مثالية
المثالية (بالإنجليزية: Idealism)، في الفلسفة، تٌقال غالباً في مقابل "الواقعية" (Realism)، وهي المجموعة المتنوعة من الفلسفات الميتافيزيقية التي تؤكد أن «الواقع» بطريقة أو بأخرى لا يمكن تمييزه أو فصله عن الفهم و/أو الإدراك البشري؛ إنه بشكل ما مجبول في العقل، أو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار. وفقًا لإيمانويل كانت، أحد رواد الفكر المثالي الحديث، «لا تُعنى المثالية بوجود الأشياء» لكنها تؤكد فقط أن «أنماط تمثيلنا» لها، فوق كل زمان ومكان، ليست «قرارات تعود إلى الأشياء في حد ذاتها»، بل سمات أساسية لعقولنا الخاصة. أطلق على هذا الحيز اسم المثالية «المتعالية» و«النقدية»، باعتبار أنها تصف الطريقة التي يتعالى فيها «الواقع» كليًا، ولا يمكن التفكير فيه بصورة منفصلة عن المقولات التي جُبلت معه في الفهم البشري وعن طريقه.
أمّا من ناحيةِ التعريف فهي كمالُ الأوصاف وَالأمداح، بمعنى خلوها من أي نقطة ضعف. عادةً ما تكون ناتجة عن عمل جماعي، في حين العمل الفردي هو أقل عرضة للمثالية، فمثلاً الشركات تنتج أحياناً عملا مثالياً. من ناحية نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، تظهر المثالية بصفتها شكوكية بالنسبة لإمكانية معرفة أي شيء مستقل عن العقل. على نقيض المادية، تشدد المثالية على أسبقية الوعي بصفته أصل الظواهر وشرط وجودها. ترى المثالية الوعي أو العقل «أصل» العالم المادي –بمعنى أنه شرط ضروري لافتراضنا عالمًا ماديًا– وتهدف إلى شرح العالم الموجود وفقًا لهذه المبادئ.
في الثقافة الأنجلوأمريكية، تنقسم النظريات المثالية بصورة أساسية إلى مجموعتين. تتخذ المثالية الذاتية نقطة بداية لها الحقيقة الواقعة القائلة إن الوعي البشري يرى العالم الموجود بصفته مزيجًا من الشعور. تفترض المثالية الموضوعية وجود وعي موضوعي ما موجود من قبل وبصورة أو بأخرى بشكل مستقل عن نظائره عند البشر. من ناحية علم الاجتماع، توضح المثالية كيف تشكل الأفكار البشرية –خصوصًا المعتقدات والقيم– المجتمع. كمدرسة أنطولوجية، تذهب المثالية أبعد من ذلك، إذ تؤكد أن كل الكيانات مؤلفة من عقل أو نفس، ومن ثم ترفض المثالية تلك النظريات الفيزيائية والثنائية التي تفشل في إرجاع الأسبقية إلى العقل.
تعاريف
المثالية مصطلح يحمل العديد من المعاني المرتبطة به. يأتي المصطلح في اللغات الأوروبية من كلمة فكرة من الأصل الإغريقي إيدين idein، ويعني «إدراك». والصفة مثالي idéal تستخدم بمعنيين مختلفين تماماً:
الأول) يقال «مثالي» ideal على كل ما ينتسب إلى الفكرة، وبالتالي يوجد في العقل بما هو فكرة. وبهذا المعنى يقال عن الأشكال الهندسية إن وجودها مثالي، أي يوجد في الذهن، ولا يوجد، كما هو، في الواقع.
والثاني) يقال «مثالي» بمعنى «كامل» «تام». فالمثال هو ما يحقق كمال النوع الذي يندرج فيه. ويعبر عنه، في حالة الاسمية، بـ «المثل الأعلى».
ومنعاً لهذا الخلط اقترح البعض استعمال idéel للمعنى الأول، وقصر idéal على المعنى الثاني.
والمثل الأعلى يكون في الأمور النظرية، كما يكون في الأمور العملية .
كذلك تقال المثالية على المثالية النظرية أو الفلسفية، وهي حينئذ تقابل الواقعية النظرية. وتقوم في رد الواقع إلى أفكار، أو تقرر أن معرفتنا تنحصر في الأفكار، دون الأشياء.
