الاختلاف بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة
نتحدث هنا عن وجوه هذا الاختلاف بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة من حيث تطور كل واحدة منهما.
تطور الفلسفة اليونانية
فنشاهد أولاً أن تطور الروح اليونانية كان من شأنه أن يوجد بعض التغيير في طبيعة هذه الروح اليونانية في الفلسفة، أي أن يتخذ هذا الطابع صوراً متعددة تبعاً لتطور العصور. ولكننا نستطيع مع ذلك أن نتبين الطابع الرئيسي في كل عصر من هذه العصور، مهما خيل إلينا في بعض الأحيان أنه غير موجود.
الطور الأول
فالطور الأول من أطوار الفلسفة اليونانية، وهو طور الفلاسفة السابقين على سقراط، طور يمتاز بأنه كان يبحث في الطبيعة الخارجية مباشرة بصرف النظر عن الطبيعة الداخلية. ومع ذلك نراهم - كما قلنا من قبل - يتصورون الطبيعة الخارجية على أنها كائن حي. ومعنى هذا أنهم حاولوا أن يوفقوا بين كلتا الطبيعتين، الخارجية والداخلية، ولو أن ذلك التوفيق كان إبان هذا الطور على حساب الطبيعة الداخلية.
الطور الثاني
لما غالى هؤلاء في هذه النزعة إلى تقديم الطبيعة الخارجية، ثارت الروح اليونانية، وكانت هذه الثورة ما يسمى باسم النزعة السوفسطائية. فبدأت العناية تتجه إلى الطبيعة الداخلية، وخصوصاً لدى سقراط الذي بدأ الطور الثاني من أطوار الفلسفة اليونانية، وهو الطور الذي ختم بأرسطو.
سقراط
وهنا نلاحظ أن توجيه سقراط النظر الى الطبيعة الداخلية لم يكن من شأنه أن يصرفه عن الطبيعة الخارجية. حقاً إن الطبيعة الداخلية كادت تستأثر بكل تفكير سقراط، إلا أنه يلاحظ مع هذا كله أن تفكير سقراط كان يحتوي على بذور فلسفة في الكون، ولو أن هذه البذور لم تصل إلى درجة مذهب. أما الذي كون المذهب فهو أفلاطون.
يأتي بعد هذا مذهبا أرسطو وأفلاطون. وهذان المذهبان هما أعلى صورة بلغتها الفلسفة اليونانية. وفيهما نجد الطابع الأساسي للروح اليونانية قد تجلى بأجلى مظاهره. وعلى الرغم مما هنالك من قرب كبير بين طابعي هذين المذهبين وبين طابع الفلسفة الحديثة، فإن الاختلاف ظاهر واضح نستطيع أن نلمسه في شيء من السهولة فمع أن أرسطو وأفلاطون قد قالا بوجود فوق حسي، ومع أنهما قد قالا بأن هذا الوجود اللاحسي أعلى وأسمى من الوجود الحسي، وأن عالم الظواهر ليس غير صورة مشوهة لعالم الحقائق، وهذا الآخر فوق الطبيعة والحس؛ ومع أنهما انتحيا في الأخلاق ناحية القول بأن الفضيلة هي العلم والتفكير، أي إلى جعل الذاتية الأساس في هذا كله - نقول إنه على الرغم من هذا كله نشاهد أنهما لم يجعلا الجانب الروحي مضاداً للجانب المادي وأنهما لم يضعا نزاعاً واختلافاً جوهرياً بين كلا العالمين.
أفلاطون
فلناخذ أولاً أفلاطون. فإذا كان أفلاطون قد قال بعالم الصور وبالحقائق الأبدية فإن هذه الصور ليست في الواقع صوراً ذهنية، سواء أكان هذا الذهن ذهن الله أم ذهن الإنسان. فكل من أرسطو وأفلاطون لم ينته إلى القول بأن العالم الخارجي من صنع عقولنا وأنه لا وجود له، إلا على اساس أن ثمت ذاتاً تضعه وتفترضه: ففكرة الذاتية كما هى عند كنت أو عند فشته - على أساس أن هناك وجوداً روحياً هو الأساس في كل تصور أو أن الوجود كله هو قوة روحية تمتثل وتتصور كما يقول ليبنتس - هذه الفكرة لم تكن موجودة عند أفلاطون، بل إن الصور الأفلاطونية تستمد وجودها من الأشياء ذاتها، كما أن الأشياء ذاتها تستمد وجودها من هذه الصور وعلى هذا فيجب ألا نفسر الصور الأفلاطونية كما حاول الآخرون أن يفسروها - إذ قال البعض وبخاصة الفلاسفة الأفلاطونيون المحدثون، إن الصور في عقل الله، وتبعهم في ذلك آباء الكنيسة وبعض رجال العصر الحديث مثل أبلت ولوتسلافسكي، كما أن هناك آخرين قد فسروا هذه الصور على أنها في عقل الإنسان؛ والذي يمثل هذا الاتجاه هو مدرسة مار بورج، وأشهر رجالها هرمن كوهن وباول ناتورب. فهذا الاتجاه إلى تفسير الصور الأفلاطونية على أنها صور ذهنية أو صور في ذهن الله، ليس هو الاتجاه الحقيقي الذي يجب أن يتخذ في تفسير الصور الأفلاطونية.
