نشأة الفلسفة اليونانية

مشكلة نشأة الفلسفة اليونانية من المشاكل الخطيرة جداً في البحث التاريخي في الفلسفة اليونانية. وهي مشكلة تتضمن بدورها مشكلتين: المشكلة الأولى: هل نشأت الفلسفة اليونانية متأثرة بأفكار أجنبية كانت الدافع الذي دفع إلى إيجاد الفلسفة اليونانية؟ والمشكلة الثانية هي: إذا كانت الفلسفة اليونانية قد نشأت بطبيعتها من تربة يونانية بحت، فمن أي نوع من أنواع التربة نشأت هذه الفلسفة؟

هل نشأت الفلسفة اليونانية متأثرة بأفكار أجنبية؟

أما المشكلة الأولى فقد تعرضنا لها من قبل عند كلامنا عن نشأة الفلسفة، وقلنا رأينا النهائي فيها وهو أن الفلسفة اليونانية لم تنشأ متأثرة بأفكار شرقية، وإنما نشأت نشأة طبيعية من خصائص الشعب اليوناني نفسه، ومن الظروف الحضارية التي وجدت في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد اليونان. ولا نستطيع أن نبحث بحثاً مفصلاً من أجل تأييد هذه الفكرة لكنا نستطيع فقط أن نشير إشارة عابرة الى أنه حتى منتهى القرن التاسع عشر، خصوصاً في النصف الثاني من هذا القرن، كاد الرأي أن يستقر على أن الفلسفة اليونانية لم تنشا متأثرة بعناصر شرقية بل نشأت من تربة يونانية خالصة، وعلى رأس أصحاب هذا الرأي اتسلر. ولكن في عشرات السنين الأولى من القرن الحالي (القرن العشرين) بدات النزعة الجديدة في شكلها، القديمة في جوهرها، نحو إرجاع التفكير اليوناني إلى تفكير شرقي؛ ومن أشهر من يمثلون هذا الرأي في العشر سنوات الأخيرة، أبل ريه في كتابه الموسوم باسم «شباب العلم اليوناني» ثم في المناقشة التي حدثت في الجمعية الفرنسية للموضوع الذي قدمه وهو العلم عند الشرقيين في العصر السابق على العلم عند اليونان، ومن أنصاره أيضاً موندلفو في التعليقات التي كتبها على ترجمته لكتاب اتسلر إلى الإيطالية. وأصحاب هذا الرأي الأخير قد جعلوا المشكلة أكثر تعقيداً لإنهم وسعوا نطاق البحث واعتمدوا على المنهج الفيلولوجي، مما جعل القطع برأي نهائي في هذا الموضوع اعتماداً على هذا المنهج غير متيسر الآن. فإلى أن يتمكن المنهج الفيلولوجي من القطع برأي نهائي في هذه المشكلة، فإنا لا نزال عند رأينا وهو ان الفلسفة اليونانية لم تنشأ عن فلسفة شرقية مزعومة.

العوامل التي أدت لنشأة الفلسفة اليونانية

وننتقل من هذا إلى المشكلة الثانية، فنجد أنها قد اخذت وضعاً جديداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

العامل الديني

في السنوات الأولى من القرن العشرين وهذا الوضع الجديد هو الذي يريد أن يرجع نشأة الفلسفة اليونانية إلى التصوف. وأول القائلين بهذا الرأي تقريباً - ولو أن رجال العصر الرومانتيكي في أوائل القرن التاسع عشر قد أشاروا إلى مثل هذا الرأي، ولكنها كانت إشارة غامضة لأن النزعة القديمة كانت متغلبة في كتابة تاريخ الفلسفة إبان هذا النصف الأول من القرن التاسع عشر - نقول إن أول من قال بهذا الرأي هو نيتشه في كتابه «الفلسفة في العصر التراجيدي من عصور اليونان» (من سنة 1873 إلى سنة 1880) وجاء بعد نيتشه، وسار في هذا الاتجاه، صديقه إرفن روده، فكتب كتابه المشهور «النفس: عبادة النفس وخلودها عند اليونانيين، وقد ظهر عام 1894. وجاء اخيراً كارل جويل فلخص كل البحوث السابقة، وأعطى لها لوناً جديداً في كتابه: «نشأة الفلسفة عن روح التصوف» وقد ظهر سنة 1903.