كما تقال المثالية على المثالية العملية أو الأخلاقية، ويقابلها الواقعية العملية. وتقوم هذه المثالية العملية أو الأخلاقية في الفعل وفقاً، أو اهتداء بمثل أعلى، أي استرشاداً بآمال تتجاوز الواقع الموجود في التجربة.
دخل المصطلح اللغة الإنجليزية بحلول عام 1743. في استخدامه العادي، كما هو الحال عند الحديث عن المثالية السياسية لِوودرو ويلسون، يشير عمومًا إلى أولوية المثُل العليا، والمبادئ، والقيم، والغايات عبر الحقائق الملموسة. يُفهم عن المثاليين أنهم يصفون العالم كما يمكن له أو يجب عليه أن يكون، على عكس البراغماتيين، الذين يركزون على العالم كما هو في الوقت الحاضر. من ناحية الفنون، بنفس الطريقة، تركز المثالية على المخيلة ومحاولات إدراك المدلول العقلي للجمال معيارًا للكمال، جنبًا إلى جنب مع الطبيعانية الجمالية والواقعية.
يمكن تسمية أي فلسفة تولي أهمية حاسمة للعالم الروحي أو المثالي في ما يخص الوجود البشري «مثالية». إن المثالية الميتافيزيقية مدرسة أنطولوجية ترى أن الواقع نفسه غير مادي أو تجريبي في جوهره. علاوة على ذلك، يختلف المثاليون حول أي الجوانب العقلية أكثر أساسيةً. تؤكد المثالية الأفلاطونية أن الأفكار المجردة أكثر أساسية بالنسبة للواقع من الأشياء التي ندركها، بينما يميل المثاليون الذاتيون والظاهراتيون إلى تفضيل التجربة الشعورية على التفكير المجرد. ترى المثالية الإبستمولوجية أن الواقع لا يمكن معرفته إلا بالأفكار، وأن التجربة النفسية هي الوحيدة التي يمكن للعقل إدراكها.
إن المثاليين الذاتيين مثل جورج بيكرلي لا واقعيون في ما يتعلق بعالم مستقل عن العقل، في حين أن المثاليين المتعالين مثل إيمانويل كانت يشككون بقوة في عالم كهذا، ويشددون على المثالية الإبستمولوجية لا الميتافيزيقية. بناء على ذلك، يعرّف كانت المثالية بأنها «التشديد على أننا لا يمكن أن نكون متيقنين حول ما إذا كانت كل تجربتنا الخارجية المُفترضة تخيلٌ مجرد». وادعى، وفقًا للمثالية، أن «حقيقة الأجسام الخارجية لا تُقر بإثبات صارم. وعلى عكس ذلك، حقيقة غاية إحساسنا الداخلي (أنا والحالة) واضحة مباشرة عبر الوعي». مع ذلك، لا يقيد جميع المثاليون ما هو حقيقي أو يمكن معرفته بتجربتنا الذاتية المباشرة. يطالب الذاتيون الموضوعيون بعالم فوق تجريبي، لكنهم ينكرون ببساطة أن يكون هذا العالم منفصل جوهريًا عن العقل أو يسبقه أنطولوجيًا. ومن ثم يشدد أفلاطون وغوتفريد لايبنتس على واقع موضوعي وقابل للمعرفة يسمو فوق إدراكنا الذاتي –رفضٌ للمثالية الإبستمولوجية– لكن يقترحان أن الواقع هذا يقوم على كيانات مثالية، شكل من أشكال المثالية الميتافيزيقية. لا يتفق جميع المثاليين الميتافيزيقيين على طبيعة المثالي؛ بالنسبة لأفلاطون، الكيانات الأولية كانت أشكالًا مجردة غير عقلية، بينما يرى لايبنتس أنها كانت جواهرَ أفرادًا محسوسة وذات عقل أولي.
ويمكن التمييز بين المثالية في نظرية المعرفة، والمثالية في نظرية الوجود، والمثالية في نظرية الكون. والأولى هي المثالية الموضوعية والمثالية الذاتية. أما المثالية في نظرية الوجود، فتقول إنه لا توجد موجودات بالمعنى المعتاد لهذا اللفظ، أي جواهر ثابتة، مادة أو عقل، بل يرجع كل شيء إلى الفكر، والامتثالات، والظواهر. أما المثالية في نظرية الكون فتقول إن امتثالات حقيقية موجودة خارج العقل لا يناظرها شيء؛ إذ لا توجد أشياء، بل أفكار عن هذه الأشياء.
