عصور الفلسفة اليونانية
للتاريخ وجهان: فالتاريخ حياة، والتاريخ فكر. هو حياة بوصفه شيئاً حَيَه أناس معينون في عصر معين وتحت ظروف معينة؛ وهو من ناحية أخرى وثائق تركتها لنا هذه الحياة التي حيها هؤلاء الناس، يقوم التفكير بالنظر فيها. ففي التاريخ إذا ثنائية بين الحياة وبين الفكر. وهذه الثنائية هي الصعوبة الكبرى التي يجدها المؤرخ حين يريد أن يؤرخ تأريخاً حقيقياً صحيحاً. وذلك لأن الفكر بطبيعته مضاد للحياة، كما أثبت لنا ذلك برجسون إذ التفكير لا يتم إلا عن طريق مقولات أو إطارات ثابتة، بينما الحياة تقتضي التطور، ومعنى هذا أن الفكر، حينما يطبق على الحياة، يحيل الحياة إلى شيء مادي آلي. ومن هنا اختلف الناس في تصورهم للتاريخ، وبالتالي اختلفوا في تصورهم للزمان الذي يقوم عليه التاريخ. فهناك زمان آلي هو زمان الساعات، وهناك زمان حقيقي لا يقاس بالساعات، وإنما يقاس بالقدر الذي نحيا به الأحداث والتجارب. فهناك اختلاف إذاً بين الزمان الآلي والزمان الحيوي - إن صح هذا التعبير -؛ والأول لا بد من اللجوء إليه إذا ما فكرنا في التاريخ. أي أن الحياة، وهي جوهر التاريخ، حينما تصبح شيئاً مسروداً مسجلاً لا بد أن تنطبع بطابع التفكير، الذي هو الآلية.
ومن هنا لن نستطيع مطلقاً ان نتخلص من مقتضيات الفكر، أي من النظرة الآلية إلى التاريخ، خصوصاً إذا لاحظنا أنه لا بد لنا من الالتجاء إلى هذه النظرة الثابتة كي يسهل الفهم، والفهم لا يتم إلا في هذا الوضع المبسط الآلي. ومعنى هذا كله أنه لا بد من أن نطبع تاريخ أي شيء، سواء أكان تاريخاً روحياً أم تاريخ حوادث، بهذا الطابع العام للتفكير وهو طابع الآلية. فالتاريخ - على حد تعبير كروتشه - فيه طابع الفكر من حيث أن الفكر يشتمل على عصور وفترات. وعلى هذا فلن نستطيع مطلقاً أن نتخلص من فكرة تقسيم التاريخ إلى فترات وعصور. والنقص الذي يحدث من هذه النظرة إلى التاريخ نستطيع أن نتلافاه، إلى حد بعيد، لو نظرنا إلى الزمان بحسبانه زماناً حيوياً، ومعنى هذا أننا في تقسيمنا فترة ما إلى عصور، أو حضارة ما من الحضارات إلى أدوار، أو حركة روحية إلى أطوار، يجب أن يكون مبدا التقسيم، ليس هو التقسيم الخارجي للسنوات، وإنما التقسيم الباطن للمضمون الروحي لهذه الحركة الروحية فنقسم الحركة الروحية التي ندرسها إلى اتجاهات، ونجدد الصلة بين الاتجاه والاتجاه من ناحية المضمون الروحي الخاص بكل اتجاه. فإذا وجدنا أن المضمون الروحي قد انتهى وبداأ يتكون مضمون روحي جديد (ذو اتجاه جديد)، فمعنى هذا أنه قد بدأ طور جديد. وقد يكون الانتقال بين الطور والطور واضحاً على شكل ثورة يكون فيها قلب للنظرة السائدة في الاتجاه السابق، من أجل إيجاد نظرة جديدة غالباً ما تكون متعارضة، وفي تناقض تام تقريبًا، مع النظرة التي سادت الطور السابق.
فإذا بحثنا الآن في فلسفة التاريخ من هذه الناحية، وجدنا أن هذه الفترة التي يكون فيها انتقال مفاجىء أوشبه مفاجىء من اتجاه ضخم إلى اتجاه آخر ضخم، توجد حينما يتم الانتقال مما يسميه الفلاسفة الألمان - وبخاصة اشبنجلر - الحضارة إلى المدنية، وتسمى فترة الانتقال هذه باسم التنوير. وسنتحدث عن خصائص التنوير حينما نصل إلى عصر التنوير عند اليونان، ونعني به عصر السوفسطائية.
فيجب علينا إذا أن نقسم تاريخ الفلسفة اليونانية إلى أدوار. فما هي هذه الأدوار؟ لن نجيب عن هذا السؤال إجابتنا الخاصة، إلا بعد أن نعرض الإجابات التي ساقها المؤرخون السابقون للفلسفة اليونانية.
