحطين من كل الأنواع».

إذن ترجع الأخلاق في مجموعها إلى طابعين أو صنفين رئيسيين: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد.

ذلك لأن الحضارات الكبرى نشأت في البدء بأن قامت طائفة من الأرستقراطيين الممتازين، على شكل حيوانات مفترسة شقراء، تذرع الأرض في آسيا وأوربا وجزر المحيط الهادي، مغيرة على كل الأراضي التي تمر بها. وعلى هذا النحو نشأت الحضارة اليونانية، والرومانية، والجرمانية.

فإذا مرت هذه الطائفة بشعب من الشعوب أخضعته وفرضت عليه سلطانها، واحتقرته وباعدت ما بينها وبينه من مسافات، مكونة طبقة خاصة متمايزة من الطبقة المسودة والرعية. واخترعت لنفسها شِرعة من القيم الأخلاقية تؤكد بها سيادتها واستمرار سطوتها وسيطرتها. "فالأحكام الشرعية التي تصدرها الطائفة الحربية تقوم على قوة جسمية وصحية زاهرة، وتراها تعنى بكل ما يتصل بالقوة والغزو والحرب والمخاطرة والصيد والرقص والألعاب البدنية، وعلى العموم كل ما يكشف عن حيوية فياضة حرة مسرورة».

أما تحديد القيم الأخلاقية عند الرجل من أبناء هذه الطبقة فمتصل بطبيعته وأطماعه والمركز الذي هو فيه بالنسبة إلى الطبقات التي في مركز أحط من مركزه.

فهو يسمى "الجيد" من بين الناس من هو قرينه ومساويه في القوة والكمال؛ ويسمى "الرديء»" من هو أحط منه مكانة ومن يخضع له. ومن هنا فإن أحكام الخير والشر، وكل القيم الأخلاقية، تقع على الأفراد، لا على الأفعال الذين يأتونها.

وهذا الارستقراطي محبٌ للغزو، معتز بقوته، قاس عل نفسه وعلى الآخرين. يحتقر الرحمة ويشمئز من الضعف والضعة وجميع أنواع الاستخذاء. وأبغض شيء لديه الكذب ونحوه من نفاق وملق. ولا يتسامح، ولا يعرف أنصاف الحلول، والمساومة، والمداهنة.

لكنه مع ذلك يميل إلى العفو عن الآخرين، لا لأنه يحب العطف، لكن لأن قوته غزيرة، فتراها تفيض بنفسها على الآخرين. ومع هذا فإنه لا يقبل مطلقاً من الآخرين العفو، لأنه بقوته يأخذ ما له دون أن ينتظر حتى يتفضل به عليه الآخرون.

ولا يحفل بالحياة ولا نعمها، ولا بالطمأنينة والسلام؛ إنه يجد النعيم في الانتصار والقوة والتحطيم، ويشعر بسرور عميق وهو يعذب الآخرين. وما يقدم إليه من شر يقابله بالمثل، بل بأضعافه. وهو يقدس التقاليد والماضي، ويتخذ من ذكرياته مجالاً للتفاخر وينبوعاً للقوة. لهذا فهو يوقر أجداده، ويقدم لأرواحهم القرابين. ولا يلبث هؤلاء شيئاً فشيئاً حتى يصبحوا آلهته التي يعبدها. وفي عبادته لهم يقدس صفاته النبيلة هو نفسه، ويجعلهم رمزاً لكل الفضائل التي يتحلى بها الارستقراطي.

ولما كانت هذه الطائفة هي الأقلية دائماً، فإنها تعمل جهدها كي تحافظ على صفاتها، وتظل نقية لا يتطرق إليها الانحلال من جراء اتصال الشعوب المسودة أو الطبقات الدنيا بها. ومن أجل هذا تعنى بالتربية، وبكل ما يتصل بحياة الأسرة، حتى تضمن لنفسها استمرار السيادة والبقاء.

لكن، هل يرضى المسودون والرعية عن هذه الحالة التي وضعهم فيها الأرستقراطيون؟ كلا، بل يحاولون أن يثوروا عليها ويتحرروا منها.. ولما كانوا ضعافاً، لا يستطيعون أن يقابلوا عمل الأرستقراطيين بالمثل، فإنهم يخلقون قيماً أخلاقية جديدة تخالف القيم التي وضعها الارستقراطيون: فيعدون شراً ما يرام هؤلاء خيراً، والعكس بالعكس فإذا كانت صورة الرجل الجيد عند الارستقراطيين هي صورة الرجل المحارب المغامر، الذي يريد السيطرة والغزو، ويفيض بالقوة، ويحتقر التواضع والجبن، ولا يعرف الرحة والتلطف - فإن صورة الرجل الخير عند الآخرين، عند هؤلاء العييد والمسودين، هي صورة الرجل المسالم الوديع، المتواضع، الذي لا مطمع له في غزو ولا رغبة له في سيادة، والذي يحسب الضعف فضيلة، والتعاطف والرحمة أسمى القيم الأخلاقية. وبينما تجد الأرستقراطيين يقبلون على الحياة، يريدون أن يعلوا يها ويجعلوها خصبة مليئة، تجد العبيد يعزفون عن الحياة ويتشاءمون منها، وينظرون إليها في شيء من الجزع وعدم الثقة، وكأنها شيء مخيف أمامهم، فالمسود لا يثق، ويركن إلى الشك دائماً. وبينما كان الأرستقراطي يفرق بين «الجيد» و«الرديء»، ترى العبد والمسود يفرق بين «الخير» و«الشرير،». ومن هو الشرير في نظره؟ الشرير هو بالطبع هذا الذي أخضعه وأثار في نفسه الخوف منه، هو هذا الارستقراطي القوي السيد المسيطر. فالشر في نظره إذن، هو القوة والبطولة، هو كل هذه الصفات النبيلة التي امتاز بها الأرستقراطي وكانت سر تفوقه وسيادته. وإذا كانت الصراحة هي الطابع الرئيسي في أقوال الأرستقراطي، تجد المسود لا يستطيع أن يكون صريحاً، بسبب جبنه وضعفه، فيلجأ إلى المكر والمداورة والمراوغة. والنفاق أظهر طبائعه.

