إبيقورية

الأبيقورية أو المذهب الأبيقوري (بالإنجليزية: Epicureanism) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق.م ـ 270 ق.م)، الذي أنشأه وقد ساد لستة قرون، وهو مذهب فلسفي مؤداه أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى، والألم هو وحده الشر الأقصى، والمراد باللذة في هذا المذهب ـ بخلاف ما هو شائع ـ هو التحرر من الألم والاهتياج العاطفي. وقد أكد أبيقور أن هذه المتعة، لا تتمّ للمرء من طريق الانغماس في الملذات الحسيّة، بل بممارسة الفضيلة. ويقر اللذة الحسية لأن الإنسان كالحيوان يسعى إلى لذائذه بفطرته، ولكنه حوّل اللذة الحسية إلى مذهب في الزهد، فاللذة عنده تجمع بين الزهد والمنفعة، وقد دعا إلى الحياة السعيدة دون أن تستعبد الإنسان شهوته، وهو بذلك يؤثر اللذات العقلية والروحية في اللذات الجسمية والحسية.

زعماء المدرسة الأبيقورية

لم تعوزنا الأخبار كثيراً عن زعماء المدرسة الأبيقورية، كما لم تعوزنا كذلك الكتب التي خلفها الأبيقوريون، اللهم إلا فيما يتعلق بزعيم هذه المدرسة: فمع أننا نعرف حياته بالدقة، فإن كثيراً مما كتبه فد ضاع، مع أنه هو الذي وضع الفلسفة الأبيقورية كلها، ولم يكد الأتباع يضيفون شيثاً يعتد به إلى ما فعله الرئيس.

أما أبيقور فقد ولد في شامس سنة ٣٤١ - ٣٤٢ ق. م، وترب تربية ذاتية - وهو يفخر بهذا كثيراً، ولو أننا لا نستطيع أن نصدق هذا القول على علاته، ولكنه استطاع على كل حال أن يتثقف بنفسه، ويعرف كثيراً من المذاهب السابقة بالقدر الذي يقضي به منطق فلسفته، والغاية من الفلسفة عنده. ثم انتقل إلى أثينا، وهناك أقام مدرسة في حديقته المشهورة باسم «حديقة أبيقور». وظل يدرس بها حوالى ست وثلاثين سنة وتوفي سنة ٢٧٠ ق.م.

أما أتباعه فليسوا مشهورين، لأنهم جميعا لم يفعلوا شيئا يعتد به في إقامة الفلسفة الأبيقورية. والشخصية التي تستحق الذكر وحدها من بين هؤلاء الأبيقوريين شخصية متأخرة جداً، وهي شخصية الشاعر اللاتيني المشهور لوكرتيوس.

فكر الفلسفة الابيقورية

كانت لإبيقور ومن تبعه من تلاميذه نظرية في الطبيعة، مقتضاها إرجاع كل شيء في عالمنا إلى ذرات، إلا أن اهتمامهم انصرف أساساً إلى الأخلاق. وقالوا فيها إن أساسها اللذة، واللذة هي هدف الإنسان في حياته. واللذة ليست مقصورة على اللذة الجسدية، بل تسمو عليها اللذة العقلية. وليس الأمر بالسعي إلى اللذة الوقتية، بل قد يكون بالعمل على منع الألم. وخير اللذات هي في هدوء البال، وطمأنينة النفس. وهدوء البال بدوره يتحقق بالحد من الرغبات، والحاجات، والبساطة، والاعتدال في العيش وكذلك اعتبر ان كل ما هو خير فيه لذة وكل ما هو شر فيه الم وكذلك فاللذة هي الإدراك الملائم للذات واما الالم فهو الإدراك المنافي لها وكذلك قال فان اللذة البعيدة أفضل من اللذة الانية.

يرتكز فكر أبيقور الاجتماعي والفلسفي على الابتعاد عن الحياة العامة، ولا يقر بالتساوي المركزي بين المجتمعات؛ لأنه يوجب العداء والتباغض. ويرى أن الدين والموت مصدران أساسيانِ للخوف، فنحى بذلك منحىً ماديٍ، ويفترض أن وجودَ الدولة قائمٌ على أساس كفالة الأمن والاستقرار، وللوقوف أمام المفسدين، ويعتقد بأن طبيعة المجتمع البشري قائمةٌ على الأنانية سليقةً، إذ يجري البشرُ وراء مصالحهم الذاتية، فإن حقق بعضهم مكسبًا أفسدته أنانيَّة غيره، فأصبح لا مناص لهم جميعًا من الاتفاق على الامتناع عن إحاقة الأذى ببعضهم بعضًا، إذ ليس ارتكاب الظلم سيئًا في حد ذاته؛ إنما مكابدة عواقبه ومعاناة تبعاته دون أن يجد المظلوم من يدفع عنه المكارهَ هو أسوأ من أي شيء آخر، فكان أنْ تعاهدَ الناسُ على احترام حقوق بعضهم بعضًا؛ اتقاءً لما يصيبهم من تفشي المكائد بينهم. ويقول بعض الفلاسفة - ومنهم جورج اسباين - إن أكثر أجزاء المذهب الأبيقوري جرأةً، وقد شكَّلت هذه المدرسة نقداً لاذعًا لكل صنوف العادات والعقائد الخرافية، مثل: العرافة والتنجيم، وكان ذلك في الحقيقة شرًا كبيرًا وكانت صحيفتها في هذا المجال مشرفة على عكس مدرسة الرواقيين التي كانت دائما على استعداد عظيم لتلمس ظلالي من الحقيقة في عقائد شائعة كان من الجلي عدم صحتها. وإنّ نشأة عدم الدول في نظر الابيقوريين ليست إلاّ لتوفير للإطمئنان وبخاصة عن عدوان الغير فالناس جميعا انانيون ولا يسعون إلاّ إلى مافيهم خيرهم الخاص ولكن هذه الطريقة تجعل خير كل فرد مهددا بأفعال الآخرين الصادرين عن هذه الانانية نفسها.