يرى نيتشه أن الفلسفة اليونانية قد نشأت عن مصدر صوفي، لأن الروح اليونانية كانت من قبل روحاً تشبيهية، فكانت تتصور الأشياء الخارجية على غرار الإنسان دائماً. لكنها تحررت من هذه النظرة على يد الفلاسفة، فأصبحت في تفكيرها موضوعية، وفنيت في الموضوعات الخارجية. فبينما كانت تجعل الأفكار كأنها أشخاص، وتجعل الآلهة أشخاصاً أيضاً، وتجعل الطبيعة حية كالإنسان - جاء طاليس فجعل الأشياء وحدة، وقال إن أصل الأشياء الماء، فارتفع بهذه الأشياء المجردة إلى المقام الأول وجعلها الأساس في تفسير الطبيعة. وبينما كانت النظرة القديمة نظرة تفرقة وفصل، أي تنظر إلى الأشياء على أنها مختلفة متفرقة، جاء طاليس فجعل الأشياء وحدة، وقال إن الكل هو الماء. فهذه النظرة الواحدة إلى الأشياء كلها، وهذه النظرة المبتدئة من الذات نحو الموضوع مباشرة بفناء الذات في الموضوع، لم يصل إليها طاليس والفلاسفة الطبيعيون عن طريق المشاهدة والملاحظة، بل عن طريق نظرة وجدانية في الوجود، أو بعبارة أخرى نظرة صوفية.

فكأن نيتشه إذاً يريد أن يقول إن أصل النظرة الفلسفية ومصدرها نظرة صوفية، فبدلاً من التشبيه قام التصور الموضوعي. نم جاء كارل جويل فقال إن الروح اليونانية والفلسفة ابتدأت من الذات الباطنة وعن طريقها انتقلت من الأشياء المتفرقة إلى الوحدة الكلية. فكأن هناك إذاً فارقاً بين ما يقوله جويل وبين ما يقوله نيتشه. فنيتشه يعتقد أن التطور جاء من التشبيه إلى الموضوعية، بينما جويل يرى أن التطور حدث عن طريق العكس، أي عن طريق الانتقال من الفناء في الأشياء الخارجية إلى الشعور بالذاتية، وجعل هذا الشعور هو الأساس الذي عليه تتصور الأشياء. ويوثل يشبه عصر الفلسفة الطبيعية عند اليونان بعصر النهضة وبالعصر الرومنتيكي؛ فيقول إن الروح التي أملت فلسفة عصر النهضة هي التي أملت الفلسفة الطبيعية عند الفلاسفة السابقين على سقراط، وهذه الروح تجعل الإنسان نواة الطبيعة. فعند رجال عصر النهضة، الإنسان هو كتاب الطبيعة الأصغر كما يقول كوزانو؛ وهو مركز الطبيعة كما يقول رويشلن؛ وهو نموذج الطبيعة كما يقول ليوناردو دافينشي ؛ وهو الصورة الكاملة للطبيعة كما يقول أجربافون نتسهيم. فالطبيعة في نظر هؤلاء هي الإنسان، لأن الإنسان نواة الطبيعة.

