أدب المدينة الفاضلة

(بالتحويل من يوتوبيا)
هذه المقالة عن مفهوم فلسفي. من أجل رواية يوتوبيا للكاتب أحمد خالد توفيق، انظر يوتوبيا (رواية).
هذه المقالة عن أدب المدينة الفاضلة أو يوتوبيا. من أجل مدينة أفلاطون الفاضلة، انظر المدينة الفاضلة.

أدب المدينة الفاضلة أو الطُوبَاوِيّة أو المِثَالِيّة أو يوتوبيا (باليونانية: οὐ-τοπος) (بالإنجليزية: Utopia) (الطوبى هي مكان خيالي قصي جداً أو المدينة الفاضلة) هي ضرب من التأليف أو الفلسفات التي يتخيل فيها الكاتب الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له، مجتمع يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر. اليوتوبيا وصف تخيلي لمجتمع متكامل أو جمهورية ديموقراطية مثالية.

وقد اشتق المصطلح - الذى عادة ما يستخدم بطريقة تحط من شانه - ليعنى غير واقعى، بدءاً من يوتوبيا السير توماس مور في رواية «يوتوبيا» Utopia (سنة 1516)، وهو الاسم الخيالي الذي أطلقه على الجزيرة التي أراد أن يتصور فيها النموذج الأسمى للحكم. وهذه الكلمة الأجنبية لا أصل يوناني لها، لكنها مؤلفة من مقطعين يونانيين في جذرها: topos التي تعني المكان، والمقطع الأول U يعني «لا»، فمعناها: اللامكان، أو على حد تعبير السهروردي المقتول: ناكجا أباد (= البلد الذي لا يوجد في أي مكان) ويمكن أن يسمى أيضاً «المدينة الفاضلة» على حسب تعبير الفاراي. ولعل هذا النوع من التأليف يضرب بجذوره في جمهورية أفلاطون التي تقدم رؤيته في السياسية والحكم، ومن ثم يغلب على أعمال الأدب الطوباوي طابع سياسي حالم بمجتمع فاضل يسعد أهله بلا استثناء. ومن هذا النوع في العربية المدينة الفاضلة للفارابي.

الطوبى هي من نوادر الجموع لكلمة طيّب، وتعني الغبطة والسعادة والحظ والخير، ومنها كلمة الطوباوية.

والفكرة الأساسية في هذا النوع من الكتب هي اقتراح ما يراه المؤلف أنه النظام الأمثل للحكم والذي يضمن الحرية والعدالة والمساواة لجميع المواطنين، ويكفل لهم رخاء العيش بأقل مجهود. ويبدأ العرض ببيان ما في الدول والمجتمعات المعاصرة للمؤلف من مفاسد وشرور ومظالم واستبداد؛ ثم ينتقل إلى بيان ما يقترحه من علاج للتخلص من هذه الشرور.

وانقسمت هذه اليوتوبيات إلى أربعة اتجاهات :

  1. اتجاه سياسي لوضع أفضل دستور لحكم البلاد.
  2. اتجاه اقتصادى اجتماعي يتعلق بالملكية وتوزيع الثروة وكيفية العمل والإنتاج والأجور؛
  3. اتجاه ديني وأخلاقي يريغ إلى صبغ المجتمع بصبغة دينية أو أخلاقية معينة.
  4. اتجاه فلسفي يهدف إلى تحقيق «القيم» ووضع نظام للناس كافة، ويهتم خصوصاً بالنزعة الإنسانية العامة.

المدينة الفاضلة: بين الأسطورة والدين

في عديد من الثقافات والمجتمعات والديانات، تروي بعض الأساطير أو ذكريات الماضي السحيق كيف عاش الجنس البشري في حالة بدائية وبسيطة، ولكن في الوقت نفسه حالة سعادة تامة ورضى. تروي مختلف الأساطير أنه في تلك الأيام كان هناك تناغم غريزي بين الإنسانية والطبيعة؛ كانت حاجات الناس قليلة ورغباتهم محدودة؛ استوفوا رغباتهم وحاجاتهم تلك بسهولة بالوفرة التي قدمتها الطبيعة. لذلك، لم تكن هناك دوافع على الإطلاق للحرب أو القمع. لم تكن هنالك حاجة إلى عمل شاق ومضنٍ. كان البشر بسطاء وأتقياء وشعروا بقربهم من الرب أو الآلهة. بحسب إحدى النظريات الأنثروبولوجية، كان مجتمع البشر القائم على الجمع والالتقاط مجتمع الرخاء الأول.