لكن المسود لا يستطيع أن يسمي هذه الصفات، التي يجلها ويرى فيها الخير، بأسمائها الحقيقية، وإنما يقلب القيم ويسميها بعكس ما هي عليه في الواقع: فيسمي العجز: "إحساناً وطيبة"؛ ويسمي عدم قدرته على رد الفعل مباشرة وبالمثل: "صبراً"، ويعد هذا الصبر من أمهات الفضائل. ويسمي حاجته إلى الآخرين وعجزه عن الاعتماد على نفسه: "رحمة". ويسمي عجزه عن إدراك المطامع السامية والبحث عن المطالب العالية: "تواضعاً"! وهكذا، وهكذا، تجده يهدر القيم الصالحة النبيلة، ويضع مكانها قيماً تدل على الضعف والذلة والخنوع والعجز، وتصدر عن طبيعة كطبيعة الدودة الزاحفة على الأرض، في مقابل طبيعة الحيوان المفترس القوي التي يتميز بها الأرستقراطي - وتراه يعارض هذه القيم "العليا" في نظره، بما لدى الأرستقراطي من قيم "شريرة"، فيقول: إن البائسين وحدهم هم الأخيار، والفقراء والعاجزين والحقراء هم وحدهم الصالحون؟ وهؤلاء الذين يتألمون ويتعذبون، هؤلاء المرضى المعوزون المشوهون هم وحدهم أيضاً الطيبون الأبرار الذين باركهم الله، وهم وحدهم الذين سيحظون بالنعيم. أما أنتم، معشر النبلاء الأقوياء، فأنتم الأشرار، القساة؛ أنتم الطماعون، النهمون؛ أنتم الفجار، وستظلون أبد الآبدين ملعونين قد بؤتم بغضب من الله.

ومصدر كل هذه القيم الجديدة التي يضعها العبيد والمسودون هو الشعور بالعجز، ثم الحقد العنيف الدفين على الأقوياء الأرستقراطيين النبلاء. ولا يلبث هذا الشعور والحقد أن ينقلبا إلى أشياء في قدرتها أن تخلق قيماً أخلاقية.

وهنا يكتشف نيتشه ينبوعاً فياضاً استقت منه الأخلاق السائدة حتى اليوم ما لديها من قيم، ويسمي هذا الينبوع باسم "الذحل" Ressentiment، وهو الشعور المتكرر بإساءة سابقة لقيها Iلإنسان، ولم يستطع أن يردها ويتشفى بمن قدمها، لعجز فيه عن رد الفعل في الحال، فتراه يتذكرها من بعد، ليجترها بين حين وحين، ما يزيد في قوة هذا الشعور؛ ويضاعف من طاقته، ولا يلبث حتى يتجمع، ويضغط بعضه بعضاً، ويغلى في نفس صاحبه غليان الماء من تحته نار قوية وهو مغلف عليه في مرجل، فيحاول أن يجد مصرفاً له في قنوات أخرى غير القناة الأصلية الطبيعية، وهو رد الفعل المباشر ومقابلة العمل بالمثل. فيلجأ إلى طرق خفية غير مباشرة، يرد بواسطتها على الإساءة الأولى التي تلقاها ولم يستطع الإجابة عنها في الحال.

إن السادة يحتقرون العبيد ويرهقونهم، ويجدون كل شيء مباحاً بإزائهم: من تنكيل بهم وتعذيب وقسوة، واعتداء عل كرامتهم، وحط من مركزهم. ويعدونهم ميداناً واسعاً لإبراز حب السطو والغزو، وإظهار السيطرة، وتصريف شعورهم القوي بفيض قوتهم. فالطابع السائد إذن في سلوكهم بإزائهم هو الاحتقار والامتهان وحينئذ يتولد عند العبيد، بإزاء هذه الإهانات القاسية والإساءات المتوالية، شعور "الذحل": فهم، من جهة، لا يستطيعون أن يسكتوا عنها لأن الطابع الرئيسي في خلق الانسان هو القوة وغريزة السيطرة، ومهما حاول أن يكبتهما في نفسه فلا بد أن يظهرا حين تتاح لهما الفرصة للظهور. وهما بدورهما يدفعان الانسان دفعاً قوياً إلى تهيئة هذه الفرص وإعداد الظروف الملائمة كي تنتجا آثارهما. وهو، من جهة أخرى، لا يقدر على أن يرد الفعل رداً سريعاً، ولا أن يجيب عن هذه الإساءات وتلك الإهانات في الحال، بسبب شعوره بعجزه. ومن هنا يكتم عاطفة الانتقام في نفسه، ويظل على هذا النحو يخفي هذا الشعور من بعد مدة.

وهذا يحيل إلى هوميروس اليوناني. أن تكون "جيدا" يعني أن تكون سعيدا وأن تحظى بالأشياء التي تجلب السعادة: الثروة والقوة والصحة والسلطة وما إلى ذلك. وأن تكون "سيئا" يعني أن تكون مثل العبيد الذين يحكمهم الأرستقراطيون فهم: فقراء، ضعفاء، مرضى، مثيرون للشفقة؛ وهم موضع شفقة أو اشمئزاز لا كراهية.

تأتي أخلاق العبيد كرد فعل على "أخلاق السادة"، حيث تنبثق القيمة من التباين بين "الخير والشر": فالخير يكون مرادفا لحسن العلاقة مع الآخر والصدقة والتقوى وضبط النفس والذكاء والتقدم؛ أما الشر فيرادف الدنيوية والقسوة والأنانية والغنى والعدوانية. يرى نيتشه أخلاق العبيد متشائمة وجبانة، وأن قيمهم لا تهدف إلا للتخفيف على أنفسهم وعلى أولئك الذين يعانون الشيء نفسه. ويربط نيتشه بين أخلاق العبيد والتقاليد اليهودية والمسيحية، وأن أخلاق العبيد ولدت من حسد وحقد العبيد. ورأى نيتشه أن فكرة المساواة سمحت للعبيد بالتعايش مع وضعهم دون أن يكرهوا أنفسهم. ومن خلال إنكارهم للتفاوت الطبيعي بين الناس (في النجاح أو القوة أو الجمال أو الذكاء) اكتسب العبيد طريقة للهروب عن طريق توليد قيم جديدة ترفض ما يعتبر مصدرا للإحباط، للتغلب على شعورهم بالدونية تحت قيم "أخلاق السادة". فيرى العبد أن ضعفه مسألة اختيار، ويسمي ضعفه "وداعة". "الرجل الجيد" في نظام أخلاق السادة يتحول إلى "الرجل الشرير" في أخلاق العبيد، و"الرجل السيء" في أخلاق السادة يمثل "الخير" في أخلاق العبيد.