تقسيمات تاريخ الفلسفة اليونانية
القرن التاسع عشر
الرأي السائد في القرن التاسع عشر هو أن الفلسفة اليونانية تبداً بطاليس، ويبداأ بعد ذلك الاختلاف في تحديد الأدوار. فنجد أولاً آست وركسنر، وبرانس، قد بدأوا بتقسيم الفلسفة اليونانية على أساس فكرة الجنسية. فاليونانيون ينقسمون إلى فرعين هما: الأيونيون والدوريون أما الأيونيون فيمتازون - على حسب رأي هؤلاء - بالواقعية، بينما الدوريون يمتازون بالمثالية. وعلى أساس هذا قسم الأولون أدوار الفلسفة اليونانية إلى ثلاثة: فهناك العصر الأيوني، ثم العصر الدوري ثم العصر الخليط بين الاثنين وهو العصر الأتيكى. كذلك قال برانس إن تطور الفلسفة اليونانية قد تم بوجود العنصرين معاً. ففي العصر الأول نجد من ناحية، المدرسة الأيونية وهرقليطس وهؤلاء أيونيون، وفي الجانب الآخر نجد برمنيدس وفيثاغورس، وهؤلاء دوريون. وكان الاتجاه السائد النظر في الطبيعة الخارجية.
وفي العصر الثاني كان النظر متجهاً نحو إيجاد الروح الكلية. ويمثل هذه النزعة أنكساغورس وديموقريطس من ناحية، ومن ناحية اخرى أنبادوقليس وذيوجانس. ثم يأتي العصر الثالث وفيه تبدأ محاولة إيجاد روح جديدة مقابلة للروح التي هدمتها السوفسطائية، وهكذا تكون العصر الثالث والأخير، ويبتدىء من سقراط وينتهي بانتهاء الفلسفة اليونانية.
ويرد تسلر على هؤلاء، فيقول إن الفلسفة في العصر الأول لم تكن أيونية خالصة كما لاحظ برانس بحق، ولكن هذا الأخير يخطىء أيضاً حينما يصور ذيوجانس وديموقريطس وانكساغورس على اهم قدحاولوا إيجاد الروح الكلية (المطلقة)، لإن أنكساغورس، وكذلك زميلاه، كان بحثه متجهاً كالأولين تماماً، أي أصحاب العصر الاول، إلى الطبيعة الخارجية وحدها، ولسنا نستطيع أن نتبين فرقاً كبيراً بين فلاسفة الدور الأول، وفلاسفة هذا العصر الثاني؛ بل إن النظرة في الاتجاه واحدة.
وعلى هذا فلي ثمت من مبرر للفصل بين هذين العصرين.
ثم إنه يلاحظ أيضاً ان هذا التقسيم غبر متناسب، فالبعد كبيرين مقدار العصر الأول والعصر الثاني من جهة، والعصر الثالث من جهة أخرى. فالعصر الثالث يشمل شخصيات ضخمة كبيرة لا تتناسب مطلقاً مع اصحاب العصر الأول والثاني، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نقول إنه كان ثمت اتجاه واحد طوال هذا العصر الثالث، كما يزعمان. وذلك لأنا سنرى أنه سيبدأ اتجاه جديد بعد موت أرسطو. ولا بد من الفصل بين الفلسفة المبتدئة بسقراط والمنتهية بأرسطو، وبين الفلسفة التي جاءت بعد ارسطو حتى آخر الفلسفة اليونانية فعدم التناسب هذا يكفي وحده للقضاء على نظرية برانس.
هيجل
عدم التناسب هذا نجده كذلك في نظرة هيجل الذي رأى أن الفلسفة تنقسم إلى عصور ثلاثة ايضاً، وأن العصر الأول كان عصر الوحدة؛ ثم جاء العصر الثاني فكان ثورة على هذه الوحدة؛ وجاء العصر الأخير فكان محاولة للتوفيق بين الاثنين.
قسم هيجل عصور الفلسفة اليونانية على هذا الأساس، فجعل هذه العصورثلاثة: العصر الأول ويبتدىء من طاليس كما هو متفق عليه بين الجميع، وينتهي هذا العصر الأول بأرسطو، ثم يبدأ العصر الثاني ابتداء من المدارس التي تلت أرسطو، وهي الرواقية والأبيقورية والشكاك سواء منهم القدماء والمحدثون، والعصر الثالث هو عصر الأفلاطونية المحدثة. والأساس في هذا التقسيم هو منهج هيجل الذي تصور على أساسه التطور الروحي للإنسانية. فإنه يقول إن الفكرة المطلقة قد وصلت إلى أعلى درجة من درجات تحققها عند أرسطو. وبعد أرسطو بدأت الوحدة تنحل إلى شيئين متعارضين: إلى موضوع، ونقيض موضوع. فمن ناحية نرى المذاهب التوكيدية وهي الرواقية والأبيقورية، ومن ناحية اخرى يضاد هذه المذاهب مذهب الشكاك الذي هو نقض لكل توكيد. وتبعاً لسير التاريخ من موضوع إلى نقيض موضوع، ثم إلى مركب موضوع، كان لا بد بعد انفصال الصورة الكلية إلى نقيض موضوع، وموضوع، أن ثمت وحدة هي مركب الموضوع بين الموضوع ونقيض الموضوع، وهنا سيكون هذا المركب سلباً للسلب أي إيجاباً. فأصبحت الفكرة المطلقة وحدة من جديد، وهذا قد تم على أيدي الأفلاطونية المحدثة.