معنى الفلسفة وتقسيمها

لئن كان الرواقيون قد جعلوا الأخلاق هي الأساس في كل مذهب فلسفي، وجعلوا الجزءين الآخرين من التقسيم الثلاثي التقليدي، خاضعين خضوعاً كبيراً للجزء الأول وهو الأخلاق، فإن ابيقور وأتباعه قد غالوا في هذا الاتجاه إلى أقصى حد؛ فأنكروا على الإنسان حق الاشتغال بالعلم من أجل العلم، لأن العلم من اجل العلم لا يفيد شيئاً إذ لم يكن تحته عمل أو إذا لم يكن مؤدياً إلى السعادة عن طريق العمل والتطبيق. ولهذا نجد أبيقور ينكر على الفيلسوف أن يشتغل بالرياضيات وبالتاريخ وبالموسيقى؛ فهو يقول عن الرياضيات، من ناحية، أنها تستنتج باستمرار من مصادرات كاذبة ومفهومات غير صحيحة؛ كما أنها من ناحية أخرى غير مفيدة إطلاقاً . ويقول عن التاريخ والعلوم العامة: إنهاتملأ الذهن بمعلومات لا فائدة فيها، لأنها لا تؤدي إلى شيء من العمل، . وهذا فيما يتصل بالعلوم بوجه عام، وكذلك الحال أيضاً في الفلسفة بوجه أخص، فماقدخلا من العمل، أو لم يؤد إليه، أو لم يكن مرتباً نحوه، لا فائدة فيه للفيلسوف. فالمنطق بالمعنى التقليدي لا فائدة فيه بالنسبة إلى الأبيقوري لأنه بحث عن نظرية لا تؤدي مطلقاً إلى وضع السلوك الإنساني، بحيث يؤدي إلى السعادة. ولهذافإيم لم يعنوا بالمنطق، وإنما عنوا بشيء آخر قريب من المنطق هو نظرية المعرفة وسموه القانون٧س٧* ، وهو . بحث يتعلق بمصادر المعرفة وكيفية تمييز الصحيح من المعارف والكاذب. أما الطبيعيات فلا فائدة فيها إلا من حيث أنها تعطي الطمأنينة التي ينشدها المرء في سلوكه الأخلاقي بأن تدفع عنه كل هذه الأوهام التي تمتلىء بها حياة الناس، فتفسد هذه الحياة سواء أكانت هذه الأوهام اوهاماً علمية أم أوهاماً دينية، فمهمتها إذن مرتبة نحو العمل. فلم يبق من الفلسفة بالمعى الحقيقي إلا الأخلاق، ومع أن أبيقور قد عنى عناية كبيرة بالطبيعيات، وعى كذلك باللاهوت، فإن ذلك إنما كان من أجل تحصيل هذه الطمأنينة التي ينشدها الأبيقوري . ومع ذلك فمن الخير، ونحن نعرض المذهب الأبيقوري، أن نقسمه إلى الأقسام الثلاثة التقليدية وهي : المنطق - ونقصد به هنا نظرية المعرفة أو القانون كما يسميه الأبيقوريون - ثم الطبيعيات ويدخل تحتها اللاهوت، وأخيراً لأخلاق اليقورية.

القانون أو نظرية المعرفة

إذا كان الرواقيون - مع أنهم جعلوا من الأخلاق مثلاً أعلى أقرب ما يكون إلى السعادة العقلية الخالصة - قد ضطروا مع ذلك إلى جعل الأساس في كل معرفة هو الإحساس، فمن الأحرى أن يكون هؤلاء الذين نظروا إلى السعادة بحسبانها اللذة فحسب، قد نظروا إلى مصدر المعرفة على أنه الاحساس وحده، بل كان عليهم، أن يفرعوا الرواقيين بكثير، فيجعلوا كل معرفة أخرى غير المعرفة الحسية وهماً وبطلاناً، وأن يتوسعوا ما شاؤوا في هذه النظرية الحسية في نظرتهم إلى امعرفة. وهكذا نجد أن الأبيقوريين قد جعلوا المقياس والمصدر في المعرفة الصحيحة هو الإحساس، في باب المعرفة، كما جعلوا المقياس هو اللذة والخلو من الألم، في باب الأخلاق.

يقول أبيقور: إن الأصل في كل معرفة هو الحس، فعن طريقه وحده تتم المعرفة، والحس لا يخطى، وإنما الذي يحدث هو أنه تأتي إلى الحواس عن الشيء الواحد صور متعددة، والناس تختلف في التقاطها لهذه الصور، فهذا يلتقط صورة، وذاك يلتقط اخرى وهكذا. . . مع أن الموضوع واحد باستمرار؛ ومن هنا ينشأ الاختلاف فيما بدر، لناس بعضهم وبعض، فالأصل إذن هو الح دائما، وإنما يأتي الاختلاف من الصور الصادرة إلى الحواس عن الموضوعات. وهنا لا بد أن ينتهي الأبيقوري إلى ما انتهى إليه بروتاغوراس فيقول: إن كل معرفة تتعلق بكل إنان على حدة . ولكن أبيقور يتخلص من هذا اللازم أو النتيجة بأن يقول: إن المعرفة يجب في هذه الحالة أن ينظر إليها على أساس اختلاف مدلولات الحس بالنسبة إلى الموضوعات. ولكن ذلك لا يوضح المشكلة الحقيقية، وهي أنه إذا كانت تأقي لكل إنسان صورة خاصة فلا بد تبعا لهذا أن يختلف الناس بعضهم عن بعض، وتكون كل حقيقة متعلقة بكل على حدة، فان يقال بعد ذلك: إن أصل الاختلاف هو في الخارج لا في الحواس، ليس من شأنه أن ينفى اللازم الأصلي، وهو اختلاف الناس بعضهم مع بعض، مع حق كل أن يؤمن بما قال به حسه،

والواقع أن الخطأ إنما يأقي بعد أن تصل الصور إلى الحواس ، فيحكم الإنسان عليها حينئن بأنها موافقة لحقيقة الموضوع الخارجي أوغيرموافقة، والخطأ هوفي الواقع من الموضوع ذاته لا من الحس المدرك للموضوع، لأن الخطأ مقصود به في هذه الحالة اختلاف الصور الصادرة عن لموضوع الواحد بعضها عن بعض، وإدراك الحواس بعد ذلك لهذه الصور من حيث إنها مختلفة عند كل إنسان عن الآخر. وبعبارة أوضح الخطأ في هذه الحالة ليس في الإحساس من حيث إنه يح، لأنه إنما يحس فقط الصورة الصادرة إليه من الموضوع الخارجي ، وإغما الخطأ نفسه هو في هذه الصورة نفسها، من حيث إنها تتعدد بالنسبة إلى الموضوع الواحد بحسب تعدد الأفراد المدركين لهذا الموضوع.

فيأتي العقل بعد ذلك أو الحكم، فيقه ل: إن الصورة الي أتت إلى حسه هي الصورة المطابقة لحقيقة الموضوع الخارجي، ومن حيث ان الصور قد تعددت وكان الحكم اللازم لكل حر يؤمن أن الصورة التي أدركها حسه هي الصورة الحقيقية المطابقة لحقيقة الموضوع؛ فإنه لا بد من الاختلاف إذن فيما بين الناس بعضهم وبعض. وأما الحس كحس، فلا يمكن أن يخطى ء أبداً وذلك لأنه إذا لم يكن الحس هو الذي لا يخطى، فما الحكم إذن في الخطأ وعدم الخطأ؟ إن قلنا إنه العقل، فلا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً، لأن العقل إنما يحكم تبعأ لدلولات الحس فالأصل هو الإحساس، وبالتالي لا يكون حكما على الأصل، وبهذا يتأيد أن الإحاس هو الأصل في كل معرفة، وأن الاحساس لا يخطىء، وإغما الخطأ ينشأ من اختلاف الصور الصادرة عن الموضوعات الواحدة بعضها مع بعض بحسب إدراكات لأفراد.

