كانطية
الكانطية (أو الكنتية أو الكنطية أو فلسفة كانط) (بالإنجليزية: Kantianism) هي المدرسة الفلسفية التي تولدت من أفكار الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وذلك فيما يخص أرائه وتوجهاته الفكرية في مجالات فلسفة العقل ونظرية المعرفة والأخلاقيات.
النزعة العقلية
كان كانط ذا نزعة عقلية تامة. ولهذا أحب العلوم الدقيقة - أعني الرياضيات، والعلوم الطبيعية القائمة على التجربة والملاحظة، مثل الفيزياء والفلك ونشأة الكون. لكته اتحذ منها نقطة انطلاق لتكوين نظرة شاملة في الكون، أعني نظرة فلسفية تنتطم المعرفة البشرية بعامة.
وفي سبيل ذلك، كان عليه أن يفحص عن حقيقة المعرفة الإنسانية. ومن هنا اهتم أيما اهتمام بنظرية المعرفة، أي: إلى أي مدى يستطيع عقلنا الوصول إلى إدراك حقيقة الكون والطبيعة والإنسان؟ وما هي أدوات المعرفة الصحيحة؟ وما قيمة هذه الأدوات وأدوارها في تحصيل المعرفة الصحيحة؟
وأدى به ذلك إلى العناية بتحليل التصورات Begriffe، أي المعاني العقلية المجردة، وإلى تخصيص العقل بالدور الكامل في المعرفة الصحيحة، ورفض العاطفة وما يصدر عنها من إدراكات، لأن العقل هو «القوة العليا في النفس» وسيكون من العبث إخضاعه - وهو «السيد الأكبر»، ـ لـ «عماء من العواطف والانفعالات»، عل حد تعبيره.
وإذا كان كانط قد عني بما سماه «نقائض العقل المحض» فليس معنى ذلك أنه كان يؤمن بتناقض التفكير أو بالتفكير الديالكتيكي، كما سيفعل هجل. وفي هذا قال في «نقد العقل المحض» (ص 577): «إن إثارة العقل ضد نفسه، وتزويده بالأسلحة في كلا الجانبين، ثم بعد ذلك مشاهدة القتال العنيف بينهما بهدوء واستخفاف - هو أمر ليس من شأن وجهة النظر الدوجماتيقية، بل يبدو عليه مظهر المزاج الشرير المحب للأذى».
ونظراً لايمانه الشديد بقدرة العقل، فقد كان متفائلاً بإمكان معرفة كل شيء، وبأنه لا حدود تقف عندها المعرفة العقلية. ومن هنا جاء تفاؤله العقل الشديد.
لكن كنت لم يكن وضعياً تجريبياً خالصاً، ولا ميتافزيفيا خالصاً، بل كان مزاجاً من كليها: لقد أراد أن يضع حداً للميتافيزيقا الدوجماتيقية (= التوكيدية) من ناحية، حتى تقوم الميتافيزيقا عل أساس علمي من المعرفة الصحيحة البعيدة عن الفروض غير القابلة للتحقق العقلي أو التجريبي. لكنه، من ناحية أخرى، كان يشعر بنوع من الحنين إلى الإبقاء عل بعض المعان الأساسية في الميتافيزيقا. وسعى لذلك جهده، لكنه لم يستطع الابقاء عليها إلا عن طريق الأخلاق) ومن هنا يمكن التحدث عن نوع من الازدواج في عقلية كانط، جانب عقل صارم ملتزم بالبرهان العقل (والتجريبي) الدقيق، وجانب أخلاقي يخلي مجالاً للأماني الإنسانية في ميدان الأخلاق.
التطور الروحي
التطور الروحي لكانط قد مر بمرحلتين متمايزتين كل التمايز :
أ) المرحلة قبل النقدية ب) المرحلة النقدية
المرحلة قبل النقدية
أول أثر لكانط في المرحلة قبل النقدية في نظرية المعرفة هو كتابه: «إيضاح جديد للمبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية» (سنة 1755)، وفيه يتجلى انتماؤه الواضح إلى مدرسة ليبنتس وفولف. وهذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول في مبدأ (عدم) التناقض أو مبدأ الهوية، والثاني في مبدأ العلة الكافية، والثالث بحث في مبدأين ناتجين عن مبدأ العلة الكافية .
والاتجاه العام للكتاب هو النزعة العقلية، سواء في المنهج، وفي الغاية. والهدف الذي يرمي إليه هو تقرير مذهب من الحقائق العقلية الضرورية، فيتصور نظاماً هرمياً رأسه فكرة: الله، بوصفه ينبوع كل حقيقة، وفيه يوجد في الواقع كل ما يمكن تصوره. وبالمزج والتحديد والتعيين ينشأ عن تصور الله تصور كل شيء معقول، كما أنه عن الله يصدر كل الواقع عن طريق التحديد.
ويفترض كانط أن الاحكام كلها تحليلية، أي أن المحمول فيها متضمن في الموضوع. والقول يكون صحيحاً إذن إذا كان ثمَ هوية بين تصور الموضوع وتصور المحمول.
ويعرف كانط مبدأ العلية هكذا: لا بد للموجود الممكن من سبب سابق يحدده.
وفي نظريته عن الله يقول: إننا إذا تصاعدنا في سلسلة العلل إلى العلة الأولى، فإنه لا مجال بعد لأي تصاعد. ويعترض على الحجة الوجودية لإثبات وجود الله لأنها تخلط بين المثالي الذهني وبين الواقعي. وبدلاً من الحجة الوجودية يأخذ بحجة أخرى ماخوذة من تصور الممكن.
والمؤلفات التي كتبها كنت في عامي 1762-1763 تكون ما يسميه البعض باسم المرحلة التجريبية النزعة في داخل المرحلة قبل النقدية.
وهذه الكتب هي:
- «بيان ما في أشكال القياس الأربعة من تحذلق زائف» (سنه 1762)
- «مجاولة إدخال تصور المقادير السالبة في الحكمة العالمية» (سنة 1763)
- «البرهان الممكن الوحيد لإثبات وجود الله»
- «بحث في وضوح مبادىء اللاهوت الطبيعي والأخلاق» (1762)
والجديد في هذه الكتب بالنسبة إلى كتاب سنة 1755 يتلخص في النقط التالية :
1- الوجود ليس محمولاً أو تحديداً وتعييناً لأي شئ. ولهذا لا يمكن أن يبرهن عليه عل أساس تصورات، وإنما يدرك فقط بالإدراك الحسي.
٢- التناقض المنطقي يختلف تماماً عن التنافر الواقعي.
3- كذلك تختلف العلة المنطقية عن العلة الواقعية.
وهذه الأقوال الثلاثة، بالإضافة إلى التفرقة بين المنهج التحليل والمنهج التركيبي، تشير بوضوح قاطع إلى تطور فكر كانط في اتجاه النزعة التجريبية.
لقد سعى كانط في هذه المؤلفات الأربعة إلى الأخذ بالتجريبية، لكنه لم يصل فيها بعد إلى التجريبية، لأنه بقي عقلي النزعة في نظريته في التصورات.
وإنا بلغ مرحلته التجريبية فيما تلا عام 1763. إذ صار منذ ذلك الوقت يرى أن العلة تركيبية، وبالتالي تجريبية. وصار يؤكد أن التصورات البسيطة والامتثالات الأولية ومادة التفكير وما يرتبط بها من علل، وبسائط الإدراك الحسي - كلها يجب أن ندركها بواسطة التجربة.
والكتاب الأساسي في هذه المرحلة التجريبية هو: «أحلام صاحب رؤى مفسرة بأحلام ميتافيزيقية»، (سنة 1766). وفي هذا الكتاب يتساءل كانط: هل فقط النظام الصوري وعدم التناقض في التصورات هو ما يميز الوجود الواعي عن الحلم؟ أو لا يمكن أن يكشف الحلم نفسه عن ارتباط باطن وعن ترابط منظم راسخ؟ وهل لا توجد أحلام للعقل؛ مثلاً توجد أحلام للخيال؟ وينتهي كانط في جوابه عن هذا السؤال إلى بيان أن التجربة هي التي تفيد في معرفة الوقائع، لا البراهين العقلية القبلية، والأحكام التي تريد الظفر بالصدق الموضوعي يجب أن تكون تجريبية، وبالتالي تركيبية، ولا يستثنى من ذلك إلا الأحكام الرياضية، وكان كانط آنذاك يعتقد أنها أحكام تحليلية. وفي هذا الكتاب أيضاً تبدو عند كانط لأول مرة أهمية «ملكة الغايات» الأخلاقية، فيقرر أنه من الأقرب إلى الطبيعة الانسانية وطهارة الأخلاق أن نقيم على أسس إدراكات النفس القوية ترقب عام آخر، أولى من أن نقيم حسن سلوك النفس على قيام عالم آخر قادم.
ولكن التحول الحاسم في تطور فكر كانط قد حدث، فيما يبدو، في سنة 1769؛ ويبدو أن ذلك كان بتأثير هيوم، على خلاف في بيان ذلك شديد بين الباحثين. ذلك أن هيوم نبه كانتطإلى مشكلة الكلية والضرورة في الأحكام، وكان كانط حتى ذلك الحين يؤمن بأن التجربة تكفل كلتيهما ولكن شك هيوم نبهه إلى ما في هذا القول من خطا أو مبالغة.
كان كانط في سنة 1719 مشغولاً بمشكلتين هما:
١ - مشكلة النقائض
٢-مشكلة الأصل في كل كلية وكل ضرورة في المعرفة.
وتوصل إلى حل المشكلتين عن طريق التمييز بين مادة التفكير وصورته، صورة الذهن Verstand من ناحية (المكان والزمان)، وصورة العقل Vernunft (العلة، الجوهر، الممكن، الضروري الخ) من ناحية أخرى. وكنت ميز نمييزاً حاداً بين الذهن Verstand وبين العقل Vernunft على أساس أن «الذهن هو ملكة إنتاج امتثالات، أو هو تلقائية المعرفة» وهو «ملكة التفكير في موضوع العيان الحسي» بمعونة تصورات (هي المقولات) وأحكام وقواعد. أما العقل Vernunft فهو ملكة الصور (المثل بالمعنى الافلاطوني) واللامشروط والشمولية. الذهن يتوجه إلى التجربة الجزئية، أما العقل فيتوجه إلى كل التجربة، إلى المطلق. ومن حيث الترتيب التصاعدي فإن العقل أسمى من الذهن من حيث هما ملكتان للمعرفة.
وفي سنة ١٧٧٠ ألف كنت ما عرف باسم «رسالة سنة ١٧٧٠» للحصول على درجة الأستاذية، وموضوعها «صورة العالم المحسوس والعالم المعقول ومبادثهما، وهذه الرسالة تمثل في تطور فكر كنت، نقطة وصول ونقطة انطلاق في آن معاً: فهي تختم المرحلة قبل النقدية، وتمهد للمرحلة النقدية وفيها تخطيط لمذهب فلسفي صوري يختلف في بعض النقط المهمة عما سيكون عليه مذهب كنت فيما بعد «وهي تقرر إمكان معرفة الأشياء نفسها من التصورات، وتضمن للذهن علاقة مباشرة بالأشياء، لا علاقة غير مباشرة عن طريق الظاهرة. وشروط المعرفة الحسية ليست بعد اساس المعرفة الموضوعية كلها، بل هي بالأحرى عقبات في سبيل الوصول إلى ما هو واقعي، كماهو ي ذاته». (ريل] «النقدية الفلسفية» ج١ ص ٢٦٥) واالرئالة ا مصوغة بصيغة دوجاتيقية (قطعية) تقريريةخالصة، ويتجلىفيهاهذا لطابعأكثرمما يتجلى في ساثر كتبكنت. وهذه «الرسالة» تهدف إلى البرهنة على هذه القضية وتنميتها، وهي أن تصورات الفكر مستقلة عن قوانين العيان، وأن ما لا يخضع لقوانين المعرفة العيانية، وإن كان غيرمكن امتثاله فإنه ليس لذلك غير مكن او متناقضاً.
ويميز كنت بين العالم المحسوس والعالم المعقول، ويقر بوجود كليهما. والعالم المحسرس له شكله ومبادئه، وهو يتضمن وجود عالم معقول، هو عالم «النومينات» noumenes أو الأشياء في ذاتها والمبادىء الصورية لعالم الظواهر اثنان: الزمان ، والمكان.
وفكرة الزمان ليست معطاة، بل تفترضها الحواس، لان ما يقع تحت الحواس لا يمكن امتثاله إلاً معاً أو متوالياً، أي عن طريق فكرة الزمان . وليس التوالي هو الذي يلد فكرة الزمان، بل هو يهيب به ومكذا فإن فكرة الزمان، كا لو كانت متحصلة من التجربة، سيئة التحديد جدا: سلسلة الحاضرات التي يوجد بعضها بعد بعض، لأنني أجهل معفى كلمة «بعد» إذا لم يكن عندي اولاً فكرة الزمان، إذ الأشياء يكون بعضها بعد بعض إذا كانت توجد في أزمنة مختلفة، كذلك تكون في حالة معية الأشياء التي توجد في نف الزمان.
وفكرة الزمان مفردة، وليست عامة، لأن زماناً ما لا يمكن أن يفكر فيهإلآعلى انهجزء من زمان وحيد، هائل، هو هو. وفكرة الزمان عيان، ولما كانت متصورة قبل كل احساس بوصفها شرط العلاقات التى تتجلى بين المحسوسات، فإنها ليست عياناً من اصل حسي، بل عيان محض.
والزمان كم متصل، ومبدأ لقوانين الاتصال في حركات الكون.