ثم نلاحظ بعد هذا أن أفلاطون في كلامه عن نظرية المعرفة لا ينظر إلى الأصل الذي نشأت عنه المعرفة، أي لا يبحث في الذات، وإنما يبحث في المعرفة من حيث هي متصلة بالوجود، أي يبحث بحثاً موضوعياً خالصاً لا صلة له بالذات المدركة. فإلى جانب اعترافه بالماهيات، لا يريد أن يفصل هذه الماهيات فصلاً تاماً عن الأشياء أو الذوات المقابلة في الخارج.
كذلك الحال فيما يختص بالأخلاق، فإن الأخلاق عند أفلاطون أخلاق طبيعية، بمعنى أنها تعنى بالصلة بين الفرد والمجتمع الذي وجد فيه، وتنظر إلى هذه الصلة على أساس أن هذا الفرد لا يمكن أن يفهم إلا على هذا الأساس. أي أن هذه الأخلاق لا تفصل بين الأخلاق والسياسة.
ومن ناحية المذهب الطبيعي، نجد أن أفلاطون لم يصل إلى تصورات العصر الحديث فيما يتصل بالطبيعة الخارجية. فلم ينظر الى الطبيعة الخارجية على أنها آلة لا حياة فيها، وأنها خاضعة لقوانين آلية صرفة؛ بل نظر إلى هذه الطبيعة كما نظر إليها الفلاسفة اليونانيون السابقون على سقراط بوصفها شاملة للحياة، أي على أساس أن الروح أو النفس تشيع في الطبيعة. ولهذا يلاحظ أن أفلاطون قد قال إن هناك نفساً كلية هي نفس العالم، وأن الكواكب أجسام حية، ولها نفوس خاصة بها: فالطبيعة إذن روحية ومادية في آن واحد. وعلى هذا الأساس لا نستطيع مطلقاً إلا ان نفرق تفرقة كبيرة بين الطبيعة كما تصورها أفلاطون، والطبيعة كما تصورها العصر الحديث.
حقاً إننا نلاحظ أن هناك شيئاً من الثنائية يمكن أن يستخلص كنتيجة ثنائية لمذهب افلاطون. لكن الواقع هو أن التعارض بين الروح وبين المادة لا يظهر ظهوراً جلياً، أو لا يبلغ حد التعارض والتناقض. كما يلاحظ أيضاً أن أفلاطون، في مثل هذه الأحوال، لا نراه ابنا حقيقيا للروح اليونانية، بل نراه متأثراً بالعناصر الشرقية التي تأثر بها خصوصاً عن طريق تأثره بالفيثاغوريين.
أرسطو
والحال كذلك بالنسبة الى أرسطو فعلى الرغم من الدقة العلمية الشديدة التي أظهرها وعلى الرغم من قرب الصلة بين مذهبه في البحث وبين منهج البحث الحديث والنتائج التي وصلت إليها الطبيعة في العصر الحديث - على الرغم من هذا كله، فإن أرسطو كان يونانياً، أي أنه لم يتخلص من ضرورة التوفيق بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية. ولهذا نرى أنه لم يشأ مطلقاً أن يجعل الصورة مفارقة للهيولى، إنما تصور الاثنتين مرتبطتين ببعضهما بعضا في الوجود ارتباطاً لا انفصال له، ولا توجد الصورة مفارقة إلا في الذهن فحسب، ومن هنا يتبين أنه ليس ثمت تعارض في الوجود بين الصورة التي هي الجانب الروحي، وبين الهيولي التي هي الجانب المادي. وفي الإدراك أو نظرية المعرفة، نشاهده يقول دائماً إن الكلي لا وجود له إلا في الذهن، والوجود الحقيقي هو وجود الأفراد لا الأجناس والأنواع. وفي هذا تعبير واضح عن ضرورة الجمع بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية، بين الروح والمادة، بين الحسي واللاحسي.