فالإدراك الحسي تبعاً لهذا هو لأصل، وبعد ذلك يأقتي تكوين المدركات أو التصورات، والتصور يتم بأن يضم الإنسان مجموعة من الإحساسات أو المدركات الحية بعضها إلى بعض عن طريق التذكر، ثم يكون من الجميع تصوراً واحداً . فكان مصدر التصور في الواقع الذاكرة، وليس التصور شيئاً عالياً على المدركات الحية وإنما خلاصة أو شارة أو مدلول به تجمع الادراكات الحسية ألمختلفة الخاصة بشي ء واحد هو تصوره. وهكذا نجد أن الأصل أيضاً في التصور هو الحس، وبعد التصور أي

باجتماع جملة تصورات بعضها مع بعض يكون الحكم، والحكم يسميه أبيقور باسم الظن أو 50%5 ولا يريد أن يتحدث عن اليقين المطلق، لأن هذه الأشياء لا تحتمل اليقين، كما أنه ليس من المطنوب دائما اليقين. ولئن كان المذهب لا بد أن ينتهي في لواقع إلى القول بالنسبية في المعرفة، وإلى الشك، فإن أبيقورينكرهذا الشك كل الإنكار، ينكره على أساس منطقي من ناحية، وعلى اساس عملي من ناحية أخرى: فهو ينكر من الناحية النظرية على الشكاك قولهم : إنهم يعلمون أنهم لا يعلمون؛ فهذا تناقض في القول يكفي لدحض الأصل. ومن الناحية الأخرى العملية، يلاحظ أبيقور أنه بغير المعرفة أياً كانت درجتها من اليقين، لا يمكن الإنسان مطلقاً أن يسلك وأن يعمل؛ فلكي يكون ثمة عمل لا بد من القول بأن المعرفة ممكنة، ولماكنا قد رأينا أن المعرفة ليقينية المطلقة غيربمكنة فالذي يجب أن يقال حينئذ هو أن المعرفة الممكنة هي المعرفة الظنية.

الطبيعيات

وهذه الحسية التى تسود نظرية المعرفة هي أيضاً التي تسود نظرية أبيقور في الطبيعبات وما بعد الطبيعة. فهو يقول مع الرواقيين؛ إن الشيء الحقيقي هو الذي يفعل وينفعل، ولا شيء مما لا يفعل ولاينفعل بحقيقي. ولكنه ينظر كذلك - كما فعل الرواقيون أيضاً من قبل - إلى هذا الذي يفعل وينفعل على أنه الجسم فحسب ولذا ينكر أن يكون ثمة وجود غير الوجود المادي المحسوس المنفعل الفاعل. وينظر إلى الصفات بحسبانها أشياء ثانوية غيرحقيقية لوجود، ويقسمها إلى قسمين؛ قسم لا أهمية لم إطلاقا، وقسم عرضي له بعض القيمة الوجودية. ولكي يفسر الحركة ولكي يفسر صفة أخرى قالها في الأجسام وهي صفة الثقل، كان عليه أن يفترض إلى جانبالجم: الخلاء ، فإنه لم يفهم مصدراً للتمييز بين الأجسام الثقيلة والخفيفة غير الخلاء، بجسبان أن الأجام الثقيلة هي القليلة الخلاء والأجسام الخفيفة هي الكثيرة الخلاء. والحركة لا يمكن أن تتم كذلك عند ابيقور إلا اذا افترضنا الخلاء ، ومن حيث أن الحركة موجودة يشهد عليها الحس فلا بد من أن نفترض الأساس الذي تقوم عليه وهو الخلاء. وعن طريق هاتين الفكرتين: فكرة الجسم وفكرة الخلاء ، أقام ابيقور مذهبه في الوجود وفي الطبيعة . أما الجسم فيقول عنه أبيقور إنه يمكن أن ينحل، ولكن هذا الانحلال أو التقسيم لا يمكن أن يستمر إلى غير نهاية، بل

لا بد من الوقوف عند حد، وإلا لما أمكن أن يوجد شيء. فقال بأجسام فردة هي الذرات وهي الأصل في الكون ولا تقبل لانقسام . وهخذا وجد أببقور في مذاهب الطبيعيين القدماء مصدرا لفلسفته الطبيعية، إذ اعتنق مذهب ديمقريط ولكن بطريقة مخالفة بعض الشيء لما فعله. فديمقريط قد نظر الى الخلاء والملاء على أنهما يدلان على اللاوجود والوجود، أما أبيقور فلم يرتفع الى هذا المستوى الميتافيزيقي، بل اقتصر على النظر إلى المسألة من ناحية فيزيائية طبيعية سطحية فنظر إلى الخلاء على أنه الخلو من المادة، ولم يستطع بعد ذلك أن يتخلص من المشاكل الكثيرة التي يثيرها هذا التصور للخلاء .

أما أوصاف الذرات فهي تماماً أوصاف الذرات عند ديمقريط، أعني أنها أوصاف كمية: فلا تختلف الذرة عن الذرة الأخرى إلا في الشكل والمقدار والثقل، وعن طريق هذا الاختلاف وبتجمع الذرات المختلفة بعضها مع بعض تتكون الأجسام، إلا أن أبيقور في تفسيره لحركة الذرات قد خالف أستاذه ديمقريطس مخالفة قد قضت على الأسس الحقيقية لهذا المذهب الآلي في تفسير الأشياء. فقد قال أبيقور إن الذرات تتحرك إلى أسفل باستمرار، لأن كل ما لم ثقل يسقط نحو أسفل، وبدلاً من أن يقول مع أرسطو إن الأجام ذوات الثقل تسقط إلى المركز، قال إنها تسقط إلى أسفل، ونسي في هذا أنه يتحدث عن سقوطها في الخلاء، وفي الخلاء لا يمكن الإنسان أن يتحدث عن أعلى وأسفل , وهذا تناقض لم يستطع أبيقور أن يجله، ولا أن بفسره تفسيراً من شأنه أن يزيل هذا التناقض .

وصعوبة أخرى نشأت عن هذا التصور لحركة الذرات في الخلاء وهي أن هذه الذرات عند أبيقور ما دامت تسقط في الخلاء فلا بد أن تسقط بسرعة واحدة لأنها في الخلاء، وهي إذن لم تصطدم بعضها مع بعض وتكون من ذلك دوامات كما قال ديمقريطس من أجل تفسير نشأة الكرن، وإنما ستضطر هذه الذرات إلى أن تسقط وبسرعة واحدة في الخلاء ، فلا مجال إذن للتلاقي . فكان على ابيقور بعد هذا أن يفسر نشأة الأشياء وتكوينها من اجتماع الذرات، فاضطر من أجل هذا إلى إدخال فكرة جديدة كانت في الواقع ثغرة كبيرة في هذا المذهب الآلي. ونعني بهذه الفكرة: فكرة الانحراف Cinamen. فهو يقول: إنه لكي يفسر إمكان اجتماع الذرات بعضها مع بعض من أجل تكوين الأجسام، لا بد من افتراض أن في الذرات قدرة خاصة على الانحراف عن مسقطها الطبيعي. وعن طريق هذا الانحراف، تجتمع بعضها مع بعض من أجل تكوين الأجسام. كما اضطر أبيقور إلى القول بهذا الانحراف من ناحية أخرى من أجل تفسير الحرية الانسانية بمعنى إمكان قول نعم أو لا، وقد أكد ابيقور هذه الحرية بخلاف الرواقيين، ولم يستطع أن يجد لها مصدرا غير هذه القدرة التي يجدها الإنسان على الانحراف عن الطريق الأصلي. وبهذا أدخل أبيقور في مذهبه لآلي فكرة روحية في الواقع، لأن هذا الانحراف صادر عن طبيعة الذرات نفسها، وصادر عنها لا بطريقة ضرورية - وإلا لكان ذلك تناقضاً في الحدود أن يقال نحراف بالضرورة - وإنما هذا الميل يأتي من جانب الذرات كمانشاء.