والزمان ليس موضوعياً ولا واقعياً، وليس جوهراً، ولا عرضاً، ولا إضافة (نسبة)، بل شرط ذاتي subjective ضروري وفقاً لطبيعة العقل الانساني من أجل التنسيق بين المحسوسات أياً كانت وفقاً لقانون معين، وهكذا هو عيان محض.
والزمان إذن هو مبدأ صوري للعالم المحسوس، أولي أولية مطلقة.
وبالمثل يقول كنت عن المكان. وسنرى تفصيل قوله في الزمان والمكان في كتابه «نقد العقل المحض».
المرحلة النقدية
ذلك هو تطور فكر كنت قبل أن يقوم بنقد العقل؛ وقد رأى في سنة 1770 أنه لا بد من الفحص عن العقل المحض، لبيان طبيعة المعرفة النظرية، والمعرفة العملية من حيث هي عقلية فقط. فأكب على هذ الفحص، ولم يفرغ منه إلا في سنة 1781، حينما اصدر كتابه الرئيسي : «نقد العقل المحض» (ريجا، سنة 1781). ومعنى نقد العقل هو الفحص عن قدرة العقل بوجه عام فيما يتعلق بكل المعارف التي يطمح إلى تحصيلها مستقلا عن كل تجربة - والعقل المحض هو العقل وهويفكر غير مستعين بالتجربة. فكلمة «محض» يقصد بها: المحض من التجربة والملاحظة أي الخالي من كلتيهما، أي العقل الذي يعتمد على ذاته فقط دون الاستعانة بالتجربة والملاحظة , فنقد العقل المحض هو الفحص عن نظام الأسس القبلية ومقتضيات العلم السابقة، التي بفضلها تتم المعرفة العلمية، وذلك ببيان استعمال هذه الأسس القبلية والمقتضيات السابقة في التجربة وتحديد قيمتها في ضمان صحة التجربة. والمنهج الذي يستخدمه العقل في نقده لنفسه هو المنهج المتعالي، الذي بموجبه يتبين ما في العقل المحض من شكوكوقوانين. والمتعالي transzendental هو المتعلق بثروط إمكان التجربة، وبقيمة ما هو قبلي بالنسبة إلى التجربة وموضوعاتها. والمتعالي هو السابق على التجربة، ولكنه داخل نطاق العقل. والفلسفة المتعالية هي علم إمكان المعرفة التركيبية القبلية. إنها لا تبحث في الموضوعات، بل في الاصول التي عنها تنشأ المعرفة قبلياً، وحدودها
ويتفرع نقد العقل المحض إلى :
١ - الحساسية المتعالية
٢, المنطق المتعالي، ويشمل:
(أ) التحليلات المتعالية
(ب) الديالكتيك المتعالي
٣_ علم المناهج المتعالي.
أما الحساسية المتعالية فهي علم كل مبادىء الحساسية القبلية (أي السابقة على التجربة).
والتحليلات المتعالية هي العلم الباحث في عناصر المعرفة المحضة للذهن والمبادىء التي بدونها لا مكن التفكير في أي موضوع. إنه تحليل لمجموع معرفتنا قبلياً إلى عناصر معرفة الذهن المحضة .
ولما كان الديالكتيك هو منطق «الظاهر»، فإن الديالكتيك المتعالي هو العلم الباحث في تجاوز العقل لحدود لتجربة ابتغاء تحديد الموضوعات بوجه عام بوصفها أشياء في ذاتها، مع أنها ليست معطاة في التجربة إنه فن سوفسطائي يكشف لنا عن العلامات والقواعد التي بها نتعرف سوء استعمال العقل لمعايير الحقيقة. وفائدته أنه يعين على «تطهير» الذهن.
وعلم المناهج المتعالي هو علم تحديدالشروط الشكلية لنظام كامل للعقل المحض.
ومن المعافي التي يميز ينها كنت: العقل Vernunft ، والذهن Verstand , فالعقل في مقابل الذهن، أو العقل بالمعنى الأضيق: هو ملكة المعرفة العليا، ومهمته ان يذرج، تحت الوحدة العليا للتفكير، ما هيأه الذهن. إنه ملكة المبادىء، وملكة استنباط الخاص من العام. أما الذهن فهو ملكة إنتاج الامتثاات، أوملكة تلقائية المعرفة. وهوملكة التفكيرفي موضوعات العيان الحسي . إنه ملكة معرفة بواسطة تصورات، معرفة ليست عيانية، بل تصورية.
لقد رأى كنت أن الموقف حيال نظرية المعرفة كان موزعاً بين تيارين : تيار النزعة العقلية، الذي يرى أن الحقائق المتعلقة بالطبيعة وبما فوق الطبيعة إنغا تدرك بالعقل وحده، مستقلاً عن التجربة الحسية؛ والثافي تيار النزعة التجريبية، وهو يرى أن التجربة الحسية هي ينبوع كل الحقائق والتصورات. ومن ناحية أخرى رأى كنت المعرفة الرياضية تتقدم باطراد ويقين. لهذا تساءل: هل يمكن الميتافيزيقا أن تصبح علا قاثما على اسس يقينية وان تتقدم باستمرار كما هو الشأن في الفزياء والفلك والرياضيات؟.
ومن هنا كان كتاب ,نقد العقل المحض، بحثاً في الميتافيزيقا لأنه بحث في نظرية المعرفة وفيه يحاول أن يبين فساد كلا التيارين م النزعة العقلية والنزعة التجريبية: الأولى لتجاوزها حدودها، والثانية لقصورها ٠ فالأولى تجاوزت حدود العقل وطاقاته فادعت إمكان الوصول إلى إثبات كيانات لا يمكن بطبعها أن تكون موضوعات للتجربة، مثل : اله، الحرية الانسانية، خلود النفس. والثانية قصرت باقتصارها على معطيات التجربة الحسية، ولم تدرك وجود مبادىء متعالية هي الإطارات التي لا بد لمعطيات الحس من الدخول فيها كي تصبح مدركات.
فاكتشف كنت وجود أحكام ليست تجريبية، ولا تحليلية، ودعاها باسم الأحكام التركيبية القبلية: هي تركيبية لأن محمولاتها غير متضمنة في موضوعاتها، وهي قبلية لأنها ليست مستمدة من التجربة. فمثلا: ٧ب ٥=١٢ : ها هنا حكم تركيبي، لأن ١٢ غير متضمنة في٧ و٥ كذلك: المثلث مجموع زواياه يساوي قاثمتين : ها هنا حكم تركيبي لأن كون زوايا المثلث تساوي قائمتين غير متضمن في مفهوم المثلث وهو أنه سطح مستو محاط بثلاثة مستقيمات متقاطعة مشفى مثنى.
ورأى كنت أن مشكلة الميتافيزيقا هي مشكلة اي علم، اعني: كيف يمكن ان تكون مبادئها ضرورية وكلية من ناحية، ومن ناحية أخرى تتضمن علا بالواقع، وتزود الباحث بإمكان المزيد من المعرفة أكثر ما يعلم؟ وتبين لكنت ان الجواب عن هذا السؤ ل يكمن في الأحكام التركيبية القبلية.
ومشكلة الأحكام التركيبية القبلية تظهر في ثلاثة ميادين: في الرياضيات، والفزياء، والميتافيزيقا.ومن هنا انقسم القم الأول من «نقد العقل المحض بحسب هذه الميادين الثلاثة إلى:
أ- الخساسية المتعالية: وفيه يبين أن الرياضيات تتناول بالضرورة الزمان والمكان، وهما شكلان أوليان للحاسية الإنسانية يحددان كل ما يدرك بالحواس.
ب- التحليلات المتعالية: وهي الجزء الأساسي في هذا الكتاب وأصعب اقسامه يقول كنت في هذا القم إن الفزياء قبلية وتركيبية، لأنها في ترتيبها للتجربة تستخدم تصورات من نوع خاص. وهذه التصورات- ويسميها: «مقولات»- لا تستخلص من التجربة، بل تتبين في التجربة، ولهذا فإنها قبلية أو محضة وليست تجريبية، ويمكن اكتشافها وتصنيفها بالفحص الدقيق عن الأشكال المنطقية للأحكام التي نطلقهاعلى الموضوعات في العالم إغهاترجع إلى إطارات المعرفة،
ج-- الديالكتيك المتعالي، وفيه يفحص عن الأحكام التركيبية القبلية في الميتافيزيقا. لقد رأى أن الوضع هاهنا هو على عكس ما هو في الرياضيات والفزياء. ذلك أن الميتافيزيقا تقطع نفسها عن التجربة الحسية بمحاولتها تجاوزها؛ ولهذا السبب تعجز عن الوصول إلى حكم تركيبي قبلي حقيقي -
وقد لخص كنت نقد المعرفة في هذه العبارة البليغة: كل معرفة إنسانية تبدا بعيانات (حسية)، وتسير من ثم إلى تصورات، وتنتهي بأفكار، وهذه العناصر الثلاثة المتميزة تناظر ملكات النفس وهي : الحساسية، الذهن، العقل وكل واحدة من هذه الملكات لا تزود بمادة المعرفة، فكلها أشكال خالية، ومجرد وظاثف تركيبية إنما المادة تأتي من المعطيات الحسية الغامضة المشتتة الخلطة.
وفي القسم الثافي من كتاب «نقد العقل المحض وهو لا يمثل إلا سدس الكتاب من حيث عدد الصفحات يبحث فيما سماه ب«النظرية المتعالية للمنهج» أوعلم المناهج المتعالي، ويقصد به تحديد الأحوال (أو الشروط) الشكلية لنظام تام للعقل المحض.
أ) الحساسية المتعالية :
الحساسية هي قدرتنا على قبول الامتثالات بفضل الكيفية التي ٢ا نتأثر بالموضوعات. فبواسطة الحساسية تعطي لنا موضوعات، وهي وحدهاالتي تزودنا بالعيانات والحساسية المتعالية هي «علم كل مبادئء الحساسية القبلية».
وثم شكلان محضان للعيان الحسي، هما مبدآن للمعرفة القبلية، وهما: المكان والزمان فما المكان، وما الزمان؟ هل هما موجودان حقيقيان واقعيان؟ هل هما مجرد علاقات بين الأشياء، لكنها علاقات من ذلك النوع الذي بم لا تكفئ عن البقاء بين الأشياء حق لو لم تعاين؟ او هما بحيث لا يتوقفان إلا على شكل العيان، وتبعا لذلك على التركيب الذاتي لعقلنا، الذي بدونه لا يمكن نسبة عذه الصفات إلى أي شي،؟.
للفحص عن ذلك، لنبحث في المكان:
١-إن المكان ليس تصوراً تجريبياً مستمداً من التجارب الخارجية، ذلك أنه لكي نعزو بعض الإحساسات إلى شيء خارجي عيني، ولكي,نمتثل الأشياء بوصفها في الخارج بعضها عن بعض وإلى جوار بعض -أي ليس فقط بوصفها متمايزة، بل وأيضاً بوصفها موضوعة في أماكن مختلفة، يجب أن نضع امتثال المكان على أنه أساس. وعلى هذا فإن امتثال المكان لا يمكن أن يستمد بالتجربة من العلاقات بين الظواهر الخارجية، بل إن التجربة الخارجية نفسها ليست مكنة إلا بواسطة هذا الامتثال.
٢- المكان متثال ضروري قبلي يقوم اساساً لكل العيانات الخارجية، فلا يمكن ابداً تصور عدم وجود مكان
٣) وعلى هذه الضرورة القبلية يقوم اليقين الضروري لكل المبادىء الهندسية، وإمكان تركيبها القبلي.
٤) المكان ليس مدركاً تصورياً منطقي، اعني تصوراً كليا للعلاقة بين الأشياءم بوجه عام، بل هو عيان معض .
٥) المكان يمتثل على أنه مقدار لا متناه.
وكنت يسمي ما ذكرناه حتى الآن العرض الميتافيزيقي لفكرة المكان. لكن إلى جانبه يوجد العرض المتعالي لتصور المكان. «وأقصل هكذا يقول كنتد بالعرض المتعالي : تفسير اي تصور منظوراً إليه على أنه مبداً قادر على تفسير امكان معارف أخرى تركيبية قبلية» . ولهذا نتائج هي :
ا) أولاً أن المكان لا يمثل خاصية للاشياء في ذاتها.
ب) وثانياً أن المكان ليس إلآشكل كل ظواهر الحواس الخارجية، أعني الشرط الذاتي للحساسية الذي به يمكن وجود عيان خارجي. ولهذا نحن لا نستطيع التحدث عن المكان، والوجود الممتد الخ إلا من وجهة نظر الانسان .
وبالمثل ينقسم عرض فكرة الزمان إلى نوعين: ميتافيزيقي، ومتعال:
في العرض الميتافيزيقي يتبين لنا أن:
١ ) الزمان ليس تصوراً تجريبياً مستمداً من تجربة ما .
٢) والزمان امتثال ضروري يقوم بدور الأساس لكل العيانات. والظواهر لا تذرك بدون تصور زمان، لكن الزمان يتصور بدون ظواهر. ولهذا فإن الزمان معطى قبلي، وفيه وحدم يكون مكناً كل واقع للظواهر. ويمكن ان تزول الظواهر كلها، لكن الزمان نفسه (بوصفه شرطاً عاماً لامكانها) لا يمكن ان يزول.
٣) وعلى هذه الضرورة القبلية يقوم إمكان المبادى ء الضرورية اليقينية الخاصة بعلاقات الزمان أو بعلاقات بديهيات الزمان بوجه عام ٠ وليس للزمان غير بعد واحد: فالأزمنة المختلفة ليست معاً، بل متوالية، بينما الأمكنة المختلفة ليست متوالية، بل معاً .