ولهذا لا بد أن نقسم التاريخ الفلسفي لليونان على هذا الأساس. ومع هذا فنستطيع أن نجعل ثمت تقاسيم في داخل العصر الأول، فنقسمه حينئذ إلى قسمين أو ثلاثة أقسام. وهنا ينظر هيجل نظرة جديدة إلى السوفسطائية فيجعل ابتداء القسم الثاني من العصر الأول بالسوفسطائية، بدلاً مما كان يفعله المؤرخون الأسبقون الذين كانوا ينظرون إلى السوفسطائية على أنها حركة انتهاء، لا حركة ابتداء. وعلى هذا يبدأ القسم الثاني من العصر الأول بالسوفسطاثية، ويدخل في هذا القسم سقراط وأنصاف السقراطيين والمدارس السقراطية الصغيرة المختلفة. أما القسم الثالث فيكون حينئذ القسم الخاص بأفلاطون وأرسطو. وهذا التقسيم الفرعي يقوم على أساس أن الروح المطلقة الكلية قد وصلت إلى أول درجة من درجات كمالها على يد أنكاغورس لما قال بفكرة العقل ثم بدأت هذه الفكرة المطلقة تنحل على يد السوفسطائيين وسقراط، ثم سارت إلى الوحدة من جديد وبلغت أوجها من الوحدة على يد أفلاطون وأرسطو.
تسلر
بيد أن اتسلر لا يشاء أن يأخذ بهذا التقسيم. فيقول أولاً إن النسب غير متساوية، كما هي الحال من قبل عند برانس. فطول العصر الأول لا يتناسب مطلقاً مع قصر كل من العصرين الأخيرين، ولو أنه من الناحية التاريخية يمكن أن يكون هذا التقسيم متناسباً، فإنه من ناحية المضمون، أي من ناحية الأفكار الفلسفية التي وجدت في كل عصر من هذه العصور الثلاثة، غير متناسب تماماً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يلاحظ أنه لا يجب أن نبدأ بالسوفسطائية عصراً جديداً للفلسفة اليونانية، وذلك على أساس المقياس الذي اتخذه من قبل وهو أنه لا يمكن أن نبدأ عصراً جديداً إلا إذا بدأ تيار جديد قد تحددت معالمه وأصبح شاعراً بنفسه. والسوفسطائية في رأي اتسلر ليست بدءاً لفلسفة جديدة، وإنما هي محاولة للقضاء على الفلسفة القديمة. نعم إنهم وجهوا عنايتهم إلى الذات أو الطبيعة الداخلية، بدلاً مما كان عليه الحال من قبل حينما كان الفكر متجهاً بكليته إلى الطبيعة الخارجية فحسب. ولكنهم نظروا إلى الذات لا على أنها لإنسان أي لا بحسبانها معنى كلياً، وإنما نظرو إلى الإنسان على أنه هذا الإنسان أو ذاك، أي لم ينظروا إلى الإنسان كفكرة كلية، بل كفرد محدد معين. وهم في نظريتهم في المعرفة لم يقولوا مطلقاً إن الوجود الذهني هو الوجود الجدير بالبحث أو هو الوجود الحقيقى، كما سيقول سقراط. وعلى هذا فإن السوفسطائية لا تمثل اتجاهاً، فلا يمكن إذن أن نبدأ بها عصراً جديداً.
ورأي اتسلر في هذا مخالف للبحوث التي كتبت من بعده وفي أيامه ايضاً بل وقبله، والتي انتهت إلى القول بأن السوفسطائية يجب أن تعد عصراً جديداً. وذلك لأن السوفسطائية هي، كما يسموها، نزعة التنوير عند اليونان؛ وليست حركة سلبية كما ظن اتسلر، وإنما هي ثورة ناتجة عن شعور قوي برغبة ملحة ونزعة قوية نحو إيجاد نظرة جديدة في الكون وفي الوجود. فمن قبل اتسلر أشار إلى هذه النزعة هيجل وآست ومن بعده أعطى لهذه الكلمة كل مضمونها وكل ما تشمله من معان جومبرتس. وتوالت الابحاث بعد هذا وكلها تسير في هذا الاتجاه فنراها خصوصاً عند ييجر في كتابه عن التربية او الثقافة "بديا"، وأخيراً جاء في عام 1938 جوزيه سئيتا في كتابه «نزعة التنوير عند السوفسطائية اليونانية» فرد للسوفسطائية كل اعتبارها، ونظر إليها على أنها النزعة الحقيقية للفكر اليواني وعدها تماثل كل نزعة تنوير وجدت في الحضارات الأخرى، وبخاصةً في الحضارة الغربية في القرن الثامن عشر.
وعلى كل حال، فإن رأي اتسلر هو كما عرضناه. ولهذا لا يشاء أن يبدأ العصر الجديد وهو العصر الثاني، بالسوفسطائية، بل يبدأ بسقراط، ويرى أن التيار الجديد الذي سرى في الفلسفة هو جعل الموجودات الذهنية الموجودات الحقيقية، فقال سقراط إن المعرفة الحقيقية هي معرفة الذات لنفسها وهي معرفة المدركات أو التصورات. ولا بد أن يتجه الإنسان -لا إلى تحليل الموضوعات الخارجية - بل إلى تحليل مدركاتنا المماثلة لهذه الموضوعات الخارجية. فالمرء لابد له إذا لا أن يبدأ بمعرفة الطبيعة الخارجية، بل بمعرفة الطبيعة الداخلية أو الذات. والشعور بهذه النزعة الجديدة واضح قوي لدى سقراط، فهو لم يُعْنَ أدنى عناية بالطبيعة، بل وجه كل همه نحو الانسان ولو أنه لم يتقدم كثيراً بالبحث في المدركات، فإنه أعطى القوة الدافعة الكبرى لهذا التيار الجديد.