كذلك وضعت «المثالية» في مقابل «المادية». فنجد ليبنتس يصف أبيقور بأنه مادي، بينما أفلاطون مثالي، على أساس أن أفلاطون يقرر أن كل شيء يجري في النفس كأنه لا يوجد اجسام مادية، بينما يقول أبيقور إنه لا يوجد نفس لا مادية.
تاريخ المثالية
إن أقدم الحجج الباقية التي تقول إن عالم التجربة قائم على العقل مستمدة من الهند واليونان. قدّم المثاليون الهنديون والأفلاطونيون المحدثون اليونانيون حججًا حول وحدة الوجود عن وعي كلي واسع يشكل أساس الواقع أو حقيقة طبيعته. على نقيض ذلك، بنت مدرسة يوغاكارا، التي نشأت ضمن البوذية الماهايانية في الهند في القرن الرابع الميلادي، مثالية «العقل فقط» خاصتها على امتداد أكبر من تحليل علم الظواهر للتجربة الشخصية.
تحول هذا نحو التجريبيين المثاليين الذاتيين مثل جورج بيركلي، الذي أعاد إحياء المثالية في القرن الثامن عشر في أوروبا عبر توظيف حجج شكوكية ضد المادية. بدءًا من إيمانويل كانت، هيمن المثاليون الألمان مثل جورج فيلهلم فريدريش هيغل، ويوهان غوتليب فيشته، وفريدريك فيلهلم يوزف شيلن، وآرثر شوبنهاور، على فلسفة القرن التاسع عشر. وُلد من رحم هذه الطريقة، التي شددت على الشخصية العقلية أو «المثالية» لكل الظواهر، مدارس مثالية وذاتية تتراوح بين المثالية البريطانية إلى الظاهراتية إلى الوجودية.
ويحدد كانت «المثالية» هكذا: «تقوم المثالية في القول بأنه لا توجد كائنات إلا الكائنات العاقلة المفكرة؛ وسائر الأشياء، التي نعتقد أننا ندركها حسياً في التجربة، ما هي إلا امتثالات في عقول الكائنات العاقلة، لا يناظرها في الخارج أي موضوع» («مقدمة إلى كل ميتافيزيقا ...» بند 13، تعليق 11).
لكننا نجد توماس ريد، زعيم المدرسة الاسكتلندية، يصف نظريات لوك، وباركلي وهيوم بأنها «مذهب مثالي» Ideal System ( توماس ريد: «بحث في العقل الYنساني»، سنة 1764).
وعند كنت وريد أن باركلي قد خلق ميتافيزيقا مثالية، على أساس أن الموضوعات المباشرة لعقلنا هي أفكار ideas ونحن نتلقاها إما من خلال الادراك الحسي، أو ننتجها بخيالنا، لكنها، على أي حال، ليست بذات حقيقة واقعية خارج الذهن، بل هي بالأحرى تشكيلات لانفعالاتنا: ووجودها esse هو كونها مدركة Percipi إننا حين نجد مجموعة من الأفكار الحسية في تجربتنا مجتمعة معاً، فإننا نسميها شيئاً واقعياً، ولهذا فإن وجود الأشياء الواقعية ليس شيئاً آخر غير مجرد كونها مذركة. ويخلص باركلي من هذا إلى القول بأنه لا يوجد نوعان من الموجودات: روحية ومادية، بل توجد عقول فقط، أعني كائنات مفكرة، تقوم طبيعتها في الامتثال والإرادة. إن موضوعات امتثالاتنا وأفعال إرادتنا، وهي الأفكار ideas، لا قوام لها خارج العقول، إنها نتاج نشاطها.
لكن جاء كانت فاختلف مع باركلي بأن قال بوجود الشيء في ذاته، وهو أمر لا يمكن أن ندركه مباشرة. وإنما الميسور لتجربتنا ولإدراكنا هو الظواهر فقط. لكن علينا مع ذلك أن نستمر في التمييز بين الصورة والمادة في المعرفة: فإن تجربتنا تدرك موضوعاتها على أنها معطيات موضوعية مستقلة عنا، هذا من الناحية المادية. أما صور عياننا: المكان والزمان، وكذلك صور تجربتنا الباطنة والظاهرة فإنها ذاتية، ولهذا فإن كل ما نلقاه في التجربة ليس له «وجود خاص قائم لذاته» («مقدمة ...» بند 52 جـ).