٤) الزمان ليس مدركا تصورياً منطقياً، بل هو شكل حض من العيان الحسي .
٥) ولا نهائية الزمان لاتعنيشيثاً أكثر من ان كل مقدار معين من الزمان لا يكون مكنا إلا بتحديدات في الزمان الوحيد الذي يستخدم اساساً له .
ومن العرض المتعالي للزمان يتبين :
١- ان الزمان ليس شيثاً موجوداً في ذاته.
٢- أن الزمان ليس نيئاً آخر غير شكل الحس الباطن، أعني شكل عياننا لأنفسنا ولحالنا الباطنة.
٣_ والزمان هو الشرط الشكلي القبلي لكل الظواهر بعامة.
وفي نظرة كنت أن للزمان حقيقة تجريبية، لكن ليس له حقيقة مطلقة : انه ليس إلآ شكل عيانا الباطن والزمان ليس تصوراً تجريبياً ، لأن التجربة نفسها تغترض مقدماً المعية أو التوالي.
والزمان والمكان معاً ما مصدران للمعرفة منبماغتتح قبلياً معارف غختلفة تركيبية.
ب) التحليلات المتعالية
التحليلات هي تقسيم كل معرفتنا القبلية إلى العناصر التي تتألف منها المعرفة المحضة للذهن . وفي هذا ينبغي الانتباه إلى النقط التالية:
١- أن تكون التصورات تصورات محضة وليست ٢-"آن؛تنتب لا ال العيان ياهاسية بل ال القك والذهن؛
٣- أن تكون تصورات أولية متمايزة تماماً عن التصورات المشتقة أو من تلك المؤلفة منها؛
٤- أن تكون لوحتها تامة، وأن تشتمل على كل ميدان الذهن المحض.
والبحث في هذا ينقسم إلى بابين:
١- تحليل التصورات
٢_ تحليل المبادىء .
ويقصد من تحليل التصورات تقسيم قدرة الذهن لتعرف إمكان التصورات القبلية، وذلك بعملية عمادها البحث عنها في الذهن وحده وكأنه موطن ميلادها، وتحليل الاستعمال المحض للذهن، بوجه عام
ولوصرفنا النظر عن مضمون الحكم بوجه عام، ونظرنا فقط في شكل الذهن، فجد ان وظيفة الفكر في هذا الحكم يمكن أن ترجع إلى اربعة أقام، وكل واحد منها يتألف من ثلاث لحظات، على النحو التالي :
٤ ٣ ٢ ١
الجهة: الاضافة: الكيف: الكمم
احتمالى حملي موصب كلي
تقريرتي شرطي متصل سالب جزئي
ضروري شرطي منفصل لا عد ود مفرد
وقد لوحظ أن كنت قد أضاف في بابي الكم والكيف حالة ثالثة لا وجود لها في الواقع، وفسر البعض ذلك بأنه نشا عن أسباب سيمترية، أي للتناظر ين الأبواب الأربعة. ولكن كنت رد على هذا الاعتراض بأن ميز بين الحكم المفرد والحكم الكلي، كط ميز بين الحكم الموجب والحكم اللامحدود وهو لحكم السالب ذو المحمول السالب مثل: النفس ليست ماثة.
ووفقاً لأنواع الأحكام، وضع كنت ثوحة مقولات، أي لوحة تصورات عضة للذهن تنطبق قبلياً على موضوعات العيان بوجه عام. وهاك هذه اللوحة :
٤٣٢١
فيالكم: فيالكيف: في الإضافة: في الجهة:
الوحدة الواقع الجوهر والعرض الإمكان
الكثرة السلب العلة والمعلول الوجود
الشمول التحديد التبادل الضرورة
وتلك هي قاثمة كل التصورات المحضة للتركيب، والقى يحتوي عليها الذهن قبليا، وبفضلها وحدها يكون الذهن عحضاً، لانم بفضلها وحدها يمكنه فهم شيء ما في غختلف العيان، أي أن يفكر في موضوع ما.
وميزة لوحة المقولات عند كنت أنها منظمة بدقة وفقا لمبدأ: فالطرف الأول من كل ثلاث يعبر عن شرط، والثاني عن مشروط، والثالث عن التصور الناشى ء من الجمع بين الشرط والمشروط فمثلا: الوحدة شرط الكثرة، والكثرة مشروطة بالوحدة، والشمول هو الجامع بين لوحدة والكثرة.
وإذا قارنا بين لوحة الأحكام ولوحة المقولات لوجدنا فوراً الرابطة الوثيقة جداًبينهيا، واستنباطالمقولات إما أن يكون ميتافيزيقياً ، وإما أن يكون متعالياً :
١- فالاستنباط الميتافيزيقي للمقولات يقرر أن هذه التصورات ليست مستمدة من التجربة، ولا من الذهن المنطقي، بل مصدرها القبلي هو في قوانين ذهن خاص، وظيفته الخاصة هي إصدار أحكام وجود.
٢- أما الاستنباط المتعالي للمقولات فيجب عليه أن يبين مشروعية هذه التصورات، كما أن العرض المتعالي في الحساسية قد برر القيمة الموضوعية لشكلي الزمان والمكان القبليين.
ولما كانت العيانات الوحيدة الموفورة للذهن هي من
أصل حسي، فإن معرفتنا تبقى محصورة في عالم التجربة. فإذا زالت العيانات، لم تعد المقولات غير اشكال خاوية لا موضوع لها.
ولكي تنطبق المقولات على الظواهر لا بد من وسيط هو الخيال؛ ذلك أن الخيال حسي، لأن الصور التي يزودنا بها هى دائما في المكان والزمان لكن الخيال، من ناحية أخرى، تلقائي، ومنتج، اعني انه يمكنه، قبلياً ووفقاً للمقولات، ان يخلق اسكيمات، هي بمثابة رموز بمكن أن تترتب تحتها العيانات الحسية , فمثلا نحن لا نستطيع التفكير في دائرة دون أن نرسمها في ذهننا، أو أن نفكر في الزمان دون أن نرسم مستقيمأخيال ياً، أو في الكم دون أن نتصوره عدداً. الخ .
وثم من الاسكيمات بقدر ما هنالك من المقولات:
١- فمقولات الكم اسكيمها هو العدد
٢-ومقولات الكيف اسكيمها هو الواقعية في الزمان، الخ
وثم فرعان من موضوعات المعرفة هما: الظواهر، والأشياء-في-ذاتها. أما الظواهر فهي «المظاهر من حيث يفكر فيها على أنها موضوعات تتفق مع وحدة المقولات» . وكل مظهر هو مظهر للعيان الحسي، فإذا افترضنا وجود أشياء ليست مظاهر للعيان الحسي، بل هي مجرد موضوعات للذهن، أو بعبارة أخرى: مجرد معقولات فإنها تسمى «نومينات» أو «معقولات» أو «أشياء-في-ذاتها» . ونحن لا نملك أن نقرر عنها شيئاً، فالنومينا شيء مجهول نفترض وجوده ولا يستطيع العقل النظري أن يحيط بحقيقته.
ج علم الكون العقلي
أ) نقاثض العقل المحض
يسعى العقل إلى بلوغ الوحدة المطلقة لسلسلة الظواهر وهذه الوحدة هي الكون، والأفكار (الصور) التي يكونها العقل في هذا المجال هي أفكار كونية.
ولتحديد هذه الأفكار علينا الاستعانة بلوحة المقولات، لان تصورات العقل ما هي إلآ المقولات ,وقد امتدت حقى المطلق». هنالك نجد أن كل ظاهرة تتعين وفقا لأربع مقولات :
١ ) فمن حيث الكم، تكون الظاهرة مقداراً متداً أو مركباً في الزمان والمكان. لكن كل زمان وكل مكان محدودان : الأول بالزمان السابق، والثاني بالمكان المحيط. وتبعا لذلك فإن العقل وهو يبحث عن السلسلة الكاملة لشروط مقدار معلوم، يرتفع إلى فكرة الشمول المطلق لمجموع كل الظواهر المعطاة، اعني إلى فكرة مقدار العالم في الزمان والمكان
٢) ومن حيث الكيف، كل ظاهرة هي حالة لمادة معينة تشغل حيزاً من المكان، وهي، بالتالي، قابلة للانقسام. والعقل، وهويبحث عن السلسلة الكاملة للشروط، يرتفع، من وجهة النظر هذه، إلى فكرة الانتهاء المطلق من قسمة كل ظاهرة معطاة، أعني إلى فكرة العنصر البسيط.
٣) ومن حيث الإضافة فإن كل ظاهرة معلول. رالعقل يرتفع، من وجهة النظر هذه، إلى فكرة السلسلة الكاملة للعلل، وبالتالي، إلىفكرةعلة اولى.
٤) ومن حيث الجهة، فإن كل ظاهرة تتجلى في رابطة اعتماد متبادل مع سائر الظواهر. والعقل يتصور فكرة
السلسلة الكاملة للموجودات المستقلة، أعني فكرة الموجود الواجب الوجود.
ذلك هونظام الأفكار الكونية. وطالما نظرالعقل إليها على أنها مجرد أفكار مجردة لثمول الثروط، فإن «النقد» لا اعتراض له على ذلك لكن يأتي الوهم الديالكتيكي من اعتبار هذه الأفكار موضوعات قابلة للمعرفة، ومن التحدث عن مقدار العالم او قابليته للقسمة، وعن العلية الحرة أو الموجود الواجب الوجود كما لو كانت ظواهر مذركة بالعيان، والحق أن العقل - إذ ادعى تجاوز حدود التجربة والذهاب وراء سلسلة شروط هذه التجربة- فإنه يتورط في تناقضات لا مخرج له منها؛ ويلد نقائض Antinomien لا يملك حلها، فيقع بالضرورة في الشك، إذا لم يبادر «النقدا فيوضح معنى حدي النقيضة وقيمتهما
وقد ساق كنت اربعاً من هذه النقائض، هاك خلاصتها:
التقيفة
الموضوع
للعالم بداية في الزمان وحد في المكان
لأنه لو لم يكن للعالم بداية في الزمان فلا بد من الإقرار بأن اللحظة الحاضرة قد سبقتها سلسلة لا متناهية من الظواهر قدرتمت الآن. لكن من التناقض أن تنتهي سلسلة لا متناهية في لحظة معلومة.-
وكذلك، إذا كان المكان لا متناهياً، فإنم لما كان المكان ليس إلآ التركيب المتتالي لأجزائه، فلا بد من زمان لا متنام لانجاز هذا التركيب، وحينئذ نقع من جديد في نفس الصعوبة التي لقيناها بالنسبة إلى الزمان اللامتناهي.
التفي
الموضوع
كل جوهر مركب هو مركب من أجزاء بيطة ولا يوجد شيء ليس بسيطاً أو مركباً من أجزاء بيطة
الأولى
نقيض الموضوع
ليس للعالم بداية في الزمان ولاحد في المكان؛ إنه لا متناه في الزمان وفي المكان على السواء .
لأننا لو سلمنا بأنم كان للعالم بداية، فلا بد من التسليم بزمان خاو قبل ظهوره؛ لكن في الزمان الخاوي لا يمكن أن يولد شيء، لانه لا جزء من هذا الزمان محتوي أولى من غيرم على سبب يعين وجوده وفي العالم أشياء تبدا، لكن العالم نفسه لا يمكن أن تكون له بداية
وبالمثل، فإن عالماً متناهياً في المكان سيكون محدوداً بمكان خاو، أعني بعدم محض، لأن المكان خارج الظواهر لي بشيء إن في المكان حدوداً، لكن المكان نفسه لا عحدود.
الثانية
نقيض الموضوع
لا مركب هو مؤلف من أجزاء بيطة، ولا يوجد شيء بسيط في العالم
ذلك أن التركيب معناه علاقة عرضية وعرض يطرأ على الجواهر التي يمكنها أن تبقى إذا فصلناها ولهذا يمكننا إذن ان نقضي- في الذهن- على كل تركيب فلنفترض الآن أن الجواهر المركبة ليست مؤلفة من أجزاء بسيطة، وذلك بأن نقضي- في الذهن- على كل تركيب؛ فهنالك لن يبقى شيء فالجوهر المركب يزول إذن إذا لم نسلم بأن للتركيب الموجود فيه حدا، وأنه مؤلف من أجزاء بسيطة. ولما كان كل ما ليس بسيطاً فهو مركب، فيجب التسليم بأن كل شيء في الطبيعة إما يسيط وإما مركب من بسانط .
كل جوهر يوجد بالضرورة في المكان، وكذلك كل جزء من أجزائه؛ وهذه الأجزاء قابلة للقسمة بالضرورة مثل المكان الذي هي تشغله؛ فهي إذن ليست بسيطة , أما أن نميز مع ليبنتس- بين النقطة الفزيائية والنقطة الرياضية التي ليست إلا حد المكان فهذا تحايل يبين النقد عدم جدواه. لأن النقطة الفزيائية إذا كانت واقعية حقيقية، فيجب أن تخضع- شأنها شان كل حقيقة قابلة للإدراك للشرط المشترك بين كل الظواهر وهو أن تذرك في عيان المكان.
النقيضة الثالثة
الموضوع
العلية المطابقة لقوانين الطبيعة ليست الوحيدة التي يمكن أن تشتت منها كل ظواهر العالم . ولا بد من اتليم بعلية حرة من أجل تفيرها.