وجاء من بعده تلميذه أفلاطون، فجعل الوجود الذهنى هو الوجود الحقيقى، وقال إن ما عداه من وجود ليس وجوداً حقيقياً فالصور اعلى درجة في الوجود من الأشياء المناظرة الي هي مشاركة للصور في الوجود. وجاء أرسطو فقال بمثلما قال به هؤلاء. وإذا كان قد حمل على الأفلاطونية، فإن حملته هذه لا تخرجه عن التيار الجديد. فعند أرسطو أيضاً الصورة هي الوجود الحقيقي. وإنما الاختلاف بينه وبين أفلاطون هو في وجود هذه الصورة: هل توجد مفارقة للمادة أو لا توجد كذلك؟ فأفلاطون يفرق تمام التفرقة بين عالم الصور وعالم الموضوعات المناظرة لها أو المشابهة لهذه الصور. وعلى العكس من هذا يقول أرسطو: إن الصور لا توجد منفصلة عن الموضوعات المناظرة لها. ولكنه يرى مع ذلك أن الصورة هي الماهية وأن الماهية هي الوجود الحقيقي، وأن المادة ليس لها وجود حقيقي، وانما كل وجودها بالقوة، أما الصور فوجودها بالفعل باستمرار.
فمن هذا كله نشاهد أن ثمت تياراً واحداً قد ساد هذا الفكر الجديد. وعلى هذا فإنه لا لم يكن السوفسطائيون قد بدأوا هذا الاتجاه، فإن نقطة البدء ستكون إذن سقراط. وبعد هذا يتعين علينا أن نحدد نقطة الانتهاء. وهنا نتخذ نفس المعيار الذي اتخذناه من قبل وهو استمرار التيار. فإذا اتخذنا هذا المعيار، وجدنا أنه بعد أرسطو وقف هذا التيار وقوفاً يكاد يكون تاماً: فالمدارس التى تلت أرسطو قد اتجهت نحو الذات اتجاها جديداً تاماً، ولم تعد تعنى مطلقاً بالوجود أياً كان، سواء أكان ذلك الوجود الذهني أم الوجود الخارجي، وإنما انجهت إلى العمل والى كل ما يفيد. فبينما كان الفكر والنظر هما الأساس في الحياة وفي الوجود بالنسبة إلى اصحاب التيار الثاني، نجد أن اصحاب التيار الجديد ينظرون إلى الفكر من ناحية قيمته العملية فحسب، أي أن الفكر ثانوي بالنسبة إلى العمل. ولهذا لم يوجهوا أدن عناية إلى البحث في الطبيعة الخارجية وإلى البحث فيما وراء الطبيعة، وكل ما عملوه في هذا الباب هو أنهم اقتطفوا من هنا وهناك بعض المذاهب التي تفيدهم في تحقيق غايتهم التي ينشدوا. فأخذوا عن الفلاسفة السابقين على سقراط مذاهبهم في الطبيعة الخارجية: فأبيقورس يأخذ عن المذهب الذري، والرواقيون يأخذون عن هرقليطس: ولو أن هؤلاء الأخيرين قد عنوا بعض العناية بالبحث في الطبيعيات، فإن هذا لم يكن مطلقاً يقصد لذاته، بل كان نتيجة لقاعدتهم الأخلاقية الرئيسية وهي: "عش بمقتضى الطبيعة"، وكلما يعني الإنسان من البحث الطبيعي هو أن يعرف عن الطبيعة كل ما يفيد في تحقيق هذه القاعدة. فعلى الإنسان أن يعرف-على هذا الأساس - أن في العالم روحاً كلية واحدة، وعلى هذا ستكون الأخلاق أخلاقاً عالمية.
وفي نظرية المعرفة لم يكن يعنيهم من البحث فيها إلا أن يطمئنوا على أنفسهم، وعلى هذا الأساس اتخذ أبيقورس المذهب الحي الذري في تصوره للطبيعة الخارجية، وإذا كان الرواقيون قد عنوا بالأبحاث الدينية، فلم تكن تلك العناية متجهة إلى البحث في الإلهيات، بل إلى الاطمئنان إلى عدم غضب الآلهة، وإلى أن الآلهة لا يجدثون شيئاً مضراً بالإنسان! وكذلك الحال في نظرة أبيقورس إلى الدين، وكان طبيعياً من أجل هذا أن تتخذ الأخلاق المكان الرئيسي، ومع هذا فقد كانت الأخلاق مختلفة كل الاختلاف في طابعها عن الأخلاق كما هي عند أرسطو وأفلاطون، وكما كانت من قبل. فالأخلاق الجديدة لن تكون متصلة بالسياسة لأن الفرد قد انطوى على نفسه فلم يعد يعنيه من الجماعة شيء، وأصبح ثمت فصل تام بين أخلاق الدولة واخلاق الفرد، وبدأ نزاع جديد، إذ هنا بدأت لأول مرة المشكلة التي يسموها مشكلة الفرد والمجتمع.