تظهر تلك الروايات الأسطورية أو الدينية ضمن حضارات كثيرة، وتبرز ثانية بحدة خاصة عندما يكون الناس في أزمنة صعبة وحرجة. غير أن إسقاط الأسطورة في الأدب الطوباوي لا يحدث تجاه الماضي البعيد، بل إما نحو المستقبل أو نحو أماكن بعيدة وخيالية، متصورين إياها في وقت ما في المستقبل، أو في مكان ما في الفضاء، أو بعد الموت؛ يجب أن توجد إمكانية للعيش بسعادة.

في الولايات المتحدة وأوروبا، خلال فترة الصحوة الكبرى الثانية (1970 – 1840) وبعدها، شكلت العديد من الجماعات الدينية المتطرفة مجتمعات فاضلة يمكن فيها للإيمان أن يحكم جميع جوانب حياة الأفراد فيها. تضمنت تلك المجتمعات الفاضلة «الشيكرز (الجمعية المتحدة للمؤمنين في الظهور الثاني للمسيح)». نشأ ذلك المجتمع في إنكلترا في القرن الثامن عشر ووصل إلى أمريكا في سنة 1774. جاء إلى الولايات المتحدة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عدد من المجتمعات الفاضلة الدينية من أوروبا، بما فيها «جمعية المرأة في البرية» (بقيادة جوهانس كلبيوس (1667 – 1708)، وإفراتا كلوستر (تأسست سنة 1732)، وجمعية الوئام، وغيرهم. كانت جمعية الوئام مجموعة مسيحية ثِيوصوفية وتقوية تأسست في إبتنجن، ألمانيا سنة 1785. بسبب الاضطهاد الديني من الكنيسة اللوثرية والحكومة في فورتمبيرغ، انتقلت الجمعية إلى الولايات المتحدة في 7 أكتوبر 1803، واستقرت في ولاية بنسلفانيا. في 15 فبراير 1805، نظم نحو 400 عضو جمعية الوئام رسميًا، واضعين جميع أملاكهم المشتركة سويًا. استمرت المجموعة سنة 1905، ما جعلها واحدة من أطول التجمعات الناجحة ماليًا في التاريخ الأمريكي.

كانت جماعة أونيدا، التي أسسها جون همفري نويز في أونيدا، نيويورك، جماعة دينية طوباوية دامن بين سنتي 1848 و1881، رغم أن هذه التجربة الطوباوية عرفت على نحو أفضل اليوم لصناعتها «فضيات أونيدا»، إلا أنها كانت واحدة من أطول التجمعات المحلية في التاريخ الأمريكي.  كانت مستعمرات أمانا عبارة عن مستوطنات محلية في ولاية أيوا، والتي بدأتها جماعات تقوية ألمانية متشددة، واستمرت بين عامي 1855 و1932. نشأت أمانا، وهي شركة لتصنيع الثلاجات والأجهزة المنزلية، على يد تلك المجموعة. من الأمثلة الأخرى «فاونتين غروف» (نشأت سنة 1875)، ورايكرز هولي سيتي، وغيرها من المستعمرات الطوباوية في كاليفورنيا بين عامي 1855 و1955 مثل هاين، فضلًا عن سوينتولا في بريتيش كولومبيا، كندا. يمكن أيضًا اعتبار مجتمعات الآميش والهوتريتيين محاولات دينية للاقتراب من الطوباوية الدينية. بدأت أيضًا مجموعة متنوعة واسعة من المجتمعات المتعددة التي تبنت نوعًا من الأفكار الدينية في مختلف أنحاء العالم.

تفحص عالم الأنثروبولوجيا ريتشارد سوسيس 200 مجتمع محلي في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، دينية وعلمانية على السواء (غالبًا مجتمعات اشتراكية طوباوية). كان 39% من المجتمعات الدينية لا يزال فاعلًا بعد 20 عامًا من تأسيسها، في حين أن 6% فقط من المجتمعات العلمانية بقيت فاعلة. إن عدد التضحيات المكلفة التي طالبت بها جماعة دينية من أعضائها كان له تأثير خطي على طول عمرها، في حين أن المطالب بالتضحيات المكلفة في الجماعات العلمانية لم تكن مرتبطة بطول العمر وفشلت غالبية المجتمعات العلمانية في غضون 8 سنوات من تأسيسها. يقتبس سويس كلام عالم الأنثروبولوجيا روي رابابورت في قوله إن الطقوس والقوانين أكثر فعالية حين يجري تدويرها. يشير عالم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت إلى بحث سوسيس في كتابه الصادر في عام 2012 «العقل الصالح» باعتباره أفضل دليل على أن الدين هو حل متكيف لمشكلة «الراكب بالمجان» (الفرد الذي يستفيد من المصادر أو البضائع أو الخدمات دون أن يدفع أجرًا لهذه المنفعة) من خلال تمكين التعاون المشترك دون صلة قربى. قال كل من الباحث في الطب التطوري راندولف إم. نيسه وعالمة الأحياء النظرية اري جين وست-إيبرهارد أنه بسبب تفضيل البشر ذوي الميول الإيثارية كشركاء اجتماعيين، فإنهم يحصلون على مزايا التلاؤم الشامل عن طريق الانتقاء الاجتماعي، في حين يزعم نيسه أن الانتقاء الاجتماعي مكن البشر كجنس بشري من أن يصبحوا متعاونين على نحو غير عادي وقادرين على خلق الثقافة.