كيف تنشأ ثورة العبيد على السادة لكي يهدموا الأخلاق النبيلة ويهددوا القيم الأرستقراطية، وليثأروا لأنفسهم ما احتملوه؟

يجيب نيتشه: «إن ثورة العبيد في الأخلاق تبدأ حين يصبح "الذحل"، نفسه خالقاً، يلد القيم . هذا الذحل الصادر عن هؤلاء المخلوقين الذين حرموا من المقدرة على رد الفعل الحقيقي، وهو العمل الإيجابي، فلا يجدون عوضاً إلا في انتقام وهمي. فبينما تنشأ كل أخلاق ارستقراطية عن توكيد لذاتها وقول "نعم!" لنفسها يسوده شعور بالانتصار، تجد أخلاق العبيد تبدأ بأن تقول "لا!" لكل ما لا يكون جزءاً منها وكل ما "يخالفها"، وكل ما هو "ليس إياها". و"لا" هذه هي عملها الإيجابي الخالق. وهذا القلب في النظرة التي تصنع القيم - تلك النظرة الموحى بها بالضرورة من العالم الخارجي، بدل أن تصدر عن الذات وتقوم على الذاتية - هو من خصائص «"الذحل": فأخلاق العبيد في حاجة دائمة وقبل كل شيء إلى عالم خارجي مضاد لها، كي تنشأ وتقوم.».

ولكي يبرروا شرعة قيمهم الجديدة أخترعوا شيئين هما: أولاً: وجود ذات وحقيقة منفصلة عن الجسم، ولها كيانها الخاص، ويسمونها "الروح". وثانياً: القول بحرية الارادة، وأن الإنسان يستطيع أن يخرج عن طبيعته وجوهره ويصبح عكسها تماماً. فعن طريق هذين الاختراعين تمكن الضعفاء والمضطهدون، من كل الأنواع، تمكنوا من أن يخدعو انفسهم، ثم غيرهم من بعد، فيزعموا أن الضعف بإرادتهم واختيارهم وليس مفروضاً عليهم، وأن هذا الفعل أو ذاك، ما يضطرهم إليه العجز، ميزة وفضيلة. وضاعف مخترعو هاتين الوسيلتين إيمان الناس بهما عن طريق الملحقات التي بنيت عليها أو بالأحرى والأصرح بنيا عليها: مثل فكرة العقاب والثواب، والزهد، والتبتل إلخ.

تلك إذن ثورة العبيد، وقلبهم للقيم الارستقراطية، وسيطرتهم بقيمهم الجديدة على القيم النبيلة؛ وهذا هو تاريخ الأخلاق جميعها على مر عصور الإنسانية: صراع بين قيم السادة وقيم العبيد في الأخلاق، ومحاولة كل منها السيادة على الأخرى، ونضال بين هذين النوعين من القيم: "جيد ورديء" من ناحية، و"خير وشرير"، من ناحية أخرى.

ويرى نيتشه أن اليهود هم أول من قاموا بثورة العبيد في الأخلاق فهم الذين تجاسروا على قلب معادلة قيم السادة: خير = نبيل = قوي = جميل= سعيد = محبوب من الله - إلى معادلة قيم العبيد: خير = وضيع = ضعيف = مشوه = بائس = مملؤ بالخطايا. والشعب اليهودي هو الشعب الذي ذاع في نفسه الذحل في أعنف درجاته وأخطرها، لكثرة ما لاقاه من أضطهاد من سادوه منذ زوال دولتهم القديمة: فلما تجمع هذا الذحل وصل إلى أقصى درجات غليانه، ثار على قيم سادته من الرومان. فكان بين اليهود والرومان كفاح قاس، بلغ أعنف صوره في المسيحية التي ليست في نظر نيتشه إلا صور من صور اليهودية: فعنها أخذت التراث من القيم، وكان كبار رؤسائها من اليهود: أمثال القديس بطرس والقديس بولس. فالمسيحية هي خليفة اليهودية إذن.

حملت المسيحية لواء النضال ضد السادة، وكان لها النصر ولقيمها الظفر في القرن الثاني بعد الميلاد. فسادت القيم المسيحية في أوربا وفي الكثير من بقاع العالم التي دخلتها واستمرت هذه السيادة حتى اليوم. ولكن النضال ضدها استمر مع ذلك ولم يهدأ. ففي عصر النهضة الأوربية بدأت المثل والقيم الأرستقراطية تستيقظ من جديد، وقام رجال النهضة يعارضون بالقيم القديمة: قيم الرومان واليونان الصادرة عن أخلاق السادة، ما أتت به المسيحية من قيم سادت طوال العصور الوسطى، وهي القيم الصادرة عن ثورة العبيد الأخلاقية.

وانتصرت قيم العبيد مرة ثانية بفضل حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر في القرن السادس عشر، وهي حركة شعبية مبعثها الذحل الألماني والانجليزي.

ثم انتصرت مرة ثالثة انتصاراً حاسماً هائلاً عن طريق الثورة الفرنسية: حينئذ وقعت آخر طبقة من النبلاء والأرستقراطيين والسادة، وهي الطبقة التي عاشت في القرنين السابع عشر والثامن عشر في فرنسا، صريعة للغرائز الشعبية المليئة بالذحل، فكانت الثورت الفرنسية ظفراً صاخباً لقيم العبيد. «ولكن حدث في الحال، ووسط هذا الصخب، شىء هائل جداً لم يكن متوقعاً مطلقاً: إذ قام المثل الأعلى القديم على قدميه في جلال وجسارة أمام أعين الانسانية وضميرها... إذ ظهر نابليون كآخر إشارة إلى الطريق الآخر (طريق قيم السادة) . . . ولكن نابليون سقط سريعاً، وزال بزواله آخر شعاع من نور قيم السادة في أوربا.».

يرى نيتشه أن أخلاق العبيد هي مصدر العدمية التي شاعت في أوروبا. فأوروبا الحديثة والمسيحية هي في حالة من النفاق بسبب الخلاف بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد، وهما قيمتان متناقضتان تحددان قيم معظم الأوروبيين. يدعو نيتشه الناس الاستثنائيين ألا يخجلوا من تفردهم في مواجهة افتراض أن الأخلاق للجميع، ويعتبرها ضارة لازدهار الناس الاستثنائيين. غير أنه ينبه على أن الأخلاق في حد ذاتها ليست سيئة؛ لكنها جيدة للجماهير، وينبغي أن تترك لهم. أما الناس الاستثنائيون من ناحية أخرى، فيجب عليهم أن يتبعوا "القانون الداخلي" الخاص بهم. وشعار نيتشه المفضل في هذا الجانب -مأخوذ من الشاعر اليوناني بندار- يقول: "كن ما أنت عليه".

الاعتقاد السائد هو أن نيتشه يفضل أخلاق السادة على أخلاق العبيد، لكن الباحث النيتشوي والتر كوفمان رفض هذا التفسير، وقال أن تحليلات نيتشه لم تورد هذين النوعين من الأخلاق إلا بالمعنى الوصفي والتاريخي فقط، ولم تكن تقصد أي نوع من القبول أو التمجيد. لكن من ناحية أخرى، يتضح من كتابات نيتشه أنه أراد الانتصار لأخلاق السادة، حيث ربطها "بخلاص مستقبل الجنس البشري والهيمنة غير المحدودة" ووصف أخلاق السادة بأنها "قيم عليا ونبيلة، تقول نعم للحياة وتضمن المستقبل"، وذكر أن وجود "طبقات ورتب بين الرجل والرجل " يعني أن هناك طبقات ورتب "بين الأخلاق والأخلاق". وقد شن نيتشه حربا فلسفية ضد أخلاق العبيد في المسيحية تحت شعار "إعادة تقييم لجميع القيم" من أجل تحقيق انتصار لأخلاق سادة جديدة أطلق عليها "فلسفة المستقبل" (العنوان الجانبي لكتاب ما وراء الخير والشر هو "مقدمة لفلسفة المستقبل").

تحطيم أصنام الفلسفة

بعد أن حطم نيتشه أصنام الأخلاق، توجه إلى أصنام الفلسفة. فوجد أن صنم الفلاسفة الأكبر هو العقل. فهاجم العقل من وجهات نظر ثلاث:

١- فقال أولاً إن المنطق، وهو ابن العقل البكر، وهم مقصود: فمبادئ الفكر (الشيء، الجوهر، الذات، الموضوع، العلية، الغائية إلخ.) ليست غير أوهام ضرورية للحياة، نافعة مفيدة، وأدوات للظفر والامتلاك، وقام بتحليل ما يسمونه "قوانين الفكر الضرورية" (قانون الذاتية، قانون التناقض، قانون الثالث المرفوع، فقال إن الذاتية (الهوية) شرط في التفكير، ولكنها ليست شرطاً في الوجود، لأن الوجود تغير مستمر وصيرورة دائمة. وقانون التناقض يقوم على قانون الذاتية، إنهما مظهران لقانون واحد: أحدهما إيجابي (الهوية)، والآخر سلبي (التناقض).

٢- وقال ثانياً إن العقل في حياة الإنسان لا حاجة إليه، وهو خطر، وغير ممكن. فلا حاجة إلى العقل في حياة الإنسان؛ لأن عدم معقولية شيء من الأشياء ليست حجة ضد وجوده، بل بالأحرى إنها شرط لوجود هذا الشيء، لأن الوجود يتناقض مع العقل ويتنافى مع المعرفة العقلية - كما أن العقل خطر، لأنه يدعي معرفة كل شيء. ولو كان الأمر كذلك، إذن لما استطاع الناس أن يحيوا طويلاً. يقول نيتشه: «لو كانت الإنسانية قد سارت حقاً على مقتضى العقل، أعني عل أساس "أفكارها" و"علمها"، إذن لكان قد قضي عليها منذ زمن طويل.». ذلك أنها في الواقع لم تعلم عن طريق العقل إلا الشيء الضئيل جداً، مما لا يكفي مطلقاً للوفاء بمقتضيات الحياة كلها. والعقل هو أيضاً غير ممكن، لأنه ليس هناك عقل واحد، وإنما هناك عقول كثيرة تتمايز، ومن هنا يختلف الرأي بين العقول ألمختلفة بإزاء الأمر الواحد. فلا مجال إذن للتحدث عن "العقل" بصيغة الإطلاق والعموم.

٣- كذلك ينكر نيتشه ثالثاً ذلك الوهم الذي انساق في تياره الفلاسفة، حين زعموا وجود عقل كلي يحكم الكون ويسوده، فتصبح الظواهر كلها والأحداث معقولة. «إن العقل الوحيد الذي نعرفه هو هذا العقل الضئيل الموجود في الإنسان».

ولهذه الأسباب حمل نيتشه على الفلسفة كلها، أو بعبارة أدق: على كل الفلاسفة الذين قالوا بالوجود الثابت، بدلاً من القول بالتغير والصيرورة، والذين تصوروا العقل على النحو الذي بيناه. وكان نصيب سقراط من هذه الحملة النصيب الأوفى، لأنه أول من قذس العقل ودعا إلى عبادته في كل شيء، حتى ظن أن العقل وحده أو المعرفة (فالمعنى واحد) تستطيع أن تجعل المرء خيراً: فالفضيلة في نظره تقوم على المعرفة. ولهذا فإن نيتشه يحسب أن سقراط هو بدء انحلال الفلسفة اليونانية، وأن فلسفته هو ومن تلاه فلسفة اضمحلال.

وبعد أن حطم نيتشه الصنم الأكبر- وهو العقل - بقي عليه أن يحطم بضعة أصنام صغيرة، أولها هو القول بوجود عالم آخر بجانب هذا العالم، عالم يسمونه عالم الحقائق في مقابل عالم الظواهر، الذي هو عالمنا المدرك، وما يستتبع هذا من التفرقة بين ظواهر الأشياء، وبين الأشياء في ذاتها على حد تعبير كنت.

إرادة القوة

وكان على نيتشه بعد هذا التحطيم للقيم السائدة في الأخلاق والفلسفة أن يقدم شرعة القيم الجديدة التي يؤمن بها:

«ماالخير؟- كل ما يعلو، في الإنسان، بشعور القوة وإرادة القوة، والقوة نفسها.»

«ما الشر؟- كل ما يصدر عن الضعف.»

«ما السعادة؟- الشعور بأن القوة تنمو وتزيد، وبأن مقاومة ما قد قُضِي عليها.»

لا رضى، بل قوة أكثر فأكثر؛ لا سلام مطلقاً؛ بل حرباً، لا فضيلة، بل مهارة . . .

الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا: هذا أول مبدأ من مبادىء حبنا للإنسانية. ويجب أيضاً أن يساعدوا على هذا الفناء.

أي الرذائل أشد ضرراً؟- الشفقة على الضعفاء العاجزين».

تلك شرعة القيم الجديدة التي أعلنها نيتشه. وكلها صادرة عن فكرة القوة وتقديس القوة، لأنه رأى أن إرادة القوة هي جوهر الوجود، وعن طريقها يمكن تفسير كل مظاهر الوجود.

فليس الوجود إلا «الحياة»؛

وليست الحياة إلا «إرادة»؛

وليست هذه الإرادة إلا «إرادة القوة».

وبمقدار شعورنا بالحياة والقوة يكون إدراكنا للوجود. وعن طريقهما فحسب، نستطيع أن نعرف ما الوجود: فالوجود «تعميم لفكرة الحياة والإرادة والعقل والصيرورة. ذلك لأن الحياة «تقويم»، و«لكي يحيا الانسان لا بد له من أن يضع قيماً». وهذا التقويم نفسه هو الوجود أيضاً.

إن الحياة لا تستطيع أن تحيا إلا على حساب حياة أخرى، لأن الحياة هى النمو، وهى الرغبة في الاقتناء، والزيادة في الاقتناء. وما دامت الحياة نمواً ورغبة في الاقتنام وفي المزيد من الاقتناء، فإنها محتاجة إلى شى ء آخر خلافها وخارجها كي تتحقق. فكأن الحياة إذا إرادة استيلاء عل الآخرين، وإرادة سطو واستغلال.

إلا أن الحياة لا تحيا على حساب الآخرين فحسب، بل أيضاً على حساب نفسها. فالحياة لا بد أن تنتصر على نفسها، بأن تطرح دائماً من ذاتها شيئاً يريد أن يفنى وموت. «لا بد للإنسان أن يريد الزوال، كي يستطيع النشأة من جديد. . . فالتطور: بأن يلبس المرء مئات الأرواح، هذا هو حياتك، وهذا ما قدر عليك» .

ومعنى هذا كله أن الحياة «إرادة قوة» أي إرادة سيطرة واستيلاء وتملك وتسلط وإخضاع.

ولما كانت إرادة القوة لا يمكن أن تظهر إلا بواسطة الكفاح، «فإنها تبحث دائماً عن كل ما يقاومها، ولما كانت المقاومة صداً ووقوفاً في وجه الشيء المقاوم، أي معاكسة بمعنى عام، فإنها تستلزم، بالضرورة، الألم فكأن إرادة القوة، أي الحياة والألم لا ينفصلان. إن إرادة القوة تنزع نحو المقاومات، ونحو الألم. وفي جوهر كل حياة عضوية إرادة ألم. والحياة في حاجة ضرورية إلى الاستشهاد والمعارضة، ولا غنى لها مطلقاً عن الخصومة والعداوة.

وإرادة القوة هي مقياس القيم في الحياة: فتحديد المستوى وتعيين الطبقات، كل هذا تفصل فيه إرادة القوة وليس في الحياة شيء ذو قيمة غير درجة القوة. «إن القيمة هي أكبر مقدار من القوة يستطيع الإنسان أن يحصله ويستولي عليه» ولكن المهم ليس هو كمية القوة، بل كيفيتها.

وأيّان فتشت في كل مرافق الحياة ومظاهر الوجود، فلن تجد غير إرادة القوة فهي الدافع الحقيقي في النفس، وهي العامل الجوهري في الجماعة والدولة.

لكن من الضعيف، ومن القوي؟

الضعيف الشخصية هو المضطرب التركيب الروحي، العديم الوحدة، أما القوي فهو الذي «تتجه فيه كل القوى متوترة نحو غاية واحدة، وتتضاغط دون صعوبة على شكل نير»، أي أن قواه كلها مرهفة وموجهة إلى غاية واحدة، مكونة بذلك قوة دافعة ضخمة تسيطر عليه وتدفعه دفعاً.

الضعيف هو رجل التساهل والتوسط والمساومة، أما القوي فهو من «يمثل الطابع المضاد للموجود الكائن أقوى تمثيل»

وليس للضعيف قدرة على مقاومة الإغراء؛ أما القوي فيحول الإغراء إلى طبيعته هو بأن يتمثله ويجعله جزءاً من قدره. ولهذا فإن الضعيف يهول في الإغراء تهويلاً شديداً ويصبح سلبياً بإزائه، لا يستطيع أن يرد فعله، ولا أن يحول دون سيطرته عليه. ولكن القوي يقابله برد فعل شديد، لا ليبعده ويتجنبه، بل ليسوده ويخضعه لذاته، وتراه يقول: «ما لا يقتلني يزدني قوة»، أي أنه يقبل على أكبر الأشياء خطراً وينشد أعظم المخاطرات، طالما لم يكن من شأنها أن تقتله وتقضي عليه؛ فإلى أن تكون قادرة على القتل والإفناء، يظل يطلبها ويقبل عليها. وهو بهذا يزداد قوة، لأن إرادة القوة قد اصطدمت بأكبر مقاومة وشعرت بأعظم انتصار.

وحياة الضعيف فقيرة جوفاء؛ أما حياة القوي فخصبة، كلها فيض وثراء وكلاهما يتألم: الضعيف يتألم من العوز والإملاق، والقوي يتألم من الإفراط في الثروة والفيضان.

الضعيف يريد السلام، والوفاق، والحرية، والمساواة؛ يريد أن يحيا حياة المحافظة على البقاء. أما القوي فيفضل المشكلات والهائل من الأشياء. الواحد منهما لا يريد أن يخاطر بشيء، بينما الآخر (القوي) يريد المخاطرة بكل شيء.

وتبعاً لمبدأ القوة ينبغي تقويم المعارف الإنسانية: فبمقدار ما تعلو يالشعور بالقوة تكون درجة «الحرية» فيها؛ وبمقدار ما تكون وسيلة للحصول على القوة من أجل تشكيل الأشياء بحسب إرادتنا، تكون قيمتها.

العود الأبدي

الوجود تغير وصيرورة. لكن الوجود ليس صيرورة مستمرة لا نهائية، وإنما تأتي فترة هي ما يسميه نيتشه باسم «السنة الكبرى للصيرورة»، عندها تنتهي دورة من دورات الصيرورة كيما تبدأ دورة جديدة. وهذه الدورة الجديدة تأتي عليها سنتها الكبرى فتنتهي من جديد. وهكذا زمان الوجود: مقشم إلى دورات. وكل دورة من هذه الدورات تكرار تام للدورة السابقة عليها، ولا اختلاف مطلقاً بين الواحدة والأخرى. فكأن الوجود كله صورة واحدة تتكرر بلا انقطاع في الزمان اللانهائي: «كل شيء يغدو، وكل شيء يعود؛ وإلى الأبد تدور عجلة الوجود. كل شيء يبيد، وكل شيء يحيا من جديد، وإلى الأبد تسير سنة الوجود وهذا التكرار يتناول كل التفاصيل: «فكل الأحوال التي يمكن هذا العالم أن يصل إليها، قد وصل هو إليها من قبل، لا مرة واحدة، بل مرات لا نهائية . فهذه اللحظة التي أنا فيها الآن وجدت من قبل عدة مرات، وستعود من جديد وقد وزعت فيها كل القوى كما هي في هذه اللحظة بالضبط؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى اللحظة لتي سبقت هذه اللحظة، وتلك التي ستتلوها أيها الانسان! إنك، كالساعة الرملية، ستعود م نجديد وستذهب من جديد دائماً ابداً.».

ونظرية العود الأبدي لا تقضي على الحرية، بل هي التى تخلصها من الحاجز الذي كان يحد منها حتى الآن، حاجز ثبات الماضى. ذلك لأنه ما كان الماضي هو أيضاً المستقبل، فإن النفس حرة فيما خلق وفيا لم يخلق. ومن يعرف العود الأبدي يشعر بأنه فوق كل استعباد للزمان. إن الآن ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي. وفي هذا التصادم يستيقظ الآن لنفسه ويعي ذاته.

الإنسان الأعلى

إن الغاية من القيم التي نضعها للانسانية ليست أن نوفر لها السعادة أو اللذة أو المنفعة أو ما شاكل هذه الغايات الهينة التافهة - فهذه أمور لا تستحق أن تطلب غاية، لأنها كلها تتجدث عن اللذة والألم وهما شيئان ثانويان، لا أوليان، وتابعان، لا أصليان. وإنما ينبغي على القيم التي نضعها أن تعمل عل السمو بمستوى الانسانية، والارتقاء بها في سلم العلاء على الحياة، حتى نصل إلى خلق نوع جديد، لا أقول: من الإنسانية، وإنما من هم فوق الانسانية. فالإنسان الحالي، أو الإنسان عامة، لا قيمة له في ذاته، وإنما قيمته هي في أنه وسيلة إلى خلق هذا النوع الممتاز. ولهذا يقول زرادشت، لسان حال نيتشه، مخاطباً الشعب المتجمع:

«إنني ادعوكم بدعوة «الإنسان الأعلى»، فإن الإنسان شيء يجب أن يعلي عليه. فماذا عملتم من أجل العلاء عليه؟

كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئاً أعلى منها: فهل نريدون أنتم أن تكونوا جزراً لهذا المدّ العظيم، وتفضلون الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟!

ما القِرْد مالنسبة إلى الانسان؟ اضحوكة وعار مؤلم. وهكذا يجب أيضاً أن يكون الإنسان بالنسبة إلى الإنسان الأعلى: أضحوكة وعاراً مؤلماً. . .

إن الإنسان الأعلى معنى الأرض. وعلى إرادتكم أن تقول: ليكن الإنسان الأعلى معنى الأرض. . .

الحق أن الإنسان نهر نجس. ولا بد للمرء أن يكون محيطاً كي يستطيع أن يضم في جوفه نهراً نجساً، دون ـن يتدنس.

فأنا أدعوكم بدعوة الإنسان الأعلى: فإنه هذا المحيط. » .

فالغاية من الإنسانية إذاً هي خلق هذا الإنسان الأعلى. ومن أجل هذا كان لا بد للقيم الجديدة التي نضعها أن تكون عاملة على إيجاد هذا النوع، مهيئة لظهوره.

واول ما يمهد لوضع هذه القيم أن يكون الانسان حراً قد حطم كل القيود، وبدد كل «هذه الأوهام الثقيلة الخطيرة التي أتت بها المذاهب الأخلاقية والدينية والفلسفية»، ولم يعد يؤمن بالقيم التقليدية، وإنما يحلق تحليقاً حراً، دون خوف ولا وجل، فوق الناس والأخلاق والقوانين والتقويم التقليدي للأشياء».

فإذا تحرر من هذه القيود كلها فليعتمد على نفسه وحده. لكن هذه الحرية ليس معناها السير على الهوى، وإنما «الحرية معناها أن لا يأبه الانسان للعناء والقسوة والحرمان، بل والحياة نفسها؛ وأن تكون لغرائز الرجولة والنضال وحب الظفر السيادة على الغرائز الأخرى، مثل غريزة السعادة.»

ومن أجل هذا يريد أن يحيا حياة الخطر، ولا بد له في كل حين أن يحيط به الخطر من كل جانب: فإذا لم يأت الخطر إليه، فليتقدم هو من تلقاء نفسه ليواجهه. وإذا لم يجده مائلاً فيما حواليه، فليخلقه خلقاً. فهو يسير على هذه القاعدة السامية الممتلئة حكمة وقداسة وهي:

«كي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عِشْ في خطر!»

نيتشه والعدمية

العدمية هي الاعتقاد بأن الحياة ليس لها معنى، ورفض كل القيم الأخلاقية والدينية، ويُمكن اعتبار نيتـشه فيلسوف عدمي من حيث رفضه لكل القيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية، ونقطة التقاء العدمية بالوجودية هي أن الحياة ليس لها معنى، لذا يُعتبر نيتشه الممهد لظهور الوجودية.