وعلى هذا نستطيع ان نقول إن هناك تياراً جديداً قد بدأ يحل محل التيار القديم. لكن تعترض هذا القول صعوبة جديدة علينا أن نحلها قبل أن ننتقل إلى تحديد انتهاء هذا العصر. ذلك أنه قد يتبادر إلى الذهن أن ثمت شبهاً قوياً بين هذه المدارس الجديدة وبين المدارس التي وجدت إبان عصر السوفسطائية وسقراط: فالميغاريون يناظرون في شكهم الشكاك اليونانيين، والكلبيون يناظرون الرواقيين، والقورينائيون يناظرون الأبيقوريين. لكن يجب أن يلاحظ الاختلاف بين كلا النوعين من المدارس: فالشك الميغاري يختلف أشد الاختلاف عن الشك كما مثلته الأكاديمية. فإن الشك الميغاري يقوم على فحولة في التفكير، بينما يقوم شك الشكاك على انحلال وضعف تام في الروح اليونانية؛ الشك الأول شك يريد أن يعرف، أما الشك الجديد فشك يريد أن يجهل. فهما إذا مختلفان.
كذلك الحال في النزعة الحسية اللذية عند كل من الأبيقوريين والقورينائيين: فاللذة التي ينشدها ارستبسر لذة إيجابية تريد أن تأخذ بكل ما في الحياة؛ بينما اللذة التي يصبو إليها أبيقورس لذة سلبية خالصة معناها الخلو من الألم: فكل ما يريده الفرد هو أن يكون هادئاً آمناً في سربه، ليس من شيء يعكر عليه صفو حياته الداخلية، وعلى العكس من ذلك كان القورينائى ينشد التغير والتعدد في اللذة، وينشد الألم، لأن اللذة لا تدرك بدونه. وعل هذا كانت اللذة كما يفهمها القورينائي مختلفة جد الاختلاف عن اللذة كما يفهمها رجال العصر الذي نحن بصدد التحدث عنهم، وهم الأبيقوريون.
كذلك الحال بالنسبة إلى الكلبيين. فقد كانت نظرتهم نظرة لا تتصل بالفكر بل تتصل بالمذهب الخارجي فحسب، ومعنى هذا أنها نزعة غير نظرية، بينما نجد النزعة الرواقية نزعة نظرية إلى جانب كونها عملية، بمعنى أن الأخلاق قد بحث الرواقيون في أسسها النظرية بينما لم يُعْنَ الكلبيون بشيء غير تغيير المظاهر الخارجية، دون أن يمس الداخل بشيء.
ثم يلاحظ إلى جانب هذا ان هذه التيارات التي كانت موجودة إبان عصر السوفسطائية وعصر سقراط كانت صئيلة القيمة لم تؤثر تأثيراً حقيقياً في حياة اليونان، لأن التيار الأكبر الذي أتى إبان ذلك الحين، وهو تيار سقراط وأفلاطون وأرسطو، قد قضى تقريباً على هذا التيار الضئيل. وكان لا بد من مرور هذا الدور الثاني لكي يأخذ هذا التيار الضئيل سعته وكل مدى تطوره.
فمن هذا كله يتبين أنه لا بد من الوقوف عند أرسطو فيما يتصل بالدور الثاني وأنه بعد أرسطو لا بد أن يبدأ دور جديد من أدوار الفلسفة اليونانية. وهذا الدور الجديد يمكن أن يقسم بدوره الى ثلائة أقسام رئيسية:
الأول يشمل الأبيقورية والرواقية والشكاك، والثاني يشمل نزعة التلفيق ثم الرواقية الرومانية والشكاك المتأخرين ثم المبكرين من أشياع الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، والقسم الثالث يشمل الأفلاطونية المحدثة.
وهذه التفرقة في داخل هذا الدور الأخير لها مزيتها كما أن لها عيبها؛ فلها تلك المزية وهي أنه إذا قسمنا تاريخ الفلسفة اليونانية على هذا النحو وجدنا أن العصور متقاربة من الناحية التاريخية في طولها، لكنها من ناحية أخرى غير متناسبة تماماً من ناحية المضمون الفلسفي. بل إن هذا العصر بأكمله، ويشمل قرابة تسعة قرون، لا يساوي في إنتاجه الفلسفى قرناً واحداً هو قرن أفلاطون وأرسطو. والعلة في هذه التفرقة هي أن ثمت تياراً واحداً يسود هذا الدور بأكمله ولا محل للتفرقة بين هذه الأقسام المختلفة على أساس من اختلاف التيار في كل قسم عنه في القسم الآخر. فإذا كنا نريد أن نظل مخلصين للقاعدة الأساسية التي اعتمدنا عليها في تقسيمنا لتاريخ الفلسفة اليونانية، وذلك على أساس التيارات، كان علينا ان نجعل هذا الدور الأخير دوراً واحداً هو الدور الثالث والأخير من أدوار الفلسفة اليونانية.