يصور سفر الرؤيا في الكتاب المقدس وقتا قصيًا حين هزم كل من الشيطان والشر والخطيئة. الفارق الرئيسي بالمقارنة بوعود العهد القديم هو أن مثل هذه الهزيمة لها أيضا قيمة وجودية (سفر الرؤيا: «ثم رأيت ‹سماء جديدة وأرضًا جديدة›، لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا، ولم يعد هناك بحر.. سيمسح كل دمعة من عيونهم. ولن يكون هنالك موت في ما بعد أو حزن أو صراخ أو وجع، لأن نظام الأمور القديم قد زال»). ولم يعد مجرد فكرٍ معرفي (سفر إشعياء: «ها أنا أخلق سماوات جديدة وأرضًا جديدة، فلا تذكر الأولى أو تخطر على ذي بال»). إن تفسيرًا ضيقًا للنص يصور جنة على الأرض، أو جنة وجدت على الأرض دونما خطيئة. إن التفاصيل اليومية والدنيوية لهذه الأرض الجديدة، حيث يحكم الله ويسوع، لا تزال غير واضحة، مع أنها تدل ضمنًا على شبهها بجنة عدن للكتاب المقدس. يرى بعض الفلاسفة اللاهوتيين أن الجنة لن تكون عالمًا ماديًا، وإنما مكانًا معنويًا غير مادي للأرواح.

تاريخ

لم يأتِ توماس مور بجديد، فهذه النزعة لتخيُّل أمكنة خرافية مثالية كانت موجودة في الغرب منذ العصر اليوناني، حين عالج الفلاسفة والشعراء قضايا الواقع ومشكلاته بوصفهم أمكنة عجائبية لا تتوقف فيها الأشجار عن حمل الثمار طوال السنة، كما هي حال حدائق الكينوس Alkinoos التي تحدث عنها هوميروس Homeros في النشيد السابع من «الأوديسة» Odyssée، أو لعصر ذهبي لا هموم فيه، ولا شيخوخة، ولا أحد يستأثر فيه بشيء، لأن كل الثروات تعود للجميع، حسبما تخيل هسيودوسHesiodos في ملحمته «الأعمال والأيام»، أو لشكل حياةٍ نموذجي لا عمل فيه، ولا معارك، بل وَفْرَة ومآدب عامرة، كما وصفه بِنداروس Pindaros في جزيرته السعيدة التي تقع «على أطراف الأرض».

يتبين من ذلك أن هذا التنوع في تصوير أشكال الحياة المثالية التي تأخذ فيها السعادة شكل الوفرة المادية، أو العمر المديد، أو التوزيع العادل للثروات، أو انعدام الحروب؛ كان يعكس تطلعات المفكرين لواقع نموذجي تُحلُّ فيه مشكلات البشر على جميع الأصعدة، حتى إذا ما أتى أفلاطون Plato تحولت هذه التصورات الخيالية المبعثرة إلى مشروع متكامل صاغه الفيلسوف في محاورة «السياسة» (المعروفة خطأ باسم: «الجمهورية» La République) و«القوانين» Les Lois، حين طرح تصوره عن «المدينة الفاضلة» التي يقوم النظام السياسي فيها على احترام القوانين التي تعالج كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصاد والتربية والدين والعدالة والعمران. وهو يعد من النماذج الأقدم لهذا النوع من المؤلفات إذ استعرض فيها أفلاطون نظم الحكم القائمة في البلاد اليونانية وكل منها تكون دولة قائمة برأسها. فوجد أن النظام الأمثل هو الأرستقراطية أي «حكم الأفضل» لأنه قائم على الفضيلة، لكنه ما يلبث أن يفسد ويتحول إلى «تيموقراطية» أي الحكم القائم على الطمع وحب التشريفات؛ وهذا أيضاً يفسد ويتحول إلى «أوليجاركية» وهو حكم «الأقلية» القائم على الجشع وسلطة الثراء. وبعد ذلك ينجم واحد من هذه الأقلية فيستثير غرائز العامة (الشعب) وينادي بحكم الشعب، أي بالديمقراطية، لكن الإفراط في الحرية يؤدي إلى الفوضى. والفوضى تؤدي إلى قيام طاغية يدعى أنه سيعيد النظام والأمن. وهكذا تتحول «الديمقراطية» إلى طغيان أو الحكم الاستبدادي. وللخلاص من هذه الأنظمة الفاسدة كلها يقترح أفلاطون «المدينة المثلى» وتتصف بالصفات التالية: الحكمة، والشجاعة، والعدالة؛ وفيها كل فرد يؤدي الدور المنوط به. ولا سبيل إلى تحقيق هذه «المدينة المثلى» إلا إذا تولى الفلاسفة الحكم لأنهم وحدهم الذين يعرفون ما هو الخير.