ويقول كانت: «إن المثالية هي النظرية التي تقرر أن وجود الأشياء في المكان خارج العقل هو إما وجود مشكوك فيه، أو زائف، أو مستحيل. والأول هو قول المثالية الاحتمالية عند ديكارت، الذي صرح بأن ما لا يحتمل الشك هو التقرير التجريبى، أي «أنا موجود». والثاني هو قول المثالية التوكيدية عند باركلى، الذي عد المكان وكل الأشياء التي ترتبط به بوصفه شرطاً لها لا غنى عنه - نقول: عد المكان والأشياء المرتبطة به أنه أمر في ذاته مستحيل، ولهذا صرح بأن الأشياء في المكان هي مجرد تخيلات» ( «نقد العقل المحض» ، تحليل المبادىء، تفنيد المثالية).
وميز كانت بين هذه المثالية، وبين المثالية المتعالية أو الصورية («مقدمة إلى كل ميتافيزيقا مقبلة» بند 49) وهي المثالية التي أخذ هو بها، وهي التي تقول إن المكان والزمان والمقولات إطارات قبلية موجودة في العقل وبفضلها يدرك العقل مضمون التجربة.
وقد أخذ فشته Fichte على كانت أنه وقف في منتصف الطريق: ذلك أنه ليس فقط صور العيان (الزمان والمكان) ومقولات الذهن هي من خلق العقل، بل إن الموضوعية نفسها هي من إنتاج عقلنا. يقول فشته: «إن الشعور بالموضوع ليس إلا الشعور - غير المشعور به أنه كذلك - بإنتاجي أنا لامتثال للموضوع» («مصيرالانسان»، في مجموع مؤلفاته نشرة ابنه، ج2 ص221) صحيح أنه لا يتوقف على هواي ما أشعر به كعالم خارجي، إنني أجد نفسي في العالم الخارجي دون أن يكون هذا من فعلي؛ لكن حقيقته تقوم في المعنى الروحي للظواهر، وهذا المعنى له طبيعة عملية تتوقف على إرادتي. ولهذا لا حاجة إلى انسجام أزلي للتوفيق بين أفعال الأفراد، ولا إلى قوة خلاقة فوق الإنسان من أجل ضمان حقيقة العالم الخارجي؛ فهذا الضمان تتولاه التلقائية الإنسانية نفسها في تنوع العلاقات بين الأفراد. ويقول فشته بالأنا المطلق الذي هو مستقل بذاته ولا محدود، ولا يحده إلا اللا - انا.
وجاء شلنج فأراد التخفيف من الذاتية المفرطة عند فشته، فقال بالروح Geist، والروح تغاير نفسها في الطبيعة، لكنها تعود إلى نفسها في الانسان - خصوصاً في الفن والدين والفلسفة - وبهذا تصبح قادرة على أن تتعرف نفسها في الطبيعة أيضاً.
وفي اثرهما سار هيجل، فنعت مذهبه بأنه مثالية ذاتية أو مطلقة، وقد أوضحها هكذا: «المثالية هي القول بأن المتناهي مثالي. والمثالية في الفلسفة معناها ما يلي فقط: معناها عدم الإقرار بأن المتناهي موجود حقيقي. وكل فلسفة هي مثالية في جوهرها، أو على الأقل تقوم على مبدأ المثالية. والأمر إنما هو: إلى أي مدى يتحقق هذا المبدأ فعلاً. إن الفلسفة مثالية، كما أن الدين مثالية». («علم المنطق»، ج 1، قسم 1، الفصل 2، تعليق 2).
ويقول هيجل «بالهوية بين الفكر والوجود» («ظاهريات العقل» ص 47 من ترجمة هبريت إلى الفرنسية). وعنده «أن ما هو موجود فإنه لا يوجد إلا بوصفه فكراً» («الانسكلوييديا» 465). ولهذ فإن المنطق الذي هو علم الفكر هو في الوقت نفسه علم الوجود.
وقد سيطرت المثالية الألمانية طوال القرن التاسع عشر على الفكر الأوربي، وامتد تأثيرها حتى اليوم:
ففي إنجلترا كان يمثل المثالية الألمانية فرانسيس هربرت برادلي (1846 - 1924) وبرنرد بوزنكيت (1848 - 1923) ومتجرت (1866 - 1925).
وفي إيطاليا اعتنق الهيجلية بند توكروتشم (1856 - 1952 ) وجوفني جنتيله (1875 - 1944).