الإلهيات

والغاية التي يرمي إليها الأبيقوريون من وراء هذه الطبيعيات هي أن يزيلوا عن الإنسان كل الأوهام والآراء السابقة التي من شأها ان تعكر صفو الحياة السعيدة، فكأنها في الواقع متصلة إتصالأ تاماً بمسالتين دينيتين رئيسيتين: المسألة الأولى مسألة الآلهة من حيث تصورهم وأجودهم، والمسألة الثانية مسألة العناية لإلهية، أما الدين وما يتصل بالله بوجه عام فقد لاحظ الأبيقوريون، وأبيقور على رأسهم، ان عدم الإيمان بالدين الشعبي المألوف والمعتقدات الدينية عموماً أسلم بكثير من الإيمان بها، حتى ان الذي يؤمن بها هو الذي يرتكب خطيثة دينية في الواقع، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب. ويذهب لوكرتيوس إلى أبعد من هذا فيقول : إن الدين شر ما بعده شر، وإن الواجب على الانسان ومهمة الفلسفة الأولى ان تتخلص نهائياً من كل دين، لأن الدين هو ينبوع كل شر.

أما العناية الإلهية، فبالقدر الذي أثبتها به الرواقيون قال الأبيقوريون إنها وهم من الأوهام، ولا تتفق مع مقام الألوهية: فأبن هذه العناية الإلهية في عالم حظ الشر فيه أكبر بآلاف المرات من حظ الخير، ومصير الخير اسوا بكثير جداً من مصير الشرير؟ وأين العناية الإلهية في عالم جزء ضئيل جداً منه هو الذي يصلح لسكفى الإنسان؟ وأين العناية الإلهية وقد تركت الطبيعة الإنسان خلوا منكل سلاح، بل كان الحيوان الأعزل لأكبر؟ وأين العناية الإلهية، وهي لا يمكن أن توجد إلا إذا كان الله يتأثر هو لآخر بكل ما يتأثر به البشر، إذ معنى العناية الإلهية أن الله يعنى بأحوال الناس، ويتأثر بالتالي لكل ما يصيبهم من شر أو خير، فإذا كانت الحال على هذا النحو، فكيف يتفق هذا مع ما يليق بالله من سعادة، إذ سيكون في هذه الحالة عرضة للتأثر بالآلام والشرور؟ وكيف يتفق هذا من ناحية أخرى مع ما يليق بالته من ديمومة وثبات، وهذه الأشياء من شأنها أن تحدث فيه تغيراً باستمرار؟ فسواء نظرنا إذاً إلى المسألة من ناحية ما مجري في واقع الطبيعة، أو نظرنا إليها من ناحية ما يليق بمقام الألوهية، فكل شيء يؤذن فطعاً بعدم وجود العناية الإلهية، ولهذا يجب ان ننكر إنكاراً تاماً كل عناية إلهية في هذا الكون، وكان لا بد لله قبل أن يخلق العالم، وأن يضع فيه عنايته، أن يجد مثالأ لهذه العناية، في الطبيعة، ولكن انطبيعة غير عاقلة وتسير على قوانين مطردة لا تخضع للهوى. فكان على الله إذن وهو يخلق هذا العالم أو ينظمه أن يسيره على مثال الطبيعة العمياء، فلا مجال إذن للقول بالعناية الإلهية في الكون.

إلا انه يجب ألا يستنتج من هذا أن أبيقور كان منكرأ لوجود الله أو الآلهة , فليس بصحيح في الواقع ما يذهب إليه كشير من المؤرخين من أن أبيقور اضطر إلى لقول بوجود الإلهة مسايرة للمعتقدات الشعبية. لأننا جد، كما يلاحظ تسلر، أن أبيقور يتحدث بلهجة المؤمن الواثق من وجود الالهة. كما أنه لم يكن ثمة داع له إلى مايرة الأخلاق الشعبية خوفاً من تأثير الجمهور، لأن الإلحاد في عصره لم يكن شيثاً يلقى مقاومة أو اضطهاداً ، فليس ثمة من دافع لم إلى أن يسلك هذا السبيل الملتوي ويكون مؤمناً تقية لا تقى ٠ وإنما آمن ابيقور بالآلهة على نحو خاص يتفق مع مذهبه في المعرفة وفي الطبيعة، ودعاه إلى هذا الإيان اولاً أنه وجد هناك معتقداً عاماً بين الناس بأن الآلهة موجودون، ومثل هذا المعتقد العام - الذي يمكن أن نلاحظه في جميع الناس عن طريق الملاحظة الحسية نقريباً - من شأن هذا المعتقد أن يجعل له اساساً من الواقع ؛ فمن هذه الناحية النظرية - وأبيقور يتصور الآلهة، تبعاً لهذا، وكأنهم موجودون في نفوس الناس أو في الهواء على شكل صور أثيرية يدركها الناس - فمن هذه الناحية النظرية إذن قال أبيقور بوجود الآلهة. ودعته إلى القول بها مرة أخرى نظرة جمالية أخلاقية، فقد وجد الإنسان في حاجة إلى أن يجسم آماله وأمانيه في صورة مثالية عليا،