وعلى هذا النحو تصور الفلاسفة السابقون على سقراط الطبيعة الخارجية، وهذه الطبيعة الخارجية يجمع بينها وبين الروح الإنسانية، الله؛ فهناك وحدة إذاً بين الطبيعة وبين الروح الإنسانية وبين الله: فطاليس وأنكسيمانس يقولان بأن الانسان هو الذي يصور الطبيعة الخارجية، وعلى أساسه تفهم الطبيعة؛ وهرقليطس يقول بالقانون الذي يسود التغير، وهذا القانون يشابه قانون الحياة الروحية الإنسانية. والفيثاغوريون قد أخذوا فكرتهم عن الأعداد بحسبانها أصل الأشياء من فكرة الانسجام، لأن الانسجام يقوم على الأعداد، وهذا الانسجام تدركه الروح الإنسانية؛ فتصور الطبيعة على أنها قائمة على الأعداد هو في الآن نفسه تصور إنساني. والإيليون في قولهم بالواحد الكل، وفي قولهم بأن الوجود هو الفكر، قد جعلوا الفكر الإنساني، أي النفس الإنسانية، الأساس الذي يقوم عليه الوجود. وأنبادوقليس حينما قال بمبدأي المحبة والكراهية قال بمبدأين أصلهما في النفس الإنسانية؛ وقد تصورهما على أساس توارد العواطف في النفس، فهذه العواطف تأتي الواحدة بعد الأخرى مضادة لها، وهى إما ان تكون عواطف محبة أو عواطف كراهية. فقول انبادوقليس إذاً صادر عن تصور النفس الإنسانية. وكذلك فعل أنكاغورس في قوله بمبدأ الذرات الحية، فهو إنما تصور الطبيعة الخارجية على نحو الطبيعة الإنسانية. وفي قوله بالعقل قد أدرك الطبيعة من خلال العقل الإنساني، من حيث عمل هذا العقل في الطبيعة الداخلية. كذلك الحال في ديمقريطس، حينما قال بعقل كلي، فإنه قد تصور الطبيعة على غرار الإنسان.

ومن هذا كله يتبين في رأي يوثل كيف أن الفلاسفة الطبيعيين قد تصوروا الطبيعة الخارجية على أساس الطبيعة الإنسانية. ولكن لكي تتم النظرة الصوفية لدى هؤلاء جميعاً، جمعوا بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الخارجية عن طريق الله. فقال طاليس بوجود إله هو الطبيعة عينها، ووحد بين الآلهة، أو على الأقل جعل زيوس فوق الآلهة. وفعل هذا بشكل أظهر منه انكسمندريس، حينما جعل اللا محدود هو كل الوجود، وهذا اللامحدود هو الله تقريباً. وظهرت هذه النزعة إلى التوحيد بين الطبيعة وبين الآلهة في أجلى صورتها عند إكسينوفان الذي حل حملة شديدة على الآلهة المتعددة المنظور إليها نظرة إنسانية خالصة وحاول أن يجعل الآلهة هي الطبيعة، فقال بنوع من وحدة الوجود. كذلك فعل هرقليطس في قوله باللوغوس، على أساس أن اللوغوس هو العقل السائد في الكون، وهو الله. وظهر هذا من بعد عند بقية الفلاسفة اليونانيين السابقين على سقراط. فكأنهم بهذا كله قد وحدوا بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية والله. ويسمي يؤثل هذه النزعة باسم panentheismus أي أن الكل في اله (من πᾶν أي كل، و ἐν في، وθεῷ الله). وهذه النزعة كانت مرتبطة أشد الارتباط بالنزعة الأورفية. فهما نزعتان قد سارتا جنباً إلى جنب، فكان جميع الفلاسفة السابقين على سقراط أورفيين في نفس الآن، لأن نظرتهم كات نظرة صوفية، فطاليس مثلاً يحسب أن الطبيعة حية، وأن المغناطيس حي كذلك. وبهذا كله استطاع يؤثل أن يقول إن الفلسفة اليونانية صدرت عن مصدر صوفي.

ورأي يؤثل هذا كان يمثل نزعة سادت في عصر ما من العصور، أعني في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والعشرين سنة الأولى من القرن العشرين، حين كان التفسير الحيوي لكل الأشياء هو السائد، سواء عند الفلاسفة وعند المؤرخين؛ أي في ذلك الدور الذي أصبحت فيه النظرة إلى الوجود نظرة إلى الحياة، وعلى حد تعبير هينرش ركرت كانت فلسفة الحياة هي البدع السائد في الفلسفة.

وليس من شك في أن هذه النظرة الحيوية قد انقضى عصرها من سنة 1920 تقريباً، ولكن بقي لها مع ذلك كثير من القيمة، لأنها دلتنا على مصدر حقيقي تصدر عنه الفلسفة في نشأتها وهو التصوف أو الدين. ويجب هنا أن نلاحظ أن الدين لم يكن في نظر هؤلاء الفلاسفة الطبيعيين منفصلاً عن الفلسفة، بل كانا - وعلى الأخص في البدء - شيئاً واحداً، والفلسفة تنشأ دائماً - كما يشاهد في التاريخ الروحي - في أحضان الدين، كما أثبت ذلك كارل يسبرز. ويؤيد هذا ما نراه من أن الفلاسفة في الدور الأول للتفلسف يستخدمون المصطلحات الدينية ويتكلمون لغة الدين، والدين أيضاً هو التصوف هنا، فأخذهم عن التصوف وأخذهم عن الدين شيء واحد. وقد كتب برجسون صفحات رائعة في هذا الموضوع في كتابه «ينبوع االأخلاق والدين». ولهذا فلا بد لنا من أن ننظر إلى هذا العامل، عامل الدين، بعين الاعتبار، ونحن نبحث في نشأة الفلسفة اليونانية. إلا أن الخطاً في كلام يؤثل هو أنه جعل النظرة الصوفية أو التصوف المصدر الوحيد للفلسفة، فإن البحث التاريخي قد أثبت من بعد، أو اثبت من قبل أيضاً، أنه إلى جانب الدين وجدت عناصر أخرى في أحضانها نشأت الفلسفة اليونانية، هي أولاً التفكير السياسي، وثانياً التفكير الأخلاقي، فهذه العوامل مجتمعة أي: العامل الديني، والعامل السياسي، والعامل الأخلاقي - هي المصادر الرئيسية التي نشات عنها الفلسفة اليونانية.

العامل السياسي

ظهر من بين اليونانيين قبل القرن السادس للميلاد رجال سياسة اشتهروا بالحكمة وكانت أقوالهم مصدراً من مصادر التفكير عند اليونان، ومن أشهر هؤلاء صولون. ويظهر من هذه الأقوال أنهم لم يكونوا يفرقون بين الأخلاق السياسية والأخلاق الفردية، وأن الواجب نحو الدولة أسبق من الواجب نحو الذات، أو بالأحرى ليس ثمت تعارض بين الاثنين. وهذا التفكير السياسي قد طبع بطابعه كثيراً من الفلاسفة اليونانيين السابقين على سقراط ممن كانوا عنوا بالسياسة في المدن التي نشأوا فيها، بل قد وصل بعضهم إلى السلطة كما فعل الفيثاغوريون في اليونان الكبرى بجنوب إيطاليا. ولم يكونوا جميعاً يعدون الحياة السياسية منفصلة عن التفكير الفلسفي الخالص.

العامل الأخلاقي

لم يشأ اتسلر أن يعترف بأن الأخلاق يمكن أن تكون سابقة على الطبيعة، ولهذا لم يكن من رأيه أن تكون الفلسفة الطبيعية نتاجاً للتفكير الأخلاقي وذلك لأن الفكر يتجه أول ما يتجه إلى الطبيعة الخارجية ويتجه من بعد إلى الطبيعة الانسانية: لكنه مع ذلك قد عد من بين المصادر المحلية التي صدرت عنها الفلسفة الطبيعية التفكير الأخلاقي الذي وجد عند الحكماء السبعة وعند بعض الشعراء. والواقع أن التفكير الأخلاقي الذي كان في بلاد اليونان يقدم لنا أول صورة من صور التفكير الفلسفي، وهذا ظاهر في جميع الحضارات: فهي تبدأ بأفكار خاصة بالحياة الإنسانية يرتفع بها الإنسان عن مستوى العرف والتقاليد، ويكون في هذه الاعتبارات الأخلاقية عنصر تفكير عقلي ظاهر.

لكن هناك محاولات قام بها بعض الباحثين منذ عهد غير قليل أرادوا بها أن يثبتوا أن التفكير الطبيعي سابق على التفكير الأخلاقي، وأن حوادث الطبيعة الخارجية هي التي تحدد وتعطي المقياس والقيم لحوادث الطبيعة الإنسانية بوصفها حياة ومجتمعاً ومن أشهر من قالوا حديثاً بهذا الرأي رينيه برتلو. ففي البحوث التي كتبها في «مجلة الميتافيزيقا والأخلاق» سنة 1923، والتي ظهرت فيما بعد تحت هذا العنوان: «الفلك الحيوي والفكر الآسيوي» قد حاول أن يثبت أن التفكير الطبيعي والمسائل الرئيسية في الطبيعيات هي التي حددت الأوضاع الأخلاقية التي ظهرت فيما بعد، بيد أنه يلاحظ على هذه المحاولة وعلى كل المحاولات المماثلة لها أنها لم تستطع أن تصل إلى تحديد نقطة الابتداء: أهي أخلاقية أم طبيعية. والواقع أن نقطة الابتداء دائماً في كل الحضارات هي النقطة الأخلاقية، لا المسألة الطبيعية.

فنحن نشاهد مثلا في الحضارة اليونانية التي نحن بصدد البحث فيها الآن أن التفكير الاخلاقي ظاهر ظهوراً واضحاً في القصائد الهومرية وقد قال ماكس فنت في كتابه «تاريخ الأخلاق» (الجزء الأول، الفصل الأول) إن التطور الأخلاقي في بلاد اليونان قد سار بأن انتقل الإنسان من الانفعالات التي لا ضابط لها، إلى الحكمة وإلى الجرأة -هوبريس ὕβρις -، أي انتقل من الاخلاق الفردية التي يسودها الهوى، إلى الاعتراف بقانون كلي، وهذا القانون الكلي هو الذي يجب أن تسير على أساسه الحياة الإنسانية. وأول ما ظهر هذا القانون ظهر على صورة فكرة القدر، وهذه الفكرة بدورها قد جرت عدة أفكار إلى جوارها. فالقدر - مويرا μοίρα - قد أصبح الضرورة التي لا بد لكل إنسان أن يخضع لها، وهذه الضرورة يصورها اليونانيون على نحوين: فهناك الضرورة العمياة التي يخضع لها الناس والآلهة على السواء والكائنات الحية والكائنات غير الحية أيضاً؛ وزيوس نفسه، وهو كبير الآلهة، خاضع لهذا القدر. ولكن القدر قد تصور على نحو آخر، وهو أنه القانون الأخلاقي السامي الذي يجب أن يخضع له الإنسان لكي يسير في حياته سيراً مستقيماً. فهو القانون الكلي العام الذي يجب أن تخضع له الحياة الإنسانية، وإلا فإنها ستكون إذاً معارضة للآلهة، وهذا ما يسمى الهوبريس او القحة.

وهذا التفكير مصدره فكرة التوحيد، أي الرغبة في إيجاد قانون كلي واحد يعترف به الجميع، ولا يستطيع الإنسان أن يخضع له. وهذا القانون إذاً تصور من ناحية أنه الضرورة المطلقة التي تسيّر الإنسان دون أن يكون مخيراً في أفعاله، يؤدي إلى نظرة تشاؤم في الوجود. وهذه النظرة نجدها واضحة عند ثيوجنيس، وهي نزعة تميل إلى التشاوم وتعد الحياة كلها شراً. وأكبر مثل لهذه النزعة التصورات التي قيلت خاصة بالإله ديونيزوس. وكانت الوسيلة للخلاص من هذا التشاؤم، أي للخلاص من هذه الضرورة، الالتجاء إما إلى الطقوس الديونيزوسية أو إلى الطقوس الأورفية، وهي طقوس تقوم خصوصاً على إمكان نسيان التشاؤم وآلام الحياة عن طريق السكر. أما إذا تصورت الضرورة على النحو الثاني بحسبانها قانوناً عاماً يسير الأشياء في الطريق المستقيم، فإن فكرة القدر تنقلب إذاً إلى فكرة هي فكرة العدالة δίκη وهذه العدالة تقتضي بدورها العقاب لأن الذي لا يخضع للقدر بوصفه عدالة يكون مذنباً وهذا الذنب لا بد أن يكفر عنه، وهذا التكفير هو عقاب الآلهة للشخص: فالجريمة والعقاب هنا مرتبطان أشد الارتباط. ولذا فإذا كان في العالم شر - كما دعانا إلى القول بذلك تصور القدر على النحو الأول - فإن هذا الشر ضروري أيضاً في الوجود، لأنه عبارة عن التكفير الذي يكفر به إنسان عن خطاياه: فوجود الشر طبيعة في الوجود من حيث إنه ممثل العقاب.

لكن يلاحظ مع هذا أن هناك - إلى جانب الشر يوجد الخير، وهو اتباع القانون العام، قانون العدالة. فهذه النظرة الجديدة إذاً مخالفة للنظرة الأولى من حيث إنها نظرة تفاؤل، بينما الأولى نظرة تشاؤم. وفكرة العدالة هذه فكرة لعبت دوراً خطيراً في التطور الفلسفي طوال العصر السابق لسقراط، بل نجدها عند أفلاطون وعند أرسطو كذلك. والشيء الرئيسي الذي يجب علينا أن نستخلصه من هذا كله هو أن الغرض من إيجاد هذه الأفكار وهي القدر والعدالة... الخ هو إيجاد نظرة واحدة في طبيعة الحياة الإنسانية بدلاً من أن تترك إلى الاعتبار الشخصي وإلى الهوى الفردي. ولقد كان اليونانيون، وبخاصة الأيونيون، يشعرون شعوراً قوياً حين نشأت الفلسفة، وقبل هذا عندما نشاً التفكير الأخلاقي، إلى إيجاد الوحدة، بعد أن راوا أن الوجود كله تغير. فأرادوا عند هذا التغير أن يطلبوا وحدة في الوجود، وكان هذا التغيير الذي استرعى انتباههم موجباً للدهشة، والدهشة كما يقول أفلاطون وأرسطو هي أول التفكير الفلسفي أو هي الدافع إلى التفكير الفلسفي بوجه عام، فدفعت أول ما دفعت إلى هذا التفكير الأخلاقي فنشأت الوحدة في الحياة الأخلاقية؛ ودفعت ثانياً عند طاليس ومن وليه من الفلاسفة السابقين على سقراط إلى نشدان وحدة في الطبيعة كما رأينا ذلك من قبل حين قلنا إن الفلسفة لا تبداً حقاً بطاليس إلا من أجل أن طاليس قال إن الأشياء واحدة، أي من حيث إن مرجعها جميعها إلى شيء واحد.

ومن هنا نستطيع أن نعد أن هذا النوع من التفكير الأخلاقي كان هو العنصر الأساسي الذي دفع أو الذي عمل على إيجاد الفلسفة. فإلى جانب العنصر الصوفي الذي ذكرناه من قبل، يجب أن نعد أيضاً العنصر الأخلاقي بوصفه عنصراً أساسياً ومصدراً نشات عنه الفلسفة. وظاهر من كل الأقوال التي بقيت لنا من الفلاسفة السابقين على سقراط أن تفكيرهم كان مطبوعاً بهذا الطابع الأخلاقي إلى أبعد حد. فنحن نجد أولاً أن ديوجانس اللائرسي ينسب إلى طاليس انه قال إن كل شيء خاضع للضرورة، ويأتي بعد طاليس انكسمندريس فيقول إن الوجود نشاً من الانفصال أو الابتعاد، من حيث إن نوعاً من النزاع قد نشأ في الوحدة الأولى التي هي اللا محدود أو الأبيرون ἄπειρον. فأصل الوجود إذاً عند انكسمندريس هو هذا العامل الأخلاقي، أي النزاع؛ ولو أنه يجب أن يلاحظ هنا أن الاتفاق اتفاق شكلي أو في اللفظ فحسب، أكثر من أن يكون اتفاقاً في المعنى؛ فإن هؤلاء الفلاسفة لم يصلوا إلى درجة من التجريد تسمح لهم بأن يستخدموا ألفاظاً غير هذه الألفاظ الحسية. ولهذا فإنا لا نستطيع أن نأخذ بالرأي الذي قال به ألبير ريفو - في كتابه "مشكلة الصيرورة وفكرة المادة في الفلسفة اليونانية منذ البدء حتى ثاوفرسطس" (باريس سنة 1906)، حيث يقول إن كتاب "في الطبيعة" لأنكمندريس أولى به أن يعد بحثاً في الأخلاق من أن يعد بحثاً في الطبيعة. وإلا فإنا إذا حسبناه بحثاً في الطبيعة أخطانا فهم المقصود من الكتاب خطاً تاماً. ويأتي بعد هذا هرقليطس فيقول إن العدالة أو الضرورة هي القانون الذي يسير عليه الوجود، وإن هذا القانون يخضع له كل شيء ويسمى هذا القانون باسم اللوغوس، ويصوره تصويراً حياً، على شكل النار. كذلك الحال عند برمنيدس: نشاهد أن العدالة هي الحارسة لباب الحقيقة في قصيدته "في الطبيعة"، ونشاهد أيضاً عنده أن الضرورة هي الأساس في كل الوجود، ويسميها "هيمرمينيه". وقصيدته التي تكون هذا الكتاب تقوم كلها على أفكار اخلاقية صرفة، وهذه الأفكار هي التي تكون مذهبه الطبيعي كله.