تعددت مشروعات الإصلاح الاجتماعي والسياسي في مدن نموذجية متنوعة كتلك التي تحل المساواة فيها على الأصعدة كافة في مشروع أحد معاصري أفلاطون وهو فاليّاس من خلقيدونيا Phaléas de Chalcédoine، وتلك التي تقوم على الاختلاف وتكرّسه في مشروع هيبوداموس Hippodamos. ولم يخل الأمر من بعض السخرية أحياناً كما في مسرحية «مجلس النساء» L’Assemblée des femmes لمؤلف الكوميديا أريستوفان (أريستوفانس) Aristophanes الذي انتقد فيها بطريقته اللاذعة مواطنيه من الرجال وعدَّهم سبب البلاء، ولذا عليهم أن يرحلوا ويتركوا الحكم للمرأة علّ الأمور تستقيم بصورة أفضل.

ولأن تلك المدن المثالية كانت مشروعات من الصعب تحقيقها في الواقع، فقد وضعها الكتّاب في أمكنة بعيدة يصعب الوصول إليها. ترافق ذلك وظهور أدب الرحلات الذي شجع على رواجه تحركات جيوش الاسكندر المقدوني. وهكذا تعددت الروايات عن بلاد بعيدة حقيقية، للحياة فيها طعم مختلف، كجزر الشمس التي زارها يامبولوس Jamboulos، حسب رواية ديودوروس الصقلي Diodore de Sicile الذي نقل عن مكتشفها أن السعادة تحل فيها دوماً، وأن سكانها يعيشون حياة جماعية مليئة بالوفرة، لا يعرفون المرض ولا الموت المبكر، وتنتفي فيها العبودية. هناك أيضاً الجزيرة المقدسة التي تفيض أرضها بالثروات، وتقع حسب الرحالة إيفيمير Evhémère في عرض سواحل الهند والجزيرة العربية، وجزر الحظ التي روى بلوتارخُس Plutarque أنها تقع في عرض سواحل أفريقيا، وجزيرة أوغيفيا Ogyvie على بعد خمسة أيام سفر من بريتانيا، وجزيرة الماكروب Macrobes حيث الرجال المعمرون، وتحدَّث عنها سيدرينوس Cedrenos منطلقاً من المواقع التي وصل إليها الاسكندر المقدوني، والهند ومصر اللتان يعيش فيهما البراهمان Brahmanes والنسّاك المتعبدون Gymnophysites حسب رواية فيلوستراتوس،Philostratos نقلاً عن رحلات أبولونيوس من تيان Apollonios de Tyane التي قادته إلى تلك البلاد.  

لم يختلف الأمر في الحضارة الرومانية، إذ استعاد أوفيد Ovide في كتاب «التحولات» أو «مسخ الكائنات»Métamorphoses فكرة هسيودوس عن العصر الذهبي لمجتمع لا عوائق فيه ولا أسلحة، يعيش من اقتصاد جني الثمار في ربيع دائم حيث «تجري أنهار الحليب، وتسيل ثمار الرحيق والعسل البري». أما هوراتيوس (هوراس) Horace فقد دعا إلى ترك روما التي هجرتها الآلهة، والالتحاق بجزر الحظ التي «خصّصها جوبيتر Jupiter لعرق مؤمن»، وعلى نقيضه جعل فِرجيل Virgile المكان الطوباوي في إيطاليا حيث تُستعاد حياة السِّلم، مشيراً إلى أن طفلاً من نسل الآلهة والأبطال سيولد، وسيكون مولده فاتحة للعصر الذهبي.

ثم توالت في الفكر الأوروبي المحاولات لتخيل هذه المدن المثلى:

١ - «مدينة الله» للقديس أوغسطين.

٢ - مؤلفات يواتيم الفلوري والتخيلات حول سنة ألف.