وهذه الصورة المثالية العليا لا حرج في أن نسميها الله أو الآلهة. فلكي يكون هناك جمال كامل في العالم، ولكي يتأثر الإنسان مثلاً اعلى للفضيلة والحياة السعيدة، فعليه أن ينظر إلى الآلهة بحسبانهم موجودين، وكأنهم هم هذه الصورة العليا للفضيلة والجمال، وإن كات في الواقع من خلق الأماني والأمل، أكثر من أن تكون من خلق الواقع والعقل. وإذا كانت الحال كذلك فسيضطر الأبيقوري إلى ان ينظر إلى الآلهة طرة إنسانية صرفة، فيصورهم على صورة لإنسان تماماً لأن الإنسان لا يستطيع أن يتصور الآلهة - وهي من خلق أمانيه وآماله - إلا على هذا النحو الإنساني، ولأن هذا النحو الإنساني هو أجمل صورة توجد في الطبيعة. ولهذا يجب أن ينظر إلى الآلهة على صورة إنسانية بل ويجب أن يضاف إلى الآلهة كل ما يضاف إلى الناس من صفات، حتى فيما يتعلق بصفات المأكل والمشرب والملبس. ولكننا نستطيع أ نستخلص صفتين رئبستين للآلهة: الأولى صفة الدوام، والثانية صفة السعادة. فالآلهة متصفون اولاً بالدوام، ولكي يكونوا كذلك كان لا بد لتركيبهم الجسماني من أن يكون على نحو مخالف للنحو الإنسافي الصرف، لأن الجسمانية الإنسانية قابلة، بل ومن شأنها الفناء؛ فلكي يكون جسم لآلهة متفقاً مع ما يليق بهم من دوام، كان علينا ان نتصور أجسامهم وكأنها أجسام أثيرية لا تخضع في الواقع للتغير، وكان علينا من ناحية أخرى أن لا نتصورهم في مكان عادي يخضع دائما للحركات والتغير، وإنا يجب علينا أن نودعهم في مكان قد خلا من معالم الفناء، مكان يسميه الأبيقوريون باسم «ما بين العوالم». وفي هذا المكان يحيا الآهة حياتهم الدائمة، وهذه الحياة الدائمة هي حياة سعادة، والسعادة هنا هي الخلو لمطلق من كل ألم، اي أغها هي الطمأنينة السلبية أو الأتركسيا، التي سنجد أنها نمثل المثل الأعل للأخلاق الأبيقورية.

ومثل هذه الطمأنينة تجعل من غير الممكن أن يتأثر الآلهة بشيء، ولهذا أنكر العناية الالهية من ناحيتهم، لأن العناية معناها الاهتمام والاهتمام مصدره الهم، والهم هو التأثر، فالعناية الإلهية تقتضي التأثر ولماكان الآلهة يحيون حياة سعيدة أي خالية من كل تأثر، كان لا بد إذن أن تسلب عنهم فكرة العناية، فهم يحيون وحدهم في عزلة غير آبهين لشأن من شؤون هذا العالم، وهو أقرب ما يكون إلى الصور المأمولة التي يضع فيها الإنسان اجمل ما يتصوره عن الحياة السعيدة.

وهنا يلاحظ أن نظرة الأبيقوريين في الله تختلف جد الاختلاف عن نظرة الرواقيين إليه، سواء من ناحية العلو: فإن الأبيقوريين لم يقولوا إن الآلهة حالة في الكون بعكس ما يقوله الرواقيون، ومن ناحية العناية الحالة في الكون: فهذه ينكرها الأبيقوريون كل الإنكار وينكرون بالتالي كل ما تجره من ميل إلى التنبؤ بالمتقبل ثم إيمان بقيمة الصلاة. وفي هذا نرى الأبيقوريين ممشلين لنزعة الإلحاد التي توجد دائما في دور المدنية في كل حضارة، مهما كان المظهر الخارجي الذي يتخذه الإيمان الديني، ومهما كان مدى التصور الذي يكون لدى المرء بالنسبة إلى الله، فالإلحاد في هذا الدور ضروري والأبيقوريون قد عبروا عنه هنا أجلى تعبير.

الأخلاق الأبيقورية

لئن كنا قد رأينا في الطبيعيات عند الأبيقوريين أن الأصل هو الفرد، فكذلك الحال في التاحيه الأخلاقية، نجد أن الأصل هو مقياس الفرد, ولكنهم لا يقفون عند هذا الحد كما لم يقفوا عنده في الطبيعيات، بل يقولون إن وراء هذه المقاييس الحسية الخالصة مقاييس عالية روحية، تترتب المقاييس الحية بالنسبة إليها وتكون خاضعة لها.

يقول أبيقور: إن مقياس الخير هو اللذة ومفارقة الألم، وهذا شيء لا حاجة بنا إلى البرهنة عليه، فالطبيعة في كل أنواع سلوكها تكشف عنه ٠ وإذا كنا في حاجة إلى البرهنة، فيكفي ان نشاهد سلوك الإنسان في كل أدوار حياته من ميلاده حتى الموت، فإنا سنجد قطعاً ان الإنسان يرمي داصا إلى تحصيل اللذة وتجنب الألم فالأصل إذاً في كل أخلاق خيرة أن تتجه نحو تحصيل اللذة والابتعاد عن الألم.