وفي فرنسا كان من أنصار المثالية شارل رنوفييه (1815 - 1903) وجول لاشلييه (1832 - 1918)، وأوكتاف هاملان (1856 - 1907)، وليون برنشفك (1869 - 1944) وإلى حد كببر: إدوار لوروا (1870 - 1954) ورينيه لوسن (1882 - 1954).
يعتمد علم الظواهر، وهو سلالة فلسفية نافذة منذ بداية القرن العشرين، على دروس المثالية أيضًا. هناك مقولة شهيرة لمارتين هايدغر من كتابه الوجود والزمان:
«إذا كان مصطلح المثالية يرقى إلى الاعتراف بأن الوجود لا يمكن تفسيره عبر الكائنات أبدًا، بل على العكس، دائمًا ما يكون المتعاليَ في علاقته بأي منها، فإن الإمكانية الحقة الوحيدة للمعضلات الفلسفية تكمن في المثالية. في تلك الحالة، لم يكن كانت مثاليًا أكثر من أرسطو. إذا كانت المثالية تعني اختزال كل الكائنات إلى جوهر أو وعي، متميز ببقائه غير محدد في وجوده الخاص، ويتسم سلبيًا في النهاية بأنه «غير شيئي»، فإن المثالية ليست أقل سذاجة منهجية من الواقعية الغليظة».
تعرضت المثالية بوصفها فلسفة إلى هجوم ضارٍ في الغرب في نهاية القرن العشرين. كان جورج إدوارد مور وبيرتراند راسل من أكثر النقاد نفوذًا من كلتا المثاليتين الإبستمولوجية والأنطولوجية، لكن كان من بين نقادها واقعيون محدثون أيضًا. وفقًا لموسوعة ستانفورد للفلسفة، كانت انتقادات مور وراسل مؤثرًة جدًا إلى درجة أنه بعد أكثر من مئة سنة منها «يُنظر إلى أي إقرار بميول مثالية في العالم الناطق بالإنجليزية بتحفظ». مع ذلك، بقي للعديد من جوانب المثالية ونماذجها تأثير كبير على الفلسفة اللاحقة.
أشكال وأنواع المثالية
هناك شكلين للمثالية:
- شكل أول يحاول أن يعيد الوجود إلى الفكر الفردي ويسمى أحيانا «االذاتية».
- شكل آخر يحاول أن يقصر الوجود على الفكر بشكل عام.
كما يميز عادة بين عدة أنواع من المذاهب المثالية:
- المثالية الواقعية أو الانتولوجية (أفلاطون): وهي تؤكد على وجود عالم بذاته من المثل يقع خارج فكر البشر والأشياء.
- المثالية اللامادية (بركلي): وهي لا تعترف بوجود الحقيقة الخارجية وتعتبر أن الموجودات المادية لا وجود لها في الواقع بل في تمثلاتنا الذهنية عنها وهذه الأخيرة نتلقاها من الفكر الإلهي مباشرة عبر الأشياء. (الوجود هو الوجود المدرك).
- المثالية المتعالية أو النسبية (كانط): ترى أن كل ما نعرفه عن العالم، من مفاهيم وحدوس، هو إنتاج محض للفكر. ويقول كانط: « إن ما أسميه مثالية متعالية للظواهر هو مذهب يعتبر أن هذه الظواهر هي تمثلات ذهنية وليست أشياء بذاتها لأن معرفة الأشياء بذاتها أمر غير ممكن»
- المثالية الذاتية (فيشته): ونجدها عند إيمانويل كنت، ثم عند المثاليين الألمان الكبار: فيشته، هيجل، شلنج. ومفادها ان العقل لا يدرك الأشياء في ذاتها، بل الامتثالات التي لدينا عن هذه الأشياء.وتقدم على أنها فلسفة الأنا. إنها «مثالية» لأنها تجعل من المثال مبدأ للوجود. و«ذاتية» لأنها تضع هذا المثال في الذات الأخلاقية المطلقة. أي أنها ترد حقيقة العالم الخارجي إلى التمثلات الفردية.
- المثالية الموضوعية (شلنغ): ترد كل الظواهر المتعلقة بالوعي إلى نظام مطلق سابق على وجود الإنسان. ونجدها عند افلاطون ومفادها أن الجزئيات الحسية ليس لها وجود حقيقي، وإنما صورها النوعية هي ذات الوجود الحقيقي. فصورة الانسان هي الحقيقية، بينما الجزئي المحسوس من بني الانسان: كزيد وعمرو، ليس له وجود حقيقي إلا بمشاركته في صورة النوع الانساني.