لم تمنع المشروعات النظرية والرؤى لمجتمعات سعيدة تتوضع في أمكنة مسحورة أو حقيقية بعيدة قيامَ بعض المحاولات العملية لتأسيس مجتمعات نموذجية في الواقع، كتلك التي أدّت إلى تشريعات إسبرطة Sparte وكريت Crète وقرطاجة Carthage، وكمحاولات هيرمياس من آتارنيا Hermeas d‘Atarnée في آسيا الوسطى، والمستوطنات الجماعية في جزر ليباريLipari، ومشروعات آريستونيكوس Aristonicos المناهضة للعبودية في آسيا الصغرى، التي يظن المؤرخون أنها الأصل الذي استمد منه يامبولوس روايته عن جزيرة الشمس، فضلاً عن كل المحاولات التي باءت بالإخفاق لتحقيق مشروعات أفلاطون المثالية في جزيرة صقلية.

الطوباوية في العصر الحديث

يمكن القول إن المخيلة الدينية في العصر الحديث كانت بديلاً من المشروعات الطوباوية التي تحدث عنها القدماء؛ إذ لم يعد الناس في فترة انتشار المسيحية في أوروبا يفكرون بأمكنة الرخاء على الأرض، وإنما بجنات تقع في العالم الآخر تكون جزاءً للمؤمنين المتعبدين تعوّضهم عن الحياة الأرضية القاسية المليئة بالحروب. لم يمنع ذلك ظهور بعض القصص الخرافية التي انبثقت من الحكايات الدينية لتصور بلاد النعيم Pays de Cocagne كنموذج لجنة الله على الأرض، وكتلك البلاد التي روى القديس برندان Brendan أنها تحتوي على «كاتدرائيات من الزجاج». كما أن بعض المواكب الصاخبة والكرنڤالات وأعياد المجانين التي درج الاحتفال بها في القرون الوسطى كانت تصور العالم مقلوباً، إذ إن التنكر وادعاء الجنون كانا وسيلتين ناجعتين لانتقاد المؤسسات القائمة، ولوصف ما ينبثق من المخيلة من أشكال الحياة السعيدة. ولاشك في أن مؤلَف إراسموس Erasme «مديح الجنون»    (1511) Eloge de la folie كان أحد تداعيات هذه الفكرة التي تصور عالم الجنون بديلاً من العالم الواقعي.

ثم جاء توماس مور فاقترح في «يوتبياه» نظاماً يتميز بما يلي: (1) إلغاء الملكية الشخصية؛ (2) تقليص سلطة الدولة إلى أقل درجة ممكنة؛ (3) المساواة بين الأفراد تجاه العمل الإنتاجي بحيث يقل المجهود في العمل إلى أقل درجة ممكنة، وذلك لكي يتوافر لهم أكبر مقدار من الفراغ لثقيف أنفسهم. ذلك أن مور - رأى أنه حيث توجد الملكية الشخصية توجد الكثير من المنازعات والجرائم؛ كما أنه رأى أن البعض يرهقهم العمل الشاق، بينما البعض الآخر لا يكادون يعملون شيئاً. وبعد مور نجد: تومازو كمبانلا في كتابه «مدينة الشمس»، وفرنسيس بيكون في «أتلانتس الجديدة» ؛ و«كومنولث أوسيانيا» تأليف هارنجتون.

ما كان لفكرة اليوتوبيا التي أطلقها توماس مور أن تُحْدِثَ ذلك التأثير كلَّه لو لم تكن تلك الحقبة مرحلة تغيرات جذرية. فقد كان للاكتشافات الجغرافية دورها في قلب مفاهيم مركزية الغرب الأوربي، ولنظريات كوبرنيكوس Copernic وغاليليو Galilée في كروية الأرض تأثيرها في زعزعة القناعة بثبات الكوكب وتسطحه، إضافة إلى أن الحروب الدينية التي تولدت عن الإصلاح الديني فرضت إعادة النظر في طبيعة الممارسات الدينية وجوهرها. وعلى الصُّعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أيضا كان لانهيار النظام الإقطاعي وصعود البرجوازية دورهما في فسح المجال أمام ظهور قوى جديدة غيَّرت موازين القوى كثيراً؛ إذ قام كتَّاب ومفكرو تلك الفترة المضطربة بوضع صيغ جديدة للعيش؛ ففي فرنسا، وأمام وعود الملك فرانسوا الأولFrançois 1er بالتسامح الديني وصف فرانسوا رابليه François Rabelais مكاناً مُتخيلاً هو دير تيليم L’abbaye de Thélèmeالذي يحكمه تنظيم حكيم يسهّل العلاقات الاجتماعية في إطار طبيعي يقوم على الانسجام، لكن رابليه سرعان ما عبّر عن تشاؤمه من إمكانيات التغيير ذاته أمام قسوة الواقع وتصاعد التعصب الديني من جديد ومشاهد العنف المرعبة التي صارت جزءاً من العيش اليومي منذ عام 1540.