إلا أن أبيقور فرق، وكذلك الأبيقوريون، بين أنواع عدة من اللذة والألم. فهو لا ينظر إلى اللذة بحبانها اللذة الحسية الصرفة، التي يجدها الإنسان في الإحساس المباشر بما هو ملائم في اللحظة والزمن المعينين بل يفاضل بين اللذات بعضها وبعض، وبين الآلام بعضها وبعض، فيجعل بعض الآلام أفضل من بعض اللذات، لأن في احتمال هذه الآلام ما يؤدي إلى لذة أكبر، ولأن في تجنب هذه اللذات ما يؤدي إلى تجنب الام أكبر، لأن كل لذة وكل ألم لا بد لهما من أثر مترتب، والأثر المترتب قد يفضي إلى شيء من نفس النوع، أو إلى شيء مضاد، وبدرجة قد تكون أقل وقد تكون اكز في كلتا الحالتين؛ أعني من هذا كله أن كل ألم يجب ألا يتجنب لأنه ألم في ذاته، كما أن كل لذة يجب الا تطلب لأنها لذة في ذاتها، إنما يجب ان نحسب حسابا إلى جانب الآلام واللذات في ذاتها، للذات والآلام المترتبة عليها، فإذاكنا نجد لذة نتج ألماً تأثرنا به أشد بكثير من تنعمنا وتملينا باللذة الأولى، كان علينا أن نتجنب هذه اللذة حرصاً على تجنب ألم أكبر؛ وإذا كان بعض الآلام من شأنه أن يفضي إلى لذة درجتها أكبر من درجة الألم المنتج لها؛ كان علينا أن نعافي هذا لألم حرصاً على تحصيل هذه اللذة الكبرى , وهكذا نجد أنه لا بد من المفاضلة بين اللذات بعضها مع بعض، لأنه ليس من اللذة أن نحصل كل لذة، وليس مما يدعو إلى تجنب الألم أن نتجنب كل ألم. فإذا فاضلنا بين اللذات بعضها وبعض، والآلام بعضها وبعض، واللذات والآلام هي الأخرى بعضها وبعض، وجدنا في النهاية أن اللذة الحقيقية لا يستطيع الإنسان أن يحصلها إلا في الحالة التي يخلوفيها من كل الاسالات، فكأننا سننتهي إلى جعل اللذة الحقيقية هى الخلو من الأنفعال. وهكذا نجد أن المذهب اللذي عند أبيقور يختلف كل الاختلاف عن لمذهب اللذي عند القورينائيين: فهؤل اء كانوا يطلبون اللذة كائناً ما كان نوعها أو درجتها أو النتائج المترتبة عليها، ولم يكونو ينظرون إلى اللذات بوصفها تكون كلا واحداً متصلاً بلذات الإنسان، بل كانو ينظرون إلى هذه اللذات كأشياء مفردة مستقلة بعضها عن بعض، وكأن لحظات الحياة الإنسانية المتتابعة مستقلة بعضها عن بعض؛ حتى ليعطي الإنسان؛ أو ليجب عليه أن يعطي، كل لحظة استقلالها رقبامها لذاتها، ولا داعي إذاً للنظر إلى ما يترتب عليها مما يجري في لحظات تالية. أما الأبيقوريون فعلى العكس من ذلك ينظرون إلى لحظات الحياة الإنسانية المتتابعة بحبانها تكون وحدة، فيضطرون بالتالي إلى جعل اللحظات المكونة للحياة تعتمد الواحدة منها على الأخرى، وبالتالي يجب أن نراعي اللحظة التالية ونحن ننظر إلى اللحظة السابقة. وإذا كانت الحال على هذا النحو فقد يكون ما تتصف به لحظة مستقلة عن غيرها ومنظور إليها بوصفها وحدة مستقلة، مخالفاً كل المخالفة لما يجب أن ننظر به إلى هذه اللحظة بوصفها جزءاً من كل. فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من الناحية الأخلاقية وجدنا أن لحظة ما منظوراً إليها بوصفها مستقلة، قد تكون منعوتة بنعت اللذة ولكنها لو نظرنا إليها بوصفها جزءاً في حياة كاملة، وجدنا أنها تنصف بصفة لشر والألم. لأن النتائج التي تترتب عليها إذا ما قيستإلى ما فيها رجح الألم اللذة؛ فكات مصدراً للشر والألم، أي كانت بالتالي متصفة، وبدرجة أكبر، بصفة الألم. فالفارق إذاً بين الابيقوريين والقورينائيين هو الفارق بين من ينظر إلى الحياة الأخلاقية على أنه كل مكون من لحظات متصلة متوقفة بعضها على بعض، وبين من ينظر إلى الحياة لإنسانية كلحظات مستقلة بعضها عن بعض، فمن المنطقي إذن أن يقول القورينائي إن اللذة أو السعادة الحقيقية هي في تحصيل كل لذة كاثنة ما كانت، وكانناً ما كانت النتائج المترتبة عليها . وكان من المنطفي كذلك أن يقول الأبيقوري إن اللذة يجب أن تحصل من حيث نتائجها وبرصفها حلقة في سلسلة متصلة حلقاتها بعضها ببعض، وبالتالي خاضعة للتقويم وللترتيب التصاعدي. وهنا ينتهي الأبيقوريون إلى القول بتصاعد بين اللذات: فهناك لذات حسية صرفة من ناحية، وهناك من تاحية أخرى لذات باطنة، الأولى لذات إيجابية تتصف بأنها على حال من اللذة الإيجاية، والأخرى لذات سلبية ليس لها معنى آخر إلا أنها خلو من كل انفعال وتأثر - ولهذا كان من الأحرى أن تسمى اللذات الأولى باسم اللذة بمعناها الحقيقى، وتسمى اكانية باسم الطمأنينة السلبية أو الأتركسيا. وإذا كانت الحياة، منظوراً إليها في مجموعها، ستنتهى بنا قطعاً إلى القول بأن هذه الصفات الأخيرة أي لأتركسيا أعلى مقاماً لأنها أكثر دواماً من الاولى: فالمقام الأول هرللأخلاق السلبية، والذي يليه للأخلاق الإمجابية. وذلك لأن اللذة لا يمكن ان تنحقق في واقع الحباة إلا إذا افترضنا للحياة امتداداً إلى غير نهاية، ولما كان هذا مستحيلاً فإن كل لذة في لواقع إذا كانت إيجاية فستكون مصدراً للشر والألم، لأنها لن تنتهي مطلقاً إلى أن نشبع إشباعاً حقبفياً فأبيقور ينفق مع أفلاطون في ان اللذة مصدرها دائيا ألم تنبع منه، أي أن كل لذة تفترض ألماً مزاوجاً لها. وإذا كانت الحال كذلك، فاللذات الإيجابية تفترض ضرورة آلاماً، بينما اللذات السلبية أو الأتركسيا لا تفترضألماً، كما أها ا تفترض تنعماً إيجابيا، وإنما هي تفترض باستمرار الخلو من كل ألم اعني انها أفضل بكثير من اللذات الإيجابية، لاثما لاتضمن عل وجه العموم ى لم، غبان هذا يجب ان ا ينسينا ان الأصل الحقيقي في الأخلاق الأبيقورية اتها تقوم على اللذات وان هنه اللذات الإيجابية هي الأساس، وهي الي يجب أن يحرص الإنسان كل الحرص على تحصيلها في اخلاقه، حقى ان ابيقور يقول مراراً - ويزيد عليه تلميذه مطرودورس - إن مصدر كل لذة هو البطن؛ وقد يكون المقصود بهذا ان الطعام أو الغذاء هو الأساس الأول او الضروري لكل حياة سعيدة، وليس معنى هذا في الآن نفه أنه هو كل السعادة، لأن اساس أي شيء لي هوكلهذا الشيء ولكننا تجب أقوالا صريجة جداً لأبيفور ونلامذنه تدل عل انهم يرمون دائماً إلى تحصيل اللذات الإيجابية لحسية المباشرة. وعل كلحال فمما لا شك فيه ان الأبيقوريين قد نظروا إلى اللذات الحية على أها الأساس للذات الباطنية والاضالات اللبية.

فالأصل إذا في كل فعل اخلاقي أن يتجه الى تحصيل اللذة او تجنب الألم ومن الخطأ ان يظن الأمر على العكس من هذا. وأبيقور يسخر سخرية شديدة من هؤلاء الذين بندفعون وراء أوهام زائفة، هي اوهام اتباع الخير للخير، أو الفضيلة للفضيلة، بصرف النظر عن كل لذة أو تجنب الألم. ولكنه سرعان ما ينتقل من هذا القول المطلق الى مذهبه اللذي، على اساس تقسيمه هذه اللذات إلى انواع نلانة: فمن اللذات ما هو ضروري وخير معا، ومن اللذات ما ليس ضروريا، وإن كان خيرا كذلك، ومن اللذات اخيراً ما لي بخبر ولا بضروري.

واللذات التي من النوع الأول هي الناتجة عن إشباع الحاجات الأولية للكان الحي، وتنقسم بدورها إلى عدة لذات أو الى نوعين رئييين من اللذات: لذات حركية، واخرى سكونية. أما اللذات الحركية فهي التي تحدث أثناء إشباع الرغبة أو الحاجة، واللذات السكونية هي التي تترتب على الحاجة وقد اشبعت. فالعطشان الذي يجد ماء فيشربه، يشعر بلذة اثناء شربه؛ وبعد ان ينتهي من الأرتواء، يشعر بلذة سكونية، هي الخلو من الحاجة، والخلو من الحاجة لذة سكونية، لأنه ليس ثمة فعل أو انفعال حقيقي من جانب الشخص الذي يعانيه. وهذه للذات الضرورية الخيرة هي هي اللذات بالمعنى الحقيقي، وكل ماعداها من لذة فقيمته اقل بكثير جدأ من هذه الذات لأنها ليست ضرورية.