لكن هذا يحتاج إلى شيء من البيان، لأنه ليس من المسلم به بين الجميع أن الأفلاطونية المحدثة تشبه في مضمونها واتجاهها الرواقية والأبيقورية والمذاهب التي كانت سائدة أثناء ذلك الدور. فلكي تأخذ بهذا الرأي الذي ارتأيناه، لابد أن نبين أن التيار واحد، إن في الرواقية والأبيقورية (أو في إحداهما على الأقل) أو في الأفلاطونية المحدثة، فنقول إن الأفلاطونية المحدثة لم توجه عنايتها مطلقاً الى الطبيعة ولم تحاول بحثها؛ وكل ما هنالك من مباحث طبيعية ضئيلة ومتشابهة تماماً مع الطبيعة عند الرواقية. والأخلاق في الأفلاطونية المحدثة هي بعينها الأخلاق في الرواقية، بل إن علم ما بعد الطبيعة نفسه - في رأي أتسلر - عند الأفلاطونيين المحدثين يشابه علم ما بعد الطبيعة عند الرواقيين. فالصدور عند الأفلوطينيين هو بعينه العقل عند الرواقيين. وكل ما هنالك من فارق هو أنه وإن كان كلا المذهبين يقول بوحدة الوجود، فإن وحدة الوجود عند الرواقيين باطنة محايثة، بينما هي عند الأفلاطونيين المحدثين صدورية أو عالية، إن صح الجمع بين وحدة الوجود والعلو؛ لأن هذا الصدور عند الأفلاطونيين المحدثين يفترض الله عالياً بعض الشيء على الكون، وعلى الإنسان ان يتحد بالله عن طريق الوجد وعلى هذا فالأفلاطونية المحدثة - حتى في هذا الجزء الذي يكون الأهمية الكبرى لها - متفقة مع الرواقية، أي مع مدرسة من المدارس السائدة في ذلك العصر الثالث. ثم يلاحظ أن العلو هنا ليس علواً كاملاً، وإلا فإن ذلك سيكون خروجاً تاماً على الروح اليونانية وعلى روح فلسفة هذا الدور الثالث، وإنما اضطرت الأفلاطونية المحدثة إلى القول بالعلو تحت تأثير التطور الجديد الذي أخذه مجرى الفلسفة اليونانية على يد الشكاك. فالشكاك قد أثبتوا أنه لا حقائق في داخل الذات، فاستنتج الأفلاطونيون المحدثون من ذلك أنه ما دامت لا توجد حقاثق داخل الذات، فالحقيقة توجد خارج الذات. ولكن هذا الشيء الذي هو خارج الذات هو فوق الموضوعات أيضاً، فهو عال على الوجود. ومن هنا فلا بد أن يتصف هذا الشىء الجديد بالعلو فهذا المبدأ العالي على الكون إذا هو الله. لكن إذا فصل فصلاً تاماً بين هذا المبدأ العالي وبين الذات فتفقد الروح اليونانية كل صفاتها، فلا بد إذا من شيء من التوفيق بين هذا العلو وتلك الذاتية. وهذا يجيء عن طريق الاتحاد والكشف والوجد.
فلهذه الأسباب كلها يرى اتسلر ان الأفلاطونية المحدثة داخلة ايضاً في التيار الثالث.
لكن الباحثين المحدثين الذين أتوا بعده قد زادوا من أهمية الأفلاطونية المحدثة حتى جعلها البعض، أو جعل رأسها على وجه التخصيص، وهو«أفلوطين» - أكبر فيلسوف فيما وراء الطبيعة في الفلسفة اليونانية كلها، وفي هذا الاتجاه الجديد سار أولاً إنج في كتابه "فلسفة أفلوطين" الذي ظهر في جزأين عام 1918، ثم فُنت في كتابه "أفلوطين" ( سنة 1919) ثم مورسلي في كتابه عن أفلوطين (1927) ثم برييه في كتابه "فلسفة أفلوطين" (عام 1928). كذلك لم تنحصر العناية فقط بأفلوطين، مؤسس المدرسة، بل ازدادت بالنسبة للتلميذ الثاني والأكبر وهو أبرقلس، خصوصاً عند الإيطاليين.
والنتيجة النهائية التي تستخلص من هذا كله عند اتسلر هي أن الفلسفة اليونانية تتقسم إلى ثلاثة أدوار رئيسية. الدور الأول هو الدور الطبيعي التوكيدي: هو طبيعي، لأنه يبحث فى الطبيعة ولا يفرق بعد بين الروحى والمادي؛ وهو توكيدي، لإنه يفترض افتراضاً سابقاً أن المعرفة الإنسانية - ما دامت تتجه إلى الموضوع - صحيحة، ولم يبحث مطلقاً في ماهية المعرفة والمقاييس التي تقاس بها صحتها وبطلاها. وحينئذ شعرت الروح اليونانية - على يد السوفسطائيين - بأن هذا التوكيد يجب ألا يكون، لأن المعرفة متغيرة: فالحس متغير؛ وتبعاً لهذا لا نسطيع أن نثق وثوقاً تاماً بالمعرفة الإنسانية كما هي، بل لا بد من إقامة القواعد والبحث في المفهومات والأشياء الذهنية. وتلبية لهذه الحاجة، جاء سقراط فقال إن الشيء الموصل للحقيقة هو البحث في المعرفة. فالبحث في المعرفة هو نقطة الابتداء. ثم جاء أفلاطون من بعد فقال إن الوجود الحقيقي هو هذا الوجود العقلي الذهني الذي يقوم على الديالكتيك؛ ثم يمتد بفكرة الديالكتيك إلى بقية العلوم، فينشىء الطبيعة والأخلاق. ويأتي أرسطو فيجعل المعرفة الحقيقية هي معرفة الصورة، ويقول إن الصورة كمال الأشياء؛ ويقيم على هذا الأساس مذهباً شاملاً في الفلسفة والعلم.
ثم يقف هذا الاتجاه ويأتي اتجاه جديد هو مغالاة في النتيجة التي انتهى إليها ارسطو وأفلاطون، لأن هذين قد قالا بأن الوجود الذهنى هو الوجود الحقيقى، ومعنى هذا أن الوجود الحقيقي هو الوجود الذاتي، ومعنى هذا ايضاً أن الكمال هو في الذات، وأن الموضوع ليس شيئاً من شأنه أن يكمل الذات. فالنتيجة إذاً أن ينعكف الإنسان على الذات ويصرف النظر نهائياً عن الموضوعات الخارجية، ومن هنا كان الدور الثالث.
ونستطيع أن نلخص هذا كله بعبارة أوجز فنقول إن الذات كانت هي والموضوع في الدور الأول مختلطين لا تفرقة بين الواحد والآخر. وفي الدور الثاني تحللت الذات من الموضوع بعض الشيء، وانتهت إلى الوجود الحقيقي هو وجود أعلى من الذات ومن الموضوع معاً. وجاء الدور الثالث ففرق أكثر واكثر بين الموضوع وبين الذات، حتى جعل الذات مستقلة استقلالاً تاماً، مكتفية بنفسها. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى اضطرت هذه الفلسفة إلى وضع (افتراض) وجود عال هو الوجود الحقيقي. فهناك الذات منحصرة في نفسها، وهناك المبدأ العالي البعيد كل البعد عن الذات؛ فنشأ عن هذا تناقض، لأن الذات لا تستطيع أن تتصل بهذا المبدأ العالي؛ وفي هذا التناقض وقعت الفلسفة اليونانية فكان به فناؤها.
اشبنجلر
على هذا النحو الذي بيناه قسم اتسلر تاريخ الفلسفة اليونانية إلى عصور. ويلاحظ في هذا التقسيم أنه متاثر بالمنهج الفيلولوجي إلى حد كبير، لإنه يرجع في غالب الظن إلى الوثائق التي اعتمد عليها في كتابته لتاريخ الفلسفة اليونانية، ولم تكن بعد قد ظهرت النزعات الجديدة المضادة للنزعة التاريخية من جهة، والنزعة الخاصة لتطور الحضارات من ناحية أخرى. ولهذا اختلف معه المؤرخون الذين جاءوا بعده في تقسيمهم لعصور الفلسفة اليونانية. لكن هذه الاختلافات ترجع غالباً إلى الاهتمام بناحية معينة على حساب نواحٍ أخرى. فمثلاً نجد تقسيم جومبرتس يختلف عن تقسيم اتسلر في أنه يوجه عناية كبيرة الى السوفسطائية بوصفها نزعة التنوير الرئيسية في الفلسفة اليونانية. والمؤرخون الذين يهتمون بالأفلاطونية المحدثة هم الذين تأثروا بالنزعة الإنسانية الجديدة وهي النزعة التي اسسها فرنر ييجر وسار عليها كُتْاب مجلة «الحضارة القديمة» Die Antike التي يشرف عليها. ولكن أهم رأي أو نظرة قد اثرت في تصور تأريخ الفلسفة - ولو أن ذلك لم يتم حتى الآن - فتلك هي نظرة أوزفلد اشبنجلر. وقد عرضنا من قبل لنظرية اشبنجلر في الحضارات، ونريد الآن ان نلخص تقسيمه للعصور الروحية.
يرى اشبنجلر أن العصور الروحية متواقتة، بمعنى أن لكل عصر من العصور في حضارة معينة عصراً مماثلاً له في حضارة أخرى. وعلى هذا الأساس تنقسم الحضارات من الناحية الروحية إلى عدة أقسام أو عصور رئيسية، عددها في الأصل أربعة، بحسب ربيع وصيف وخريف وشتاء الحضارة. وفي داخل كل قسم من هذه الأقسام توجد أقسام أخرى هي بدورها تكاد تكون متناظرة بين هذه الأقسام الرئيسية بعضها وبعض. فنلاحظ أنه في ربيع الحضارة تنشاً أولاً النظرة إلى الوجود المستمدة من إدراك جديد له، وهذا قد ظهر في الفلسفة اليونانية عند هوميروس. ويلي هذا النظرة الميتافيزيقية التصوفية، وهذه قد ظهرت عند هزيود. ثم يأتي صيف الحضارة فيكون أولاً الإصلاح، وهو ثورة عنصرية (أي متعلقة بالأجناس)، وهذا يمثله في الفلسفة اليونانية الأورفيون؛ ويلي ذلك النظرة الفلسفية الخالصة إلى الكون، وهذه يمثلها الفلاسفة السابقون على سقراط في كل من القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وثالثاً تأتي النظرة إلى الرياضة وإلى العدد بوصفه أقنوماً، أي بمعنى أن العدد هو أصل الوجود؛ وهذه النزعة يمثلها الفيثاغوريون ابتداء من سنة 540 ق.م.، وتأتي رابعاً روح الزهد الديني، وقد وجد ذلك خصوصاً عند الفيثاغورين، ابتداء من سنة 540 ق.م. وبهذا ينتهي دور الحضارة.
