هنري برجسون

هنري برجسون (بالفرنسية: Henri Bergson؛ 1859–1941 م) فيلسوف فرنسي، يعتبر هنري برغسون من أهم الفلاسفة في العصر الحديث، كان نفوذه واسعا وعميقا فقد اذاع لونا من التفكير وأسلوبا من التعبير تركا بصماتهما على مجمل النتاج الفكري في مرحلة الخمسينيات ولقد حاول أن ينقذ القيم التي اطاحها المذهب المادي، ويؤكد إيمانا لا يتزعزع بالروح.

عبّرت كتبه الزمن والإرادة الحرة (1889م)؛ الأشياء والذاكرة (1896م)؛ النشوء الإبداعي (1907م)، عن طروحاته الفلسفية. كان بيرجسون يرى أن الزمن هو الحقيقة الكبرى. ولكن الزمن في مفهومه لايعني المفهوم الدّارج لتلك الكلمة. فالزمن عند بيرجسون غير موجود بالمعنى العادي كالأمس، واليوم، والغد، ولكنه موجود بمفهوم خاص أسماه مدة، والمدة هي الانسياب المستمر من الماضي إلى الحاضر، وليس مجرد لحظات متتالية.

ومن ذلك المفهوم للزمن كان بيرجسون يعتقد أن كل لحظة لا تعد مجرد شيء جديد، ولكنها أيضًا شيء غير متوقع. كما كان يرى أنه من الممكن تحقيق النشوء الإبداعي لأن الواقع ما هو إلا ماض دائم التجدد، وهو أيضًا حاضر يتحول دائمًا إلى مستقبل. كما أكد أن الحدْس هو أفضل سبيل إلى الفهم، لأنه على عكس الذكاء لايشوه الأشياء بتحليلها.

ولد في باريس كان أستاذًا في الكوليج دي فرانس بباريس من عام 1900م وحتى عام 1921م، ثم أصبح مدرسًا ومحاضرًا ومؤلفًا مشهورًا.

حظي إبان حياته بشهرة واسعة الانتشار في فرنسا تؤثر في دوائر مختلفة: فلسفية ودينية وادبية، وحصل على جائزة نوبل للآداب عام1927. حدث له العكس تماما بعد وفاته إذ حدث انصراف تام أو شبه تام عن فلسفته حتى صارت تقبع في ظلال النسيان ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.

أدت شعبية برجسون الكبيرة إلى إثارة جدل في فرنسا حيث كان ينظر إلى آرائه على أنها معارضة للموقف العلماني والعلمي الذي يتبناه مسؤولو الجمهورية.

حياته

ولد في باريس في ١٨ أكتوبر سنة ١٨٥٩. وكان أبوه مؤلفاً موسيقياً وعازفاً على البيانو، وينحدر من أصل بولندي. أما أمه فكانت إنجليزية. وكلاهما كان يهودياً. وصحب أبويه الى سويسرا في الفترة ما بين عام ١٨٦٣ و ١٨٦٦ تقريباً. لكنه أمضى بقية طفولته وشبابه في باريس، على الرغم من أن أبويه استقرا في لندن في سنة ١٨٧٠. وأمضى دراسته الثانوية في ليسيه بونابرت ثم في ليسيه فونتان Fontaines (التي سميت فيما بعد وحتى اليوم باسم ليسيه كوندورسيه Condorcet)، فأظهر نبوغاً فائقاً في الدراسات الكلاسيكية والرياضية معاً، واستطاع ان يكتشف بنفسه حل مسألة الدوائر الثلاث التي اقترحها بسكال. كذلك أثار اعجاب الاختصاصيين بالحل الذي اقترحه للمسألة الموضوعة في مسابقة 1877، وقد نشر حله هذا في «حوليات الرياضيات»، وكان قبل ذلك قد حاز على جوائز في مسابقات سنوات 1875، 1876.

ودخل «مدرسة المعلمين العليا» الشهيرة (في شارع اولم Ulm في باريس، الحي الخامس) في سنة 1878، ولما بلغ سن الرشد 1880 اختار الجنسية الفرنسية. وفي سنة 1881 حصل على الليسانس في الرياضيات وفي الآداب معاً. ثم حصل على درجة الاجريجاسيون في الفلسفة في سنة 1881، وكان ترتيبه الثاني. وعين في إثر ذلك مدرساً في ليسيه انجه Angers (سنة 1881) ثم ليسيه كليرمون فراند (سنة 1883) ثم في باريس في ليسيه رولان Rollin (سنة 1889) ثم في ليسيه هنري الرابع (سنة 1890) وحصل على الدكتوراه في الفلسفة في سنة 1889 برسالتين عنوان الكبرى منهما: «بحث في المعطيات المباشرة للشعور»، والصغرى (باللاتينية) عنوانها: «رأي أرسطو في المكان». وتقدم مرتين للحصول على منصب في هيئة التدريس في hلسوربون، في عامى 1894، وسنة 1898 لكنه رفض طلبه في كلتا المرتين! ! لكنه عين مدرساً في «مدرسة المعلمين العليا» في سنة ١٨٩٨ ثم عين في الكوليج دي فرانس France عل College (ويعد أعلى معهد علمي في فرنسا، لكن ليس فيه طلاب منتظمون، ولا امتحانات، ولا منح شهادات علمية) أولاً في كرسي تاريخ الفلسفة اليونانية واللاتينية فيسنة ١٩٠٠ خلفا لشارل لوفك Leveque ثم في كرسي الفلسفة الحديثة سنة ١٩٠٤، خلفا لجبريل تارد Tarde وهو الكرسي الذي سيخلفه فيه ابتداء من سنة ١٩١٤ تلميذه أدوار لوروا Eduard Le ا0 ثم انتخب عضوأ في الأكاديمية الفرنسية سنة ١٩١٤ وفي أثناء الحرب العالمية الأولى كلف بمهمات في أسبانيا (سنة ١٩١٦) ثم في الولايات المتحدة الاميركية (فبراير -مايوسنة ١٩١٧. ثم يونيو- سبتمبر سنة ١٩١٨ ). وعين عضواً في المجلس الأعلى للتعليم العالي في سنة ١٩١٩، ثم رنيساً للجنة التعاون الفكري التابعة لعصبة الأمم من سنة ١٩٢٢ الىسنة١٩٢٥. واضطرته أحواله الصحية الى الكف ابتداء من سنة ١٩٢٥، عن أي نشاط خارجي.

وقد حصل في سنة ١٩٢٨ على جائزة نوبل للاداب.

وفي أخريات عمره اقترب - معنوياً فقط - من الكنيسة الكاثوليكية. وقد اعلن في فقرة من وصيته التي كتبها في ٨ فبراير سنة ١٩٣٧، أنه كان سيتحول الى لكاثوليكية لولا أنه شعر بمقدم موجة عارمة من معاداة السامية، فأداه ذلك الى أن يقف الى جانب بنيدينه اليهود، وحتى لا يساء فهم فعله ان تحول الى الكاثوليكية. ولما انتصرت المانيا على فرنسا في يونيو سنة ١٩٤٠ واحتلتها وفرضت قيوداً على اليهود في فرنسا، أرادت استثناء برجسون، ولكنه لم يقبل لنفسه هذا الاستثناء تضامناً مع أهل دينه. وعلى كل حال فقد توفي بعد ذلك بأقل من ستة أشهر وذلك في الرابع من شهر يناير سنة ١٩٤١، يتضح من هذا العرض أن حياته كانت كلها مكرسة للفلسفة والفكر المحض: تعليما وتأليفاً. ولم يشارك في الأمور العامة خارج نطاق التدريس والفكر والتأليف، إلا ثلاث مرات:

الأولى حين كلف، اثناء الحرب العالمية الأولى، بمهمة قومية ولصالح الحلفاء فسافر الى الولايات المتحدة الاميركية واتصل بمستشاري الرئيس الاميركي ولسن Wilson وخصوصاً العقيد هاوس Colonel Hause ووزير الداخلية فرانكلين، ليحث اولايات المتحدة على الاشتراك في الحرب إلى جانب الحلفاء. وقيل إنه كان لمساعيه هذه بعض الأثر في قرار أميركا الاشتراك في الحرب، وان كان الأمر مشكوكاً فيه تماماً. وقد كتب هو تقريراً عن هذه المهمة بعنوان Mes Missions نشر بعد وفاته في مجلة Hommes et Monde (عدد يوليو سنة ١٩٤٧، وأعيد نشره في Ecrits Paroles اعج ٢ ص ٦٢٧ - ص ٦٤١) وتاريخ هذا التقرير ٠١٩١٦/٨/٢٤

والمرة الثانية حين اشترك في عامي ١٩٢١، ١٩٢٢ في لجنة إصلاح التعليم العالي التي شكلها وزير المعارف آنذاك ليون برارد Leon Berard .

والمرة الثالثة حين رأس اللجنة الدولية للتعاون لفكري التابعة لعصبة الأمم، والتي كانت الصورة السابقة لليونسكو حالياً. وقد تركها كماقلنا في سنة ١٩٢٥ لأسباب صحية.

وقد حظي ابان حياته بشهرة منقطعة النظير لم تتوافر لاي فيلسوف من قبل، حى صارت فلسفته بدعاً واسعة الانتشار في فرنسا، تؤثر في دوائر مختلفة: فلسفية، ودينية، وأدبية. وفي مقابل ذلك حدث العكس تماما بعد وفاته اذ حدث انصراف تام او شبه تام عن فلسفته حتى صارت تقبع في ظلال النسيان، ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، خصوصاً وقد اكتسحتها الوجودية تماماً .

على أنه لا بد أن نذكر من أسباب هذه الشهرة الهائلة لبرجسون ومزلفاته أثناء تلك الفترة، أسلوبم الرائع في الفرنسية، مما جعله يعد من كبار كتاب هذه اللغة. ومن أجل هذا الأسلوب خصوصاً منح جائزة نوبل في الآداب. فأسلوبه يتسم بالطلاوة والموسيقى، وبتوافر الصور الشعرية والتشبيهات الموفقة، مما يجعل لقراءة كتبه متعة تعادل متعة الأعمال الأدبية العظمى، هذا مع الدقة في التعبير الفلسفي. وجمال أسلوبه هذا كان من أهداف خصومه في هجومهم عليه: اذ اتهموه بعدم التحديد وضباب العبارة وعدم وضوح الفكرة. لكن برجون دافع عن أسلوبه هذا باضطراره الى التعبير عن أمور جديدة كل الجدة لم تألف معانيها اللغة الموروثة، بالصور والتشبيهات وباعطاء الألفاظ الموروثة معاني جديدة غير مألوفة في اللغة الفلسفية والعلمية والتقليدية. ويرجع هذا أيضاً الى طبيعة مذهبه القائم على التغير الدائم والحركة المستمرة وعدم ثبات أي شيء ونفوذ المدة في كل موجود بحيث يصعب، بل يستحيل، ادخاله في الاطارات الثابتة للغة من طبيعتها التثبيت والسكون.

كذلك يلاحظ أنه لم يلج أبداً الى اختراع كلمات جديدة، للتعببر عن أفكاره الجديدة هذه، لأنه كان يرى ان : «الفلسفة، في اعلى تحليلاتها وتركيباتها، ملزمة بأن تتكلم اللغة التي يتكلم بها، كل الناس» («كتابات وكلمات»ج٢ص٢٨).

والى جمال أسلوبه في الكتابة، كان محاضراً جذاباً من الطراز الأول، ولهذا كان يؤم محاضراته في «الكوليج دي فرانس» حشد هائل من الناس لم يشهد هذا المعهد مثيلا له عند أي أستاذ، حشداً سحرته الكلمة اكثر مما جذبته لأفكار، بل ربما كان ٠٩٩/' من هذا الحشد لا يفهم شيئاً في الفلسفة بعامة.

فىلسفته

تعريف الفلسفة وتطور برجسون الفلسفي

يرى برجسون أن مذهب أي فيلسوف ليس مجرد تركيب من عدة أفكار بعضها سابق وبعضها جديد، بل فلسفة الفيلسوف تنبع من عيان (أو وجدان) فلسفي واحد .une iniuitionphilos. حتى ان الفيلسوف لا يقول أبداً إلآ شيئاً واحداً، مستقلاً عما قالهالسابقون، وكان سيقول نفس الشيء لو وجد قبل ذلك بعدة قرون، («الفكر والمتحرك» ص ١١٧ - ١٢٣، ١٣٥ - ١٤٢) لكن من اجل ان يقول هذا الشيء الواحد، كان عليه أن يتكلم طوال حياته دون أن يفلح أبداً في أن يقوله على الوجه الصحيح («الفكر والمتحرك» ص ١٣٧ و ١٤١ ). ومهما تكن بساطة عيانه هذا فإن فيه من الخصوبة والثراء ما يجعله حافلاً بالمعافي والنتائج، بحيث لا يستكشفها إلا بعد جهد طويل يبذله في المشاهدات والتجارب واجراء العمليات المنطقية، وبهذا الجهد يخضع هذه الفكرة للامتحان الدقيق الذي بدونه لن تحظى فلسفته بأي أعتبار.

لكن ليس معنى هذا أنه لا أرتباط بين هذا العيان وبين المذاهب الأخرى. فهيهات، هيهات! يقول برجسون: «ان الفكر الذي يأتي العالم بشيء جديد ملزم بأن يتجلى من خلال الأفكار الجاهزة التي يجدها امامه والتي يجرها في حركته» («الفكر والمتحرك» ص ١٤١ ). ومن هنا لا يمكن فهم التعبيرات التي يستخدمها هذا الفكر الجديد المبدع إلا بمراعاة أمرين: الأول: السياق التاريخي الذي قيلت فيه، والثاني؛ مجموع الآراء التي يقول بها مزلفها.

ولهذا فإن نشأة أية فلسفة جديدة تبداً من انكار التيار أو التيارات السائدة وفي هذا يقول برجسون: «أمام الأفكار المقر بها دائما،والمقالات التي تبدو بينة، والتوكيدات، التي كانت تعد حتى ذلك الحين علمية فإن ( هذا العيان الجديد) يهمس في أذن الفيلسوف بكلمة : مستحيل». أي على هذا الفيلسوف أن يقف موقف المعارضة من الفلسفات السائدة.

وهذا ما فعلم برجسون: فقد عارض فلسفة كنت منحازاً إلى فلسفة هربرت اسبنسر، ثم عارض فلسفة اسبنسر وكل فلسفة تفسر الحياة تفسيراً ميكانيكياً باسم فلسفة الحياة الروحية، وعارض النزعة المادية في تفسير الأحداث النفسية. وهو في الواقع لم يعارض فلسفة كنت كما وصفها كنت، بل كما أولها - بل وشوهها - رجال الكنتية لجديدة في فرنسا وعلى رأسهم أستاذه بوترو، ثم خصوصاً رنوفييه، ما جعله يظن أن فلسفة كنت تنكر ما هو عيفي واقعي Concret، وهوتفسير خاطىء لمذهب كنت.

اما معارضته للنزعة الآلية في تفسيرظواهر الحياة فهو عصب فلسفة برجسون كلها، وهذا ما عبر عنه صراحة في مذكرة كتبها من أجل وليم جيمس في٩ مايو سنة ١٩٠٨ ليستعين بها جيمس في القاء محاضرة في جامعة اكسفورد عن برجسون. يقول برجسون عن نفسه: «من الناحية الذاية لا أستطيع ان امنع نفسي من أن اعزو أهمية كبيرة الى التغيير الذي حدث في طريقة تفكيري خلال العامين التاليين لتخرجى في مدرسة المعلمين العليا، أعنى من سنة ١٨٨١ لى ١٨٨٣، لقد بقيت حتى ذلك الحين عملوءاً بالنظريات الآلية Mecanistiques التى انسقت في تيارها منذ وقت مبكر جداً تحت تأثير قراءة مؤلفات هربرت اسبنسر، هذا الفيلسوف الذي انحزت اليه انحيازاً شبه تام وبدون تحفظ. وكان في عزمي آنذاك أن أكرس نفسي لما كان يسمى حينئذ «فلسفة العلوم» وفي سبيل هذا قمت منذ تخرجي في مدرسة المعلمين العليا- بالفحص عن بعض المعافي العلمية الأساسية. وكان تحليلي لمعفى الزمان، كما يستعمل هذا المعنى في الميكانيكا أو في الفيزياء ، هو الذي تلبس كل أفكاري، فلشدة دهشتي أدركت أن الزمان العلمي لا يتصف بالمدة 8ه0 ne dure وأنه ما كان ليتعين شيء في معرفتنا العلمية بالأشياء لو ان مجموع الواقع قد نشر في لحظة، وأن العلم الوضعي يقوم جوهرياً في استبعاد المدة durée . وكانت هذه نقطة ابتداء لسلسلة من التأملات التى دعتنى، درجة فدرجة، الى نبذكل ما قبلته حتى الآن تقريباً، والى تغيير وجهة نظري تماماً وقد لخصت - في كتابي: «المعطيات المباشرة للشعور» (ص ٨٧، ٩٠، ١٤٦- ١٤٩، الخ). هذه التأملات عن الزمان العلمي التي حددت اتجاهي الفلسفي، وبها ترتبط كل التأملات التي ستطعت القيام بها منذ ذلك الحين» , («كتابات وأقوال»ج ٢ص ٢٩٤ - ٢٩٥).