كذلك في الأخلاق. فعلى الرغم من أن أرسطو قد فصل بين الأخلاق والسياسة، فإنه كما لاحظنا من قبل: لم يجعل الفصل تاماً بين الاثنين: فالأخلاق الأرسططالية مصبوغة بصبغة السياسة، بكل ما للسياسة من محاسن ومساوىء.
كذلك الحال أيضاً في الطبيعة عند أرسطو. فإنه يقول إن المادة أو الهيولى تصبو إلى الصورة، أي أن في الهيولى نزوعاً نحو الاتحاد بالصورة، ومعنى هذا أن في الهيولى نفسها شيئاً من الروحية، لأن هذا النزوع هو شيء روحي صرف. ولهذا أيضاً نرى أرسطو في نظريته في الكواكب يشاطر افلاطون رأيه فيقول إن للكواكب نفوساً، بل يقول أيضاً إن للكواكب عقولاً. ونظرية عقول الكواكب من النظريات المشهورة المأثورة عن أرسطو، على الرغم ما أثير حولها من اختلافات.
الطور الثالث
فإذا ما انتقلنا من هذا العصر الثاني من عصور الفلسفة اليونانية - وهو العصر الذي ابتدأ من سقراط أو السوفسطائيين وانتهى بأرسطو - إلى العصر الثاني والثالث للفلفة اليونانية، نجد أنه على الرغم ما نراه من ضعف شديد في الروح اليونانية من جراء ما أصابها من انحلال باطن ومؤثرات خارجية كادت تقضي على جوهرها وطبيعتها، على الرغم من هذا كله نستطيع أن نتبين خصائص الروح اليونانية في المذاهب التي ظهرت إبان ذلك العصر.
الرواقية
فعند الرواقيين أولاً - ولو أنهم كادوا ينصرفون انصرافاً شبه تام عن الطبيعة كي يقتصروا على الذات - يلاحظ أن هذه النزعة الذاتية كانت مشوبة أيضاً بنزعة موضوعية، لأن الرواقيين كانوا يتصورون الطبيعة الخارجية على غرار الطبيعة الداخلية أو الذاتية. ولهذا كان المثل الأعلى في الأخلاق لديهم هو الحياة بمقتضى الطبيعة، وهذه هي القاعدة الرئيسية التي تلخص مذهبهم. فمن ناحية الأخلاق نجد أن الأخلاق الرواقية أخلاق طبيعية صرفة، بمعنى أنها كانت ترى أن السير بمقتضى الطبيعة هو الخير الأسمى والغاية العليا في الأخلاق. ومن ناحية النظرة الى الطبيعة، يلاحظ أن الرواقيين كانوا يعدون الطبيعة كلها كائناً حياً يسمى باسم «ينيما» πνεύμα وعلى هذا كانت الطبيعة الخارجية روحاً أو نفساً Hي لم تكن مادة صرفة. ومن ناحية نظرية المعرفة، نشاهد أن الرواقيين كانوا يقولون إن النفس المدركة هي نار؛ ومعkى هذا أن الشيء الروحي هو شيء مادي هو النار. وعلى هذا لم يكن ثمت انفصال شديد بين الروح وبين المادة في رأي الرواقيين.
الأبيقورية
أما الأبيقوريون، فعلى الرغم من ماديتهم الصرفة، فإن النتيجة الأخيرة للأخلاق عندهم كانت نتيجة روحية. فإلى جانب قولهم إن الأصل هو الذرات الفردية، وإن الأصل في المعرفة هو اتصال الذرات وإن السكون نشأ عن اجتماع الذرات، وإن الدين ليس غير وهم، وإن الأخلاق يجب أن تكون أخلاقاً طبيعية صرفة خالصة - إلى جانب هذا كله، جعلوا ثمت مكاناً ومجالاً للأمور الروحية في داخل هذه التوكيدات المادية الصرفة. فمن ناحية نظرية المعرفة أولاً، نجدهم ماديين تقريباً، لم يحاولوا أن يضيفوا شيئاً روحياً إلى التفسير المادي. لكنهم في الطبيعة اضطروا إلى القول بعنصر روحي هو ذلك الميل clinamen الموجود في طبيعة الذرات، والذي يجعل بعضها يتحد ببعض. فإن هذا الميل هو عنصر نزوع، Hي أنه عنصر روحي. ثم يلاحظ في الأخلاق أن النتائج الأخيرة الأبيقورية تكاد أن تكون روحية صرفة: فالمثل الأعلى، وهو الأتركسيا، يكاد يكون مقارباً للفضيلة العليا عند أرسطو، فضيلة التأمل والتعقل.