ويتلوه دور المدنية أي الخريف. وهنا نرى أن أول نظرة هي نزعة التنوير، والنظرة الى الطبيعة نظرة تقديس، وعد العقل هو الأساس في الوجود والحكم الاكبر الذي يرجع إليه. ويمثل نزعة التنوير هذه السوفسطائيون وسقراط وديمقوقريطس. وبعدها يكون إنشاء الرياضيات إنشاء قوياً وهو ما تم على يد أرخوطاس وأفلاطون، وفي هذه النزعة توجد أيضاً فكرة القطاعات المخروطية، ثم يأتي بعد ذلك تكون المذاهب الفلسفية الشامخة، وهي مذاهب مثالية نظرية منطقية متصلة بنظرية المعرفة. ويمثل هذه النزعة أفلاطون وأرسطو، وبهذا ينتهي دور الخريف.
واخيراً يأتي دور الشتاء، وهنا نجد أن النظرة السائدة هي العناية بالأخلاق والناحية العملية، ثم عبادة العلم والاتجاه اتجاهاً كلياً نحو الواقع العملي. ويمثل هذه النزعة العصر الهليني وخصوصاً أبيقور وزينون الرواقي - ثم يأتي بعد ذلك تكوين الرياضيات تكويناً كاملاً، وذلك على يد إقليدس. وأخيراً النزعة العالمية، فتكون النظرة ممتدة إلى العالم بأجمعه، ولا تكون محصورة في الحضارة التي نشأت فيها - ثم تأتي النظرة إلى الفلسفة بوصفها مهنة وبوصفها جمعاً للمعلومات، ويمثل ذلك الشكاك المتأخرون ثم الأكاديمية في عصرها الأخير، ثم أصحاب نزعتي التوفيق والتلفيق. وهنا يلاحظ أن اشبنجلر لا يدخل الأفلاطونية المحدثة في عالم الحضارة اليونانية، بل يدخلها في الحضارة التي يسميها باسم الحضارة العربية أو الحضارة السحرية.
الخلاصة
فإذا أردنا الآن أن نكون رأياً نهائياً عن تقسيم تاريخ الفلسفة اليونانية فإنا نستطيع أن نستفيد إلى حد كبير مما قاله اشبنجلر. وعلى هذا تتلخص نظرتنا إلى تاريخ الفلسفة اليونانية على النحو التالي:
لابد لنا أولاً أن نربط بالتفكير الديني عند هوميروس وعند هزيود نشأة الفلسفة اليونانية، وذلك لأن الفلسفة تأخذ رموزها الأولى من الدين. فإن المشاهد دائماً ان الفلسفة تولد في أحضان الدين، ولو أن ولادته هذه من أجل أن تكون ضد الدين. فلا بد إذن من تقديم للفلسفة اليونانية يعني ببيان النظرة الكونية كما وجدت عند هوميروس وعند هزيود، ثم بالمقولات الدينية، وهي هنا عند اليونان مقولة العدالة ثم مقولة الخطيئة وبعد هذا تبدأ الفلسفة اليونانية الحقيقية، فيبدأ العصر الأول من القرن السادس، ويتتهي بأنكساغورس، لإنه لا بد من أن نجعل من النزعة السوفسطائية - إن لم يكن دوراً خاصاً قائماً بذاته - فعلى الأقل بدءاً لروح جديدة، لأن عصرهم عصر انتقال، هو عصر الانتقال من دور الحضارة إلى دور المدنية، وهو العصر المسمى في تاريخ الحضارات باسم عصر التنوير. وسقراط لا يفترق مطلقاً عن السوفسطائيين في هذا الصدد، فلا بد إذن أن ندرس سقراط مع السوفسطاتيين.
فإما أن نجعل لهؤلاء عصراً مستقلاً بذاته، أو أن نجعلهم مقدمة للدور الجديد وهو دور المدنية. ويبدأ العصر الجديد حينئذ إما بأفلاطون أو أرسطو وينتهي بهذا الأخير. وذلك لأن خريف الحضارة ينتهي بهذه المذاهب الميتافيزيقية المثالية المنطقية الباحثة في نظرية المعرفة.
ويبدأ العصر الجديد تبعاً لأن النظرة الكونية قد تغيرت، فأصبحت نظرة عملية تجعل الأخلاق والعلم هما الأساس. فالعصر الذي يمثل هذه النظرة هو عصر الأبيقوريين والرواقيين والشكاك ثم المتأخرين من الشكاك والموفقين والملفقين والمشائيين المتاخرين.
وهنا لا بد أن ينتهي هذا العصر ولا بد ان يبداً عصر جديد - بخلاف ما يقوله اشبنجلر - لأننا نريد أن ندخل الأفلاطونية المحدثة في داخل الحضارة اليونانية. والأفلاطونية المحدثة مختلفة في طابعها تمام الاختلاف عن المذاهب التي ذكرناها منذ قليل، لأنها تمثل الميتافيزيقا وعلم الوجود أكمل تمثيل، فالميتافيزيقا تبلغ أوجها في هذا الدور الأخير الذي يناظر ما نريد أن نسميه باسم دور التناهي، وفيه يعود الإنسان من جديد إلى أصل الوجود لكي يستمد منه معنى الوجود، ومن استمداده لهذا المعنى يؤسس نظرة شاملة كاملة في ماهية الوجود. ومعنى هذا أن هناك عصراً رابعاً مستقلاً بذاته، هو عصر الأفلاطونية المحدثة.