ومن السهل تتبع تطور هذه التأملات البرجسونية، لأياتتمرفيمزلغاته الأربعة الأساسية وهي:

١- «بحث في المعطيات المباشرة للشعور» (سنة ١٨٨٩) وهي الرسالة الكبرى للدكتوراه. وقد كتبه برجسون في الوقت الذي كان فيه النزاع على اشده بين القائلين بالجبرية خصوصاً المتأثرين منهم بالنزعة العلمية، وبين الموافقين على حرية الانسان واختياره. وقد حاول برجسون أن يفند اعتراضات المعترضين على الجبرية، وفي الوقت نفسه أن يفند التعريفات التي اعطيت للحرية من جانب انصارها. كذلك نقد فيه الفكرة الرياضية عن الزمان. ولهذا فإن الكتاب هو في الواقع بحث في الحرية والزمان، رغم عنوانه الغامض. ولهذا فإنه طلب من المترجم الانكليزي لكتابه أن يجعله بعنوان : and •٦٦٦ اان٧٧ Free (الزمان وحرية الاادة) ، أما الطبعات الفرنسية التالية فقد حافظت على العنوان القديم.

٢ - «المادة والذاكرة» (سنة ١٨٩٦) وفيه يهاجم رأي علماء النفس آنذاك في مفهوم الذاكرة، اذ كانوا يلحقونها بالمادة ويجعلان مقرهما في الجسم، كما هاجم آراءهم في التحديدات المكانية في المخ للذاكرة. وانتهى الى التمييز بين نوعين من الذاكرة: ذاكرة محضة، هي من وظائف الروح، وذاكرة هي عادة وما هي إلاً وسبلة للذاكرة المحض. وهاجم نظرية التوازي النفي - الجسمي، التي كانت معتمد علم النفس التجريبي، واستعاض عنها بفرض آخر مفاده أن الجهاز العصبي هو جهاز احساس وحركة sensori - moteur وأن الجم أداة للفعل ودوره في الحياة العقلية يقوم في الحد من حياة الروح ابتغاء الفعل. وانتهى برجسون في هذا الكتاب - وباسمه حصل على جائزة نوبل في الأداب-الى نوع من الروحية الجديدة التي تجعل من خلود النفس أمراً محتملاً وان لم يكن ثابتاً بالبرهان العلمي الدقيق.

٣ - «التطور الخالق» (سنة ١٩٠٧) وفيه يتخذ مذهب التطور أساساً لاتجاهه الفلسفي، لكنه على عكس التطوريين. اذ أول التطور تأويلاً روحياً، بينما هؤلاء فسروا التطور تفسيراً ميكانيكياً آلياً مادياً كما هو ملاحظ عند اسبنسر ودارون وهيكل. ذلك انه زعم أن أصل التطور كان «سورة حيوية» élan vital انبثقت عن شعور أو بالأحرى عن فوق شعور super conscience حاول التغلب على العقبات التي وضعتها المادة لكي يجعل منها أداة للحرية. وأعاد وضع الانسان في السلسلة الحيوانية ووجد مفتاح تركيبه العقلي في جهازه العضوي الحيوي.

لكنه فرق بين الانان والحيوان تفرقة جذرية، فاتحاً امامه منظورات مصير روحي . وأقر بوجودقوة خلاقة أنشأت الكون وفعلت فيتطوره، دون أن يصرح هل هذه القوة محايثة في الكون أو عالية عليه . وأمام نظرية في المعرفة أراد بها أن تنقذ الميتافيزيقا مما لحق بها من الاتهام وسوء الظن على يد أصحاب النزعة العلمية ، فزعم أن فوق العقل - الذي هو فقط أداة للفعل ويصنع أدوات تمكن من الفعل - ملكة أسمى هي الوجدان intuition ، وهذ الوجدان هو وحده القادر على فهم الحياة وادراك ما هو حي ومتغيرومتحرك في المدة.

٤- «ينبوعا الأخلاق والدين» (سنة ١٩٣٢) وفيه عرض رأيه في الدين وفي الأخلاق، في الحضارة الانسانية ومستقبل الانسان. والكتاب مزيج من التصوف والفلفة الخلقية والتأملات السياسية ذات النزعة الانانية الحالمة.

والى جانب هذه الكتب الأربعة الرئيسية أصدر برجسون كتابين صغيرين الأول بعنوان: «الضحك : بحث في الهزلي» (سنة ١٩٠٠)، والثاني هر «المدة والمعية: بمناسبة نظرية إينثتين (سنة ١٩٢٢).

كذلك جمع طائفة من مقالاته في كتاب بعنوان ،الفكر والمتحرك». ومن أهم مقالاته فيه: «المدخل إلى الميتافيزيقا»، *العيان الفلسفي».

وبعد وفاته بدىء في جمع بعض مقالاته ومحاضراته وأقواله المتناثرة تحت عنوان: «كتابات وكلمات» Ecrits et paroles صدرمنها حتى الآن ٣ أجزاء.

فلنأخذ الآن في عرض المعاني الرئيسية في فلسفة برجسون :

عيان المدة

يفول يرجسون في رسالة منه الى هارلدهوفدنج Harald Hoffding في رأي ان كل تلخيص لنظراقي سيشوهها في مجموعها ويعرضها - بهذا - للعديد من الاعتراضات، إذا لم يضع نفسه منذ اللحظة الأولى ولم يرجع باستمرار الى ما أعده مركز مذهبي ألا وهو عيان المدة ٠ . ان نظرية العيان (الوجدان) التي أراك الححت عليها اكثر مما ألححت على نظرية المدة، لم تتجل بوضوح أمام عيني إلا بعد فترة طويلة من النظرية الاوى: انها مستمدة منها ولا تفهم إلا بها» («كتابات وأقوال» ج ٣ ص ٦ه٤).

واذن في رأي برجسون نفسه أن عيان المدة هو عصب مذهبه، والنقطة امركزية الني تشع منها فلسفته، أو على حد تعبيره مرة أخرى: «مركز القوة الذي ينطلق منه لسدافع الذي يعطي الوثبة» («العيان الفلسفي» ص ١٥٢),

وقد تأدى الى عيان المدة عن طريق تأمله في حجج زينون الأيلي المشهورة ضد الحركة (راجع كتابنا: «ربيع الفكر اليونافي:). وقد تبين له أن المشكلة الكبرى في تاريخ الفكرالفلسفي هي التي تدورحول ادراك الحركة، وبالتالي التغير والصيرورة.

وقد خلص برجسون من تأملاته في الحركة والتغير لى النتائج الثلاث التالية:

١ - ان أهم صفة للحركة هي انها غير قابلة للقسمة. فسواء كانت الحركة متصلة، أو على شكل وثبات، أو خطوات، أو مراحل، فإن كل واحدة منها تكون كلأ لا يقبل لانقسام . والحركة تتمبز من مسارها بهذه الصفة: فالمسار قال للقسمة لأنه امتداد مكافي، أما الحركة فلا تقبل أي انقسام. وهذه هي المغالطة التي أوقعنا فيها زينون. فقد أراد أن يوهمنا أن الحركة لا تنفصل عن مسارها اوهي هي عينها مسارها، ولما كان المسار قابلا للقسمة، فيجب أن تكون الحركة كذلك. ولما كان قبول المسار (المكان) للقسمة هو الى غير نهاية، فلا بد أن تكون الحركة كذلك، ولا بد اذن أن نقطع المتحرك بماللانهاية له من النقط، ومن حيث أن اللامتناهي لا يمكن قطعه، فالحركة اذن مستحيلة. فالمغالطة في هذه الحجج تقوم في هذا الربط او الموية بين الحركة والمكان الذي يجري فيه، بينما هما امران في الواقع ختلفان طبيعة. والحق - هكذا يقول برجسون - ان الحركة كيفية، وليست كمية، وهي تحول كيفي و ليست نقلة.

وقاده هذا التمييز الى حقيفة أخرى وهي أنه في التغييرلا ينبغي افتراض موضوع ثابت يجري عليه التغير، وكان التغير عارض طرأ على جوهر ثابت، بل التغير هو المتغير نفسم . وهذا التغير المتغير، هو الواقع نفسه : انه حركة دائمة وتغير مستمر. وبالجملة: لا توجد أشياء تتحرك، بل توجد حركات تتحرك، ان صح هذا التعبير. انه لا يوجد في الواقع غير اتصال غيرمنقسم للتغير.

ويقوده هذا ايضاً الى البحث في معنى الزمان. فينقد اولاً التصور الرياضي للزمان الذي يتصور الزمان على انه خط متصل، ينقسم الى غير نهاية، وأقسامه متخارجة بعضها بالنسبة الى بعض. ولكن هذا التصور - هكذا يرى بوجسون - ما هو إلا تثبيه رمزي لأنه يفترض أن العقل يدرك، بنظرة واحدة، اللحظات التي يميزها ويعاملها على انها موجودة معاً، ثم يسقطها في المكان او يستبدل بيلانها خطاً مرسوماً في المكان مؤلفاً من مواضع يشغلها على التوالي متحرك. وهكذا يترجم التوالي الى معية. ولكي تتم هذه الترجمة لا بد من شعور يمسك الماضي دون ان يمكث فيه،أي يستطيل به الى الحاضر ابتغاء أن ينظمه معه، لأن لديه فكرة عن المدة Duree التىهي في جوهرها ربط بين الماضي والحاضر «استمرارلما لم عد كاثنافي ما هوكائن» («المدة والمعية» ص ٦٢). وهذه المدة تشبه الجملة الموسيقية التي تذوب نغماتها بعضها في بعض. ولادراك هذه المدة ينبغي ان نميز من الكثرة العددية التي هي كثرة كمية مؤلفة من وحدات متجانسة مصفوفة في المكان - الكثرة الكيفية التي تقوم في التداخل المتبادل بين عناصر لا متجانسة، الكشرة الأولى هي حاصل جمع يتم بجمع وحدات متجانسة بعضها الى بعض، اما الكثرة الكيفية فهي شمول totalité سابقة على العناصر التي تتألف منها وأعلى منها مرتبه، ولا يستطيع التحليل استخراج هذه العناصر إلآ بنوع من التصور الاجمالي النمطي Schemata .