لنفرض أن كل ما في العالم يحدث وفقاً لقوانين ضرورية، فإنه ينتج عن هذا أن الظاهرة لا يمكن أن تعد معينة تعينا تاماً، لأن شرطها السابق يفترض شرطاً أسبق، وهكذا إلى غير غهاية , فلا نصل إذن إلى تعين تام يقتضيه القانون الطيعي. ولا بد إذن، من اجل انطباق هذا القانون، ان تكون سلسلة العلل تامة، منتهية، وأن يبدأ بعلة ليست في حاجة إلى أي تعيين سابق، أي علة حرة.
نقيض الموضوع
لا حرية، وكل ما يحدث في العالم يجدث فقط وفقاً لقوانين طبيعية .
لنفرض أن ثم علية حرة قادرة على أن تبدأ بنفها سلسلة من الافعال المشتقة؛ إننا بهذا نذجل عدم الإحكام في الطبيعة، ونحطم وحدة التجربة التي تقتضي أن تترابط كل الظواهر فيما بينها، دون أية ثغرة، بعلاقة المقدمات والتوالي فيجب إذن الاقتصار على الضرورة الطبيعية واستبعاد الحرية، التي تدخل الاضطراب في العالم وفي المعرفة.
النقيضة الرابعة
الموضوع
يوجد في العالم موجود واجب الوجود، هو إما جزء منه أوعلة له
لوم يكن في العالم شيء ضروري أبداً، لما أمكن تفير التغير نفسه، لأن كل تغير هو الناتج الضروري لبعض الشروط ويفترض إذن سلسلة كاملة من الثروط حقى اللامشروط المطلق الذي هو وحده الضروري (الواجب). وهذا الموجود الضروري (الواجب الوجود) يجب إذن أن يكون في العالم، وإلا لم يتطع ان يعين الممكن الذي لا معنى له إلآ بالنسبة إليه.
نقيض الموضوع
لا يوجد موجود واجب الوجود لا في العالم، ولا خارج العالم، يكون علة لهذا العالم.
لو كان في العالم موجود واجب الوجود هو جزء منه، فإنه سيكسر سلسلة الظواهر المحكمة التعين؛ ولو كانت السلسلة كلها هى الموجود الواجب الوجود، فلا يمكن أن نتصور أن مجموعاً من الأجزاء الممكنة هوواجب (ضروري)؛ ولو كان الواجب الوجود خارج العالم، فإنه مقى بدا هذا الموجود في الفعل، فإنه يقبل في ذاته بداية، فهو إذن في الزمان، في العالم، وهذا يضاد الفرض
ملاحظات على هذه النقائض:
١- الموضوعات تبحث عن حد أولي لا مشروط: تتوقف عليه سلسلة تامة من الشروط؛ أما نقائض الموضوعات فتعتبر أن سلسلة الشروط هى التى تكون شمولاً لا مشروطاً؛ وفي الحالة الأولى يكون العالم متناهياً، وفي الثانية لا متناهياً.
٢- •في النقيضتين الأولى والثانيق وتسميان رياضيتين الموضوعات ونقائضها باطلة كلتاهما؛ لكن القضيتين المتناقضتين لايمكن ان تكونا باطلتين عاً، إلا إذا كان التصور الذي تقومان عليه هو نفسه متناقضاً . وغلطهما المشترك هو في اعتبار العالم والمادة أشياء في ذاتها، بينا هما ليسا موضوعين للمعرفة الآ بقدر ما نؤلفهيا تبعاً لعياننا، فهما من عمل الفكر الذي يحسب نفسه هو المعرفة، ومن عمل العقل الذي يتكلم فييا لاحت للكلام فيه إلآ للذهن. والوهم الديالكتيكي ها هنا يقوم في اعتبار مقتضيات العقل تحديدات موضوعية للحقيقة الواقعية في ذاتها.
وفي النقيضتين الثالثة والرابعة، الموضوعات ونقائضها صحيحة كلتاهما. فالموضوعات صحيحة من وجهة نظر العقل، في ميدان المعقول، ونقائض الموضوعات صحيحة من وجهة نظر الذهن، في ميدان التجربة
ذلك أنه في عالم الظواهر كل علة تقتضي علة إلى غير نهاية. لكننا إذا نظرنا إليها على أنها أشياء في ذاتها، فليس ثم تناقض في الإقرار بعلة حرة وموجود واجب الوجود وهذ التمييز بالغ الأهمية بالنسبة إلى تصور كنت للحرية»( ) .
فمثلاً في النقيضة الثالثة نجد تصورين للعالم احدهما يقرر أن كل شيء معين بدقة، والآخر يقول بوجود علل حرة. والتصور الأول هو تصور الذهن : ففي الطبيعة كل علة هي معلول والتصور الثاني هو تصور العقل، إذ العقل يقتضي أن الإنسان- على الأقل حر، لأنه يعامل على أنه مسؤول عن أفعاله فنحن هنا بإزاء مستويين: مستوى الظواهر (ميدان الطبيعة) حيث يترابط كل شيء وفقا لجبرية محكمة، ومستوى الأشياء في ذاتها (ميدان الحرية) الذي يمكن ان نتصور فيه علية حرة.
G. Pascal: Pour Connaître la Pensée de Kant, pp. 96- 97. Paris, ، (١) Bordas, 1971.
فحل هذه النقيضة يقوم في القول بأن الموضوع صحيح بالنسبة إلى العقل، وبأن نقيض الموضوع صحيح بالنسبة إلى الذهن فافعالنا، من حيث تتجلى في عالم الظواهر، تتعين وفقاً لقوانين هذا العالم؛ لكنها حرة بالقدر الذي به تصدر عن أنا هو خارج نطاق عالم الظواهر. وبهذا الحل نوفق بين الجبرية الفزيائية وبين الحرية الإنسانية. وهو يقوم إذن على التمييز الجوهري بين الظواهر وبين الأشياء في ذاتها
وبهذا يميز كنت في الإنسان بين طابع تجريبي وطابع معقول. فبطابعنا التجريبي نحن نتسب إلى الطبيعة، وأفعالنا خاضعة لقانون الجبرية الكلية، وبطابعنا المعقول، نحن نفلت من عالم الظواهر ونكون أحراراً٠ وينبغي علينا ان نحكم عل أفعالنا لا بالنسبة إلى الضرورة، بل بالنبة إلى الحرية. وهكذا نجد أن الحرية الإنسانية لا تتعارض مع الجبرية الطبيعية، إذا أقررنا بالمثالية المتعالية، أي بالتمييز ين الظواهر وبين الأشياء في ذاتها «ولوكانت الظواهر أشياء في ذاتها، لضاعت الحرية إلى غير رجعة» («نقد العقل المحض»، ترجمة فرنسية ص ٣٩٦).
لكن سيكون هناك تناقض بين الطبيعة والحرية إذا استسلمنا للظاهر الديالكتيكي لعلم الكون العقلي واعتبرنا أفكار العقل تعينات واقعية للأشياء في ذاتها
٣- البراهين على الموضوعات ونقائضها كلها غير مباشرة، أي انها لا تفرض نفسها إلآ بفضل استحالة نقائضها, فإننا إذا سلمنا بأن الموضوع ونقيضه يؤلفان انفصالاً عكما، أي قضية شرطية مانعة جمع وخلو معاً، فإن استحالة أحد الحدين يفرض ضرورة الحد الآخر. ولما كان هذا المسلك يفلح فيكلا الجانبين على التبادل، فإن من يتكلم أخيراً هو الذي يكون على حق كما لاحظ كارل يسبرز(١).
٤- والنقاثض تظهر حينما يتجاوز فكرنا المعطى الحسي ويتناول ما ليس مغطى، وما ليس موضوعاً إلآ بطريق غير مباشر على أنه شرط للمعطى؛ أو حينبا نجيء بعد ذلك ونضع سلسلة هذم الشروط غير لمعطاة عل أنها تؤلف كلا تاماً، كا لو كانت سلسلة الشروط قد وجدت نهايتها في اللامشروط، وكذلك حينما نجعل من هذا الكل (شمول
Karl Jaspers: Les grands Philosophes, 111, tr fr., P. 76. Paris, 1967. ( ١ )
السلسلة، اللامشروط) موضوعا للذهن مزودا بحقيقة موضوعية . «فهذا التجاوز كما يقول كنتد من جانب الذهن نحو العقل هو الأصل في وجود هذه النقاتض وكنت يميز الذهن، الذي يمكن من المعرفة التجريبية بإعطاء تصورات معينة مضموناً مستمداً من العيان الحسي يميزه من العقل الذي يتجاوز كل مضمون عيافي، ويمضي إلى نتائج تتعلق بشمول السلاسل، وبكل الكون إن الذهن لا يقدم ابداً إلا مضمونات تجريبية جزئية، اما العقل فيريغ إلى الشمول والاستقصاء، والذهن هو القدرة التي للمقولات للانطباق على موضوعات معينة، والعقل هو القدرة التي للأفكار على وضع شمول لا موضوعي، غير معين والعقل يضع- وله الحق فكرة السلسلة التامة تماماً لشروط ما يكون في الواقع نجربتنا العيانية.لكنما يفدم لنا على هذا النحوليس إلا فكرة (صورة)، لا موضوعا. وهو يخطى ء حينا يجعل من العالم موضوعاI إن العالم ليس موضوعا، وكل الموضوعات توجد فيه أما العالم فصورة (فكرة) حقيقية»(١)
وبعبارة أبسط: لا يمكن إدراك تمام السلسلة في التجربة، لا في الواقع ولا في الخيال ولا يمكن إدراك تمام السلسلة إلآ بواسطة العقل، ولكن ذلك لا يعني أن ثم موضوعاً يقابل تقمام السلسلة ٠ ومن هنا يثبت إخفاق العقل في ،ثبات الوجه- الموضهعي لتمام السلسلة
ه_ الموضوعات لها فائدة عملية، وقد قال بها في الغالب الميتافيزيقيون الدوجماتيقيون، إذ هي تتصل بآرائهم في النفس، والحرية، وإثبات الله. أما نقائض الموضوعات فلها فائدة نظرية خصوصاً، وميزتها أنها تبقي العقل في ميدان التجربة، ومن هنا قال مها التجريبيون، لكن ليست لها فائدة عملية .
يقول كنت عن مزايا الموضوعات thèses بالنبة إلى أصحاب النزعة الدوجماتيقية :
«في المقام الاول هناك فائدة عملية، يسعى إليها طواعية كل إنسان عاقل يفهم مصلحته الحقيقية ٠ فإن للعالم بداية، وأن ذاتي المفك ة ذات طبيعة بسيطة وبالتالي غير فاسدة (خالدة)، وأنها في الوقت نفسه حرة في أفعاها الإرادية وفوق
(١) الكتامه،ص٧٨
قسر الطبيعة، وأن النظام الكلي للأشياء التي تؤلف العالم مستمد من موجود أول يستمد منه كل شيء وحدته وإرتباطه من أجل غايات، -تلك أركان أساسية للأخلاق والدين أما نقائض الموضوعات فتنتزع أو في القليل يلوح أنها تنتزع منا كل هذه الأسانيد
وفي المقام الثاني، ثم أيضاً فائدة نظرية للعقل ذلك أننا بالاقرار بالأفكار المتعالية وباستخدامها على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نحيط، إحاطة تامة وقبلية، بالسلسلة التامة للشروط، وأن ندرك إشتقاق المشروط، لأننا نبداً من للامشروط؛ وهذا أمر لا تسمح به نقائض الموضوعات، ومن مساوئها أنها لا تستطيع الاجابة عن السؤال الخاص بشروط تركيباتها، الإجابة التي تعفينا من الإستمرار في التساؤ ل إلى غير نهاية. فإنه بحسب النقيضة antithèse يجب أن نصعد من بداية معلومة إلى أخرى أعلى منها، وكل جزء يقود إلى جزء اصغر منه، وكل حادث له علة هي حادث آخر فوفه، وشروط الوجود بوجه عام تستند دائيا ومن جديد على شروط اخرى، دون أن تجد أبدا في شىء موجود بذاته، بوصفه الموجود الأول، سنداً لا مشروطاً
وفي لمقام الثالث، ثم ميزة هي الثعبية وهي ليست اقل مزاياه. ذلك أن لإدراك العام لا يجد أي صعوبة في فكرة بداية غيرمشروطة لكل تركيب لأنه أكثر اعتيادا علا النزول إلى النتاثج منه على الصعود إلى المبادئء، وتصورات الموجود لأول (وهو لا يهتم بإمكان وجوده) تبدو له ميسورة وتزوده في نفس الوقت بنقطة ثابتة يربط فيها الخيط الذي يقود خطواته، بينما على العكس لو أنه تصاعد دائما من المشروط إلى الشرط فستكون إحدى فدميه في الهواء، ولن يستطيع أبداً ان يشعر بالارتياح .
وبالنبة إلى أصحاب النزعة التجريبية في تحديد الأفكار الكوسمولوجية، أو من جانب نقيضة الموضوع فإنه .
أولأ لن يجد أية فائدة عملية ناتجة عن مبادىء محضة للعقل، مثل تلك التي تنطوي عليها الأخلاق والدين. والتجريبية يبدو على العكس- أنها تسلب الأخلاق والدين كل قوة وكل تأثير ذلك أنه إذا م يوجد موجود أول متميز من العال، وإذا لم تكن للعالم بداية، وبالتالي إذا لم يكن له خالق، وإذا كانت ارادتنا غير حرة وإذا كانت النفس قابلة للانقسام وفاسدة مثل المادة، فإن الأفكار الأخلاقية ومبادثها تفقد كل قيمة وتنهار مع الأفكار المتعالية التي تؤلف اسنادها النظرية
وفي مقابل ذلك فإن التجريبية تقدم للإهتمام النظري للعقل مزايا شديدة الإغراء، تتجاوز كثيرا تلك المزايا الي يمكن أن يعد بها العالم الدوجماتيقي من الأفكار العقلية . وعنده أن الذهن يجول دانيا في ميدانه الخاص، اعني في ميدان التجارب الممكنة، ويمكنه أن يبحث عن قوانينها ويوسع بفضلها معارفه الوثيقة البينة إلى غير نهاية.