فالنوع الثاني من اللذات يتصف بأنه غير ضروري، بل إن الأحرى الا يتبعه الانسان ما دامت الطبيعة لم تهيئه داثما، فمثلاً التأنق في املبس، والتأنق في المأكل، كل هذا ليس بلذة ضرورية، وإن كان خيراً لأنه يحدث اللذة؛ ولهذا كان هذا النوع الثاني أقل درجة من النوع الأول، لأن الطبيعة ضنينة كثيراً بتحقيق هذه الرغبات، فالأحرى في هذه الحالة أن يزيد الألم الناشىء عن عدم تحقيق هذه الرغبات، او تحقيقها بطريقة ناقصة غير وفيرة - الأحرى أن يجدث هذا كله ألماً في النف يفوق اللذة الني تشبع جزئياً عن طريق تحقيق هذه الذات.

والنوع الثالث من اللذات ليس ضرورياً ولا خيراً في ذاته ٠ فهو ليس بضروري لأن الميول الطبيعية لا تقصد إليه قصداً ولا تتطلبه بوصفه شيئاً مكملاً لنوازع هذه الميول، كما انه ليسخيراً لأننا قكنا إن اللذة التى تحدث الماً اكبر ما فيها هي ذاتبا من خير وتنعم، تعد شراً لا خيراً. وهذا النوع الثالث من اللذات من شأنه أن يحدث دائما شعوراً بالنقص والحاجة، اي أن يحدث من ناحية الجسم تالماً، ومن ناحية النفس خلواً من الطمأنينة، فهو شر إذن، وبالتالي يجب أن يوضع في المرتبة الأخيرة، إن لم يكن هو والألم سواء. ومن أمثلة هذا النوع لثالث الشهوة البهيمية، ثم الطمع أو الطموح، فإننا نجد أن هذين النوعين من اللذات ليسا بضروريين، لأننا لا نشعر بحاجة طبيعية أصلية نحو إشباع هاتين الحاجتين، وإنما هو الوهم الذي يخيل إلينا أن من اممكن تجاوز الحدود لتحصيل لذة أكبر، هو الذي يدفعنا إلى تحصيل لذة اكبر، أي أنه هو إذا الذي يدفعنا إلى تحصيل هذا النوع؛ كما ان لآلام التي تلازم دائما هذ النوع، اكبر قدراً بكثير جداً مما يتم من إشباع، وففي قطعاً، لهذه الحاجات غير الضرورية وذلك لأن جوهر كل طموح أو طمع، أو شهوة بهيمية، من شأنه ألا يتحقق موضوعه باستمرار، لأنه إذا تحقق هدف نزع إلى هدف آخر، وإذا تحققت رغبة معينة، فرعان ما تنشأ رغبة أخرى تصبو نف المرء إلى تحقيقها. وهكذا نجد باستمرار أن الأصل في هذا النوع أنه حركي يعتريه الفناء في كل لحظة من لحظاته لأن الأصل فيه القضاء على ما هر ساكن من اجل تحصيل ما ليس بعد، أعني أن حقيقة هذا النوع التغير والفناء، أو التغير الذي مصدره الفناء، والفناء الناغى، عن استمرار التغير

ولهذا يجد ابيقور والأبيقوريون عموماً أن في وسع المرء أن يحيا حياة سعيدة جداً . لأن الحكيم هو الذي يتعلق بالنوع الأول فقط من اللذات، ويحرص حرصاً ضئيلاً على تحقيق النوع الثافي، وينكر خبايا لذات النوع الثالث ولما كانت الطبيعة قد حققت دائماً حاجات الإنسان التي من النوع الأول، ففي وسع المرء إذن أن يكون سعبداً باستمرار، وكإ يقول لوكرتيوس لا يمكن مطلقاً أن تخلو الطبيعة من كل الحاجات الضرورية. وهكذا يستطيع الحكيم الأبيقوري أن يحيا حياة سعيدة خالية من الألم: من ناحية البدن، حافلة بالطمأنينة السلبية: من ناحية النفس؛ وانعيم الذي يحيا فيه هذا الحكيم الأبيقوري، لا يقل نصاعة وطهارة عما يحيا فيه الحكيم الروافي، فلا حرج إذا في أن يشيد الأبيقوري بأخلاقه وما عليه هذه الأخلاق من سموونقاء، إن لم يكن أكثر من الرواقي، فعلى الأقل بالقدر الذي يستطيعه هذا الأخير.

وهكذا كانت حياة الأبيقوريين في حديقة ابيقور -تلك الحياة السعيدة الخالية من كل تألم، والتي تشيع فيها الطمأنينة السلبية ، - حياة ناعمة كأنعم ما تكون الحياة. ثم لا يفرق أبيقور فيما يتصل بالسعادة بين الفضيلة وبين اللذة، فكل لذة فضيلة، وكل فضيلة إنما مصدرها اللذة، وهو لهذا لا يريد أن يلجأ إلى ذلك التقسيم الرباعي التقليدي، وإنما يقول إن هذه فضائل اولاً، لأن الحكمة بها يستطيع الإنسان ان يوازن بين اللذات بعضها وبعض، كي يفضل الواحدة على الأخرى، وعن طريق هذا الحساب الدقيق وحده يستطيع أن يصل إلى تحقيق السعادة. فهو يقول إذاً بفضيلة الحكمة، لأنها الوسيلة المؤدية إلى النظر الصحيح، المؤدي إلى تحقيق السعادة بوصفها مجموعة لذات. كما أنه يشيد كذلك بفضيلة العفة وضبط النفس، لأنه عن طريق هذه الفضيلة يستطيع الحكيم الأبيقوري أن ينظم شهواته، وألا يدع اللذات التي في المرتبة الدنيا تطغى على اللذات التي في المرتبة العليا؛ فهي وسيلة قوية لكي يستطيع بها الحكيم الأبيقوري أن يحقق اللذات الصحيحة. كما أنه يأخذ أيضاً بفضيلة الشجاعة، لأنه عن طريق الشجاعة يستطيع الإنسان أن يخلو من كل خوف أو رهبة، لأننا قكنا: إن السعادة في النهاية تنحل إلى الطمأنينة لسلبية، ولكي تتحقق هذه الطمأنينة لا بد ن تخلو النفس من كل شعور بالخوف لأنه مصدر للاضطراب، والشجاعة هي الفضيلة التي تحقق لنا هذا الخلومن الخوف. والعدالة كذلك يجب على المرء أن يحرص على تحقيقها، إن في نفسه أو بالنسبة للأخرين ، لأنه عن طريت العدالة يستطيع الإنسان ان يظل آمناً، آمناً من اتهام الآخرين له، وآمناً كذلك من عذاب الضمير، فالعدالة واجبة إذن لكي يتحقق هذا الهدوء الأخلاقي النفسي الذي ينشده الحكيم الأبيقوري.