وتلك هي الصفة الأساسية للمدة. وهناك صفتان اخريان تنضمان الى الأولى، هما: الاختراع invention واتوتر tension.

أما فكرة الاختراع فتناقض مبدأ العلية، لأن العلية تقوم في تصور ظواهر اولية تتكرر ويمكن وضع مساويات أو تكافؤات فيما بينها. بينما نحن في المدة لا نكون بازاء أشياء تبقى في هوية مع نفسها، تتألف أو تتحلل على نحو متفاوت وقابل للانتقال، بل نحن بازاء تقدم كلي شامل غيرقابل للانقسام. ان الزمان الحقيقي هو «اختراع ، وإلا فلن يكون شيئا» («التطور الخالق» ص ٣٦٩). ان هذا الاختراع هو في الواقع خلق Création. ولهذا ينبغي ان ننعت المدة بأنها خالقة (أوخلاقة) .

غيران هذا الخلق يتضمن توتراً، وهذه هي الصفة الثاكثة للمدة. والتوتر ذو درجات. ولهذا يمكن ان نميز في الواقع عدة مراتب بحسب درجة التوتر. والتوتر هو المعفى الذي يستخدمه برجسون لحل مشكلة التمييز بين المادة والروح، بين الجسم والنفس وكيفية الاتحاد بينهما، ومشكلة دخول الحرية في الكون، كما يستخدمه لبيان الطريق المؤدي إلى الكشف عن مبدأ الحياة.

الحرية

الحياة العقلية تتميزمن الواقع المادي بثلاث خصائص أساية:

١- اولاً بأنها مؤلفة من حالات لا متجانسة، وهذه الحالات ليست كميات قابلة للقياس ولا للزيادة أو النقصان.

٢ - ثانياً انها لا تمزج هذه الحالات او تحشدها أو تصفها مثلما تحشد أو تمزج الأجسام بعضها مع بعض، بل هي تذيبها بعضها في بعض بحيث تتخذ كل واحدة منها معنى جديدا.

٣ - وثاتاً الأحوال العقلية (أوالنفسية) لايتلو بعضها بعضاً كما يتلو المعلول العلة، أي لا يعين بعضها بعضاً، مثل الحركات التي يقيسها الفيزيائيون، بل كل واحدة منها تضيف الى السابقة شيئاً جديداً كل الجدة «مثل جدة الثمرة بالنسبة الى الزهرة» («المادة والذاكرة» ص ٢٠٧) بيد أن الحياة الاجتماعية بما تفرضه علينا من وجود قاسم مشترك بيننا وبين غيرنا من أفراد المجتمع، ثم اللغة وهي لا تستطيع التعبير عن عواطفنا وأفكارنا إلا بتمييزها بعضها من بعض، يضطرانا الى تصور حياتنا الباطنة في اشكال مستمدة من العالم الخارجي. والصعوبات الموجودة في علم النفس جاءت من انخداعه بهذا التصوير للحباة الباطنية ولهذا ينبغي على علم النفس أن يتخلص من هذا الوهم، وذلك بأن يشق الحجب التي وضعتها الحياة الاجتماعية واللغة على هذه الأحوال النفسية ، ابتغاء الوصول الى المعطيات المباشرة للشعور.

ويهاجم برجسون النزعة الترابطية في علم النفس لايا ترى أن النفس تتحدد ويتعين فعلها بعاطفة أو كراهية ، بينما كل واحدة من هذه العواطف، اذا بلغت درجة كافية من العمق، تعبر عن النفس بتمامها «ان النزعة الترابطية associationisme ترد الأنا الى مجموعة من وقائع الشعور: إحاسات ، عواطف، أفكار . لكنها اذا لم تر في هذه الأحوال المختلفة شيئاً اكثر مما تعبر عنه أسماؤها ، ولم تراع فيها إلا مظهرهااللاشخصي، فإن في استطاعتها أن تصفها بعضها الى جوار بعض الى غير مارة دون ان تحصل على شيء اللهم إلا على أنا شبحي (شبح أنا) هو ظل لأنا يسقط نفسه في المكان . لكنها لو أخذت هذه الأحرال النفسية وفقاً للتلوين الخاص الذي لها عند شخص معين، وهو تلوين يستمده كل انسان من سائرها، فلن تكون ثمة حاجة الى تجميع عدة وقائع شعورية من أجل تكوين الشخص، لأنه كله في واحدة منها بشرط أن نحسن اختيارها. والمظهر الخارجي لهذه الحالة الباطنة هو ما يسمى بالفعل الحر، لأن الأنا يعد وحده فاعلها اذ هي تعبر عن الأنا كله. وبهذا المعنى فإن الحرية ليس لها ذلك الطابع المطلق الذي تخلعه عليها النزعة الروحية احياناً، ذلك أن الحرية درجات. . . ان عن النفس كلها يصدر القرار الحر، والفعل سيكون حراً بقدر ما يزداد ميل السلسلة الديناميكية التي ينتب اليها ميلها الى التأحد مع الأنا الأساسي . •١ s’identifier avec moi. والأفعال الحرة، مفهومة بهذا المعنى، نادرة، حتى من جانب أولئك الذين لديهم أقوى شعور بأنهم يلاحظون ذواتهم ويتفكرون فيما يفعلون». («بحث في المعطيات المباشرة للشعور» ص ١٢٤ -١٢٦،ص ١١١ -١١٢، من «مجموع مؤلفاته» باريس سنة ١٩٦٣)

كذلك يأخذ على أصحاب النزعة الجبرية déterminisme «انها تؤدي إلى تصور ميكانيكى للأنا. انها تصور لنا هذا الأنا متردداً بين عاطفتين متضادتين، متنقلا من هذه الى تلك، ومختاراً لاحداهما في النهاية. وهكذا فإن الأنا والعواطف (المشاعر) التي تضطرب فيه تشبه بأشياء محددة كل التحديد تبقى هي هي نفسها طوال مجرى العملية لكن اذا كانهو نفس الأنا الذي يروي ، واذا كانت العاطفتان المتضادتان اللتان تؤثران فيه لا تتغيران، لسبب مبدأ العلية نفسه الذي يهيب به أصحاب النزعة الجبرية، فأنى للأنا أن يقرر أبداً؟! والحق أن الأنا، بمجرد أن يشعر بالعاطفة الأولى، فإنه قد يتغير حين تطرأ العاطفة الثانية. ان الأنا، خلال كل لحظات لتروي، قد تغير، وكذلك تغيرت، تبعاً لذلك، العاطفتان التان تؤثران فيه.

وهكذا تتكون سلسلة ديناميكية من الأحوال التي تداخل بعضها في بعض، ويقوي بعضها البعض، وتفضي إلى فعل حر عن طريق تطور طبيعي» (ابحث في المعطيات...» ص ١٨ - ١٢٩=ص١١٣ من «مجموع مؤلفاته»).

وبالجملة فإن للحرية درجات، وهي لا تتحقق إلا بالقدر الذي به ينصهر مجموع ميولنا وعواطفنا وأفكارنا بعضها في بعض بحيث يعبر الفعل الذي نقوم به عن شخصيتنا كلها.

وهذا التعريف للحرية هو الذي كان هدفاً لكثيرمن النقد، سواء من جانب علماء النفس مثل 201025] ومن جانب العقليين بعامة إذ اصبح معفى الحرية عند برجسون هو التلقائية spontanéité وتبعا لذلك فإن درجة الحرية لا تقاس بمقدار الروية والتفكير قبل لاقدام على الفعل، بل بمقدار عنف الانفعالات وعمقها في الأنا.

الذاكرة

تناول برجسون مسألة الذاكرة في كتابه «المادة والذاكرة» (سنة ١٨٩٦). فميز بين نوعين من الذاكرة: الذاكرة - العادة mémoire - habitude، والذاكرة المحضة. الأولى يمكن أن تقيم في الجسم، وهي مجرد تسركيب لحركات. أما الذاكرة المحضة فهي وظيفة للروح (أو العقل) وهي التي تمنحنارؤية ارتدادية لماضينا. ويضرب مثلا على الأولى: حفظ قصيدة، وعلى الثانية: استحضار الذهن لدرس سمعه. فنحن في الحالة الأولى بازاء عادة: لأن الحفظ يقوم في تكرار مجهود واحد هوترديد القصيدة مرة تلو مرة. أما في حالة استحضار درس سمعناه، فإن ذكراه قد سجلت مرة واحدة وكأنه حادث وقع لي. «انه مثل حادث في حياقي، وماهيته تقوم في انه يحمل تاريخاً، وبالتالي لا يمكن أن يتكرر» (المادة والذاكرة» ص ٨٤ ٢٢٦ في «مجموع مؤلفاته»).

والشعور يكشف لنا عن اختلاف في الطبيعة بين هذين النوعين من الذاكرة ذلك ن ذكرى درس سمعته هو امتثال وامتثال فحسب، استطيع أن اطيله أو أن أقصره وأستطيع ان ادركه بنظرة واحدة وكأنه لوحة. أما القصيدة لمحفوظة فإن تذكرها يقتضي زمناً محدداً هو زمن انشادها بيتا بيتا. انه ليس امتثالا، بل هو فعل. والقصيدة بمجرد حفظها لا تحمل أية علامة تدل على منشئها وموضعها من الماضي إنما صارت جزءاً من حاضري، وعادة من عاداتي، مثل المشي.

وبالجملة فإن الذاكرة الأولى «تسجل، على هيئة صور - ذكريات images - souvenirs كل أحداث حياتنا ليومية كلما جرت ، ولا تغفل أية تفاصيل، وتترك لكل واقعة مكانتها وتارينها دون أية نية للمنفعة أو التطبيق العملي فإنها تختزن الماضي بتأثير ضرورة طبيعية. وبفضلها يشير التعرف الذكي، او بالأحرى العقلي، على ادراك قمنا به من قبل، واليها نلجأ في كل مرة نصعد منحدر حياتنا الماضية بحثاً عن صورة من الصور. لكن كل ادراك يستطيل الى فعل انى،، وبقدر ما تثبت الصور، بعد إدراكها، وتصف في هذه الذاكرة، فإن الحركات التي تواصلها تعدل الجهاز العضوي، وتخلق في الجسم استعدادات جديدة للعقل. وعلى هذا النحو تتكون تجربة من نوع خاص جديد يستقر في الجسم وسلسلة من الميكانسمات المركبة وردود فعل متزادة العدد والأنواع ضد المهيجات الخارجية، مع اجوبة حاضرة عن عدد متزايد باستمرار من استجوابات ممكنة، ونحن نشعر بهذه الميكانسمات حين نأخذ في العمل، وهذا الشعور بماض من المجهودات المختزن في الحاضر هو ايضاً ذاكرة، لكنهاً ذاكرة مختلفة عن الأولى كل الاختلاف، متوجهة دائما الى الفعل وقاعدة في الحاضر ولا تنظر الى المستقبل. وهي (اي الذاكرةالثانية، أي المحضة) لا تحتفظ من الماضي إلا بالحركات المنسقة تنسيقاً ذكياً، التي تمثل منها المجهود المكدس وهي لا تلغي هذه المجهودات الماضية في الصور -الذكريات التي تستعيدها ، بل النظام الدقيق والطابع المنظم الذين بهما تتم الحركات الحالية. والحق أغها لا تمثل لنا ماضيا، بل تلعب دوره، وإذا كانت لا تزال تستحق اسم «ذاكرة» فليس ذلك لأنها تحتفظ بصور قديمة، بل لأنها تطيل أثرها امفيد حتى اللحظة الحاضرة» («المادة والذاكرة» ص ٨٧-٨٨ =٢٢٧ - ٢٨ من مجموع مؤلفاته»).

ودراسة امراض الذاكرة، وخصوصاً الأفاسيا Aphasie (امتناع النطق) تدل على أن صابة المخ لا تقضي على الذكرى، بل تقضي فقط على اعادة تحقيقها.

فالماضي لا يحتفظ به في المخ، بل يحتفظ به في ذاته، وتلك هي الذاكرة المحضة، التي بواسطتها يمكن استعادة كل ما جرى في الشعور لوكان مفيدا.

والذاكرة ليست «ملكة خاصة دورها هو الاحتفاظ بالماضي من اجل سكبه في الحاضر» («الفكر والمتحرك» ص ١٩٣) . ل هي والشعور شيء واحد، وتوجد ذاكرة حيث يوجد مدة duree ذاكرة باطنة في التغير نفسه، هي استمرار لماقدكان فيما هو كائن الآن.

الادراك المحض

الادراك المحض هو الادراك الذي لا يوجد منعزلاً في التجربة، بل يوجد ضمن مركب ولابدمن استخلاصه منه، لكن لاعلى سبيل التجريد كما في المعاني المجردة، بل من أجل الحصول عليه لا بد من تخلية الادراك العيني من سائر العناصر الا العنصر الاساسي.

والمشكلة التي يتطرق اليها برجسون هاهنا، هي مشكلة الادراك الحسي التي اختلف فيها الرأي آنذاك بين الواقعيين والكنتيين. فنحن بإزاء مادة، مادة متكاثرة مؤلفة من أجزاء متفاوتة في الاستقلال، منتشرة في المكان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أمام عقل ليس بينه وبين المادة أية نقطة للاتصال، اللهم إلا اذا قكا مع الماديين ن الفكر (أو الادراك) هو مجرد ظاهرة ثانوية épiphénomène من ظواهر المادة. أما الكنتية فهي الأخرى - في نظر برجسون - لا تحل المشكلة «لأنه لا يوجد مقياس مشترك بين الشيء في ذاته، أي الواقع، وبين التنوع الحسي الذي به نبني معرفتنا» . والواقعية الساذجة مثلها مثل «الواقعية » الكنتية (وهذا هو تعبير برجون، وهو خطأ في وصف مذهب كنت، بل كان عليه أن يقول «متعالية» كنت) تضعان المكان المتجانس فاصلاً بين العقل وبين لأشياء. فالواقعية الساذجة تجعل من هذا المكان وسطاً حقيقياً توجد فيه الأشياء معلقة، والواقعية الكنتية ترى فيه وسطاً مثالياً اهثل: تتناسق فيه كثرة الاحاسات. لكن بالنسبة الى كليهما فإن هذا الوسط معطى أولاً، بوصفه شرطاً ضرورياً لكل ما يستقر فيه ويتعمق، هذا الفرض المشترك (بين كلا المذهبين) نجد أنه يقوم في أن تعزو الى المكان المتجانس دوراً نزيهاً، سواء بأن يؤدي لى الواقع المادي خدمة هي أن يسنده،أو تكون وظيفته - وهي لا تزال عقلية نظرية،

هي أن تردد الحواس بوسيلة تمكنها من التناسق فيما بينها. حتى ان غموض الواقعية وغموض المثالية كليهما ينشأ من كونهما يوجهان ادراكنا الواعي واحوال (أو شروط ) ادراكنا لواعي، نحو المعرفة المحضة، لا نحو الفعل» («المادة والذاكرة» ص ٢٦٠ = ٣٦٢ في «مجموع مؤلفاته»).

والحل عند يرجسون هو أن نفترض أن الامتداد أسبق من المكان، وان المكان المتجانس يتعلق بفعلنا وحده، وأن المكان يشبه شبكة عديدة العيون اى غير نهاية، شبكة نحن ننصبها فوق الاتصال المادي من أجل فكه لصالح أفعالنا وحاجانا، وذا الفرض نكسب عدة مور: منها أن نتصل بالعلم الفعال في المادة، وأن نحل لتناقضات الناشئة من كوننا لا نفصل بين وجهة نظر الفعل ووجهة نظر المعرفة.

والفكرة الأساسية لتي يريد برجسون توكيدها في هذا كله هي أن الجسم أداة للفعل، وأداة للفعل فقط. وهو يستخلص النتيجة النهائية للفصول الثلاثة الأولى من كتاب «المادة والذاكرة» في العبارة التالية: «الجسم، وهو موجه داثما نحو الفعل، وظيفته الجوهرية هي أن يحذ من حياة الروح (العقل) من أجل الفعل» (ص ١٩٩ = ٣١٦ في «مجموع مؤلفاته»).

وهذا يقودنا الى مشكلة الصلة بين النفس والجسم .

الصلة بين النفس والجسم

وهذه المشكلة تمثل عند برجسون على شكل حاد لأنه - كما يقول - «يميز بين المادة والروح تمييزاً عميقاً» (ص ٢٨ = ٣١٧ «من مجموع مؤلفاته»)

وفي مشكلة العلاقة بين العقل (أو النفس) والمخ يرفض برجسون رأي القائلين بالتوازي النفسي الجسمي ٠ ويقرر أن النشاط لعقلي ونشاط المخ، وان كانا مرتبطين، فإن أحدهما ليس نسخة وازدواجاً للآخر ن الجهاز العصبي ليس في مجموعه غير جهاز حسي - حركي، مهمته أن يستقبل الحركات وينقلها ويفجرها. والفارق في هذا لصدد بين النخاع لشوكي وبين المخ ليس فارقا في لطبيعة، بل في لدرجة أو الاحرى في التعقيد. والتهيج الحسي لا يتحول إلى معرفة، انه ينحرف فقط انحرافا يمكنه من أن يتآلف مع غيره أو يتنسق وتتنوعاتجاهاته،

فبدلاً من ان بترجم عن نفسم بحركة خارجية مباشرة متقولبة stereotype يؤدي إلى رد فعل جديد أويقتصر على تخطيط عدة ردود أفعال تهمد أو تتواصل نتيجة تهيجات جديدة. وبالجملة فإن المخ عضو محاكاة pantomime ينوع الفعل ويفصل الفكر بفضل ميكانسمات صناعية ورمزية، مجموعها يؤلف الغة. يقول برجسون: في محاضرته بعنوان: «النفس والجسم» (وقد نشرت بعد ذلك ضمن كتاب: «الطاقة الروحية»). «ان العلاقة بين المخ والفكر علاقة مركبة ودقيقة. ولوسألتموفي أن أعبر عنها في صيغة بيطة، ولكنها بالضرورة فجة غليظة، لقلت لكم ان المخ عضو محاكاة، ومحاكاة فحسب. ان دوره هو محاكاة حياة الروح (النفس)، ومحاكاة المواقف الخارجية التي يجب على الروح (العقل) أن تتكيف وإياها. ونسبة النشاط المخي لى النشاط العقلي هي كنسبة حركات عصا قائد الأوركسترا الى السيمفونية. ان السيمفونية تتجاوزمن كافة الجوانب الحركات التي توقعها scandent ، وبالمل فإن حياة الروح (العقل) تتجاوز حياة المخ. لكن المخ، بسبب أنه يستخرج من حياة العقل (الروح) كل ما يمكن أن يترجم الى حركة ويتحقق مادياً، ولأنه على هذ النحو، يكون نقطة انغراز العقل في المادة، فإنه في كل لحظة يؤمن تكيف العقل مع الظروف، ويجعل العقل على اتصال دائم بالوقانع فالمخ ليس إذن بالتعبيرالصحيح:عضواًللفكر، ولا للعاطفة ولا للثعور، بل هو الذي يجعل الشعور والعاطفة والفكر مشدودة على الحياة الواقعية وبالتالي قادرة على القيام بفعل فعال. ولنقل، ان شئتم، ان المخ هو عضو الانتباه الى الحياة la vie ة attention » (ص ٨٥٠ -٨٥١ «من مجموع مؤلفاته»). وينتهي برجسون في ختام محاضرته الى تناول مسألة: هل تبقى النفس بعد فناء البدن؟ بعد ان انتهى الى أن «حياة النفس (الروح) لا يمكن ان تكون هي حياة البدن، وأن الأمر يجري كما لو كان الجسم هو مجرد شيء تستخدمه النفس، ومن هنا لا يحق لنا أن نفترض أن الجسم والنفس لا ينفصل أحدهما عن الآخر». ويردف فائلاً: «لكن لا تظنوا أنني سأفصل لآن، خلال نصف الدقيقة الباقية، في أعوص مثكلة وضعتها الانسانية لنفسها. لكن مع ذلك لا أود تجنب الخوض فيها. من أين جئنا؟ وماذا نفعل ها هنا في هذه الدنيا؟ والى اين نحن ذاهبون؟ ذا لم يكن عند الفلسفة جواب عن هذه الأسئلة الحيوية، أو اذا كانت عاجزة عن توضيحها تدريجياً كما توضح مشكلة في علم البيولوجيا او التاريخ، واذا كانت لا تستطيع ان تجعلها تستفيد من تجربة متزايدة في التعمق وفي رؤية للحقيقة أكثر نفوذا، واذا كان عليها أن تقتصر على اثارة الشجار بين أولئك الذين يؤكدون خلود النفس، واولئك الذين ينكرونه لأسباب مستمدة من ماهية مفترضة للنف أو للجسم، فإنه يكاد ينطبق على هذا الموقف قول بسكال - بعد تعديل معناه- ان الفلسفة كلها لا تستحق ساعة من العناء. صحيح أن الخلود نفسه لا يمكن اثباته عن طريق التجربة، لأن كل تجربة إنما تتعلق بمدة محددة، وحين يتحدث الدين عن الخلود فإنه يهيب بالوحى لكنه سيكون شيئاً، بل سبكون شيئاً كثيراً أن نستطيع ان نبرهن، في ميدان التجربة، على امكان أو على احتمال بقاء النفس بعد لموت لمدة من الزمان مقدارها س. ولندع خارج ميدان الفلسفة السؤال عما اذا كانت هذه امدة هي محدودة أو غير محدودة. فإذا نحن رددنا المثكلة الفلسفية لمصيرالنفس الى هذه الحدود المتواضعة، فإنها لا تبدو لي مستحيلة الحل. هاهو ذا مخ يعمل. وها هو ذا شعور يحس، ويفكر ويزيد،فإذا كان عمل المخ يناظر مجموع الشعور، واذا كان هناك تكافؤ بينماهو مخي وما هو عقلي، لكان من الممكن ان يتابع الشعور مصائر المخ وأن يكون الموت نهاية كل شيء ، وعلى الأقل لن تقول التجربة شيئاً بعك هذا، وسيلجأ الفيلسوف الذي يؤكد بقاء النفس بعد الموت إلى أن يسند قوله بواسطة بناء ميتافيزيقي، وهو أمر غالباً ما يكون هشاً لكن لوكانت الحياة العقلية كما حاولنا أن نثبت، تتجاوز الحياة المخية، واذا كان المخ يقتصر على ان يترجم الى حركات جزءاً صغيراً مما يجري في إلشعور، هنالك يبلغ بقاء النفس بعد الموت درجة من الاحتمال من شأنها أن تجعل عبء الدليل يقع على من ينكره، أولى من أن يقع على من يؤكذه ، لأن السبب الوحيد في اعتقاد أن الشعور يفى بعد موت البدن، هو اننا ئرى الجسم يتفكك عضوياً ، وهذا السبب لن تكون له قيمة اذا كان استقلال كل الشعور تقريبا تجاه الجسم هو أيضاً واقعت مشاهدة . فاذا عالجنا مشكلة بقاء النفس على هذا النحو، بإنزالها من عليائها التي وضعتها فيها الميتافيزيقا التقليدية، وذلك بنقلها الى ميدان التجربة، فإننا نتخلى من غير شك عن اعطائها حلاً جذرياً. لكن ماذا تريدون؟ لا بد من الاختيار، في الفلسفة، بين البرهنة المحضة التي

تهدف الى نتيجة نهائية لا يمكن تكميلها، لأنها يظن ٢ا أيا كاملة، وبين ملاحظة صابرة لا تعطي إلآ نتائج تقريبية، قالة لأن تصحح وتكمل الى غير نهاية. والطريقةالأولى، بسبب أنها تريد أن تأتينا فوراً باليقين، تلزمنا دائما بالبقاء في نطاق ما هو محتمل، أو بالأحرى ما هو ممكن محض امكان، لأن من النادر الاتفيد في اثبات الرأيين المتقابلين، على السواء، وأن كليهما متماسك وكليهما ممكن القبول plausibles على السواء. أما الطريقة الشانية فلا تستهدف في البدء إلا ال وصول الى الاحتمال، لكن لما كانت تعمل في ميدان يمكن فيه أن يتزايد الاحتمال الى غير نهاية، فإغها تقتادنا شيئاً فشيئاً الى حالة تتكاف عملياً مع اليقين. وأنا من ناحيتي قد اخترت بين كلتا الطريقتين. وسأكون سعيداً لو كنت قد استطعت أن أسهم ، ولو بأقل مقدار، في توجيه اختياركم أنتم» («الطاقة الروحية» ص ٥٨- ٦٠ = ٨٥٨ - ٦٦٠ من «مجموع مؤلفاته») .

وواضح من هذا الكلام أن موقف برجسون من مسألة بقاء النفس بعد موت البدن يتسم بالميل الى تقرير احتمال هذا البقاء ، على أساس أن حياة الشعور (أو العقل أو الروح) مستقلة عن حياء المخ (أو البدن)، وأن الأولى تتجاوز حدود الثانية، فلا مانع يمنع ذن من أن يبقى الو!حد مع فناء الآخر، لكن الأمر كله احتمال في احتمال، وقد يتزايد هذا الاحتمال، لكنه لن يبلغ أبدأ مرتبة اليقين، لأن كل تجربة محدودة المدة

معنى الحياة

اما وقد تبين أن النثاط العقلي يتجاوز النشاط المخي وأنه ليس ناتجا له بلعلى العكس من ذلك يحدمنه، فهنا يثارالسؤال : لماذا اذن همامتشاركان معا؟ والجواب عن هذا السؤال يجر إلى البحث في معنى: الحياة.

وبرجسون يدرس معنى الحياة في اطار نظرية التطور كما سيحدده هو، لا كما حدده اسبنسر ودارون. وهذا هو موضرع كتابه الرئيسي بعنوان: «التطور الخالق» (سنة ١٩٠٧). وفيه يبين أن الذكاء تكون بتفدم متواصل على طول خط يتصاعد خلال الحيوانات الفقرية إلى الانسان، وان ملكة الفهم وهي ملحقة بملكة الفعل، هي تكيف تزايد في الدقة والتركيب والمرونة لشعور الكائنات الحية مع ظروف الوجود المهيأة لها. ومن هنا فان الذكاء (العقل) وظيفته هي غمس الجسم في الوسط الذي يعيش فيه وامتثال العلاقات الخارجية بين الأشياء بعضها وبعض والتفكير في المادة. «والذكاء (العقل) الانساني يشعر بأنه في داخل بيته طالما يترك بين موضوعات جمادية، وعلى الأخص بين الجوامد 5ع10ا90 حيث ييد فعلنا نقطة ارتكازه وتجد صناعتنا الاتها المهيتة للعمل، وحيث تكونت تصوراتنا العقلية على صورة الجوامد، ولهذا السبب فإن ذكاءنا (عقلنا) ينتصر في (ميدان) الهندسة، وحيث تتجلى القرابة بين الفكر المنطقي والمادة الجمادية وحيث ليس أمام الذكاء (العقل) إلا أن يتبع حركته الطبيعية بعد أخف اتصال ممكن مع التجربة، ابتغاء ان يسير من اكتثاف إلى اكتثاف آخر، مع اليقين بأن التجربة تمشي وراءه وتعطيه الحق دائيما" (مقدمة كتاب «التطور الخالق» ص ٧1 ص ٤٨٩ من مجموع مؤلفاته»).

ولهذا السبب فان عقلنا غير قادر على إدراك الطبيعة الحقيقية للحياة والمعنى العميق لحركة التطور. وأن له أن يدرك الحياة، وما هوإلآ جزء منبثق عن الحياة، خلقته الحياة في ظروف معينة ليعمل في ظروف معينة؟ لو كان ذلك في مقدوره لكان معناه ان الجزء يساوي الكل، والمعلول يمكن ان يمتص علته، ولجاز أن يقال ان المحارة ترسم شكل الموجة التي حملتها إلى الشاطى. والواقع أننا نشعر بأن كل مقولاتنا العقلية لا تنطبق على الحياة: من وحدة وكثرة، وعلية آلية، وغائية ذكية، «وعبثاً نحاول أن نولج ما هو حي في هذا الاطارأوذاك، فان كل الاطارات تنكسر، لانها ضيقة جدا، قاسية جدا خصوصا بالنسبة إلى ما نريد إدخاله فيها ٠ (الكتاب نفسه ص ٧1، =٤٩٠).

لكن هل معى هذا أنه ينبغي علينا أن نتخلى عن إدراك الحياة، وان نقتصر على التصور الميكانيكي الذي يزودنا به العقل؟ كان هذا سيكون هو الوضع، لو ان الحياة اقتصرت على اعداد مهندسين. الكن خط التطور الذي يفضي إلى الانسان ليس هو الوحيد. بل ثمت أشكال أخرى من الشعور متفاوتة، لم تستطع التجرد من الوان القسر الخارجية ولا أن تتغلب على نفها، كما فعل الذكاء (العقل) الانساني، لكنها برغم ذلك تعبر هي الأخرى عن أمر باطن وجوهري في الحركة التطورية» (ص ٧111 - ٤٩٢) هذه الأشكال الأخرى من لشعور، إلى جانب العقل، هي بمثابة قوى مكملة له، وهي قوى ليس لدينا عنها غير شعور غامض مشوش «حين نبقى منغلقين في داخل انفسنا، لكنها

ستتضح وتميز حين تبصر نفسها وهي تعمل في تطور الطبيعة. هنالك تدرك أي مجهود عليها أن تقوم به من أجل أن تتزايد شدتها من اجل أن تنتشر في اتجاه «الحياة» (ص ٩=٤٩٢).

ومعنى هذا ان نظرية المعرفة لا تنفصل عن نظرية الحياة. لأن اية نظرية في الحياة لا تكون مصحوبة بنظرية في المعرفة لتضطر إلى أن تقبل - على علاي - التصورات التي يقدمها لها الذهن أي ان تحبس الوقائع، قهرا أوطواعية، في اطارات موجودة من قبل، تعدها نهاثية. لكن هذا يؤدي إلى رمزية ربما كانت مفيدة للعلم، لكنه لن يؤدي إلى رؤية مباشرة لموضوعها. ومن ناحية أخرى فان نظرية في المعره، لا تضع العقل في داخل التطور العام للحياة، لن تخبرنا كيف تكونت اطارات المعرفة وكيف نستطيع توسيعها أو تجاوزها. فلا يمكن اذن فصل نظرية المعرفة عن نظرية الحياة، ولا هذه عن تلك.

فإن بحثنا الآن في تطور الحياة لوجدنا انه يكشف عن الخصائص التي تعرفناها في المدة وهي : استمرار التغير، الاحتفاظ بالماضي في الحاضر، الخلق المستمر لأشكال جديدة. وتفير التطور الحيوي لا يمكن أن يتم عن طريق الفرض الميكانيكي الذي تصوره اسبنسر. لأن الحياة ليست بمكنة إلا إذا كانت التغيرات التي ي تتحقق الحياة متناسقة فيما بينها، ومتوائمة مع الوسط المحيط بحيث لا يحدث خلل في توازن الكائن ولا في أحوال تكيفه مع ظروف الوجود. كيا ان التطوريكشف عن قوة اندفاع. لكن هذا الاندفاع لا تحكمه خطة غائية، لأن الانواع الحيوانية لا تنتتج عن صناعة تركب مواد، بل تكشف عن عضوية Organisation يتم تكونها ابتداء من جرثومة.

وتطور الحياة لا يسير في مسار وحيد، كمسار قذيفة يطلقها مدفع Canon، بل هو شبيه بما يحدث لقنبلة يلقي بها انسان فتشتت أباديد في كل اتجاه على هيثة شذرات. ,والقنبلة حين تنفجر فان تشذرها الخاص بها يفسر بالقوة الانفجارية للبارود الذي تحتوي عليه وبالمقاومة التي يبديها المعدن معا. كذلك الحال في تشذر الحياة إلى افراد وأنواع. ومن رأينا أن هذا التشذر يرجع الى سلسلتين من الأسباب: المقاومة التي تشعر بها الحياة من جانب المادة الغليظة، ثم القوة الانفجارية التي تحملها الحياة في داخلها، وهي ترجع إلى توازن للميول غير متقر. وكان على الحياة أن تتغلب اولا على مقاومة المادة الغليظة. ويبدو ان الحياة افلحت في هذا الأمر، بفضل تواضعها وتذللها، بأن تصاغرت جدا وتضرعت جدا متمسكنة للقوى الفيزيائية والكيميائية راضية بان تقطع معها شطرا من الطريق مثل محول السكة الحديدية حين يتخذ، لبضع لحظات، اتجاه الخط الحديدي الذي يريد ان ينفصل عنه. ولا نستطيع ان نقول عن الظواهر الملاحظة في الأشكال الأولية جدا للحياة هل هي فيزيائية كيماوية، او حيوية فعلا. وهكذا كان على الحياة ان تدخل في عادات المادة الغليظة كي تجر على طريق آخر وتدريجيا تلك المادة الممغطسة. فكانت الأشكال المتنفسة في البداية مفرطة البساطة. إنها كانت من غير شك قطعا صغيرة من البروتوبلاسمات لضئيلة التفاضل، الشبيهة في خارجها يالأمبات amibes التي نشاهدها اليوم، لكن مع قوة اندفاع باطنة هائلة مكنتها من الارتفاع إلى الأشكال العليا للحياة. أما انه بقوة هذا الاندفاع سعت الكائنات العضوية الأولى الى النمو بأسرع ما يمكن، فهذا يبدو لنا محتملا، لكن للمادة العضوية حدا للاتساع تبلغه بسرعة. انهاتزدوج أولى من أن تنموإلى ما بعد نقطة معينة. ومما لا شك فيه أنه كان لا بد من قرون من الجهود وأعمال خارقة في الدقة، من اجل ان تتغلب الحياة على هذه العقبة الجديدة ولعدد متزايد من العناصر المستعدة للازدواج حصلت على ان تبقى هذه العناصر متحدة. وبتقسيم العمل عقدت بينها رابطة لا تنحل. لكن الأسباب الحقيقية العميقة للتقسيم كانت تلك التي حلتها الحياة في داخلها لأن الحياة ميل، وماهية الميل ان ينمو على شكل باقة، خالقة، من مجرد نموها، اتجاهات متباينة تتوزع فيما بينها سورتها. وهذا ما نلاحظه نحن (بني الانسان) على أنفسنا في تطور هذا الميل الخاص الذي نسميه الخلق. فكل واحد منا، إذا القى نظرة ورائية إلى تاريخ حياته، يشاهب ان شخصيته وهو طفل، على الرغم من أها لا تقبل القسمة، فإنها تجمع في داخلها أشخاصا متفاوتين كان من الممكن ان يبقوا مصهورين معا لأنهم كانوا في حالة نشوء. وهذا التردد الحافل بالوعود هو أحد ألوان سحر الطفولة» («التطور الخالق» ص٩٩-١.١= ٣٧٨- ٣٨٠ من «مجموع مؤلفاته»)

ويستمر برجون في بيان تطور الحياة، مستخدما صورا وتثبيهات شعرية، عا باعد بينه وبين اللغة العلمية الوثيقة التي استعملها البيولوجيون، وهو أمر جعله هدفا سهلا لهام خصومه.