الشكاك
فإذا ما انتقلنا من الأبيقورية إلى الشكاك نرى الشك اليوناني لم يكن كالشك الحديث الذي يمثله خصوصاً هيوم، فالشك الحديث مختلف تمام الاختلاف عن الشك اليوناني القديم. وذلك لأن الشك القديم يمتاز بالهدوء الصادر عن الجهل الصرف، بينما يمتاز الشك الحديث بالقلق الصادر عن الإنكار من ناحية، والرغبة الملحة في التوكيد من ناحية أخرى. فالشاك الحديث رجل متردد بين ضرورة إنكار المعرفة وبين ضرورة توكيد المعرفة، بينما نجد الشك اليوناني يحسب ان الشك صادر عن شيء طبيعي، هو قصور طبيعتنا عن المعرفة. وهذا القصور الطبيعي ليس علينا إلا أن نتقبله كما هو، غير محاولين الثورة على هذه الطبيعة. فإذا كان الشك الحديث يمتاز بالقلق، فإن الشك القديم يمتاز بالهدوء، لأنه صادر عن طبيعة الأشياء ذاتها، بينما الشك الأول صادر عن الطبيعة من جهة، والثورة على الطبيعة من جهة أخرى.
الأفلاطونية محدثة
واخيراً نصل إلى الأفلاطونية المحدثة. وهنا - وعلى الرغم من أن الأفلاطونية المحدثة قد توارت فيها الروح اليونانية إلى حد كبير - فإننا نستطيع أن نلمح أثر هذه الروح في هذا المذهب. يشاهد هذا أولاً في الصراع الذي قام به الأفلاطونيون المحدثون ضد الدين المسيحي، بسبب أن الدين الأخير يفرق تفرقة تامة بين الروح وبين المادة، ويجعل ثمت تعارضاً مطلقاً بين الاثنين، وما كان للأفلاطونيين المحدثين أن يقوموا بمثل هذا الصراع لو أنهم اتفقوا مع أصحاب الدين المسيحي في نظرتهم نحو الطبيعة. ونحن نشاهد أن أبرقلس وفورفوريوس قد قاما بحملة عنيفة على الدين المسيحي في نظرته إلى الطبيعة، مؤيدين الدين الوثني. والنزاع بين الروح وبين المادة عند افلوطين ليس نزاعا كبيراً؛ بل إن ثمت صلة كبيرة بين المادة وبين الروح، فلا يحاول ان يرفض الأولى رفضاً تاما.
الخلاصة
والخلاصة هي أنه إذا كانت روح العصور الوسطى أو الروح المسيحية قد فرقت تفرقة تامة بين الجسم والروح، بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية، وإذا كانت العصور الحديثة قد حاولت أن ترجع إلى إثبات وحدة بين الاثنين، مع الاعتراف أيضاً بأن كلا العالمين مفترق عن الآخر متميز، فإن الروح اليونانية قد نظرت من أول الأمر إلى الصلة بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية على انها صلة انسجام، وصلة وحدة لا تفرقة فيها. ومن هنا كان الاختلاف بين نظرة الروح القديمة ونظرة روح الفلسفة الحديثة.
فلئن كان كل منهما قد حاول الوحدة، فإن نقطة البدء قد جعلت النظر إلى هذه الوحدة أو إلى الصلة بين كلا العالمين، عاملا في اختلاف طبيعة هذه الوحدة. فنقطة البدء في الفلسفة اليونانية أو الروح اليونانية - كما قلنا - هي النظر إليها على أنها وحدة لا ثنائية فيها، بينما قد أدت نقطة البدء في الفلسفة الحديثة إلى النظر إلى هذه الوحدة على أنها توفيق بين كلا العالمين. فالوحدة في الروح اليونانية وحدة لا أجزاء فيها، بينما الوحدة في الفلسفة الحديثة وحدة منقسمة. ولئن كانت الروح اليونانية قد خضعت في عصورها الأخيرة لنوع من الثنائية، بل وأيضاً في عصور الفلسفة اليونانية الزاهرة، فإنه حينما تكونت هذه الثنائية حدثت هوة في النظر الفلسفي، لم تستطع الروح اليونانية أن تعبرها، ومن هنا كان عجزها عن التوفيق، وقدرة روح الفلسفة الحديثة على هذا التوفيق. ولكنا رأينا، على الرغم من هذا كله، أن الروح اليونانية قد ظلت بطريقة مباشرة حيناً، وغير مباشرة حيناً آخر، مخلصة لنقطة ابتدائها وهي الانسجام التام بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية.