خصائص الفلسفة اليونانية

تتلخص نظرتنا إلى تاريخ الفلسفة اليونانية على النحو التالي:

لابد لنا أولاً أن نربط بالتفكير الديني عند هوميروس وعند هزيود نشأة الفلسفة اليونانية، وذلك لأن الفلسفة تأخذ رموزها الأولى من الدين. فإن المشاهد دائماً ان الفلسفة تولد في أحضان الدين، ولو أن ولادته هذه من أجل أن تكون ضد الدين. فلا بد إذن من تقديم للفلسفة اليونانية يعني ببيان النظرة الكونية كما وجدت عند هوميروس وعند هزيود، ثم بالمقولات الدينية، وهي هنا عند اليونان مقولة العدالة ثم مقولة الخطيئة وبعد هذا تبدأ الفلسفة اليونانية الحقيقية، فيبدأ العصر الأول من القرن السادس، وينتهي بأنكساغورس، لإنه لا بد من أن نجعل من النزعة السوفسطائية - إن لم يكن دوراً خاصاً قائماً بذاته - فعلى الأقل بدءاً لروح جديدة، لأن عصرهم عصر انتقال، هو عصر الانتقال من دور الحضارة إلى دور المدنية، وهو العصر المسمى في تاريخ الحضارات باسم عصر التنوير. وسقراط لا يفترق مطلقاً عن السوفسطائيين في هذا الصدد، فلا بد إذن أن ندرس سقراط مع السوفسطائيين.

فإما أن نجعل لهؤلاء عصراً مستقلاً بذاته، أو أن نجعلهم مقدمة للدور الجديد وهو دور المدنية. ويبدأ العصر الجديد حينئذ إما بأفلاطون أو أرسطو وينتهي بهذا الأخير. وذلك لأن خريف الحضارة ينتهي بهذه المذاهب الميتافيزيقية المثالية المنطقية الباحثة في نظرية المعرفة.

ويبدأ العصر الجديد تبعاً لأن النظرة الكونية قد تغيرت، فأصبحت نظرة عملية تجعل الأخلاق والعلم هما الأساس. فالعصر الذي يمثل هذه النظرة هو عصر الأبيقوريين والرواقيين والشكاك ثم المتأخرين من الشكاك والموفقين والملفقين والمشائيين المتأخرين.

وهنا لا بد أن ينتهي هذا العصر ولا بد ان يبداً عصر جديد - بخلاف ما يقوله اشبنجلر - لأننا نريد أن ندخل الأفلاطونية المحدثة في داخل الحضارة اليونانية. والأفلاطونية المحدثة مختلفة في طابعها تمام الاختلاف عن المذاهب التي ذكرناها منذ قليل، لأنها تمثل الميتافيزيقا وعلم الوجود أكمل تمثيل، فالميتافيزيقا تبلغ أوجها في هذا الدور الأخير الذي يناظر ما نريد أن نسميه باسم دور التناهي، وفيه يعود الإنسان من جديد إلى أصل الوجود لكي يستمد منه معنى الوجود، ومن استمداده لهذا المعنى يؤسس نظرة شاملة كاملة في ماهية الوجود. ومعنى هذا أن هناك عصراً رابعاً مستقلاً بذاته، هو عصر الأفلاطونية المحدثة.

العصر الأول: نشأة الفلسفة اليونانية

تقسيم العصر الأول

اعتاد المؤرخون الأقدمون أن يقسموا هذا العصر الأول تقسيماً يقوم إما على أساس الأجناس، وإما على أساس الروح العامة التى انطبعت بها المذاهب الفلسفية التي نشأت إبان ذلك العصر. فمن الناحية الأولى قسمت الفلسفة في العصر الأول من عصور الفلسفة اليونانية إلى فلسفة أيونية، وفلسفة دورية، ومن الناحية الثانية قسمت إلى: فلسفة طبيعية، وفلسفة أخلاقية، وفلسفة ديالكتيكية، تبعاً للمذاهب الرئيسية التي ظهرت في ذلك العصر. فالفلسفة الأيونية فلسفة طبيعية، والفلسفة الفيثاغورية فلسفة أخلاقية، والفلسفة الإيلية فلسفة ديالكتيكية.

فلننظر الآن في هذه التقسيمات، ولنبدأ أولا بالتقسيم الأخير.

لكن لا يفوتنا قبل أن نذكر هذا التقسيم أن نشير إلى تقسيم آخر أهم من هذين التقسيمين، هو تقسيم الفلسفة في ذلك العصر إلى فلسفة واقعية، وفلسفة مثالية.

فنلاحظ أولاً أن تقسيم هذا العصر إلى فلسفة طبيعية وأخلاقية وديالكتيكية ليس تقسيماً صحيحاً، لأن الأخلاق والديالكتيك لم يكن الواحد منهما منفصلاً عن الطبيعيات، فلا الأخلاق كانت منفصلة عن الطبيعيات، وكذلك لم يكن الديالكتيك. ولذا فإن أرسطو كان مصيباً حينما قال إن الفلاسفة حتى سقراط كانوا طبيعيين، بينما الأخلاق والديالكتيك لم يبدأ إلا بسقراط. كما يلاحظ أيضاً أن مثل هذا التقسيم لا يمكن أن يقوم إلا على أساس أن الفيثاغوريين كانو حقاً فلاسفة أخلاقيين فحسب، وأن الفلاسفة الإيليين كانوا معنيين بالمنطق أو الديالكتيك وحده، أو على الأقل كانت معظم عنايتهم متجهة إليه.

يلي هذا تقسيم الفلسفة في ذلك العصر إلى فلسفة واقعية وفلسفة مثالية. وهنا يلاحظ أن المؤرخين الذين قالوا بهذا القول يريدون أن يجعلوا الفلسفة الأيونية فلسفة واقعية، بينما الفلسفة الفيثاغورية والفلسفة الإيلية فلسفتان مثاليتان. وهو تقسيم لا يقوم في الواقع على أساس صحيح؛ لأنه يفترض مقدماً أن هناك فصلاً بين الجسمي والروحي أو بين المادي والروحي. والمثالية أو الواقعية لا يمكن أن تقوم إحداهما إلا على أساس الشعور شعوراً قوياً بالتمييز بين ما هو حسي جسمي، وبين ما هو نفسي روحي. أجل، إن الفلسفة الفيثاغورية والفلسفة الإيلية قد ارتفعتا حقاً فوق الظواهر الحسية، وقالت أولاهما بفكرة العدد، وقالت الثانية بفكرة الموجود؛ إلا أنه يلاحظ أنهما في هذا الصدد ليسا بنسبة واحدة. فالفلسفة الفيثاغورية أقل تجريداً من الفلسفة الإيلية، أي أن هذه الأخيرة أقرب إلى المثالية من الأولى. ولا يمكن وضع الاثنتين في مستوى واحد. فعلينا أن نقول إذاً بأن ثمت ثلاث فلسفات: فلسفة واقعية، وفلسفة مثالية وفلسفة بين بين.

فإذا بحثنا الآن فيما ينسب من مثالية إلى الفيثاغورية والإيلية، وجدنا أولاً أن الفيثاغوريين كانوا يجعلون الأعداد أساس الأشياء، بمعنى أن الأجسام المادية هي نفسها أعداد. وكذلك فعل الإيليون، وعلى رأسهم برمنيدس؛ فإنه قال إن الوجود هو الوجود في المكان، أو هو لأجسام موجودة في المكان، ومعنى هذا كله أن العدد عند الفيثاغوريين كالموجود عند الإيليين مادي وليس فيه شيء من مفهوم الروحية - كما هو لدينا في مثالية العصر الحديث، أو في العصر القديم عند أفلاطون وأرسطو: فعند أفلاطون مثلاً شاهد أن وجود الصور يختلف اختلافاً كلياً عن وجود الموجود عند الإيليين، وهو قائم على أساس الفصل بين عالمين عند أفلاطون: العالم العلوي والعالم المادي. أما عند الإيليين، فإن الموجود هو لأجسام حالة في المكان، أي أنه والأجسام المادية شي، واحد. والأعداد عند فيثاغورس غيرها عند أفلاطون؛ فالأعداد عند أفلاطون - كما سترى فيما بعد - وسط بين الوجود الحسي والوجود العقلي، بينما عند فيثاغورس وجود الأعداد هو الوجود المحسوس. وفيثاغورس وفي وصفه للروح يصفها بما يصف به الأشياء الحسية. وكذلك الحال عند برمنيدس. فإذا كان هذا الأخير يجعل الفكر والوجود، أو الماهية والوجود - على حد تعبيرنا الحديث - شيئاً واحداً، فلا يجب أن نفهم من هذا ما فهمه ربنج من قبل، حين قال إن في هذا القول مبدأ المثالية. ذلك أن يرمنيدس يقول عن هذا الطريق إن الفكر داخل تحت الوجود ولا يقول كما تقول المثالية الحديثة، خصوصاً عند كنت وفشته، إن الفكر هو الذي يضع الوجود. والاختلاف بين هذين القولين: بين قول القائل إن الفكر داخل تحت الوجود، وقول القائل إن الفكر أصل الوجود - هذا الاختلاف إنما هو الاختلاف بين المثالية والواقعية. فالذي يقول بأن الفكر داخل تحت الوجود - وهو القول الأول- واقعي وليس مثالياً.

فنستخلص من هذا إذا أنه لا يمكننا أن نقسم الفلسفة اليونانية السابقة على سقراط إلى فلسفة واقعية وفلسفة مثالية، لأن الفصل بين العالم المادي والعالم الروحي لم يتم بعد. ولهذا لم يكن أرسطو مخطئاً حينما وضع بروتاغوراس وديموقريطس مع برمنيدس في فلسفة واحدة. أما أول الفلاسفة الذين بدأ لديهم هذا الفصل بين العالم الروحي والعالم المادي فهو انكساغورس، ولذا لا نستطيع أن نقول إن الفلاسفة السابقين على سقراط ترد فلسفتهم إما إلى المثالية او إلى الواقعية.

فإذا ما انتقلنا إلى التقسيم الثالث، وهو الذي يقوم على أساس العنصر - لاحظنا أولاً أن هذا التقسيم أكثر توفيقاً من تقسيم الفلاسفة السابقين على سقراط إلى فلاسفة أيونيين وفلاسفة إيتاليين. وقد جعل برانس من بين الدوريين فركيدس والفيثاغورين والإيليين وأنبادوقليس. لكن يلاحظ ان هذا التقسيم أيضاً لا يقوم على أساس صحيح، لأننا لا نفهم لماذا يعد فركيدس من بين الدوريين، كما أن الفيثاغوريين كان مؤسس مذهبهم أيونياً ولد في شامس.

وكذلك الحال في الفلسفة الإيلية: فقد كان مؤسسها إكسينوفان من آسيا الصغرى، كما أن هذه المدرسة قد انتهت في أواخر أيامها على يد كبير من اتباعها وهو ميليسوس بأن كانت أيونية. أما الذي يمكن ان يقال عنه حقاً إنه دوري فهو انبادوقليس. ولكن يلاحظ ايضاً أن انبادوقليس كان أيوني النشأة وكتب باللغة الأيونية ولم يكتب باللغة الدورية. فإذا اعترض علينا مثلاً بأنه ليس المقصود من هذا التقسيم، التقسيم من حيث المولد بل من حيث النشأة والتربية، قلنا أيضاً إن تربية هؤلاء كانت في الغالب تربية أيونية، لأن التربية الأيونية كانت التربية الرئيسية الحقة، وعليها نشأ معظم (أو كل) الفلاسفة اليونانيين السابقين على سقراط. فظاهر إذاً أن هذه التقسيمات كلها ليست تقسيمات حقيقية، فعلينا أن نرفضها وأن نبحث عن تقسيم آخر إن كان لا بد من تقسيم.

هنا يحاول بعض المؤرخين أن يعود إلى نظرية هيجل في التناقض وفي الديالكتيك التاريخى، فيقولون إنه قد ظهرت أولاً فكرة البحث في نشأة الأشياء ثم تفرعت عن هذه الفكرة فكرتان متعارضتان: إحداهما تقول بالحركة والسيلان والأخرى تقول بالثبات؛ فعلى أساس التعارض بين هاتين لنظرتين، اللتين تقوم إحداهما على الصيرورة وتقوم الأخرى على الوجود الثابت، تشأت فلسفتان جديدتان. وبعد هذا كان لا بد أن يتكون من هذا الموضوع ونقيض الموضوع مركب موضوع يحاول الفلاسفة فيه أن يرتفعوا فوق التناقض بين الصيرورة والثبات، فكانت مذاهب أنبادوقليس وديموقريطس وأنكساغورس. وتبعاً لهذا تنقسم الفلسفة السابقة على سقراط إلى عصر تكون فيه الموضوع وهو الفلسفة الأيونية الأولى عند طاليس وأنكسمندريس وأنكسمانس. وإلى عصر انقسم فيه هذا الموضوع إلى نقيض موضوع ونقيض آخر، فكانت فلسفة هرقليطس القائلة يالصيرورة، وفي الجانب الآخر فلسفة الإيليين القائلة بالوجود الثابت. وجاء عصر ثالث كان فيه مركب موضوع حاول فيه الفلاسفة التوفيق بين الصيرورة والوجود الثابت، فكانت مذاهب انبادوقليس وديمقريطس، أو المذهب الذري على وجه العموم، وأنكساغورس.

لكن هذا التقسيم أيضاً لا يعطينا صورة تاريخية حقيقية، وأكثر ما يعطينا إياه هو وضع العلاقة أو بيان الصلة بين المذاهب المختلفة التي نشأت إبان ذلك العصر. فنحن نستطيع من هذه الناحية أن نعده مفيداً لنا في الدراسة، دون أن نجعله أساساً للتقسيم ولهذا مال المؤرخون - وعلى رأسهم اتسلر - إلى عدم التقسيم إطلاقاً، محاولين فقط أن يبينوا الخصائص الرئيسية التي تسود هذا العصر.

خصائص العصر الأول

اول خاصية لهذه الفلسفة هي أنها فلسفة طبيعية، فهي تتجه مباشرةً نحو الظواهر الطبيعية. ولا أقصد من هذا أنها تقصر بحثها على عالم الأجسام، فالطبيعة هنا ليست عالم الأجسام الطبيعية، وإنا يقصد بذلك أنها لم تفرق بين طبيعة داخلية وطييعة خارجية. وتبعاً لهذا اتجهت إلى الطبيعة الخارجية وحدها وإلى الظواهر التي تصدر إليها من الخارج فحسب، وعدت هذه الظواهر مادية وروحية معاً، لأنها لم نفرق بين عالم روحي وعالم مادي. وإذا كنا نرى مع ذلك أن بعض الفلاسفة قد حاول أن يرتفع فوق الظواهر الحسية ليكتشف وجوداً أرقى من الوجود الحسي، فإن هؤلاء أيضاً قد بدأوا من الظواهر الحسية، وانتهوا إلى هذا النوع من الظواهر. أي أنهم لم يقولوا بوجود مستقل للظواهر الروحية أو لعالم روحي منفصل عن العالم الطبيعي. فنشاهد مثلاً أن فيثاغورس قد وصل إلى فكرة العدد بحسبانه أصل الوجود، وفوق الظواهر الحسية، من تأمله في الانسجام بين النغمات وتأمله في مواضع الأجرام السماوية وحركاتها. وهذا يدل على أنه لم يقل مباشرة بعالم روحي، وإنما الظواهر قد أدت به إلى الارتفاع قليلاً فوق الظواهر الحسية، ولو أنه لم يستطع أن يتصور هذا الشيء الجديد على أنه غير حسي. كذلك الحال لدى برمنيدس، فإنه لم يقل بفكرة الموجود إلا من نظرته في الوجود المتغير. ولم يقل هرقليطس بفكرة القانون أو اللوغوس إلا من نظرته في الأشياء على أنها تظهر ثابتة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يلاحظ أن الفلسفة السابقة على سقراط كانت تتجه إلى الموضوع مباشرة، بمعنى أنها لم تكن تبدأ بالمعرفة الباطنة لتصل إلى المعرفة الخارجة، ولم تكن تفرق بين عالمين في نظرية المعرفة. وعلى هذا، فإذا رأينا بعضاً من الفلاسفة قد حملوا على الحس والمعرفة الحسية، وفرقوا بين المعرفة الحسية وبين المعرفة العلمية الصحيحة، فإنهم لم يفعلوا ذلك نتيجة لنقدهم للمعرفة أو لتأملهم في الذات من حيث قدرتها على إدراك الموضوع الخارجي، وإنما هم فعلوا ذلك لأن برمنيدس - مثلاً - قد شك في الحس، لأن الحس يظهر لنا الأشياء متغيرة، بينما الوجود الحقيقي وجود ثابت. كما شك هرقليطس في المعرفة الحسية لانها تظهر لنا في الوجود ثباتاً بينما الوجود الحقيقي دائم السيلان كما أن انبادوقليس لم يشأ أن يعتمد على المعرفة الحسية، لأنها تظهر لنا الانفصال والاتصال بحسبانهما كوناً وفساداً، أي تعد تجمع الأشياء وتفرقها بحسبانهما خلقاً من العدم أو فناء بعد وجود. وهكذا لم يكن عند هؤلاء الفلاسفة تفرقة بين العالم الباطن والعالم الخارجي، ولم يكن بالتالي هناك عدم ثقة في قدرة الإنسان على المعرفة، فلم يكن من شأنهم إذاً أن يبحثوا في القواعد التي يجب أن تقوم عليها المعرفة العلمية الصحيحة.

وثالثاً يلاحظ أنهم تكن لديهم أدنى تفرقة بين العالم الحسي والعالم الروحي. فإذا وجدنا أنكساغورس يقول بشيء من هذا، فإنا نلاحظ من ناحية أن انكساغورس هو آخر هؤلاء الفلاسفة، ومن ناحية أخرى أنه نظر إلى العقل المنظم للكل على أنه ايضاً شبه مادي، لأنه عنده مكون من مادة لطيفة.

تلك إذن الخصائص الرئيسية الثلاث التي نستطيع أن نتبينها في الفلسفة الأيونية في العصر السابق على سقراط.

وهذه الخصائص تظهر لنا بوضوح مدى الصلة القوية التي توجد بين المدرسة الأيونية والمدرسة الفيثاغورية والمدرسة الإيلية. فهذه المدارس لا تتفق من ناحية الزمان والعصر فحسب، بل تتفق قبل هذا كله في المذهب والاتجاه الفلسفي. فهي كلها قد بحثت في الجوهر الذي إليه ترجع الأشياء: لكنها لم تبحث في كيفية صدور الأشياء المختلفة عن الجوهر الواحد، وكيفية تغير الجوهر الواحد إلى عدة أشياء مختلفة، سواء كان ذلك بالكيف أو بالكم أو بهما معاً. فطاليس قد أرجع أصل الأشياء إلى الماء وأنكسمندريس إلى الجوهر اللامحدود، وأنكسمانس إلى الهواء؛ والفيثاغوريون أرجعوا أصل الوجود إلى العدد؛ والإيليون إلى الوجود بما هو موجود (أي بحسبان أنه موجود فحسب). ولكنهم لم يبحثوا في الكون والفساد، أي في إيجاد الأشياء وفنائها، ولم يبحثوا في التعدد، وبالجملة هم لم يبحثوا في التغير والحركة.

نعم، نحن نرى الأيونيين قد قالوا بأن الأشياء تنشأ عن الجوهر الأول بالانفصال أو التكاثف، وتفنى عن طريق الاتصال أو التخلخل، وأن الفيثاغوريين قد قالوا إن الأشياء تنفصل عن الوحدة العددية. لكن هؤلاء جميعاً لم يوضحوا الكيفية التي يها يتم الاتصال والانفصال او الانقسام بالنسبة إلى الوحدة العددية. وإذا كان الإيليون قد أنكروا التغير وأنكروا الكثرة فهم لم يكونوا في ذلك إلا ممثلين لهذه النزعة إلى تفسير مصدر الأشياء لا إلى كيفية صدور الأشياء؛ نقول إنهم يمثلون هذه النزعة في أقصى نتيجة يمكن أن تصل إليها، وهم بذلك يعدون أيضاً متشابهين كل التشابه إن مع الفيثاغوريين او مع الأيونيين. والخلاصة هي أن المدارس الثلاث قد بحثت في الأصل الذي ترجع إليه الأشياء، دون أن تبحث في الأشياء نفسها من حيث صدورها عن الأصل، ولذا لا نستطيع أن نقول إنهم بحثوا في الحركة أو التغير بحثاً حقيقياً.

وإذا كان الإيليون قد بدأوا البحث في هذا المعنى، فلم يكن بحثهم هذا منصباً على الحركة بوصفها مبدأ الكون والفساد. وإنما الذي بحث في الحركة لأول مرة بحثاً حقيقياً هو هرقليطس الذي قال إن الأشياء كلها دائمة السيلان، وإنه لا شيء ثابت غير القانون الذي يسير عليه هذا السيلان الدائم للأشياء، فكأنه يبدأ بهرقليطس اتجاه جديد في تطور الفلسفة اليونانية في الدور الأول من أدوارها. ويظهر من البحوث الجديدة أن هرقليطس كان شاعراً شعوراً قوياً بأنه يختلف في تطوره الفلسفي عن المدارس السابقة، فهو في الواقع لم يضع مذهبه إلا كرد على مذهب الإيلين. إذا فهرقليطس ينشأ قسم ثان في الفلسفة اليونانية في الطور الأول، ويبدا بالقول بأن الفلاسفة السابقين قد جعلوا فكرة التغير فكرة مسلماً بها لم تبحث بحثاً عقلياً، فجاء هرقليطس ونظر في التغير وأرجع هذا التغير إلى المادة كذلك.

وبعد هذا يتطور الفكر اليوناني على النحو التالي: بعد هرقليطس يأتي أنبادوقليس والذريون، فيقولون بوجود مبادئ متعددة ويقولون أيضاً بالتغير، فأنبادوقليس يقول بأكثر من مبدأ، والاختلاف بين هذه المبادئ هو اختلاف في الكيف؛ ويقول الذريون إن المبادىء أكثر من واحد، وهي لا تختلف من ناحية الكيف، وإنما تختلف من ناحية الكم فحسب، أي من ناحية الشكل الرياضي. ولكي يفسروا الحركة، قال انبادوقليس بمبدأ آخر مخالف للمبادئ الأولى، فما دامت هذه المبادئ الأولى لا تتغير بالكيف، فلا بد من وجود عامل آخر، مخالف للعامل الأول من شأنه أن يحدث التغير. وهذا المبدء الآخر ( أو المبادىء الأخرى) هو مبدأ الحب والكراهية. أما الذريون فقد ساروا على طريقتهم الآلية ولم يعترفوا بشيء آخر يحدث التغيير غير العوامل الآلية، فقالوا إن الكون والفساد يحدثان عن طريق انفصال الذرات واتصالها. وجاء بعد هولاء انكساغورس فقال أولا بمبدأين متعارضين، وجعل المبدأ المادي فيهما يحتوي على عناصر كثيرة؛ فكأنه إذا قد قال بالكثرة في المبدأ المادي. ولكى يفسر الحركة قال بالمبدأ الآخر وهو المبدأ العقلى. وهذا المبدأ العقلي هو العقل. فمن ناحية إذاً نشاهد المادة بما تحتوي من بذور، ومن ناحية أخرى العقل بوصفه المبدأ الذي يخرج الأشياء من اللاحركة إلى الحركة أي من اللا وجود إلى الوجود. وتفسير أنبادوقليس للتغير تفسير ديناميكي، بينما تفسير الذريين تفسير ميكانيكي، أما انكساغورس فيرتفع فوق هذين التفسيرين إلى تفسير عقلي أو شبه عقلي.

وهنا يلاحظ أن انكساغورس بقوله بالمبدأ العقلي قد وضع تفرقة كبيرة الخطر بين ما هو روحي وبين ما هو مادي. ولما كانت هذه التفرقة غير واضحة لديه، ومن ناحية أخرى كانت غير معلومة لدى الفلاسفة السابقين عليه، فإنا نستطيع من ناحية أن نعده خاتمة للعصر الأول، ومن ناحية أخرى يمكن أن نعده مبدأ لتطور جديد، لأن النظرة التي قال بها، ونعني بها التفرقة بين الروحي والمادي، من شأنها أن تقلب الاتجاه الفلسفى الذي كان سائداً مذ البدء حتى الآن وأن تعطي اتجاهاً جديداً للتطور الفلسفي. وتبعاً لهذا فلا بد لكي ينتقل الإنسان من الاتجاه الأول إلى الاتجاه الجديد أن تحدث أزمة روحية وهذه الأزمة الروحية هي السوفسطائية.

ومن هذا كله نستطيع أن نستخلص خصائص الفلسفة اليونانية في العصر الأول، وهي ثلاث: الاتجاه نحو الطبيعة الخارجية، وعدم البحث في الطبيعة الداخلية، وعدم التفرقة بين الروحي والمادي.

كذلك نستخلص أيضاً انه إذا كان لا بد من وضع تفرقة أومن عمل تقسيم لهذا العصر الأول، فإن هذا العصر الأول سيقسم حينئذ إلى قسمين القسم الأول يبداً من طاليس وينتهي بانتهاء المدرسة الإيلية، ويشمل المدرسة الأيونية والمدرسة الفيثاغورية والمدرسة الأيلية، والقسم الثاني يبدأ بهرقليطس وينتهي بانكساغورس، وأشهر الشخصيات فيه هرقليطس أولاً ثم أنبادوقليس، ثم المدرسة الذرية، وأخيراً انكساغورس.

العصر الثاني: سقراط وأرسطو وأفلاطون

خلف العصر الأول من عصور الفلسفة اليونانية للعصر الثاني طائفة من المعتقدات الدينية والقواعد الأخلاقية والمذاهب الطبيعية. إلا أن هذه المعتقدات الدينية كانت لا تقوم على علم حقيقي بالآلهة ودراسة صحيحة لمذاهب الدين وأوضاعه؛ كما كانت القواعد الأخلاقية عادات وتقاليد أكثرها شعبي، أو عبارات استخلصت عرضاً على يد بعض من يسمون باسم الحكماء، ولم تكن تكون مذهباً اخلاقياً بالمعنى الصحيح، لأنها لم تقم على قاعدة من العلم ولا منهج من مناهج البحث العلمي. والفلسفة الطبيعية كانت هي الأخرى فلسفة ذات وجه واحد: إذ كان رجال هذا العصر يكتفون بالنظر إلى صفة واحدة من صفات الوجود، ثم يعممون هذه الصفة ويجعلونها الأساس في كل شيء؛ كما أنهم كانوا واحديين - إن صح هذا التعبير بالنسبة إليهم - أي يقولون بمبدأ واحد يرجعون إليه كل شيء في الوجود.

ولكن الحياة الفكرية والروحية في بلاد اليونان بدأت تتطور تطوراً هائلاً في القرن الخامس قبل الميلاد: إذ اخذت المعتقدات الدينية تفقد ما لها من ثقة ونفوذ عند الطبقة المثقفة بأسرها، واتسع مدى الإنكار عند الكثيرين حتى شمل وجود الآلهة أنفسهم. فلم يعودوا بهم يؤمنون. ثم إن مطالب الحياة، من الناحية الأخلاقية، قد اتسعت وتشعبت حتى أصبحت تلك القواعد الساذجة التي وضعها من يسمون باسم الحكماء غير كافية لإشباع الحاجات الجديدة التي وجد اليونانيون أنفسهم فيها إبان تلك الفترة. وإنا لنلاحظ أن الكثيرين من الفلاسفة السابقين لم ينسوا أن يحملوا على هذه العادات الشعبية، وأن يكونوا دعاة إقامة مذهب في الأخلاق على أساس من العلم الصحيح ومنهج في البحث مستقيم، ولكنهم هم أنفسهم لم يستطيعوا أن يقيموا هذا المذهب، بل ولا أن يضعوا صورة له إجمالية. هذا إلى أنه كان من شأن التغيرات الجديدة في تركيب الدولة أن تجعل النظر إلى مكانة الفرد ومكانة الدولة تختلف عما كانت الحال عليه من قبل.

فجاء السوفسطائيون وعبروا أحسن تعبير عن هذه الحال التي وجد فيها اليونانيون أنفسهم إبان ذلك الحين، وكانوا بعنايتهم بمشاكل الإنسان وانصرافهم عن دراسة مشاكل الطبيعة الخارجية ممثلين لهذا الإنكار الذي شعر به الناس بإزاء المذاهب الطبيعية القديمة؛ وكانوا بهذا أيضاً المنادين أو الممهدين لقيام نوع آخر من الأبحاث مختلف كل الاختلاف، موضوعه الإنسان.كما أنه، من ناحية نظرية المعرفة، كانت مصادر المعرفة التي وثق بها السابقون قد تزعزع أساسها إلى حد كبير: فالمعرفة الحسية التي كانت المصدر الأول للمعرفة قد ثار عليها فلاسفة كثيرون من قبل أمثال هرقليطس وبرمنيدس وديموقريطس وأنكساغورس. ولم تكن حركة السوفسطائية حركة هدم بقصد الهدم المجرد، وإنما كانت حركة هدم لبناء جديد؛ لأنها كانت تعبر عن روح العصر، وروح العصر لم تكن تمثل ارتخاء ونفاداً في قوة الروح البونانية، بل كانت تمثل، على العكس، قوة جديدة شاعت في هذه الروح، فشعرت برغبة ملحة في إيجاد نظرة جديدة في الوجود؛ ومن هنا نفهم بماذا تختلف النزعة السوفسطائية عن نزعة الشكاك في العصر الثالث من عصور الفلسفة اليونانية. فإن نزعة السوفسطائيين تمثل فيضان قوى الروح اليونانية، بينما نزعة الشكاك تمثل، على العكس من ذلك، نفاد هذه القوى واضمحلالها.

فكان لا بد إذن، تبعاً لهذا، من أن يتخذ الناس مذهباً جديداً في الأخلاق والدين والمعرفة بوجه عام. ولما كان المصدر الأول لفساد المذاهب الموروثة في هذه النواحي كلها هو المنهج الذي سار عليه السابقون - ففساد الدين كان مرجعه عدم قيامه على العلم الصحيح، وفساد الأخلاق يرد إلى عدم وضعها على أساس من النظر المستقيم، وفساد الفلسفة الطبيعية راجع إلى عدم احاطتها بكل ما يقتضيه الموجود - نقول إنه نظراً إلى هذا كله، كان لا بد أن تبدأ الفلسفة الجديدة من طريق مخالف للطريق الأول، أي كان عليها أن تبداً من الإنسان كي تصل الى الطبيعة، لا من الطبيعة كي تصل يوماً ما إلى الإنسان.

ومن أجل هذا كانت الخاصية الأولى من خصائص الفلسفة الجديدة أنها بدات بالبحث في العلم والمدركات ـو التصورات: من حيث قيمة هذه التصورات، وإمكان المعرفة، والمنهج الذي يجب أن يسير عليه الإنسان كي يصل الى المعرفة. أما نقطة الابتداء في العلم فيجب أن لا تكون الأشياء الخارجية بما هي خارجية، بل ماهيات الأشياء: فيتجه البحث أولاً إلى الماهيات ويعد الوجود الخارجي ثانوياً بالنسبة إليها، أما الوجود الأول والحقيقي فهو وجودها؛ ولهذا ستكون الفلسفة الجديدة إذن فلسفة ماهيات، بدل أن كانت قبل فلسفة طبيعيات. أما المنهج فيجب أن لا يكون منهجاً قاصراً، كما كانت الحال عند الفلاسفة السابقين؛ بل لا بد للإنسان أن يراعي جميع النواحي للشيء الواحد ومختلف الصفات التي تتضمنها الماهية. فلا مناص إذن من تحليل الماهية من أجل استخراج كل الصفات التي تدخل تحتها. وهذا هو ما يسمى باسم المنهج الديالكتيكى.

أما من ناحية موضوع العلم، فإن العلم يجب أن يتجه إلى الإنسان في كل مظاهره أولاً وقبل كل شيء. ومن اجل هذا سيكون للأخلاق المقام الأول. أما الطبيعيات، فعلى الرغم من العناية بها، فإنها ستأتي في مكان ثانوي، لأنه لما كان الوجود الحقيقي عند الفلسفة الجديدة هو وجود الماهيات، فإن هذا الجزء الخاص بالماهيات سيكون الجزء الرئيسي، وستكون الطبيعيات في مركز ثانوي بازائه. وهذا الجزء من الفلسفة المتعلق بالماهيات هو ما بعد الطبيعة؛ أعني من هذا كله أن الطبيعيات ثانوية بالنسبة إلى ما بعد الطبيعة. أما الأخلاق فسيكون لها، كما قلنا المقام الأول بل والوحيد عند سقراط، فإن هذا لم يبحث في شيء غير التصورات والماهيات والفضائل. وكذلك الحال بالنسبة إلى أكثر المدارس السقراطية الصغيرة مثل الميغارين والقورينائيين. وأرسطو نفسه الذي جعل للطبيعيات أهمية كبيرة، وتوسع فيها الكثير من التوسع - يذكر صراحة في المقالة الأولى من كتاب "ما بعد الطبيعة" ( ف2 ص892 ب4 - 11) أن الطبيعيات ثانوية بالنسبة إلى ما بعد الطبيعة، لأن هذه أرفع العلوم من حيث الموضوع وهو الله، وشرف كل علم بشرف موضوعه.

فمن هذه النواحي الثلاث إذن سنجد الفلسفة الجديدة مختلفة كل الاختلاف عن الفلسفة القديمة. وهذا في الواقع ما فعله سقراط وأفلاطون وأرسطو أجمعون. فإن فلسفتهم متجهة إلى الإنسان وإذن ستكون أخلاقية؛ ونحو الماهيات في نظرية المعرفة، فهي إذن معنية بالبحث في نظرية المعرفة بوجه عام؛ ونحو وجود الماهيات بوصفه الوجود الحقيقي، فستكون إذن فلسفة مثالية وعلى الرغم من كل الاختلافات الجزئية التى نشهدها لدى هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، فإنه من الواضح أنهم متفقون جميعاً في هذه الصفة، صفة المثالية: فأرسطو لا يقل مثالية عن أفلاطون لأن الوجود الحقيقي عنده هو أيضاً ليس وجود المادة بل وجود الصورة وكل ما هنالك من خلاف بينه وبين أفلاطون في هذا الصدد هو في أن افلاطون جعل الصور مفارقة؛ أما أرسطو فقد جعل الصورة والهيولى توجدان معاً غير منفصلتين، بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن هذا يؤذن بأن أرسطو كان مثالياً مغالياً، لأنه لم يقل إن وجود الصورة يجب أن يكون ملازماً لوجود الهيولي إلا لأنه يريد أن يجعل الوجود الحقيقى دائماً هو وجود الصورة أو الماهيات.إذا سيكون كل وجود - في هذه الحالة - مرتبطاً بوجود الماهية، مما يضفي على الماهية قوة أعظم في الوجود.

وهكذا نرى أنه بينما كان اتجاه الفلسفة اليونانية في العصر الأول إلى البحث في أصل الأشياء وجوهرها وعد هذا الجوهر جوهراً مادياً صرفاً، كان اتجاهها في العصر الثاني إلى البحث في الماهيات أولاً، وإلى حسبان أن الماهية الحقيقية أو الوجود الحقيقي ليس الوجود المادي بل الوجود الروحي أو وجود الماهيات. وبعد أن كانت المعرفة في العصر الأول ساذجة لم تحاول أن تمتحن نفسها وأن تعرف القواعد التي يجب أن تسير عليها والمصادر التي يجب أن تصدر عنها، نرى البحث في العصر الثاني يتجه إلى أصول المعرفة، وأي هذه الأصول جدير بالثقة فيه، وأي منهج يجب أن يسلكه الإنسان لكي يصل إلى معرفة الحقائق. فهناك إذن من ناحية، مثالية تعارض تلك المادية المتغلغلة في العصر الأول، ومن ناحية أخرى بحث في نظرية المعرفة يقابل الثقة العمياء بالحس كما كانت موجودة في العصر الأول أيضاً.

إلا أنه يجب ألا نفهم - من كون فلاسفة هذا العصر الثاني يقولون بأن الوجود الحقيقي هو وجود الماهيات أو التصورات أو المدركات - أن هؤلاء الفلاسفة نزعوا نزعة مثالية مطلقة وحسبوا الوعي أو "الأنا" هو كل الوجود - كما سنرى ذلك فيما بعد في الفلسفة الحديثة في المثالية الألمانية وبخاصة عند فشته - فإن مثل هذه المثالية المطلقة لم تظهر في بلاد اليونان، كما أنه يلاحظ من ناحية اخرى أن هذه المثالية أو هذه النزعة الذاتية في مقابل الموضوعية، التي ظهرت جلياً عند فلاسفة هذا العصر الثاني تختلف اختلافاً بيناً عن الذاتية كما ظهرت في العصر الثالث: فإن الذاتية في هذا العصر الثالث جعلت النظر تابعاً للعمل وجعلت القيمة العليا للنظرات الأخلاقية أو للمسائل العملية، بينما على العكس من ذلك نجد أن ذاتية هذا العصر الثاني كانت تجعل النظر قبل العمل، بل إنها أرجعت العمل كثيراً إلى النظر، فنجد أن أرسطو يحسب أن الفضيلة الكبرى أو فضيلة الفضائل هي النظر، وكذلك الحال سواء عند أفلاطون اوعندسقراط.

كما أنه يلاحظ أن فلاسفة العصر الثالث لم يعنوا بالطبيعيات أية عناية، أما في العصر الثاني فإننا نرى أنه - على الرغم من أن سقراط لم يعن إلا بنظرية المعرفة والأخلاق - فإن أفلاطون قد جعل الطبيعيات جزءاً مكملاً للأخلاق ولنظرية المعرفة، ولمذهبه في الوجود. ثم إن أرسطو امتد بالطبيعيات فأعطى لها أعظم صورة وصلت إليها حتى العصر الحديث. كما أن فلاسفة العصر الثالث: إما أنهم أرادوا أن ينصرفوا عن العالم الخارجي، وإما أنهم لم يجدوا من وسيلة إلا الخضوع التام لما تقتضيه الطبيعة، وإما أن يكونوا متصوفة زهاداً. وعلى العكس من ذلك كان فلاسفة العصر الثاني لا يفرقون تفرقة كبيرة بين السياسة وبين الأخلاق، فأفلاطون يعنى كثيراً ببيان الصلة بين الاخلاق الفردية وواجبات الدولة، ويبحث كثيراً في واجبات الدولة، وأرسطو يكرس جزءاً كبيراً من بحوثه للسياسة، ويجعل السياسة مرتبطة بالأخلاق تمام الارتباط، ومعنى هذا ان العصر الثاني لم يحاول الفصل بين السياسة والأخلاق، ولم يفعل كما فعل رجال العصر الثالث حين انتهى بعضهم، وهم الأبيقوريون، إلى أن الفضيلة العليا هي الاكتفاء بالذات والانصراف التام وعدم التأثر بالطبيعة الخارجية أو بأي شيء خارجي، كما هو واضح في الفكرة المعروفة عندهم باسم عدم الاكتراث، وكما فعل البعض الآخر وهم الرواقيون حين قالوا إن الفضيلة الكبرى هي الخضوع والتسليم لكل ما تأتي به الطبيعة، وهذا ما يسمى باسم الأتركسيا؛ كما أن النزعة العالمية نزعة التحلل من الوطن وحسبان الوطن هو العالم، وهي التي ظهرت جلياً في العصر الثالث، هذه النزعة كانت مجهولة تقريباً لدى رجال العصر الثاني.

ومن هذا كله نستطيع أن نجد خصائص الروح اليونانية ظاهرة كل الظهور في العصر الثاني، وإن كانت تلك الخصائص قد بدأت تضمحل شيئاً فشيئاً حتى في هذا العصر نفسه. وفلسفة العصر الثاني يمثلها ثلاثة فلاسفة عظام: أولهم سقراط، وثانيهم أفلاطون، وثالثهم أرسطو. وهؤلاء جميعاً يرتبطون برابطة التلمذة كما أن الخصائص التي ذكرناها عن العصر الثاني نجدها واضحة لدى هؤلاء الثلاثة جميعاً. فسقراط يقول إن المعرفة الحقيقية هي معرفة الماهيات ويرجع الفضيلة إلى المعرفة، فيقول إن الأخلاق نفسها تقوم على الماهيات بمعنى أن الفضيلة هي العلم، والعلم هو علم بالماهيات، فالفضيلة مرجعها في النهاية إذن إلى الماهيات. وأفلاطون يرتفع بهذه الماهيات عن الوجود الحسي فيجعل لها وجوداً مستقلاً مفارقاً للموجودات، قائلاً إن صلتها بالموجودات الحية هي صلة مشاركة فحسب. وأرسطو يقول إن وجود الصورة هو الوجود الحقيقي، أما وجود الهيولى فوجود من الدرجة الدنيا. والفارق بينه وبين أفلاطون، هو أن أفلاطون يجعل الصورة مفارقة للموجودات المحسوسة، بينما أرسطو يجعل الصورة والهيولى متصلتين، وهو إنما يلجأ إلى هذا لأنه وجد أن الهيولى لا يمكن أن يكون لها وجود إلا إذا كانت الصورة موجودة معها، لأنها المصدر لوجودها وماهيتها، فإذا ذهبت الماهية ذهب الباقي أو العرض؛ والهيولى عند أرسطو هي انفعال صرف تجري فيها التغيرات، فلا يمكن إذن أن يكون لها وجود حقيقي، إلا عن طريق الصورة؛ ولهذا نرى أن وجود الصورة يجب أن يكون متصلاً دائماً أبداً بوجود الهيولى.

وهكذا نجد أن الخصائص التي ذكرناها عن هذا العصر توجد كلها عند ممثلي هذا العصر جميعاً. إلا أن هناك مدارس صغيرة وجدت إلى جانب هؤلاء، وانحرفت بعض الإنحراف عن رؤساء المدارس التي هي تابعة لها. وهذه المدارس أشهرها ثلاثة بالنسبة إلى سقراط، وواحدة بالنسبة إلى أفلاطون، وواحدة أخرى بالنسبة إلى أرسطو. والمدارس الأولى الثلاث تسمى باسم المدارس نصف السقراطية وهي الميغارية والكلبية والقورينائية. أما مدرسة أفلاطون فهي الأكاديمية، ومدرسة أرسطو هي المشائية. والشيء الذي يفرق بين هذه المدارس من ناحية وبين رؤساء هذه المدارس من ناحية أخرى هو أن هذه المدارس اتجهت مندفعة في تيار معين انحرف بها عن مؤsس المدرسة، فجعلها أقرب إلى مدارس العصر الثالث منها إلى مدارس أو رجال العصر الثاني: فبعضها اتجه نحو ذاتية مغالية كما فعل الكلبيون مثلاً والقورينائيون، واتجه بعضها إلى الأبحاث المنطقية وانصرف بها كثيراً عن الأبحاث الأخلاقية، كما فعلت المدرسة الميغارية. أما مدرسة أفلاطون فقد تأثرت كثيراً بالمدرسة الفيثاغورية وانحرفت انحرافاً كبيراً عن روح مؤسسها. كذلك الحال في المدرسة المشائية، فقد اتجه بعضها نحو الطبيعيات ولم يجمع بين الطبيعيات وبين المنطقيات والأخلاقيات كما فعل رئيس المدرسة، وانصرف بعضها الآخر إلى الأخلاق واللاهوت على حساب بقية الفلسفة. ومن هذا كله نستطيع أن نقول إن هذه المدارس جميعاً كانت تياراً جانبياً إلى جانب التيار الكبير الذي مثله كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو.

الفلسفة اليونانية: الرواقية والأبيقورية والشكية

وصلت الفلسفة اليونانية إلى أعلى درجة استطاعت أن تبلغها عند أرسطو وأفلاطون. فالفلسفة الطبيعية قد أقيمت على قواعد ميتافيزيقية وأصبحت تكون نظرة شاملة في الوجود، ولم يقتصر النظر على الناحية المادية من الطبيعة، بل اعترف بوجود ثنائية مطلقة لا سبيل إلى القضاء عليها في داخل نظام الوجود، وهي الثنائية بين الروح وبين المادة، أو بين الهيولى وبين الصورة. والفلسفة الأخلاقية قد تكونت وأصبحت ذات أساس ثابت بالنسبة إلى هذه الحضارة اليونانية، إذ أُكْمِل ما بدأه سقراط، ولم تعد الأخلاق مجموعة من الأقوال المتناثرة التي لا تسري فيها وحدة ولا تقوم على قواعد ميتافيزيقية محددة؛ وارتبط ما بينها وبين السياسة، فلم يعد للواحد وجود دون الآخر؛ ونظرية المعرفة قد أخذت وضعها الصحيح، وأضيف إليها - خصوصاً عند أرسطو - تحديد دقيق لمعاني الألفاظ، ونظر إلى كثير من المشاكل الميتافيزيقية نظرة ثابتة واسعة تقوم على أساس الإدراك العقلي الصرف - بالقدر الذي استطاعوا به ذلك - لظواهر الوجود وما يخضع له من قوانين؛ وبذا بلغت الفلسفة - بالمعنى الدقيق - أعلى درجة قدر لها أن تبلغها في هذه الحضارة. ثم أضيف إلى الفلسفة البحث العلمي بمعناه الدقيق: فإلى جانب فلسفة التصورات التي بدأت بسقراط وبلغت نهايتها عند أرسطو، نجد أن المنهج العلمي القائم على الملاحظة، بل وعلى شيء من التجربة، قد أخذ مكانه إلى جانب منهج التصورات أو المنهج الديالكتيكي.

إلا انه إذا كانت الفلسفة قد بلغت عند أرسطو أعلى ما قدر لها أن تبلغه، فإن هذا ليس معناه ان المشاكل التي عرضت للفلاسفة اليونانيين قد وجدت حلها النهائي، بل ظلت هناك عدة مشاكل تركتها هذه الفلسفة دون حل، أو حلتها على نحو غير مرض. فهذه الثنائية بين الروح وبين المادة، أو بين الهيولى والصورة، وهي الثنائية الي أكدها أفلاطون إلى أقصى حد، لم يستطع أرسطو - على الرغم مما قام به من نقد لمذهب أفلاطون - أن يقضي عليها، بل ولا أن يخفف منها، فأصبحت الفلسفة تبدأ دائماً من التصورات، وتنتهي دائماً إلى التصورات. ثم إن الصلة - تبعاً لهذا - بين الجواهر المتحققة في الخارج، وبين التصورات المناظرة لها في الذهن لم تحل عند أرسطو على نحو مقنع. هذا إلى أن المنهج العلمي كان في الغالب مقصوراً على المنهج الدالكتيكي، وهو منهج له من العيوب ما لكل فلسفة تصورية من عيوب التجريد المطلق، وعدم إمكان الرجوع إلى التجربة، وقيام تعارض شديد بين التجربة وبين التصور.

هذا إلى أن الفلاسفة اليونانيين جميعاً قد صدروا في كل أبحاثهم ونظراتهم في الوجود عن ثقة مطلقة في الموجودات الخارجية، أي أنهم لم يشعروا بعد بما هناك من تضاد بين العقل - أو القوة المدركة - وبين الأشياء التي هي موضوع الإدراك، وإنما كانوا يوفقون، او بتعبير أدق - لإن التوفيق لا يأتي إلا بعد التمييز - كانوا لا يميزون بين الذات والموضوع، ما جعل فلسفتهم خليطاً من الموضوعية والذاتية. ثم إن البحث العلمي، إذ قام على أساس فلسفة التصورات، لم يكن من المستطاع أن يؤدي إلى نتائج ثابتة؛ فالتقدم العظيم الذي لقيه العلم في العصر الحديث، إنما يقوم على أساس إدخال التجربة والمشاهدة في كشف الحقائق العلمية، أما التصورات وتحليلها فهي خطوة ثانوية تأتي بعد التجربة والمشاهدة. ومرجع هذا كله من ناحية إلى فلسفة التصورات، ومن ناحية أخرى إلى عدم إدراك التعارض بين الذات وبين الموضوع.

إلا أن هذا التعارض بين الذات والموضوع كان بطبعه غريباً عن الروح اليونانية، لأن من خصائص هذه الروح القول بالانسجام بين العالم الخارجي والعالم الباطن، وبين العالم الأكبر وبين العالم الأصغر، فلم يكن من الممكن إذاً، ما دام هذا في طبيعة الروح اليونانية أن يجد ما يخرجها عن هذا الوضع. ولهذا لم يكن مقدراً لهذا النقص أن يُصْلح بعد أرسطو. أما المنهج العلمي، فقد كانت تعوزه الأجهزة التي يمكن بواسطتها أن تعين الظواهر تعييناً دقيقاً. ولم يكن من شأن الروح اليونانية أن تدخل صناعة فنية بالمعنى الحقيقي، ولهذا لم يكن مقدراً لها كذلك أن تنتج شيئاً ذا بال في الناحية العلمية، أعني أن الذين تلوا أرسطو ما كان لهم أن يزيدوا شيئاً يعتد به، على ما فعله أرسطو ومن سبقه.

فهذان العيبان إذا - ونعني بهما عدم إدراك التعارض بين الذات والموضوع، مما أدى إلى عدم تحليل طبيعة المعرفة، وبالتالي طبيعة الوجود، تحليلاً دقيقاً؛ ثم عدم إقامة البحث العلمى على أساس المشاهدة والتجربة -، نقول إن هذين العيبين إذاً كان مقدراً لهما أن يظلا كذلك. فإذا كانت فلسفة التصورات قد وصلت عند أرسطو إلى أعلى درجة، فلم يكن من المنتظر إذا أن يقوم الفلاسفة الذين أتوا بعده بكشف جديد لا في الفلسفة العلمية، ولا فلسفة الوجود، ولا نظرية المعرفة. إنما كان عليهم أن يعنوا بدراسة مسألة لم تكن في الواقع بذات أهمية كبرى بالنسبة إلى دور الحضارة، في الحضارة اليونانية، ونعني بها مسألة الأخلاق. ويفهم من الأخلاق هنا، الأخلاق الفردية، أي المتعلقة بتحقيق السعادة للفرد أو للمجموع بوصفه مجموعة أفراد. فمثل هذه الفلسفة الأخلاقية التي تعتد بالفردية وتنشد الخلاص، لا يمكن أن توجد بشكل واضح في دور الحضارة، لأن الإنسان في هذا الدور لا يستطيع أن يميز تمييزاً كبيراً بين الحياة العملية الخارجية، وبين الفكر والحياة الباطنة. ومثل هذا التمييز هو الأساس في كل بحث أخلاقي فردي، لأن الشعور بالشخصية - ونقصد بالشخصية هنا الذات المفردة - لا يكون واضحاً إلاً في دور المدنية، فما يقوم من أبحاث حول الشخصية لا يوجد بالتالي إلا في الدور الأخير.

والحياة السياسية اليونانية كانت تؤذن بهذا أيضاً، فبعد موقعة كيرونيا سنة 338، فقد اليونانيون استقلالهم وفقدوا حريتهم الفردية، وارتفعت بذلك الحواجز التي كانت تفصل فصلاً دقيقاً بين اليونانيين وبين المتبربرين أو الأجانب. ثم جاء الإسكندر ففتح أبواب الثقافة اليونانية للشرق، وفتح بذلك أبواب الثقافة الشرقية لليونانيين، فحدث عن هذا الامتزاج بين الثقافتين مزيج جديد هو ما يسمى باسم "الهلينية". وبهذا التزاوج بين الثقافة اليونانية والثقافة الشرقية حدث نوع مما يسميه اشبنجلر باسم "التشكل الكاذب". فقد تقابلت هنا حضارتان، أو بالأحرى تقابلت حضارة واحدة قد بلغت أوجها، مع حضارة أخرى أو ثقافة قد انحلت منذ زمن طويل، ولم تبق فيها إلا حياة ضئيلة. وحينئذ استطاعت الثقافة اليونانية في بادىء الأمر، أن تفرض سلطانها: فبعد أن كان كانت الثقافة الشرقية قائمة، انتصرت الثقافة اليونانية على الثقافة الشرقية. لكن - كما يحدث دائماً من امتزاج جنس أعلى بجنس أدنى - حدث فساد وانحطاط في مستوى الجنس الأعلى لحساب الجنس الأدنى. وهكذا حدث بالنسبة إلى الحضارة اليونانية: إذ غزتها الحضارة الشرقية بما فيها من تهاويل وأمور تتصل بالخوارق والسحر، وما فيها من أديان - بالمعنى السحري الصوفي - فخضعت الثقافة اليونانية لهذه العناصر الأجنبية السحرية، ومن ثم أخذت في الاضمحلال حتى أتت على نسايتها. وهكذا كان الإسكندر الأكبر - بفتحه لبلاد الشرق - محنة شديدة على الروح اليونانية، لأنه أدخل فيها عناصر شرقية، فمسخ تفكير الحضارة اليونانية ووضعها في قوالب لا تتلاءم مطلقاً مع طبيعتها، فكانت نتيجة هذا التغير في الوضع السياسي أن تحولت النظرة من الوجود ومن الفكر، إلى السلوك والعمل. فلم يعد المفكر ينشد من وراء تفكيره أن يدرك مظاهر الوجود، وأن يتبين ما فيه من قوى، وأن يفسر ما تخضع له الطبيعة من قوانين، وإنما أصبح كل همه - ما دام هذا كله لا يعنيه في شيء - أن يوجد لنفسه قواعد للسلوك. والمقصود بالسلوك هنا، المعنى الضيق للكلمة، أي سلوك الفرد بإزاء نفسه - إن صح هذا التعبير -، بمعنى انعكاف الفرد على ذاته، ومحاولته إيجاد طمأنينة سلبية بالنسبة إلى نفسه. لأنه لما كان قد فقد حريته في العالم الخارجي، فقد راح ينشد نوعاً من الحرية في العالم الباطن؛ ولما كان قد فقد استقلاله السياسي، فقد انصرف عن السياسة انصرافاً تاماً، وأصبح يفرق بين السياسية والأخلاق، فلم تعد السياسة واجبات المواطن وحقوقه. وإنما أصبحت مجموعة القواعد التي يصل الإنسان باتباعها إلى السعادة الفردية؛ والسعادة هنا إنما هي الاطمئنان الشخصي.

وبذهاب الروح القومية، وفقدان الاستقلال السياسي، لم يعد المفكر أو الفيلسوف ينظر إلى الوطن بحسبانه الوحدة الأولى التي يتجه إليها كل تفكيره، ولم يعد يفرق بالتالي بين نفسه وبين الأجانب، أي بين اليوناني والمتبربر، لكي يحافظ بهذا على الأبعاد - على حد تعبير نيتشه؛ وإنما أصبح المفكر اليوناني - بعد أن فقد كل شخصيته - ينظر إلى جميع الناس بحسبانهم إخواناً ومواطنين عالمين - إن جاز مثل هذا التناقض في الحدود - أي أن اليوناني قد أصبح يعد نفسه غير مرتبط بمدينة، وبالتالي خاضعاً لقوة خارجية لا يتبين مداها، وهذا معناه أنه قد فقد بوجه عام كل شخصيته السياسية ولم يعد من الممكن أن يعنى بالسياسة بمعناها الحقيقي، لأن السياسة بمعناها الدقيق لا يمكن أن يشتغل بها إلا من عرف الحرية واستطاع أن يوفق بين الأخلاق والسياسة، وبالتالي أن يجعل الاثنين شيئاً واحداً، فمن هنا نرى أن الاتجاه في التفكير قد انصرف من النظر إلى العمل أولاً، ثم إن هذا العمل قد امتاز بصفة جديدة وطابع خاص لم يكن معروفاً من قبل. وهاتان الخاصيتان نجدها واضحتين كل الوضوح في المذاهب الفلسفية التي نشأت بعد أرسطو، من رواقية وأبيقورية وشكية لإن هذه المدارس كلها قد انصرفت عن النظر الفلسفي الصرف وعن التفكير المجرد العاري عن العمل، إلى الأخلاق العملية والسلوك.

وهذا ظاهر جداً بالنسبة إلى الأبيقوريين والشكاك. فالأبيقوريون لم يعنوا عناية صحيحة بالمسائل الطبيعية ونظرية المعرفة، والشكاك كانوا أولى الناس بألا يعنوا بشيء من هذا، نظراً إلى أنهم كانوا يشكون في إمكان المعرفة المجردة، ويقولون إن مقياس المعرفة هو العمل والتحقق في الواقع، فكانوا تبعاً لهذا لا يقيمون أي وزن للتفكير النظري بمعناه الصحيح. أما الرواقيون، فلئن عنوا بشيء من الطبيعيات ومن نظرية المعرفة وخصوصاً المنطق، فما كان ذلك إلا مقدمة ووسيلة للغاية الأولى وهي الفضيلة والأخلاق العملية، لأن المعرفة الطبيعية أو المنطقية كانت عند الرواقيين دائماً وسيلة إلى إيحاد الفضيلة الأخلاقية، حتى إن المعيار في المنطق قد أصبح هو الفضيلة الأخلاقية! وهكذا نرى أنه حتى الذين عنوا بشيء من الطبيعيات، قد جعلوا مركز الطبيعيات ثانوياً بالنسبة إلى مركز الأخلاق.

والخاصية الثانية - وهي انطباع الأخلاق بطابع جديد -نراها كذلك واضحة في هذه التيارات الثلاثة: فهذه الأخلاق الجديدة لم تكن أخلاقاً إيجابية - كما كانت الحال عند سقراط وأفلاطون وأرسطو من قبل - وإنما كانت أخلاقاً سلبية، كل ما ترجوه أن تحقق للفرد شيئاً من الطمأنينة السلبية على صورة الأتركسيا عند الأبيقوريين، وعلى صورة الخلو من الانفعال (أو الأباتيا) عند الرواقيين، ثم على صورة التوقف وتعليق الحكم والفعل عند الشكاك. وتمتأز هذه الطمأنينة السلبية أولاً برجوع الإنسان إلى نفسه وانعكافه على ذاته، وعدم عنايته بشيء يتصل بالخارج وبالكون الأكبر. وتمتاز ثانياً بأنها تنشد الخلو من الانفعال وصفاء النفس من كل تأثرات وجدانية؛ كما تمتاز ثالثاً بأنها سلبية، أقرب ما تكون إلى الصوفية الأخلاقية. وهذه الصفات نجدها واضحة كل الوضوح في هذه التيارات الثلاثة جميعاً.

هذا فيما يتصل بفقدان اليونانيين استقلالهم السياسي. وأما فيما يتصل بنفوذ الأفكار والثقافة الشرقية إلى الحضارة اليونانية، فنإننا نجد أن هذ قد أنتج آثاراً عدة في التفكير الفلسفي. فقد امتاز هذا التفكير أولاً بميل إلى الدين، وليس المقصود بالدين هنا، الدين كما كان يفهم من قبل في دور الحضارة اليونانية، وإنما الدين هنا هو الأخلاق (اليونانية) منظوراً إليها من ناحية ضيقة، بمعنى أن الدين هو وسيلة الخلاص. وفكرة الخلاص هذه من الافكار التي تلعب الدور الأكبر في الدين على النحو الجديد، ذلك لأن الدين بالمعنى القديم قد فقد، لأن الدور الذي نحن بصدده هو دور الإلحاد الملازم دائماً لدور المدنية. فلم يعد واحد من الفلاسفة يؤمن بالألهة القدماء أو يؤمن بقوة عليا هي المثل الأعلى الذي يضع فيه الإنسان كل آماله. وإنما أصبح هؤلاء - تبعاً لنظريتهم الأخلاقية - ينظرون إلى الله بحسبانه وسيلة أو بوصفه محققاً للخلاص الأخلاقي، أعني أن الدين قد طبع بطابع أخلاقي صرف: وكان طبيعياً من أجل هذا أن تجد الافكار الشرقية المتصلة بالمتوسطات مجالاً واسعاً في تصورات هذا العصر الدينية. وعلى هذا بدأ الاعتراف بوجود هوة بين المتناهي واللامتناهي يظهر.

انظر أيضاً