د- اللاهوت النظري
وفي باب اللاهوت النظري ينقد كنت البراهين الئلائة الممكنة لإثبات وجود اله بطريقة عقلية وهي :
البرهان الفزيائي اللاهوتي، والبرهان الكوسمولوجي (الكوني)، والبرعان الوجودي ويتوسع في هذا النقد، وينتهي إلى أن من المستحيل على العقل النظري البرهنة على وجود الله بطريقة عقلية نظرية، لأن العقل الانساني لا يستطيع أن ينتقل من تصور موجود واجب الوجود إلى الوجود الفعلي له، كعا أنه لا يستطيع الانتقال من الوجود الفعلي إلى الموجود الواجب الوجود. وعلة ذلك أنناح إماأن نتصورالله على }نه امتداد للظواهر وفي هذم الحالة يكون مشروطاً ومادياً، ولن يكون الله حقاً؛ وإما أن نتصوره خارج الظواهر، وفي هذه الحالة لا نستطيع ان تحكم هل هو موجود، ويظل بالنسبة إلينا مجرد مثل أعلى.
لكنه إذا كان من المستحيل على العقل النظري البرهنة على وجود ال بطريقة عقلية نظرية، فإن هذا لا يثبت إمكان البرهان على عدم وجوده: فالاستحالة قائمة بالنبة إلى كلتا القضيتين المتناقضتين: إثبات وجود اله عن طريق العقل النظري، وإثبات عدم وجود الم بالعقل النظري .
وهكذا ينتهي •النقد» الكنتي إلى رفض موقف المنكرين لوجود اله، وكذلك رفض موقف الدوجاتيقيين المثبتين لوجود الله بطريق العقل النظري المحض.
ومع ذلك فإن هذا النقد ليس سلبياً كله، ذلك أن له فائدة سلبية مهمة: إنه مراقبة مستمرة لعقلنا، حين يعنى بافكار محضة، هي من أجل هذا لا تسمح باي مقياس آخر غير القاعدة المثالية . فإذا استطعنا من وجهة نظر ما، ربما من وجهة النظر العملية، أن نقرر قيمة للفرض القائل بوجود
موجود أعلى كاف لكل شيء، وهو عقل أعلى - نقررها دون تناقض، فسيكون أمراً بالغ الاهمية جداً ان نحدد هذا التصور بدقة، من جانبه المتعالي، على أنه تصور لموجود واجب الوجود حقيقي كل الحق، وأن نستبعد منه ما هو مضاد للحقيقة العليا وما يتتسب إلى الظاهرة فقط (إلى التشبيه بالإنسان بالمعنى الأوسع لهذا التعبير، وفي نفس الوقت نتخلص من كل التقريرات المضادة، سواء كانت ملحدة أو مؤلهة اومشبهة بالانسان: وهذا أمر من السهل القيام بم في بحث نقدي من هذا النوع». («نقد العقل المحض» ط١ ص ٦٤٠- ٦٤١، ط٢ ص٦٦٨-٦٦٩).
وتلك ستكون النتيجة التي سينتهي إليها «نقد العقل العملي» : إذ سيقرر أن قانون الواجب وهوضروري مطلقا في ميدان العمل، يقتضي بالضرورة القول تهذا الفرض المؤكد لموجود أعلى. وأمام ما يقتضيه العقل العملي يجب على العقل النظريأن يمتثل ومخضع.
الأخلاق
إن الأخلاقيات الكانطية أخلاقيات واجبة ما يعني أن إطلاق الحكم أخلاقي على فعل ما يعتمد على الرجوع إلى قواعد أو مبادئ معينة، وتدور الأخلاقيات الكانطية دوراناً كاملاً في فلك الواجب وليس المشاعر أو الغايات النهائية. تُؤدى جميع الأفعال وفقاً لمبدأ محدد وهي مختلفة على نطاقٍ واسع عن بعضها البعض، وعليه فإنه عملاً بهذا فإنه يُحكم على القيمة الخُلقية لأي فعل.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأخلاق عند كنت.
ولكنت في الأخلاق ثلاثة كتبهي:
١- ٠تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» ،.سنة ١٧٨٥
٢- «نقد العقل العملي»، سنة ١٧٨٨
٣- «ميتافيزيقا الأخلاق، سنة ١٧٩٧
ولنبدأ بشرح معنى ميتافيزيقا الأخلاق. إنه يقصد من الميتافيزيقا ها هنا: المعرفة القبلية بموضوع ما، عن طريق التصورات المحضة. تتميز ميتافيزيقا الأخلاق منميتافيزيقا الطبيعة بكون الأولى تتناول قوانين ما يجب أن يكون، بينما اثانية تتناول قوانين ما هوكائن. وميتافيزيقا الأخلاق لن تستمد إذن قوانين الأخلاق من الطبيعة الإنسانية؛ ولا من عادات الناس وآيينهم، بل من العقل ذاته مباشرة، ولهذا فإنها لن تستعين بعلم النفس ولا بعلم الانسان. ذلك أن معطيات علم النفس هي من الغموض والتشعب والتشتت يحيث لا يمكن أن نستخلص منها قواعد كلية مطلقة وفيها خلط بين المبادىء وبين الأحوال الجزئية، بحيث تتوقف النتائج المستخلصة على الأحوال الفردية والميول والعواطف الخاصة. وآفة المذاهب التي تريغ إلى تفسير الأخلاق بتراكيب النفس الانسانية أو الطبيعة الانسانية، أو بالظروف التي يعيش فيها الانسان هي أنها لا تملك أن تقدم غيرقواعد متفاوتة العموم، ذاتية، بدلأ من ان تقدم قوانين كلية موضوعية للإرادة.
وليس معفى هذا أن كنت لم يحب حساب التجربة والواقع، بل بالعكس تماماً: إنه لما شاهد حال الواقع والتجربة، انتهى إلى أن من المتحيل تأسيس الأخلاق عل الواقع: إذ الواقع مشتت، والأخلاق تريد قوانين ومبادىء موحدة؛ والواقع متغير، والأخلاق تريغ إلى ثابت؛ والواقع نسبي، والأخلاق تهدف إلى ما هو مطلق.
ومن هنا يضع كنت فكرة الانسان بوجه عام، عحل فكرة ملاحظة الأفراد من الناس، ويضع تصور الانسان العاقل محل ملاحظة الطبيعة الانسانية.
ويبدأ كنت القسم الأول من كتاب «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق يذه العبارة الراثعة: «من كل ما يمكن تصوره في العالم، بل وخارج العالم بعامة، ليس ثم ما يمكن أن يعذ خيرا بدون حدود أو قيود، اللهم إلاً الإرادة الخيرة،
ويقصد من هذه العبارة أن الإرادة الخيرة هي وحدها الفي يمكن ان تعد خيراً في ذاته، او خيراً مطلقا أو خيراً غير مشروط وبعبارة أوضح نقول إن الإرادة الخيرة يجب أن تكون خيرة في كل الظروف، ومها كانت الأحوال، فلا تكون خيرة في ظرف، غير خيرة في ظرف آخر، أو خيرة كوسيلة لغاية، وشريرة كوسيلة لغاية أخرى.
لكن حذار أن نخلط بين الارادة الخيرة، وبين مجرد الرغبة في الخيردون اتخاذ الوسائل المتاحة لتحقيقه.
ولتوضيح طبيعة هذه الإرادة الخيرة يستعين كنت بفكرة الواجب. ذلك لأن الإرادة التي تعمل وفقا للواجب هي إرادة خيرة. لكنه لا يقصد من ذلك أن الإرادة الخيرة هي بالضرورة تلك القي تعمل وفقاً للواجب، بل بالعكس، لان الإرادة الخيرة الكاملة لا تعمل ابتغاء أداء الواجب، لأن في فكرة الواجب فكرة ما ينبغي التغلب عليه من الميول والرغبات. إن الإرادة الخيرة الكاملة تعمل من تلقاء نفسها ولنفسها، وتتجلى في الأفعال الخيرة، دون أن تكون في حاجة إلىقدع الميول الطبيعية.
لكن ما هو الواجب؟ وكيف نتعرفه في الأفعال؟ وأي الأفعال خليق بأن ينعت هذا الوصف؟
الواجب هوما يقرر وفقاً لقاعدة، والقاعدة هي المبداً
الذاتي. «كل ما في الطبيعة يعمل وفقا لقوانين. والكائن العاقل (: الانسان) هو وحده الذي لديه القدرة على الفعل وفقاً لفكرة عن القوانين، أي وفقاً لمبادئ، («تأسيس ميتافيزيغا الأخلاق،، مجموع مؤلفات كنتج٤ ص٤١٢). والواجب هو ضرور. انجاز الفعل احتراماً للقانون . لكن ما هو هذا القانون الذي يجب علينا احترامه؟ إن الصفة المميزة الجوهرية لأي قانون هي أنه كلي، أي صادق بالنسبة إلى جميع الأحوال بدون استثتاء . والقانون الأخلاقى ، هو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف اخلاقياً إذا سيطرا لعقل عل كل ميوله.
والتجربة لا تفيد في وضع مبادىم الأخلاق، لأنه من المستحيل أن نعثر في الواقع العملي التجرييي عل فعل أخلاقي صادق. يقول كنت: «من المستحيل تماماً ان نقرر، بالتجربة وببقين كامل، حالة واحدة قام فيها الفعل، المطابق مع ذلك للواجب، على مبادىم أخلاقية فقط وعلى امتثال الواجب» (مجموع مؤلفات كنت طبعة هارتشيتن ج٤ من ٢٥٤- ٢٥٥). ومن هنا فإن ميتافيزيقا الأخلاق تضع قوانين الكائنات العاقلة بعامة، لا قوانين الطبيعة الانسانية.
وينبغى أن يكون القانون الأخلاقى صادقاً ليس فقط بالنسبة إلى الناس، بل وايضاً بالنسبة إلى الكاثنات العاقلة بعامة. «ومثل هذم الميتافيزيقا الأخلاقية، المعزولة تماماً، غير الممزوجة بعلم الانسان، ولا باللاهوت، ولا بالفزياء، ولا بما فوق الفزياء، ولا بالصفات المستسرة (القي يمكن أن تسمى تحت فزيائيةه ليست فقط أساساً لاغفى عنه لكل معرفة نظرية بالواجبات معرفة يقين، بل هي ايضاً أمر مرغوب فيه ذو أهمية قصوى فيها يتعلق بالإنجاز الفعلي لأوامرها. لأن امتثال الواجب والقانون الأخلاتى بعامة، حين يكون هذا الامتثال عضاً غيرمزوج بأية إضافة غريبة لدوافع حتية، لم تأثير عل القلب الانساني عن طريق العقل وحده (الذي يتبين له آنذاك أنه يمكن أن يكون عملياً بنفسه) أقوى جداً من تأثير الدوافع الأخرى كلها القي يمكن أن تثار في مجال التجربة،.
,إن كل التصورات الأخلاقية، علها وأصولها قبلية تماماً في العقل، العقل الإنساني المشترك وفي العقل الإنساني النظري إلى أقصى درجة».
والواجب آمر مطلق، بمعنى أنه لا يرتبط بأية وسيلة، ولا باية غاية، وإنما يربط بين الارادة وبين القانون الكلي مباشرة، لا بأفعال جزئية تؤديها الارادة، وإنما بالقاعدة Maxime الصالحة لأن تكون مبداً للعقل.
والصفة الجوهرية المحددة للآمر المطلق هي أنه كلي.
ويحدد كنت ثلاث قواعد للأخلاق في صورة أوامر مطلقة هي :
القاعدة الأولى: «افعل كما لوكانت قاعدة فعلك يجب ان تقيمها إرادتك قانونا كلياً للطبيعة» («تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» في مجموع مؤلفاته ج-٤ ص٢٦٩)
ويبرهن كنت على صحة هذه القاعدة بأن يسوق أربعة امثلة مرتبة وفقاً لقسمة الواجبات إلى: (١) واجبات نحو الذات؛ (٢) واجبات نحو الغير؛ (٣) واجبات كاملة؛ (٤) واجبات ناقصة.
المثال الأول: انسان تحالفت عليه المحن والآام فكره الحياة فهل يحق له أن ينتحر؟ إن القاعدة التى سيثبتها ستكون هذه: حباً لذاقي، فإني أنتحر، لانني لو استمررت في الحياة للقيت من المصائب أكثر من النعم. فهل يمكن حب الذات، مفهوما على هذا النحو، أن يصيرقانوناً كلياً للطبيعة؟ كلا «لأن الطبيعة القي سيكون قانونها هو تدمير الحياة نفسها، بواسطة نفس الشعور الذي وظيفته الخاصة هي الحث على تنمية الحياة، مثل هذه الطبيعة ستكون متناقضة مع نفسها، ولن تبقى إذن بوصفها طبيعة. وإذن فهذه القاعدة لا يمكن مطلقاً ان تشكل مكانة قانون كلي للطبيعة، وهي بالتالي مضادة للمبداً الأعلى للواجب» , ويعبارة أبسط: من المتحيل أن نتصور ان الطبيعة، التي قانونها هو المحافظة على الحياة وتنميتها، تقرر القضاء على الحياة بسبب ظروف عارضة وانفعالات ذاتية إذا كان حب الذات يقتضي البقاء في قيد الحياة، فكيف يقتضي بعد ذلك، لظروف عارضة، القضاء على الحياة؟!.