أما في إنكلترا فقد كان الوضع مختلفاً، فبعد أن ظهر مؤلف فرانسيس بيكون Francis Bacon عن الاطنلطس الجديدة Nouvelle Atlantide عام 1627، وكتاب صمويل هارتليب Samuel Hartlib عن مملكة ماكاريا Macarie في 1641، ثم كتاب صمويل غوت Samuel Gott عن سوليما الجديدة La Nouvelle Solyme في 1648؛ بدأ المفكرون والكتّاب يصبُّون اهتمامهم على الواقع ومحاولة تغييره بدلاً من الهروب بالتفكير إلى أمكنة بعيدة، ويمكن تفسير ذلك بتأثير أفكار كرومويل Cromwell الذي كان له أثرًٌ أساسيًٌ في تغيير بنية الحكم والتقنيات العسكرية، وكان وراء اندلاع الثورة البرجوازية الكبيرة التي جعلت من إنكلترا قوة تجارية واستعمارية كبيرة. ولذلك ظهرت في تلك الفترة مؤلفات تناقش روحية القوانين مثل كتابي «قانون العدالة الجديد»(1649) La Nouvelle loi de justice و«قانون الحرية» (1625) La Loi de liberté لجيرارد وينستانلي Gerrard Winstanley، وكتاب «لوياثان» Léviathan لهوبز (1651) Hobbes الذي عرض فيه أفكاره ونظريته الفلسفية والسياسية حول عَقْدٍ اجتماعي يتخلى بموجبه الناس عن حقوقهم الطبيعية لصالح المجتمع، وكتاب «أوسيانا» Oceana لجيمس هارينغتون James Harringtonالذي نشره في عام 1656 وأهداه لكرومويل، وطرح فيه مشروعه لإعادة تنظيم المجتمع ليجعله مثالياً.

مع ظهور تيار الافتتان بما هو غريب Exotisme في القرن الثامن عشر، ومع الانتشار الواسع لأدب الرحلات الذي تختلط فيه القصص الحقيقية بتلك المتخيلة لبلاد سعيدة، توجَّه الأدب نحو التعبير عن التوق إلى المجهول الذي أظهرته عنوانات الكتب في تلك الفترة مثل مجموعة «رحلات غوليفر» (1726) Les Voyages de Gulliver  لسويفت Swift، و«اكتشاف الجزء الجنوبي من الأرض» (1777ـ1782) La Découverte australe لريستيف دي لا بروتون Restif de la Bretonne، و«أركاديا»(1781) L’Arcadie لبرناردان دي سان بيير Bernardin de Saint Pierre، و«ملحق لرحلة بوغانفيل» (1796) Supplément au Voyage de Bougainville لديدرو Diderot، وكتابيَ سيرانو دي برجراك Cyrano de Bergerac «القصة المضحكة لدول وامبراطوريات القمر» (1657) L’Histoire comique des Etats et empires de la lune، و«دول وامبراطوريات الشمس» (1662)Etats et empires du Soleil. وكان القرن الثامن عشر أيضاً عصر التنوير وأفكار الموسوعيين الجديدة حول دور القانون في التأسيس لمجتمع أفضل، إضافة إلى المفاهيم الجديدة حول المساواة والإخاء والحرية التي مهدت للثورة الفرنسية، ولذلك صارت المشروعات الطوباوية في كل أوروبا حتى القرن التاسع عشر تتناول نمطاً جديداً من الحياة الجماعية التي تنعدم فيها الملكية الفردية. ففي كتاب موريللي Morelly «قانون الطبيعة» (1755) Code de la nature نجد طرحاً لأسس حياة شيوعية بدائية ذات نمط زراعي. كما أن روبرت أوين Robert Owen الذي اهتم بظروف العمال وبتحسين القوانين الاجتماعية للعمل في إنكلترا حاول أن يؤسس مستعمرة شيوعية في الولايات المتحدة أسماها «الانسجام الجديد» New Harmony، لكن مشروعه أخفق، فعاد إلى التنظير، وطرح في مجلة أصدرها بعنوان «العالم الأخلاقي الجديد» (1836ـ1844) The New Moral World نظرياته عن الشيوعية الطوباوية. كذلك كتب الألماني فيلهلم فايتلينغ Wilhelm Weitling الذي تأثر بالأفكار الاشتراكية في فرنسا «البشرية كما هي وكما يجب أن تكون» (1838) L’Humanité comme elle est et comme elle devrait être، كما حاول تأسيس رابطة للحرفيين وبناء مستعمرة شيوعية أسماها Communia، لكن مشروعه هذا باء بالإخفاق أيضاً.