ويعنى أبيقور، من بين هذه الفضائل لأربع جميعاً، بالفضيلة الأولى، ألا وهي فضيلة الحكمة، لأن المالة ستنتهي عند أبيقور، فيما يتصل بالمقياس الأخلاقي في اللذات، إلى مفاضلة وموازنة مستمرة بين اللذات بعضها وبعض، اي إلى عمل حاب دقيق لكل اللذات والآلام بعضها بالنسبة إلى بعض، وكل منها في داخل ذاته. وكل هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تيسر للانسان شعور دقيق وإدراك واضح لصفات اللذات والآلام، او بتعبيرادق من ناحية الكمية من اللذات والآلام . فعلى الرغم من أن اللذة عند أبيقور لذة كمية قبل كل شيء، فإنه يجب أن يلاحظ أن تقويم هذه اللذات الكمية إنما يتم عن طريق التمييز العقلي الذي يوازن بين هذه اللذات بعضها وبعض، ويدعو إلى تحقيق الأولى منها ونبذ الأدنى.

وهكذا نجد أن أبيقور قد قال في أخلاقه أيضاً بهذه الفضائل الأخلاقية المختلفة التي فالت بها الأخلاق عند أفلاطون وأرسطو إلى حد ما، فكأنها في الواقع من هذه الناحية لا تقل علواً وسموا عن الأخلاق الأفلاطونية والأخلاق الأرستطالية. وإذا تحققت الفضيلة على النحو الذي بيناه بأن كان المرء يحرص على اللذات التي من النوع لأول، ويضبط نفسه فيما يتصل بالنوع الثافي، وينفر نفورا تاما من النوع الثالث فإن عليه إلى جانب هذه الناحية الإيجاية في الأخلاق، ولكي تتم له الطمأنينة السلبية المطلوبة، والخلو من كل تألم، أن ينظر في الناحية السلبية من الأخلاق، فيستبعد الأشياء التي تعكر صفو هذه الحياة الناعمة المطمثنة التي يجب.أن يحياها الحكيم الأبيقوري. وهذه الأشياء التى تعكر صفو الحياة عنده عديدة لا حصر لها، ولكن أهمها ئيئان: أولاً الجزع من الزمان، ثم الجزع من الموت. اما الجزع من الزمان فلا داعي له إطلافاً، إذ ينشأ هذا الجزع من فكرة خاطثة ووهم غريب هو وهم فكرة الخلود، فيظل الإنسان متأثراً بهذه الفكرة وهذا المعفى الابق، مما يفسد عليه حياته الحقيقية التي يحياها، ولن يحيا غيرها . ولما كانت هذه الفكرة وهماً لا أساس له من الصحة كما تعلمنا الطبيعيات، فواجب علينا أن نرفضها، وبالتالي الا تتأثربها. هذا إلى ان اللذة لا تقاس بمدتها، وإنما تقاس بشدتمها؛ فقد تكون لذة طويلة المدة، ولكنها اقل درجة وشدة بكثير جداً من لذة اقصر مدة وأكبر شدة. فالمقياس إذن في المفاضلة بين اللذات هو في الشدة، لا في المدة. وعلى هذا فيجب على الحكيم إن يقتصر على هذه الحباة التي يحياها وحدها، ولن يحيا غيرها، وأن ينعم فيها بأقصى لذة ممكنة بان يكون خالياً من كل تألم، مطمثن النفس كأنقى ما تكون الطمأنينة، وخير طريقة للمرء ينتظر بها المستقبل، أو خير طريق لانتظار الغد، الا ينتظر المرء من الغد شيئاً.

وثاني الأمرين ليس بأقل وهماً من الأمر الأول، ونعني بم الجزع من الموت فهذا الجزع لا أساس له من الواقع، طالمابمنا نحيا، فالموت لي شينأ وإذا متنا، فلن نكون شيئاً ، وإنما الوهم هو الذي يصور لنا امتداد هذه الحياة، وبالتالي يجعلنا ننظر نظرة رجعية إلى الوراء أو امامية - والمعفى هنا واحد - فنعتقد أنفسنا في وضع الغد: «الغيب»، ونتصرر جسمنا وقد انحل إلى اجزاء، وأصبح جثة يأكلها الدود، فهذه الصورة للإنسان هي التي تحدث الجزع من الموت، مع أننا في هذه الحالة، حالة تحلل الجثة، لا نشعر بشى ء لأننا غير موجودين بعد، فلا داعى إذن لتحقيق هذه النظرة الرجعية، كما أنه ا داعي مطلفاً للتفكير فيما بعد الموت، لأن ما بعد الموت لا يعنينا إطلاقاً ، ولهذا يجب ان نتخلص من هذا الوهم : وهم الجزع من الموت، حتى نحيا الحياة السعيدة التي نرجوها.

وهكذا نجد أن الأخلاق الأبيقورية، وإن كانت قد بدأت بمبدأ يخيل إلى المرء أنه حسي نفعي مادي وضيع، فإنها على العكس من ذلك، قد انتهت بأخلاق سامية كل السمو، لا تقل في نقائها وسموها عن الأخلاق المثالية، التي يقول بها رجل مثل افلاطون.

الفكر السياسي الابيقوري

اما عن الفكر السياسي الابيقوري وفلسفته الخاصة التي تستند إلى الجانب الشهواني والابتعاد عن ساحة الميتافيزيقية والموضوعات التجريدية بينما اصالة الفكر السياسي قائم على الاعتبار العقلي مع مرونة الموضوع. وإمّا عدم تمسكة بالتساوي المركزي فهو على عكس ما تصوره من وجود العداء والتباغض لإنّ الاعمال الوظيفية إذا كانت في خط المساواة توجب انعدام البغضاء والعداء.

الابيقورية والدين

أعتبر الابيقوريين الدين والموت اساسين للخوف فدعوى بدون برهان لإنّ الخوف من الصفات الغريزية، وليست من الأفعال المكتسبة، فالدين يوجب العقاب الآخروي على مخالفة المقررات القانونـية الآلهية، كما يسري على ضَوْءهُ التشريع الوضعي عند مخالفة مقرراتة القانونية يلاقي العقوبات الجزائية، كما أن الموت يعاكس غريزة البقاء، فلابد أن يدرسا بما هما لا بما ينتج عنهما الخوف حتى يكونا في صفحة السير المعاكس للذة والسعادة. ويبدو في تصوير الابيقوريين لكيان الدول على اساس الأمن والإطمئنان والوقوف امام المغيرين فهذا في واقعة قد اعطى بعض الأضواء عن حياة الدول واثرها الاجتماعي ولم يوف الجوانب الآخرى التي ترتكز عليها صفحات الدول، وإمّا تصويرهم في المجتمع البشري على الانانية والانطواء الذاتي وإنّ كنا نعتقد أن الاصالة للفرد دون المجتمع لكن هذا لا يقر على وجود الانانية، بل من حيث اصالة ذاته ولكنه يرتبط بعلاقات على اختلاف أسبابها مع ما تجد معه في النوعية الحيوانية الناطقية.