المثال الثافي: انسان في ضائقة مالية تدعوه إلى الاقتراض. ولكنه يعلم جيدا أنه لن يستطيع رد المبلغ الذي هو في حاجة إليه، لو أن إنساناً آخر أقرضه إيام: لكنه يعلم ايضاً أنه إن لم يتعهد برد المبلغ فإن احداً لن يقرضه. فإن قرر التصرف وفقاً للقاعدة التالية: حين أفتقر إلى المال، أقترض، وأتعهد برده مع علمي بأنني لن أردم فهل يمكن أن تصير هذه القاعدة، التي أملاها حت الذات أو المنفعة الشخصية،
قانوناً كلياً للطبيعة؟ كلا، فالتناقض فيها واضح «لأن كلية القانون، التي وفقاً لها كل إنسان شاعر بالحاجة إلى المال يمكنه أن يتعهد بأي شيء مع العزم المصمم على عدم رده، ستجعل الوعود (التعهدات) نفسها مستحيلة، هى والغرض الذي يريد المرء تحقيقه ٢ا لأنه لن يعتقد إنسان فيما يوعد به، وسيسخر كل الناس منمثل هذه الاقرارات بوصفها إيهامات لا جدوى وراءها» («تأسيس.. .»ج٤ص ٢٧٠)
المثال الثالث : شخص أوتي قريحة لو انها هذبت وثقفت لاصبح رجلاً مفيداً من عدة نواح. لكنه في حال ميسورة، ويفضل ان يستسلم للذات بدلاً من ان يجهد نفسه في تنمية مواهبه واستعداداته الطبيعية، وهي قاعدة تتمثى مع ميله إلى الاستمتاع، تتفق مع ما يسمى باسم الواجب. وسيتبين له أن طبيعة تسلك وفقاًلمذا القانون الكل يمكنها داثا أن تعيش وتبقى، بين يدع المر« قريجته تصدا، ولا يفكر إلآ في توجيم حياته نحو البطالة، واللذة، وتكثير النوع، وبالجملة؟ نحو الاستمتاع، لكنه لا يمكن مطلقاً ان يريد ان يكونهذاقانوناً كلياً للطبيعة، أو ان ينغرس فينا هذا بغريزة طبيعية. ذلك لأنه، بوصفه كائناً عاقلا، يريد لا محالة أن تنمى كل المكانات الموجودة فيه لأنها مفيدة له ولأنه منحها لأنواع عديدة من الغايات.
المثال الرابع: انسان تسير اموره على ما يرام، لكنه يشاهد بعض الآخرين في ازمة، ويمكنه أن يعينهم، لكنه يقول لنفسه: ماذا يهمني من هذا؟ ليكن كل إنسان سعيداً بقدر ما ترضى السماء، اوبقدر ما يستطيع هومجهوده الخاص، وأنا لن اسلبه شيثاً مما يملك، بل ولن أحسده، لكنني لا أشعر برغبة في الإسهام بأي شيء في تحسين حالم او السعي لمعونته عند الحاجة. فإن صارت وجهة النظر هذه قانوناً كلياً للطبيعة، فلربما بقي النوع الإنساني في قيد الحياة، وفي احوال أفضل مالوكانعلى لسانكل انسان كلمات العطف والإحسان، وأظهر الحرص على ممارسة هذه الفضائل في المناسبات، لكنه يخدع كلما استطاع لى الخداعسبيلا، ويتاجر بحقوق الناس أو ينتهكها من نواح أخرى «لكن، على الرغم من ان من الممكن تماماً أن يبقى قانون كلي طبيعي موافق لهذه القاعدة، فإن من المستحيل مع ذلك أن يريد أن يكون مثل هذا المبدا صادقا صدقاً كلياً بوصفه قانون الطبيعة، لأن الإرادة التي تتخذ هذا الموقف تناقض نفسها بنفسها، إذ يمكن أن يحدث أن توجد أحوال كثيرة يكون فيها هذا الإنسان بحاجة إلى الحب والعطف عليه من الآخرين، لكنه سيخرم نفسه بنفسه من كل أمل في الظفر بالمساعدة التي يرجوها، بواسطة هذا القانون للطبيعة الصادر عن إرادته هوء (الكتاب نفه) .
المبدأ الثافي: افعل بحيث تعامل الإنسانية، في شخصك وفي شخص سواك، دائما وفي نفس الوقت، عل أنها غاية، وليس أبداً عل أنها مجرد وسيلة»
ويطبق كنت هذا المبدأ أو الآمر العملي المطلق على نفس الأمثلة الأربعة التي سبق أن ذكرها وأوردناها منذ قليلم فييا يتعلق بالمبدأ لأول، على النحو التالي:
المثال الأول: الانتحار: فبالنسبة إلىمن يفكر في الانتحار، فإنه يتساءل: هل فعله هذا يمكن أن يتفق مع فكرة الانسانية بوصفها غاية في ذاتها؟ وهنا يجد أنه، كيا يتخلص ما يلقاه في الحياة من آلام وعذاب، سيتخدم نفسه الانسانية وسيلة للتخلص من الآلام. وهذا يخالف المبدأ المذكور، لأنه يقول إنه لا يجوز للمرء أن يعامل الانسانية في شخصه أو في شخص سواه على أنها وسيلة. ولهذا لا يجوز له أن ينتحر.
المثال الثافي : التعهد بسداد الدين : إننا حين نأخذ المال من الآخرين متعهدين كذباً بسداده، فمن الواضح أننا نستخدمهم وسائل، لا غايات. وهذا الإهدار لمبدأ الإنسانية لدى الآخرين يتضح أكثر حين نفحص الأمثلة على الاعتداء على حرية الآخرين أو أملاكهم.
المثال الثالث: تثقيف المواهب الذاتية: ولا يكفي فقط أن يناقض الفعل الانسانية في شخصنا بوصفها غاية في ذاتها، بل يجب ايضاً ان يكون عل وفاق مع الانسانية في شخصنا , وفي الإنسانية استعدادات لمزيد من الكمال تؤلف جزءاً من غاية الطبيعة تجاه الانسانية في الشخص الذي هو نحن وإهمال هذه الاستعدادات ربما يتفق مع المحافظة على الإنسانية بما هي غاية في ذاتها، لكنه لا يتفق مع إكمال هذه الغاية.
المثال الرابع : الواجبات نحو الغير: إن الغاية الطبيعية عند كل الناس هي سعادتهم . صحيح أن الإنسانية يمكن أن تبقى إذا لم يسهم احد في سعادة الآخرين، في الوقت الذي يمتنع فيه من إيذائهم عن فصد وإصرار، لكن هذا ليس إلأ وفاقاسلبيا، ا إيجابيا، مع الإنسانية بما هي غاية في ذاتها، إن لم يحاول المرء ايضاً أن يساعد، قدر ما بستطيع، في تحقيق
غايات الآخرين.
لكن القانون الأخلاقي ليس شيثاً مفروضاً على الإرادة من خارجها، بل القانون الأخلاقي منبثق من الإرادة نفسها، وهذا هو ما يبرر ضرورة إطاعته . وهذه الاطاعة هي إذن حرية، وليست قسرا.
وهذا المبدأ يسميه كنت باسم مبدأ التشريع الذاتي
٠ Autonomie للارادة
وهذا يقود إلى الكلام عن الحرية. إن الحرية يمكن أن تعرف سلبياً بأنها خاصية الإرادة في الكائتات العاقلة لأن تفعل معقلة عن العلل الأجنبية، أو بعبارة أوجز: الحرية هي الصفة التي تتصف بها الإرادة العاقلة في قدرتها على الفعل دون تأثيرمن الأسباب الأجنبية عنها. فبينما الضرورة الطبيعية ترغم الكائن غير العاقل على الخضوع لفعل الأسباب الخارجية، نجد أن حرية الكاثن العاقل تمكنه من أن يفعل مستقلا عن هذه الأسباب الخارجية.
ويمكن تعريف الحرية ايجابياً عل النحو التالي: الحرية هي تشريع الإرادة لنفسها بنفسها.
فإذا انتقلنا من «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق إلى «نقد العقل العملي» وجدنا أن الأفكار الأساسية في الكتابين واحدة، ولكن طريقة تناوله لهذه الأفكار تختلف بين الكتاب الواحد والآخر ذلك أن كنت قصد ب«نقد العقل العملي» أن يكون نظيرا ل« نقد العقل المحض» : هذا في ميدان المعرفة النظرية، وذاك في ميدان المعرفة العملية.
ولهذا سنجتزىء هاهنا بذكر باب رئيسي في «نقد العقل العملي ليس له مناظر دقيق في «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»، الا وهومصادرات العقل العملي.
هذه المصادرات اثنتان، وقد تضاف إليها ثالثة غير محددة بالدقة.
أما المصادرة الأولى فهي خلود النفس.
المصادرة الأولى
والمصادرة الأولى من مصادرات العقل العملي هي خلود النفس.
والداعي إلى وضعها هو أن اتحقيق الخير الأسمى في العالم هو الموضوع الضروري للارادة التي يمكن أن تتعين بالقانون الأخلاقي. لكن في هذه الارادة التوافق التام بين النوايا وبين القانون ا لأخلاقى هو ا لشرط الأعلى للخير الأسمى. فيجب أن يكون مكناً هو وموضوعه، لأنه متضمن في نظام تحقيق هذا الموضوع. لكن التوافق التام للإرادة مع القانون الأخلاقي هو القداسة، وهي كمال لا يقدرعلى بلوغه أي كاثن عاقل في العالم المحسوس،في أية لحظة من لحظات وجوده. بيد أنه لما كان أمراً ضرورياً من الناحية العملية، فإنه لا يمكن بلوغه إلآ في تقدم يستمر إلى غير باية نحو هذا التوافن التام، ووفقاً لبادىم العقل المحض العملي، ولهذا من الضروري أن نقر بوجود تقدم عملي مثل هذا بوصفه موضوعاً حقيقياً لإرادتنا ,
ومثل هذا التقدم اللامتناهي لا يكون مكناً إلآ بافتراض وجود وشخصية للكائن العاقل باقيين أبدا إلى غير ضهاية (وهذا ما يمى: خلود النف). وإذن فإن الخير لأسمى ليس مكناً عملياً إلآ بافتراض خلود النفس؛ وتبعاً لذلك فإن خلود النفس بوصفه لا ينفصل عن القانون لأخلاقي، هو مصادرة للعقل المحض العملي»(١).
وهذه المصادرة، ومفادها أننا لا نستطيع بلوغ التوافق الكامل مع القانون الأخلاقي إلآ بتقدم يستمر إلى غيرنهايق ذات فائدة جلى، ليس فقط من أجل تلافي عجز العقل النظري، بل وأيضاً بالنسبة إلى الدين. وبدون هذه المصادرة، فإننا سنكون بين إحدى خصلتين: فإما أن يكون القانون الاخلاقي خلواً من قداسته، وإما أن نكون مبالغين حين نغالي في دوره وفي الأمل في الوصول إلى مصير غير ممكن الوصول إليه، أي الامتلاك المرجو والكامل لقداسة الإرادة. وبالنبة إلى الكائن العاقل، ولكنه فان، لاشيء يمكن غير التقدم إلى غير نهاية من الدرجات الدنيا إلى الدرجات العليا في سلم الكمال الأخلاقي.
لهذا لا أمل للكاثن العاقل الفاني في بلوغ الكمال الأخلاقي في هذه الدنيا؛ وإنما يمكن أن يتحقق ذلك في لا نهاية وجوده، وهي امر لا يحيط به إلآ اللم .
المصادرة الثانية
وهذه المصادرة الأولى، خلود النفس، يجب أن تجر أيضاً إلى مصادرة ثانية هي وجود الهم . الذي به يتحقق الاتفاق بين الفضيلة والسعادة.