آمن نيتشه أنه لا يوجد مقياس مطلق لهذه القيم، وهذه القيم الموروثة لها تأثيرات سلبية علينا، ولهذا لا بد من التخلص منها تمامًا، خاصةً القيم الدينية. فبالنسبة لنيتشه أي اعتقاد بأن شيئًا ما صحيحٌ هو اعتقادٌ خاطئ، وهو يعتقد أن المشكلة الأكبر للقيم الدينية وقيم عصر التنوير هي ترويجها على أساس أنها مطلقة صالحة لكل مكان ولكل زمان، وعدم التعامل معها على أساس أنها وليدة للظروف التاريخية والفكرية حينئذٍ. وفي كتابه “إرادة القوة” يوضح أن “سؤال: لماذا ليس له إجابة”، ويؤكد أن إنهيار المعنى والهدف من الحياة هو أكبر القوى المدمرة للبشرية في التاريخ.

هكذا تكلم زردشت

دخل نيتشه عالم الفلسفة عبر الفيلولوجيا كعالم لغوي وشاعر (وهي دراسة الكتب التاريخية في إطارها التاريخي الصحيح من دون ترجمة) ومكّنته دراسته الجامعية من تحصيل ثقافة كونية شاملة. كان اهتمامه الأولي ومهنته هي الكتب الفلسفية اليونانية القديمة. وكان الرافد الأساسي لكل ما سيقدمه في التفكير الفلسفي هو الفكر الإغريقي القديم الذي كان بالنسبة إليه مقياس الأشياء والذي رأى من خلاله انحطاط عصره. لقد كان نيتشه أقرب إلى أن يكون أخلاقياً من أن يكون فيلسوفاً بالمعنى المعروف في عصره؛ إذ نظر للأخلاق وبحث فيها ولم ينظر للماهيات!

يُعدّ كتاب "هكذا تكلم زرادشت" أهم كتب نيتشه. كتب نيتشه بعده العديد من الكتب ولكنها كلها كانت تقريباً تعليقاً على هذا الكتاب الذي كان يعتبره أنجيله الشخصي ولكنه واجه صعوبات كبيرة في نشره ولم يلقى الكتاب ترحيباً كبيراً في أوساط الجامعات الألمانية المتمسكة بالمثالية الهغيلية. يبدأ الكتاب بقصة زرادشت " نسبة إلى الحكيم الإيراني القديم " الذي نزل من محرابه في الجبل بعد سنوات من التأمل ليدعو الناس إلى الإنسان الأعلى وهي الرؤية المستقبلية للإنسان المنحدر من الإنسان الحالي وهي رؤية أخلاقية وليست جسمانية حيث الإنسان الأعلى هو إنسان قوي التفكير والمبدأ والجسم..إنسان محارب، ذكي، والأهم شجاع ومخاطر. يلتقي زرادشت بعدها بعجوز يصلي ويدعو الله فيستغرب ويقول: "أيعقل أن هذا الرجل العجوز لم يعلم أن الله مات وأن جميع الإلهة ماتت؟!". يواجه زرادشت في البداية صعوبة في جذب الناس إلى دعوته حيث يتلهون عنه بمراقبة رجل يلعب على حبل عالٍ لكن الرجل يقع فيأخده زرادشت بين يديه ويخاطبه أنه يفضله عن الجميع ويحبه لأنه عاش حياته بخطر ورجولة.

وهكذا يتابع زرادشت رحلته ودعوته ليعبر عن أفكار نيتشه التي ربما رأى البعض أنها عنصرية. يعد نيتشه من أعمدة النزعة الفردية الأوروبية حيث أعطى أهمية كبيرة للفرد؛ واعتبر أن المجتمع موجود ليخدم وينتج أفراداً مميزين وأبطالاً وعباقرة، ولكنه ميّز بين الشعوب ولم يعطها الأحقية أو المقدرة نفسها حيث فضل الشعب الألماني على كل شعوب أوروبا واعتبر أن الثقافة الفرنسية هي أرقى وأفضل الثقافات بينما يتمتع الإيطاليون بالجمال والعنف والروس بالمقدرة والجبروت وأحط الشعوب الأوروبية برأيه هي الإنكليز حيث أثارت الديموقراطية الإنكليزية واتساع الحريات الشخصية والانفتاح الأخلاقي اشمئزازه، واعتبرها دلائل افتقار للبطولة.

مؤلفاته

بالترتيب التاريخي:

قيل فيه

  • «فريدرش نيتشه واحد من أعظم الشخصيات المصيرية في التاريخ الروحي للغرب، ورجل أقدار يرغمنا على اتخاذ قرارات نهائية، وعلامة استفهام رهيبة على الطريق — الذي حدده تراث الأوائل وألفا عام من المسيحية - الطريق الذي سلكه الإنسان الأوربي حتى الأن. وقد حاك في صدر نيتشه أن هذا الطريق سيكون طريق الضلال، وأن الفكر قد ضل طريقه، ولا بد إذن من العودة إلى الوراء، عودة تعنى رفض كل ما كان يعد حتى الأن "مقدسًا"، و"خيراً"، و"حقًا"، واسم نيتشه يرتبط بنقد جذري للدين، وللفلسفة، وللعلم وللأخلاق لقد حاول هيجل محاولة جبارة هي فهم كل تاريخ العقل على أنه تطور كل مراحله أعيد التفكير فيها وينبغي تقويم كل مرحلة منها وفقاً لقانونها الخاص. واعتقد أن في وسعه أن يضمن، على نحو إيجابي، تاريخ الانسانية الأوربية وفي مقابل ذلك نجد نيتشه يقابل الماضي برفض قاطع ودون تحفظ؛ إنه يرفض كل منقول ويدعو إلى تحول جذري. ومع نيتشه يصل الإنسان الأوربي إلى تقاطع طرق. وهيجل ونيتشه هما معاً الشعور التاريخي الذي يعود على نفسه ويتأمل في كل ماضي الغرب ابتغاء تقدير قيمته. وكلاهما يقف عن قصد في دائرة المفكرين الأوائل اليونانين، وكلاهما يعود إلى الأصول، وكلاهما هيرقليطي النزعة. والعلاقة بين هيجل ونيتشه هي العلاقة بين "نعم" تقبل كل شيء و«لا» تعارض في كل شيء. وهيجل يفلح في القيام بعمل تصوري هائل وذلك بإعادة التفكير في كل أطوار الفهم الانساني للوجود وتكميلها، وبالجمع بين كل الموضوعات المتناقضة في تاريخ الميتافيزيقا، جمعها في وحدة عليا من مذهبه، وباقتياد هذا التاريخ على هذا النحو إلى نتيجة. أما في نظر نيتشه، فإن هذا التاريخ نفسه ليس إلا التاريخ الطويل جداً لغلطة، وهو يحاربه بحماسة لا اعتدال فيها وبجدل عنيف، وهو في كراهيته الغاضبة ومرارته الساخرة شديد الاتهام وسوء الظن. إنه يتجلى لنا مليئاً بالعقل، لكنه أيضاً مسلح بكل ألوان المكر والدهاء المستورة التي هي من شيمة كاتب الرسائل الهجومية، ومن أجل نضاله، يستخدم كل الأسلحة التى تحت تصرفه: تحليله النفسى الدقيق، سخريته اللاذعة، حاسته، وخصوصاً أسلوبه. وهو في هذ يبذل ذاته كلها، لكنه لا يحرص على تدمير الميتافيزيقا بطريقة تصورية. فهو لا يجطم مستعينًا بوسائل الفكر المجرد للوجود؛ إنه يرفض التصور concept، ويناضل ضد النزعة العقلية، وضد انتهاك الفكر للواقع. ونيتشه يحارب الماضي على جبهة واسعة. إنه يناضل ليس فقط ضد المنقول tradition الفلسفي، بل وأيضًا ضد الدين وضد الأخلاق التقليديين. ونضاله يتخذ شكل نقد واسع للحضارة، وهذا أمر بالغ الأهمية» (أويجن فنك: «فلسفة نيتشه»، ترجمة فرنسية، ص 9-10، باريس سنة 1965) .
  • «أنت الكسب الوحيد الذي عادت به الحياة عليّ. وقد قرأتك من جديد وأقسم لك أمام الله إنك الوحيد الذي يعرف ماذا أريد.[٢]» ريتشارد فاغنر
  • «نيتشه هو فكر الجبل. فالأفق هائج عاصف؛ والسحب تتصارع كالجبابرة؛ وأديم السماء ينشق عن مزق كبير: فتترأرأ حقائق بعيدة، تحرقها نار الشمس البازغة... إن لفلسفته، التي تصورها في الأوكسجين والأوزون، خصائص تنفسية حقاً؛ فلها من الأجواء العليا نقاؤها، وبها تزيد القوة الحيوية.[٢]» ريمي دي غورمون
  • «كان نيتشه يغار من المسيح، يغار إلى حد الجنون... وكان يعود إلى نيتشه وحده أن يعيد اكتشاف مسيح حقيقي وأن يبعثه من جديد من كفنه... ولكن بدلاً من أن ينضوي نيتشه تحت لواء من يتفوق تعليمه على تعليمه اعتقد بأنه يكبر إذا ما جابهه.[٢]» أندريه جيد
  • «هذا هو نيتشه وإنسانه الأعلى، الذي هو قوة متكبرة يسوقها هذيانها المتعجرف إلى القول بعبودية الجنس البشري وهوانه. لصالح من؟ لصالح الإنسان الأعلى، الذي هو... مجنون بائس يصرخ ويستهل بين أيدي الممرضين.[٢]» أندريه سواريس
  • «أرجح الظن أن نيتشه لم يعرف صفة مرضه، لكنه كان مدركاً تماماً لما هو مدين له به... فمن خاصة هذا المرض أن يستحدث ثملاً تنداح فيه أمواج من السعادة والقدرة وتنتشي فيه قوى الحياة ذاتياً... وقبل أن يغرق ضحيته في الليل العقلي ويقتله يمحضه تجارب وهمية من القدرة واليسر والوحي والإشراق... ويقتاده إلى اعتبار نفسه أداة الإله ووعاء النعمة بل إلهاً متجسداً.[٣]» توماس مان
  • «من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه. فلكأن له في الأشياء طراً رأيين. وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون.[٤]» كارل ياسبرز
  • «مع نيتشه تغدو العدمية نبوية. وفيه تصير لأول مرة واعية. وقد تفحصها وكأنها واقعة سريرية. وقد شخَّص في نفسه ولدى الآخرين عجزاً عن الاعتقاد وزوال الأساس الأول لكل إيمان، أي الاعتقاد بالحياة. وبدلاً من الشك المنهجي، مارس النفي المنهجي والتدمير النظامي لكل ما يحجب العدمية عن نفسها. "ومن يشاء أن يكون خالقاً، سواء أفي الخير أم في الشر، فعليه أولاً أن يكون هداماً وأن يحطم القيم".[٤]» ألبير كامو
  • «اعترض نيتشه على المسيحية لأنها هي السبب لما أسماه "أخلاق العبيد". وعنده أن المسيحية منحلة ومفعمة بالعناصر المفسدة العفنة... ومنكرة لقيمة الكبرياء والاختلاف والمسؤولية العظمى والنزعة الحيوانية الرائعة وغرائز الحرب وتأليه العاطفة والثأر والغضب والشهوانية والمغامرة والمعرفة، وكلها عناصر خير تقول عنها المسيحية إنها شر.[٤]» برتراند راسل
  • «نيتشه مؤسس اللاعقلانية في المرحلة الأمبريالية... وربما كان، في تحليله السيكولوجي للحضارة وأفكاره الجمالية والأخلاقية، الممثل الأكثر موهبة والأغنى بالتلاوين لوعي المشكلة المركزية والظاهرة الأساسية لتاريخ بورجوازية عصره: الانحطاط.[٤]» جورج لوكاش
  1. ^ رسالة نيتشه إلى أخته (1865)، أرشيف. قالب:Webarchive
  2. ^ أ ب ت ث معجم الفلاسفة/جورج طرابيشي/مادة:نيتشه/دار الطليعة, بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، يوليو 2006 م. ص 679.
  3. ^ معجم الفلاسفة/جورج طرابيشي/مادة:نيتشه/دار الطليعة, بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، يوليو 2006 م. ص 679 - 680.
  4. ^ أ ب ت ث معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي؛ مادة:نيتشه، دار الطليعة, بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، يوليو 2006 م. ص 680.