هذه المشروعات تأثرت كثيراً بأفكار الاشتراكية الطوباوية التي نشرها في فرنسا شارل فورييه Charles Fourier الذي حلم بعالم جديد، وكلود هنري دي سان سيمون Saint-Simon الذي وجه تفكيره نحو تأسيس «المسيحية الجديدة» (1825) Le Nouveau Christianisme، وأعلن عن رغبته في إعادة جنات عدن إلى الأرض. وهناك أيضاً إتيين كابيه Etienne Cabet الذي ألّف «رحلة إلى إيكاريا» Voyage en Icarie في منفاه في لندن، ثم حاول بعد ذلك أن يحوّل إيكاريا المكتوبة على الورق إلى نموذج حقيقي.

وعلى صعيد الأدب العربي ظهرت منذ القديم بعض الأعمال ذات الصبغة الطوباوية، والتي تتحدث عن عالم قَصِيٍ تتحقق فيه أحلام البشر المؤمنين الصالحين بالعدالة والمساواة والخير. ومن هذه الأعمال «رسالة الغفران» للمعري، إضافة إلى عدد من مؤلفات الفارابي ومنها «المدينة الفاضلة» و«تحصيل السعادة».

ظهرت في الأدب العربي الحديث منذ عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر بعض الأعمال القليلة أيضاً التي اندرجت في مفهوم الطوباوية، مثل «غابة الحق» (1865) لفرانسيس مراش من حلب، و«أم القرى» (1901) لعبد الرحمن الكواكبي و«لطائف السمر في سكَّان الزُّهرة والقمر» (1907) لميخائيل الصَّقال من حلب أيضاً، وهناك «الدين والعلم والمال» (1903) لفرح أنطون اللبناني وصاغ مادته بأسلوب روائي. أما القاص والمسرحي المصري يوسف إدريس فقد أسهم في هذا النوع الأدبي بقصة «جمهورية فرحات» (1956). ويمكن القول إن الكاتب العربي الوحيد الذي كتب اليوتوبيا حسب المفهوم الأوربي هو سلامة موسى، ولاسيما في كتابه «أحلام الفلاسفة» (1926) وفي قصة «من أحلام اليقظة» في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين.

على الرغم من المعنى الانتقاصي الذي يحيط اليوم بكلمة الطوباوية التي صارت رديفاً لكل ما يُعَدُّ أضغاث أحلام لا علاقة لها بالواقع، إلا أنه لا يمكن نكران الأثر الذي تركه الأدب الطوباوي في إغناء المخيلة البشرية بكل هذه الرؤى لمجتمع مختلف. لقد فتح ذلك الأدب الباب لمشروعات أخفق معظمها، إلا أنها أسست لإيديولوجيات ولتحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية أفرزت ثورات مهمة غيرت معالم التاريخ. وما بين أسطورة غلغامش الرافدية وبين قصص وأفلام الخيال العلمي في الزمن المعاصر يظل قدر الإنسان أن يحلم وأن يعمل منتظراً حلول اليوم الذي تصير فيه العدالة والوفرة والسلام واقعاً حقيقياً يضمن السعادة للبشرية جمعاء.

في الأدب العربي

العديد من الشعراء كانوا يتفننون في ذكر المدينة الفاضلة، على سبيل المثال، الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي كانت تحلم بالمدينة الفاضلة:

  • صدى ضائع كسراب بعيـــد يجاذب روحي صباح مساء
  • أنـام على رجعه الأبـــــدي ويوقظني برقيق الغــناء
  • صدى لم يشابهه قطّ صــدى تغنّيه قيثارة في الخفــاء
  • إذا سمعته حيـــاتي ارتـمت حـنينا ونادته ألف نـــداء
  • يموت على رجعه كلّ جــرح بقلبي ويشرق كل رجــاء
  • ويمضي شعوري في نشوة يخدّره حلـــــم يوتـــوبيا
  • ويوتوبيا حــلم في دمـــي أموت وأحيا على ذكـــره

علم الاجتماع

تقترن اليوتوبيا فى علم الاجتماع فى العادة بعلم اجتماع المعرفة عند كارل مانهايم. وذهب مانهايم فى سفره المعنون: الإيديولوجيا واليوتوبيا (الصادر عام 1929) إلى أن الجماعات والطبقات الخاضعة تنجذب للمعتقدات اليوتوبية التى تؤكد على إمكانية التغير والتحول، فى حين أن الطبقات الاجتماعية المهيمنة تتبنى تقليدياً نظرة ايديولوجية تؤكد على الثباث والاستمرارية.

وقد مثلت، وجهات النظر الراديكالية للمذاهب البروتستانتية القائلة بتجديد تعميد البالغين "الأنابابتيزم" نماذج لليوتوبيا. ومع ذلك، فإن اهتمام مانهايم باليوتوبيا له أبعاده الفلسفية والدينية: فهذه المقدرة على النزوع اليوتوبى هى التى تحدد فى النهاية الطبيعة البشرية، أى القدرة على تصور مستقبلات بديلة.