ذلك ان السعادة هي حال لكاثن عاقل تجري له كل أموره كيا يشتهي ويريد؛ فهي إذن تقوم على الاتفاق بين الطبيعة وبين الغاية التي يسعى إليها، وأيضا الاتفاق بينهيا وبين المبداً الجوهري لتعيين الإرادة والقانون الأخلاقي، بوصفه قانوناً للحرية، يأمر بواسطته مبادىم معينة ينبغي أن تكون مستقلة تماماً عن الطبيعة وعن اتفاق الطبيعة مع رغباتنا. «لكن الكاثن العاقل، الذي يفعل في العالم، ليس مع ذلك في نفس الوقت علة العالم والطبيعة. وإذن فلا يوجد في القانون الأخلاقى- أي مبدأ للارتباط الضروري بين الأخلاقية والسعادة الماسبة لها، لدى كائن يؤلف جزءاً من العالم، وبالتالي يعتمد على العالم، ومن أجل هذا لا يمكنه بإرادته أن يكون علة لتلك الطبيعة. ولا يمكن- بالنسبة إلى سعادته أن يجعل الطبيعة على اتفاق تام مع مبادثه العملية ومع ذلك تبقى المثكلة العملية للعقل المحض، اي في السعي الضروري نحو الخير الأسمى، نصادر على مثل هذا الارتباط بوصفه ضرورياً: إذ علينا أن نسعى لتحقيق الخير الأسمى (الذي يجب أن يكون مكنا) وهكذا نحن نصادر على وجود علة لكل الطبيعة، متميزة من الطبيعة وشاملة لمبداً هذا الارتباط، أي للانسجام الدقيق بين العادة وبين الأخلاقية لكن هذه العلة العليا يجب أن تحتوي على مبدأ اتفاق الطبيعة ليس فقط مع قانون إرادة الكاثنات العاقلة، بل وأيضاً مع امتثال هذا القانون من حيث أن الكائنات العاقلة تجعل منه المبدأ الأعلى لتعين إرادتهم؛ وبالتالي ليس فقط مع الاخلاق من حيث الشكل، بل وأيضاً مع اخلاقيتهم بوصفها مبدأ معيناً، أي مع نيتهم الاخلافية وإذن فالحير الاسمى ليسعكنا في لعالم إلا من حيث إقرارنا بعلة عليا للطبيعة لها علية متفقة مع النية الأخلافية ٠ ولكن الموجود القادر عل الفعل وفقا لامتثال القوانين هو عقل (كائن عاقل) ، وعلية مثل هذا الكائن- وفقا لهذا الامتثال للقوانين- هي إرادته وإذن فالعلة العليا للطبيعة، من حيث أنها يجب أن تفترض بالنسبة إلى الخير الأسمى، هى موجود هو-بالعقل والارادق علة، وتبعاً لذلك هو صانع الطبيعة، أي الله ٠ وإذن فإن المصادرة على إمكان الخير الأسمى المتمت (من أحسن عالم) هي في الوقت نفسه المصادرة على الحقيقة الفعلية لخير أسمى أول، هووجود اله . ولقد كان واجباً علينا أن نحقق الخير الأسمى، وبالتالي ليس فقط حقاً ، بل وايضاً ضرورة
مرتبطة- كحاجة- بالواجب: أن نفترض امكان هذا الخير الاسمى الذي من حيث انه ليس مكناً إلآ بشرط وجود ال يربط ربطا لا انفصام له بين افتراض هذا الوجود وبين الواجب، أعني أنه من الضروري اخلاقياً أن نقر بوجود اله(١).
ويبادر كنت فيؤكد أن هذه الضرورة الأخلاقية ذاتية، اي انها حاجة، وانها ليست موضوعية، أي ليست هي نفسها واجباً، إذ الاقرار بوجود شيء ما ليس واجباً، بل هذا أمر يتعلق بالعقل النظري، فلا يدخل في باب الواجب، إذ الواجب إنما يدخل في ميدان العقل العملي، لأنه من مجال الأخلاق.
كذلك تبه إلى أنه ينبغي ألا نتتج منهذا أنه من الضروري الاقرار بوجود الل كأساس لكل الزام بوجه عام، لان هذا الأساس يقوم على التشريع الذاتي للعقل نفسه. وإنما ما يتعلق ها هنا بالواجب هو فقط العمل من أجل تحقيق الخير الاسمى، وهوامر لا يمكن افتراضه إلا بافتراض وجود عقل أعلى «فالاقرار بوجود هذا العقل الأعلى هو إذن أمر مرتبط بالشعور بواجبنا، وإن كان أمر الاقرار به ينتسب إلى العقل انظري,(’).
وهذا هو السر -هكذا يشرح كنتد في أن المدارس الفلسفية اليونانية لمتصل إلىحل مشكلة الامكان العملي للخير الأسمى : ذلك أنهم اتخذوا من استعمال المرء لحرية إرادته المبداً الكافي والوحيد لهذا الإمكان، دون حاجة إلى وجود الله . وقد كانوا على حق في تقرير مبدا الأخلاق مستقلاً عن هذم المصادرة، استناداً إلى علاقة العقل بالإرادة، وجعل ذلك الشرط العملي الأعلى للخير الأسمى.لكنذلك ليس كل شرط امكان الخير الأسمى. صحيح أن الأبيقوربين قد اتخذوا مبداً باطلا، هو مبدأ السعادة، واستبدلوا بالقانون قاعدة اختيار اعتباطي وفقاً لميل كل فرد؛ لكنهم كانوا مع ذلك
(١) •نقد العقل العملي» ط١ ص ٢٢٥ - ٠٢٢٦ ص ١٣٤- ١٣٥ من اترجة الفرنية.
(٢) «نقد العفل العملي» ط١ ص٢٢٧- ص ١٣٥ من الترجة الفرنبة
منطقيين في سلوكهم حين نزلوا بمستوى خيرهم الأسمى إلى مستوى انحطاط مبدئهم وحين لم يتوقعوا سعادة أكبر من تلك التي تحققها الفطنة الإنسانية (بما في ذلك العفة والاعتدال في الشهوات، وهى سعادة حقيرة وتتفاوت بحسب الظروف، فضلا عما تنطوي عليه قاعدتهم من استثناءات عديدة عليهم أن يقروا بها. أما الرواقيون فقد أحسنوا اختيار مبدئهم العملي الأعلى، وهو الفضيلة، شرطا للخيرالأسمى لكنهم لما تصوروا درجة الفضيلة المطلوبة بحسب قانوغهم على أنها يمكن بلوغها في هذه الحياة، فإغهم بذلك ليس فقط رفعوا السلطة الأخلاقية للإنسان، الذي سموه: الحكيم، فوق كل حدود طبيعته واقروا بشيء يتناقض مع كل المعرفة الإنسانية، بل وايضاً وخصوصاً لم يشاءوا أن يقروا بالعنصر الثاني للخير ا لأسمى، وهو السعادة، كموضوع خاص بملكة الرغبة الإنسانية. لقد جعلوا من حكيمهمنوعاً من الإله، دون اي اعتبار للطبيعة فارضين إيام معرضا، لا خاضعاً، لمصائب الحياة وشرورها، ومتصورينه في نفس الوقت متحررا من الشر وهكذا طرحوا ظهرياً العنصر الثاني في الخير الأسمى، وهو السعادة الشخصية، واضعين إياها في الفعل وفي الرضا عن النفس، وبهذا حصروها في الشعور بالطريقة الأخلاقية للتفكير؛ وهو أمر يفنده صوت الطبيعة فيهم .
وهنا يؤ ول كنت المسيحية تأويلا خاصاً يتفق مع مذهبه هو فيقول إن المسيحية، حقى لو لم ننظر إليها بعد على انها مذهب ديني، ترضي قماماً مطالب العقل العملي ذلك انها تأمر بطهارة الأخلاق، وتعلن في الوقت نفسه أن الانسان لا يمكن ان يصل إلآ إلى الفضيلة، اي إلى التصميم عل الفعل وفقاً للقانون احتراماً له، وتنبه إلى الدوافع النجسة التي يمكن أن تفسد نواياه في كل لحظة. فهي إذن ترى من الضرورية التقدم اللانهائي نحو القداسة، وبهذا تبعث فينا الأمل في استمرارحياتنا الأخلاقية وإذا كانت تعلن أن هذا التقدم يمكن أن يبداً في حياتنا الدنيا هذه، فإنها بذلك تقر بأن السعادة المناظرة لذلك ليست في مقدورنا، ولا يمكن أن نظفر بها إلا في حياة أخرى، نحن نرجوها.
لكناليس في هذا عود إلى الأخلاق اللاهوتية، أي التي تتلقى أوامرها من سلطة خارجية؟ أين إذن التشريع الذاتي الذي جعله كنت جوهر الإرادة الأخلاقية؟ .
ويجيب كنت على هذا الاعتراض بأن «المبدأ المسيحي للأخلاق ليس لاهوتياً: (وبالتالي: تشريعاً خارجيا)، بل هو التشريع الذاتي للعقل المحض العملي بذاته، لأن هذه الأخلاق تجعل من معرفة الله ومن إرادته الأساس، لا لهذه القوانين، بل للامل في بلوغ الخير الأسمى بشروط مراعاة هذه القوانين، لأنها تضع الدافع الحقيقي، الخليق بأن يجعلنا نراعيها، لا في النتائج المشتاقة، بل فقط في تصور الواجب، بوصفه الأمر الوحيد الذي تجعلنا مراعاته الأمينة جديرين بالحصول على هذه النتائج»(١)
وهكذا يؤدي القانون الأخلاقي إلى الدين، وذلك بفضل فكرة الخير الأسمى بوصفه غاية العقل المحض العملي. «أي يؤدي إلى الإقرار بأنكل الواجبات أوامر إلهية، لا كجزاءات، أي أوامر اعتباطية عرضية صادرة عن إرادة اجبية، بل كقوانين جوهرية لكل إرادة حرة في ذاتها، ولو أنها يجب أن تعتبر أوامر لكائن أعلى، لأننا لا نستطيع ان نأمل في الخير الأسمى- الذي يجعله القانون الأخلاقى واجبا علينا كغاية لجهودنا إلأ من إرادة كاملة (مقدسة وخيرة) اخلاقياً وفي نفس الوقت قادرة قدرة مطلقة وتبعا لذلك لا يمكننا ان نأمل في بلوغ ذلك إلا بالاتفاق مع هذه الإرادة. وهكذا يبقى كل شيء ها هنا نزيهاً ومؤسسافقط على الواجب، دون ان يستطيع الخوف أو الرجاء، كدافعين، أن يؤخذا كمبادى، لأنهما إذا صارا مبدئين، دمرا كل القيمة الأخلاقية للأفعال، ان القانون الأخلاقي يأمر بفعل الخير الأسمى الممكن في العالم الغاية النهائية لكل سلوكي. لكنني لا أستطيع الأمل في تحقيقه اا باتفاق إرادتي مع إرادة صانع للعالم قدوس وخير، وعلى الرغم من ان سعادتي الخاصة متضمنة في تصور الخير الأسمى، تضمن الجزء في الكل حيث السعادة الكبرى تتمثل مرتبطة بنسبة دقيقة مع أعلى درجة للكمال الأخلاقي (الممكن للمخلوقات)، فإنه ليست سعادتي، بل القانون الأخلاقي (الذي قد بثروط قاسية من رغبتي اللامحدودة في السعادة) هو المبداً المعين للإرادة والمخصص للعمل من اجل تحقيق الخير الأسمى -فالأخلاق ليست في حقيقة الأمر إذن المذهب الذي يعلمنا كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا سعداء، بل هي التي تعلمنا كيف يجب علينا أن نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة. وفقط حين ينضاف إليها الدين، يدخل فينا الأمل في أن نشارك ذات يوم في السعادة بالقدر الذي سعينا به اا
نكون غير جديرين بها»(١) ومن هذا يتجلى دور الدين في الأخلاق، إذ إن «الأمل في تحصيل السعادة لا يبدأ إلآ مع الدين»(٢).
Weil die Hoffnung dazu nur mit der Religion allererst anhebt
كذلك يتضح اننا لوتساءلنا ما هي غاية الم من خلق العالم فليس لنا أن نجيب بأنها سعادة الكائنات العاقلة في هذه الدنيا، بل الخير الأسمى، أي أخلاقية هذه الكاثنات، تلك الاخلاقية التي تحتوي وحدها على المقياس الذي وفقاً له يمكنهم أن يأملوا في المشاركة في السعادة، بفضل خالق حكيم ٠ ولهذا فإن الذين جعلوا غاية الخليقة تمجيد الله (على ألا نفهم من ذلك معنى تشبيهياً بالانسان، اي الرغبة في أن يمدح) قد وجدوا التعبير الأصدق، لأنه لا شيء يمجد الله غير ما هو الأجدر بالتقدير في العالم، أعني احترام أوامره، ومراعاة الواجب المقدس الذي تفرضه علينا شريعته، إذا انضاف إلى ذلك تتويج هذه الأوامر الجميلة بعادة تتناسب وإياها.
إما أن الانسان، في ميدان الغايات، هوغاية في ذاته، اي لا ينبغي ابداً ان يستعمله احد (حتى ولا الل) كوسيلة فقط دون ان يكون غاية في ذاته في الوقت نفسه، وإما ان الانانية في شخصنا يجب أن تكون مقدسة عندنا، فهذا كله أمر يقيني بنفسه لا مشاحة فيه، لأن الانسان هو موضوع القانون الأخلاقي، أي موضوع كل ما هو مقدس بذاته، وهذا القانون الأخلاقي يقوم عل اساس استقلال الإرادة بذاتها، بوصفها إرادة حرة ينبغي، وفقاً لقوانينها العامة، أن تكون بالضرورة قادرة على الاتفاق على ما يجب عليها أن تخضع له.
يقول دلبوس: «ليس ثم إذن فساد في روح النزاهة التي يجب أن يتحلى بها الانسان وهو يطيع القانون الأخلاقي؛ وليس ثم في هذا لجوء إلى دوافع أجنبية، مشل الخوف والرجاء، اللذين لو تحولا إلى قاعدتين لقضيا علىكل قيمة أخلاقية للافعال. كل ما هنالك هو الثقة العادلة المقدسة في مجيء ملكوت اله، مجينه وفقاً للقانون الأخلاقي وبفضل ما يقتضيه القانون الأخلاقي. وفي هذه الأمور اقل خلط يمكن أن يؤدي إلى تشويه طهارة الأفكار. فإننا إذا استطعنا أن
(١) «نقد العقل العملي» ط١ ص ٢٣٢• ص ١٣٨ من الترجة الفرنية.
(١) •نقد العقل العملي» ط١ ص٢٣٣. ٢٣٤- ص١٣٨- ١٣٩ من الترجة الفرنية.
(٢) «نقد العقل العملي» ط١ ص ٢٣٥- م ١٤٠ من الترجة الفرنية.