ثم يجعل انبادوقليس من مبداين رئيسيين من المبادئ الأخلاقية، هما المحبة والكراهية المبدأين اللذين يكونان الوجود؛ فعن طريق المحبة تتكون الأشياء، وعن طريق الكراهية تنفصل الأشياء؛ والعالم يخلق من الخليط بأن تؤثر الكراهية فيه، وهذه الكراهية هى التى تفرق أجزاءه، فينشأ عن هذه التفرقة هذا الوجود. ويأتي بعد ذلك الحب، فيجمع هذه الأشياء المتفرقة، ويرجعها إلى الوحدة الأولى. وهكذا تتعاقب مملكتا المحبة والكراهية وبين مملكة الواحد والآخر فترة سكون، كما سنرى ذلك مفصلاً فيما بعد عند كلامنا عن مذهب أنبادوقليس.

والذي يعنينا من هذا كله هو أن التصورات الأخلاقية هي التي أعطت لأنبادوقليس فكرة المبادىء الطبيعية، أي أن المبادىء الطبيعية كانت على غرار المبادىء الأخلاقية، فالأخلاق عنده كانت إذاً المصدر الذي عنه صدرت لأفكار الطبيعية. وليوقبس يقول ايضاً بالضرورة ويجعل من هذه الضرورة القانون الذي بسببه انفصلت الذرات من الخليط الأول وانحدرت في الكون من اجل تكوين الأشياء.

وهكذا نجد دائماً عند هؤلاء الفلاسفة السابقين على سقراط أن التفكير الأخلاقي كان المصدر الذي صدرت عنه تصوراتهم للطبيعة، أي أن الفلسفة عندهم قد نشأت عن مصدر أخلاقي. بل استمرت هذه الأفكار الأخلاقية حتى عند أفلاطون، فإنا نجد مثلاً أن أسطورة الإر في المقالة العاشرة من "الجمهورية" تقوم على فكرة أخلاقية صرفة: و"طيماوس"، تلعب فيها التصورات الأخلاقية أخطر دور؛ ومعروف أن "طيماوس" هذه هي التعبير الكامل عن مذهب افلاطون في الطبيعة.

والخلاصة الني نستخلصها من كل ما قلناه، هي أن المصادر التي نشأت عنها الفلسفة اليونانية مصادر متعددة من ناحية، ومعقدة من ناحية أخرى. فهي متعددة سواء نظرنا إلى نشأة الفلسفة اليونانية على أنها نشأة محلية خالصة، أو على أساس أن هذه النشأة قد عملت فيها أيضاً أفكار أجنبية. فإذا نظرنا إليها على أنها نشأت عن مصادر محلية فحسب، فإنا نرى أن نشأة هذه الفلسفة لم تكن عن مصدر واحد كما قال جويل الذي أرجع هذا المصدر الواحد الى التصوف، وإنما كان هناك إلى جانب التصوف مصدر هام، لا يقل أهمية عن لمصدر الاول، هو التفكير الأخلاقي، لأن الأفكار الرئيسية في الأخلاق قد نقلها الفلاسفة الطبيعيون من ميدان الحياة الإنسانية إلى ميدان الحياة الخارجية فصوروا الطبيعة الخارجية على أساس الطبيعة الإنسانية. ولهذا فإن نيتشه كان محقاً كل الحق حين قال إن الفلسفة بدأت بأن انتقلت التصورات الذاتية فأصبحت تصورات موضوعية

انظر ايضاً