- المثالثة المطلقة (هيغل): تماثل بين الفكر والواقع "فكل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي" وترى أن العقل عبر تطوره الخاص به يعبر عن تطور الواقع.
- المثالية الفعلية (جيوفاني جنتيلي): ترى أن ليس ما هو فكري واقعي فقط بل فعل التفكير أيضا.
- (هوسرل): ترد معرفة واكتشاف جواهر الأشياء والمفاهيم إلى الحدس. فالتجربة لا تصلح إلا لإيضاح طبيعة هذه الجواهر.
إن أنواع المثالية المذكورة آنفا هي عينه من المفاهيم المثالية كما استخدمت في مجالي الفلسفة والميتافيزيقا. لكن استخدام هذه المفاهيم لم يقتصر على هذين المجالين فقط بل تعداهما إلى مجالات أخرى كعلم الجمال والأخلاق والسياسة وغيرها. ففي علم الجمال، استخدم المفهوم المثالي لكي يعبر عن رفض إعادة إنتاج الأشياء والطبيعة كما هي منطلقا من أن الفن يجب أن يرتكز على مفوم للجمال بداءة. وفي مجال الأخلاق يؤكد هذا المفهوم على أن إصلاح ما فسد في طبيعة المجتمعات يجب أن ينطلق من مبادئ فكرية عامة وسامية تشكل مثالا للأفراد وعدم الرضوخ لسحر الأشياء المادية وبريقها. أما في السياسة، فقد ارتبط المفهوم المثالي بتصور أشكال من التنظيم السياسي للمجتمعات غير قابلة للتطبيق كجمهورية أفلاطون أو المدينة الفاضلة لأفلاطون أو "يوتوبيا" توماس مور كما استخدمت كلمة مثالية في السياسة لتدل على معنيين متناقضين:
- معنى سلبي: لوصف رجل سياسي بعدم الواقعية فيما يطمح إلى تحقيقه.
- معنى إيجابي: للدلالة على الفكرة أو المثل الأعلى الذي يحركه، ويوجه سلوكه.
هذا وتأخذ المذاهب المادية، وخصوصا الماركسية منها، على المذهب المثالي عدم واقعيته وإغفاله للتناقضات المادية التي تحرك المجتمعات وتحدد صيرورتها.
المثالية في علم الاجتماع
يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى اتجاه فى فلسفة العلوم الاجتماعية يرى أن العالم الاجتماعى، مثله مثل غيره من موضوعات الإدراك الخارجى، يتكون من أفكار تنبع من مصدر أو أكثر. وتتمثل هذه المصادر - على سبيل المثال - فى "الروح" عند هيجل، أو " الله " عند بيركلى، أو عقول الأفراد (وهذا هو الأكثر شيوعاً داخل علم الاجتماع). بمعنى آخر تؤكد النزعة المثالية - من الناحية الأنطولوجية - على أن المجتمع لا يوجد إلا بمقدار ما يفكر الأفراد فى وجوده. كما تؤكد - من الناحية المعرفية (انظر مادة: نظرية المعرفة) — على أن الطريقة المناسبة لمعرفة هذا المجتمع هى دراسة ذلك التفكير.
ويتشابه الاتجاه الذى أوضحه بيتر وينش فى كتابه: فكرة العلم الاجتماعى، الصادر عام 1958 تشابهاً كبيراً مع النزعة المثالية الصرفة داخل العلوم الاجتماعية المعاصرة، هذا على الرغم من أن بعض صياغات تحليل الخطاب يمكن أن تعد أمثلة توضيحية جيدة أيضاً. وعموماً فإن علماء الاجتماع الذين ينطلقون من الاتجاه المثالي عادة ما يتبنون أحد اتجاهين: إما أنهم ينطلقون من فكرة الوجود التركيبى التى تفترض تعايش الظواهر المادية والفكرية فى العالم الاجتماعى، وتربط ذلك ربطاً قوياً بالإبستمولوجيا الإمبيريقية (مثل ماكس فيبر، حسبما يرى البعض)، أو أنهم يجمعون بين مثالية الوجود وتأكيد إمبيريقى على الأولوية المعرفية للملاحظة (كما فى حالة التفاعلية الرمزية والإثنوميثودولوجيا)،