نقول، بمعنى ما إن الخير الأسمى هو المبدأ المحدد للإرادة، فينبغي ]لأ نغفل ابداً عن أنه كذلك بواسطة القانون الأخلاقي المتضمن فيه بوصفه عنصره الأول الذي لا يقبل الرد. كذلك فإن الأخلاق ليست أبداً في ذاتها مذهباً في السعادة، لأنها تفرض واجبات ولا تقدم قواعد للميول النفعية، ثم إنها تكبح جماح تلك الحاجة اللاحدودة إلى السعادة التي تدفعنا؛ لكنها حين تجعل القانون الخاص -٢ا مطلقاً، فإنها تثيرفينا الرغبة في العمل تحت هذا القانون من أجل انتصار الخير الأسمى؛ وحينثذ، لكن حينثذ فقط، ومع التحفظات المشار إليها، تصير مذهباً في ا لسعادق مذهباً لا يقدم علما يقينياً برهان ياً، لكنه يبرر أملا مثروعاً٠
وهكذا وعلى هذا النحوتتم الأخلاق في الدين دون أن تتأسس عليه أبداً؛ وإذا كان عليها ان تتم في الدين فذلك لأن الانسان وهو كاثن عاقل وحساًس معا لا يمكنه أن يحصل وحده بنفسه القدرة على المحافظة إلى غير نهاية على نيته الحسنة ضد القواعد Maximes التى توحى إليه بها حاسيته، ولا خصوصاً القدرة عل ان ئحصل، بانجاز الواجب، عل اشباع متطلبات هذه الحساسية نفسها، وقد صارت هذه المتطلبات حقوقاً ومع ذلك فإن الأخلاق لا تتأسس عل الدين، لأنه في الاستعداد الراسخ للخضوع للقانون يوجد الأصل الباطن للحاجة التى يستجيب لها الدين، ولأنه تبعاً لذلك التقرير الأولي لمذهب ديني من شأنه أن يحل برابطة منطقية خارجية الرابطة العملية الباطنة التي تربط المبدأ الأخلاقي بتوكيد الخلود وتوكيد (وجود) الله»(١).
المصادرة الثالثة
انتهى كنت إذن إلى القول بمصادرتين للعقل العملي همام خلود النفس، ووجود اله
فهل هناك مصادرة ثالثة للعقل العملي؟ هنا إشكال عسير الحل:
فهو في بعض المواضع(’) يقصر مصادرات العقل عل هاتين . لكنه في مواضع أخرى يضيف مصادرة ثالثة تكون :
(١) فكنور دلبوس «فلغة كت العملية» ص ٤٨٤- ٤٨٥، ط٢ باري ٠ة ١٩٢٦
(٢) «نقد العقل العملي» ط١ص٤،ص٥ ، ص٢٢٥٠٢٢٣ -ص٢، ص٣، ص١٣٣-
١٣٤منالترجة الفرنية
إما العالم المعقول أوملكوت الله(١) ، وإما الخيرالأسمى الذي علينا أن نحققه(٢)، وإما الحرية(٣) .
لكن العالم المعقول أو ملكوت الله، كما يلاحظ دلبوس (ص ٤٩٤) لا يعبر إلآ عن إمكان الخير الأسمى، مع التوكيد فقط على ضرورة وفعالية تدخل الله لتأمين ذلك كا٠ أما إمكان الخير الأسمى فإنه فضلاً عن ارتباطه مباشرة بالقانون الأخلاقي بوصفه موضوعاً للإرادة تقوم هذه بتعيينه، فهو لا يستحق أن يعد مصادرء قائمة برأسها ,
أما الحرية فأمرها أجدر بالعناية. فإن كنت يقول صراحة: «هذه المصادرات هى مصادرة الخلود، والحرية منظوراً إليه إجابياً (بوصفها علية الكائن من حيث هوينتسب إلى العالم المعقول) ووجود الله... والمصادرة الثانية (ت الحرية) تصدر عن الانتراض الضروري للاستقلال عن العالم المحسوس وعن ملكة تعيين الإرادة تبعا لقانون عالم معقول، أعني الحرية»(٤)
لكن اعتبار كنت للحرية أنها مصادرة يتعارض مع ما ذكره في قسم التحليلات من «نقد العقل العملي» من أن لحرية هي القانون، وهي يقينية مثل القانون( )
فهل نقول إن كنت بإضافته الحرية مصادرة ثالثة إنما جرى وراء عادته في تصوير الله والحرية والخلود على أنها الموضوعات العليا للميتافيزيقا(٦)؟
لكن هذا لا يكفي لتفسير تراجع كنت بعد أن عد الحرية أمراً يقينياً صار يعدها مجرد مصادرة من مصادرات العقل العملي
لهذا يقترح دلبوس (ص ٤٩٦- ٤٩٧) حلاً لهذه المشكلة أن نفهم الحرية بمعنيين:
(١) الحرية بمعنى أنها والقانون شيء واحد،
(٢) والحرية كما يصادر عليها القانون
(٢) الكتاب نفسه ط ١ ص٢٢٥ ع ص ١٣٤ ترجمة عرنية.
(٣) الكتاب نفسه ط ١ ص ٢٣٨ ء ١٤٢ ترجمة فرنية.
(٤) «نقد العقل العملي» ط١ ص ٢٣٨ ا ص ١٤٢ من الترجمة الفرسية
(٥) الكتاب نمسه ط ١ ص ٤ ٠ ص٢ م الترجمة الفرسبة.
(٦ ) راحع خصوصا: ,نغد العقل المحض، ح٣ من مموع مزلفات كنت نشرة هارتنشتبن
ص٥٢٨
والحرية بهذا المعنى الثاني ليست الملكة التى بها تكون الارادة المحضة مستقلة بذاتها وتشرع تشريعاً كلياً، بل هي حرية الثخص في أن ينجز مهمته الأخلاقية تحت سلطان هذا التشريع، انجازها ضد العقبات التي يمكن أن تجيئه من الهبة.
وتبعا لهذا التفسير هناك إذن حريتان عند كنت: «حرية يبرهن عليها القانون»(١). وهي التي يتحدث عنها في قسم «التحليلات»، وحرية «يصادر عليها القانون»(٢)، ولا يتحدث عنها كنت إلآ في قسم «الديالكتيك» من «نقد العقل العملي،. الأولى هي «شرط القانون الأخلاقي،(٣)، والثانية «هي أحد شروط إمكان الخير الأسمى»(٤) ، أي أحد لشروط التي تمكن من انجاز الموضوع الضروري الذي يأمر به القانون الأخلاقي
وهذان المعنيان ليسا في نفس المستوى: فإن الأولى واتعة من وقائع العقل العملي، أما الثانية فهي مصادرة من مصادرات العقل العملي الأولى سلطة مشرعة لارادة تؤسس القانون الأخلاقي، والثانية سلطة عملية لإرادة قادرة على اتباع هذا القانون» .
لكننا لا نرى في هذا التمييز نوعين من الحرية، بل حرية واحدة لها وظيفتان : أن تشرع لذاتها قانونها الأخلاقي، وأن تطبق هذا التشريع في سلوكها . ولهذا لا نرى عد الواحدة مصادرة، والأخرى واقعة، بل ثم حرية واحدة يصادر عليها العقل العملي لأنه لا يستطيع ان يسلك سلوكاً اخلاقيا إلآ بافتراض وجود هذه الحرية. فالفاعل الأخلاقى لا بد له أن بفترض بأنه حر في أفعاله، بمعنى ان إرادته هي مصدر مبادى، فعله، وأنه قادر على أن يفعل وفقا لحهذه المبادى إن الفاعل الأخلاقي يجب أن يعمل تحت فكرة الحرية . ومن هنا قال كنت بصراحة: «إن إرادة الكائن العاقل لايمكن أن تكون إرادته هو إلا تحت فكرة الحرية»( ٥).
الخصائص المشتركة لهذه المصادرات
وتشترك هذه المصادرات الثلاث في الخصائص التالية:
(١) نفد العقل العملي ط١ص ٨٢ص ٤٧ من الرجمة المرنية
(٢) الكتاب نفها١ص٢٤١-ص١٤٣م اترحة الفرنية.
(٣) الكتاب فط١ مراب ص٢ ترجمة فرنسية
(م :ذت'بهمد الأحلاف, خعغ أكادية بريف ر، ص|ش|
١- أنها تبدأ جميعاً من المبدأ الأساسى للاخلاقية، وهو ليس مصادرة، بل قانون به يعين العقل الإرادة مباشرة.
٢- هذه المصادرات ليست عقائد نظرية، بل فروض من وجهة نظر عملية لا محالة، ولهذا فإنها لا توسع المعرفة النظرية، وإنما تهب أفكار العقل النظري بوجه عام حقيقة موضوعية، وتبررها بوصفها تصورات ما كانت، لولا ذلك، لتجرؤ على افتراض إمكانها ■
٣االمصادرة ايمان محض عملى للعقل. ولهذا تختلف عن الايمان القلبي، لان فيها عنصراً عقلياً، إذ هي صادرة عن حاجة العقل، ومرتبطة بمصلحة مباشرة للأخلاق. وهذا الايمان يتخذ طابعاً شخصياً: «فاانسان الشريف يستطيع ان يقول: أريد أن يوجد اله، وأريد أن يكون وجودي في هذا العالم -خارج تسلسل العلل الطبيعيق وجوداً في عالم معقول محض، واريد أخيراً ان يكون بقائي إلى غيرهاية وأنا اتمسك بهذا بشدة، وتلك معتقدات لا أسمح بانتزاعها مني، لأن هذه هى الحالة الوحيدة التى فيها مصلحى- التى ليس مموحاً لي بالتخلي عنها تعين حكمي حتي)(').
السياسة
أبرز ما لكنت في باب السياسة هو مشروعه للسلام الدائم، الذي عرضه في كتاب صغير ظهر سنة ١٧٩٥ بعنوان: «نحو سلام دائم، عحاولة فلسفية».
وقد صاغ كنت مشروعه هذا على هيثة المعاهدات لدبلوماسية ويتألف من الأقسام التالية:
ا- ست مواد تمهيدية تصوغ الشروط السلبية للسلام :
١- ا يجوز أن تتضمن معاهدة السلام أي بند سري للاحتفاظ بحق استثناف الحرب؛
٢- لا يمكن امتلاك دولة مستقلة عن طريق الميراث، أو التبادل، أو الشراء، أو الهبة؛
٣- الجيوش الدائمة يجب ان تزول نهائياً مع الزمن؛
٤- لا يجوز اقتراض ديون وطنية من أجل مصالح خارجية للدولة؛
ه- لا يجوز لأية دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة
(١) ٠فد العفل العمل ط١ ص ٢٥٨ - ٢٥٩-١٥٣ من الترجمة العرنسية
٦- لا يجوز لدولة، في حرب مع دولة أخرى، أن تقوم بأعمال عدوانية من شأنها ان تجعل من المستحيل عودة الثقة المتبادلة بينهما لدى عودة السلام: مثل الاغتيال، دس السم، خرق امتياز بمنوح، التحريض على الخيانة
وقد اتبع كل مادة من هذه المواد التمهيدية، وكذلك الأساسية، بتعليق.
ب- ثلاث مواد نهائية تصوغ الشروط الايجابية العامة، الداخلية والخارجية الدولية، لفاندة السلام، هي :
١- يجب أن يكون النظام السياسي لكل دولة هو النظام الجمهوري؛
٢- القانون الدولي يجب أن يؤس على اتحاد (فدرالي) بين الدول الحرة؛
٠٣ القانون (الحق) العالمي يجب أن يقتصر على شروط الضيافة العالمية.
ج- ملحق أول: يبحث فيه كنت، من الناحية الفزيائية والمادية الخالصة في الطبيعة بوصفها ضمان السلام .
د ملحق ئان : يدعو فيه إلى إعطاء الفلاسفة الحق في تنوير الدولة والحاكمين فيما يتعلق يالأمور السياسية , وهذا الملحق أضيف إلى الطبعة الثانية التي ظهرت في سنة ١٧٩٦ .
ه- ضميمة تتناول: (١) الخلاف بين الأخلاق والسياسة؛ (٢) الاتفاق بين السياسة والأخلاق وفي كلا الفصلين تأملات عامة في الفلسفة السياسية هي الأساس في هذا الكتاب.
وكان لكنت أسلاف في وضع مشروعات للسلام الدائم، لكن كنت يتميز منهم بالخصاثص التالية:
١- أنه لم يلجأ إلى العبارات المثيرة للإشفاق على الناس من ويلات الحرب، كما فعل كروسه وين Penn والأب دي سان بيير، بل كان كلامه دائيا عقلياً ورزيناً.
٢- أنه لم يتعجل تحقيق اللام العالمي، بل رأى اننا أمام مرحلتين: الأولى هي تنظيم الأمم في هيئة دولية تتولى المحافظة على السلام- وهذا أمر ميسور التحقيق، وقد تحقق فعلا للمرة الأولى في سنة ١٩١٩ بإنشاء عصبة الأمم، وللمرة الثانية في سنة ١٩٤٥ بإنشاء هيئة الأمم المتحدة التي لا تزال قائمة حتى اليوم . والمرحلة الثانية هي : السلام الدائم، وهو
مثل اعلى، اي غاية بعيدة قد لا تتحقف ابداً، لكن يجب على الأمم ان تجعلها دائيا هدفاً هائياً لها: إنه أمل، وليس مجرد سراب، لأن الحرب ليست ضرورة حتمية لا مفر منها I
٠٣ ان مشروعه في السلام الدائم يتسف مع مذهبه كله : سواء في نظرية المعرفة، وفي الأخلاق. ولا يمكن فهمه ابداً بمعزل عن المبادئ التي قررها «نقد العقل المحض،، و« نقد لعقل العملي»، و«تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق»، و«فكرة التاريخ العالمي من وجهة نظر كونية».