وشارك الفيلسوف الاجتماعي الماركسي إرنست بلوخ الذي تناول فى كتابه "مبدأ الأمل" (الصادر عام 1959) دور الأحلام والقصص الخيالي والفلسفات اليوتوبية والفانتازيا فى المجتمعات الإنسانية، شارك مانهايم فى رؤيته للعلاقة بين اليوتوبيا والأنطولوجيا الإنسانية. فاليوتوبيا عند بلوخ هى وعي متوقع كلي الوجود ولليوتوبيا بعدان هما: المادي والمثالي، وهو يعبر عنهما فى ضوء: "الذي لم يحدث بعد"، و"الذى لم نعيه بعد". ولقد كانت أفكار بلوخ بمثابة احتجاج على فشل الشيوعية الرسمية فى أوربا الشرقية.

وتحافظ أكثر المواقف المراجعة المعاصرة لنظرية كارل ماركس حول الشيوعية - كما هى الحال عند الماركسيين الجدد - على الأبعاد اليوتوبية فى نظريته. ويعد عمل أندريه جورز نموذجياً فى هذا المقام. وأصبح جورز - الذى ولد فى النمسا - واحداً من رواد التنظير الاجتماعى والسياسى فى اليسار الفرنسي، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة "الأزمنة الحديثة" لبعض الوقت. وكتب العديد من المقالات القصيرة، التى شاعت، وسلسلة من الكتب الواسعة التأثير من بينها مؤلفه بعنوان: الإيكولوجيا كسياسة (الصادر عام 1980)، وكتابه وداعاً للطبقة العاملة (الصادر عام 1982)، وكتاب مسارات إلى الجنة (الصادر عام 1985)، وأخيراً: نقد العقل الاقتصادى (الصادر عام 1989). وعلى الرغم من أنه قد تأثر بشدة بالأفكار الماركسية وبخاصة سارتر، فقد حاول جورز باستمرار أن يراجع هذا التراث فى ضوء تحليله للتغيرات الاجتماعية المعاصرة، ورؤيته المتميزة للمستقبل اليوتوبى المحتمل. وقد طرحت أعماله المبكرة استراتيجية للحركة العمالية تنهض على التحالف بين الطبقة العاملة التقليدية المتدهورة، والطبقة العاملة الجديدة الصاعدة. فقد كان فقدان المعنى واغتراب العمل ظرفين أشتركت فيهما هاتان الجماعتان المختلفتان فى المجتمع الرأسمالى المتقدم. إلا أن جورز رفض - على الرغم من ذلك - أن ينسب - بأى شكل من الأشكال - دوراً ثورياً للطبقة العاملة كما توقعت الماركسية الكلاسيكية. فالتغير التكنولوجى فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة يؤدى إلى تغيرات أساسية فى البناء الاجتماعى: فعمال الإنتاج يتضاءل عددهم بصفة منتظمة بالقياس إلى جمهور غفير غير متجانس يعمل فى وظائف غير آمنة ولبعض الوقت أو يعمل عملاً مؤقتاً، أى أنه يمثل بعبارة أخرى، "بروليتاريا جديدة" ما بعد صناعية نامية. وفى ذات الوقت، يؤدى الولع المرضي بالنمو الاقتصادي والالتزام المفرط بأخلاقيات العمل تدريجياً إلى تدمير كل من الطبيعة والحياة الشخصية فى المجتمع. وتشير الحركات الاجتماعية الجديدة، وبخاصة السياسات الإيكولوجية، إلى مستقبل تشرف فيه الطبقة والهيمنة على نهايتهما. فسوف يتوفر دخل أساسي بغض النظر عن العمل. وسوف تستخدم التكنولوجيا لتخفيض العنصر غير المجدي من العمل الذى ما يزال ضرورياً لإشباع الحاجات إلى حده الأدنى. وفى ذات الوقت، فإن العمل الضروري المطلوب سوف يشترك فيه جميع السكان على قدم المساواة. وسوف يحرر الخفض المتزايد لساعات العمل الأسبوعية - الذى سيصبح ممكنا يسبب هذه الترتيبات - يحرر الناس بحيث يمكنهم أن يستخدموا وقتهم وطاقتهم استخداماً خلاقاً وبطريقة ذاتية ومبهجة.

وقد خضعت كتابات جورز لنقد متعمق من جانب يوريس فرانكل فى مؤلفه بعنوان: يوتوبيا ما بعد الصناعة (الصادر 1987). ويمكن أن يجد القارئ معالجة أشمل وأوفى للموضوع فى كتاب روث لفيتاس مفهوم اليوتوبيا (الصادر عام 1990).

انظر أيضا