الغريزة والعقل

وخلاصة رأيه إذن هو أن تطور الحياة يسير على هيئة قنبلة تنفجر في كل اتجاه، أو طاقة (باقة) من الأفرع والاوراق العديدة الشديدة التفرع والتشعب، في اتجاهات متعددة متباينة لكنها متكاملة. لكن هذا التصور المتعدد المتشعب يمكن أن نتبين فيه تفرعين أساسيين الأول هو الذي يفصل عالم النبات عن عالم الحيوان، والثاني هر الذي يقسم عالم الحيوان إلى خطين أحدهمايفضي الى المنفصلات arthropodes، والثاني يفضي - من خلال الفريات -إلى الانسان. والنبات يستمد مباشرة من الهواء والماء والتراب العناصر الضرورية لبقاء حياته وهوثابت في التربة ويبقى في غيبوبة عدم الشعور. اما الحيوان فيتغذى من المواد العضوية التي خبأها النبات، وهويتحرك من اجل لحصول عليها، وهوينمووينظم حركته وهويبلغ مرتبة الشعور. لكن الحيوان يسعى إلى حل مشكلة التكيف بطريقين مختلفين : الأولهو البتاء واستخدام الآلات العضوية، وهوطريق مباشر ومامون، لكنهم لهذا البب عينه يجصر الحيوان في الية تستبعد الوعي والتقدم. والطريق الآخر غير مباشر، ويمر بالصناعة والآلات غير العضوية التي يحتاج بناؤها واستعمالها إلى مجهود وينطويان على مخاطرة ■ لكنه لما كان يحتاج إلى الاختراع، فإنه يقتضي في الانسان الفكر والحرية والطريق الأولهوطريق الغريزة، والثانيهوطريق العقل. والغريزة والعقل متقابلان، لكنهما متكاملان. ولا ينبغي أن نقول أن احدهما أسمى من الآخر، لأنهما من نظامين مختلفين. وهما أيضا متداخلان، ولا يوجد أحدهما في حالة خالصة، بل في كليهما شيء من الآخر، بسبب أصلهما المشترك. «فلا يوجد عقل لا تعثر فيه على آثار الغريزة، كئ لا توجد غريزة لبست محاطة بهداب من العقل وهذا الهداب من العقل هو البب في كثير من الأخطاء. فلكون الغريزة على نصيب متفاوت من الذكاء، استنتج البعض أن العقل والغريزة من طبيعة واحدة. ولا فارق بينهما إلا في درجة التعقيد أو الكمال وان أحدهما يمكن أن يعبر عنه بمايعبرعن الآخر. والواقع أنهما لا يتصاحبان إلا لأنهما يتكاملان، وهما لا يتكاملان إلا لأنهما مختلفان. فما في الغريزة من الغريزي يتعارض مع ما في العقل من العقلي. ولا يمكن تحديد الغريزة ولا العقل تحديدا دقيقا صلباً، لأنهما مثيلان، وليا شيئين مصنوعين» (ص ١٣٨= ٦١٠).

"والغريزة التامة ملكة استخدام وبناء الات عضوية organises ، والعقل التام هو ملكة صنع واستعمال الات غير عضوية inorganisés ه ص(١٤١=٦١٤). ويقصد بكلمة «عضوية» هنا أي تصلح نفسها بنفسها، بينما غير العضوية لا بد ان يصلحها فاعل اخر غيرها ولما كانت الغريزة تستعمل الة معينة، فإن الغريزة بطبعها مخصصة. اما العقل فيصنع العديد من الآلات التي تؤدي وظائف شديدة الاختلاف والتباين.

أما من حيث الخلاف بين العقل والغريزة فيلاحظ برجسون أولأ، أن لكل منهما نوعا من المعرفة مختلفا اختلافا جذريا عن نوع معرفة الآخر فمنحيث المعرفة الفطرية في كليهما يلاحظ أن هذه المعرفة في الغريزة تتعلق بأشياء، بينما في العقل تتعلق بعلاقات وفيما يتعلق بثكل المعرفة ومضمونها، فان الغريزة تتعلق بالمادة، بينما العقل يتناول الكل.

الوجدان

والعفل هو الذي يكفل للانسان صناعة الأشياء التي يحتاج إليها لتأمين بقائه في الحياة. ولهذا كان موجها إلى الفعل، ومعالجة المادة. وتبعا لذلك فإنه غيرقادر على فهم الحياة ٠ وقصارى ما يستطيعه هوأن يقوم بتحليل العمليات الفيزيائية والكيميائية التي بها تتحقق الحياة، وأن يصنع الات تمكنه من السيطرة عليها.

فلا بد إذن من ملكة أخرى يستطيع بها الانسان إدراك الحياة، ملكة أقرب إلى الغريزة منها إلى العقل. وهذه الملكة هي الوجدان intuition (أو العيان الميتافيزيقي).

وبرجسون يعرف الوجدان ويقارنه بالتحليل في مقاله امشهور بعنوان: «المدخل الى الميتافيزيقا» الذي ظهر أولا في «مجلة الميتافيزيقا والأخلاق» RMM سنة١٩٠٣، ثم اعاد نشره مع تعديلات طفيفة في كتابه «الفكر والمتحرك» (ص ١٧٧ - ٢٢٧، وفي »مجموع مؤلفاته» يقع منص ١٣٩٢ إلى ١٤٣٢٠)-

يقول برجون : «ان المطلق لا يمكن أن يعطي إلا في وجدان intuition ، بينما كل الباقي يعتمد على التحليل analyse. ونحن هنا نسمي وجدانا intuition التعاطف الذي به ننتقل إلى باطن موضوع ما كي نتلاقى وعلآع0آ0 مع ما له من أمر نسيج وحده وبالتالي لا يمكن التعبيرعنه،

وعلى العكس من ذلك فإن التحليل هو العملية التي نرد بها الموضوع إلى عناصر معروفة منقبل، أي مشتركة بين هذا الموضوع وغيره من الموضوعات. فالتحليل يقوم اذن في التعبير عن الشيء وفقا لماليسهو إياه. فكل تحليل هو إذن ترجمة، وتنمية، بواسطة رموز، لامتثال مأخوذ من وجهات نظر متوالية منها نلاحظ مقدارا من الاتصالات بين الموضوع الجديد الذي ندرسه وبين موضوعات أخرى نعتقد أننا نعرفها من قبل. والتحليل، في رغبته التي لا تشبع ابدا للاحاطة بالموضوع الذي حتم عليه ان يدور حوله يكثر من وجهات النظر إلى غير نهاية، ابتغاء تكميل الامتثال الذي يظل دائما ناقصا، وينوع- دون هوادة - في الرموز لاكمال الترجمة الناقصة أبدا. ولهذا يستمر إلى غيرنهاية. أما الوجدان فإنه فعل بسيط- إن كان ممكنا. .فاذا تقرر هذا، رأينا بغير عناء أن العلم الوضعي وظيفته المعتادة هي التحليل. انه قبلكل شيء يعمل على رموز وحى اكثر علوم الطبيعة عينية، وهيعلوم الحياة، تقتصر على الشكل المرئي للكائنات الحية، وأعضائها وعناصرها التشريحية، اها تقارن الأشكال بعضها ببعض، وترد الأعقد تركيبا الى الأبسط وتدرس عمل الحياة فيما هو رمزها المرئي، ان صح هذا التعبير. فإن وجدت وسيلة للاحاطة بالواقع احاطة مطلقة بدلا من معرفته معرفة نسبية، و للنفوذ في داخله بدلا من اتخاذ وجهات نظر اليه، ولوجدانه بدلا من تحليله، ولادراكه خارجا عنكل تميزعنه أو ترجمة له أو تمثيل رمزي، فان ال ميتافيزيقا هي هذا نفسه. فالميتافيزيقا هي اذن العلم الذي يدعي الاستغناء عن الرموز» («الفكر والمتحرك» ص ١٨١- ١٨٢= ١٣٩٥ - ١٣٩٦ من "مجموع مؤلفاته»).

لكن هذا الوجدان ليس وليد الغريزة، بل هو وليد التفكير العفلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر وحشد الوقائع العلمية السليمة ومقارنتها بعضها ببعض. والعقل هو الذي يحقق الوجدان ويجعله محددا، وينميه في قول منطقي. وقد أبرز هذا المعى ليون هيسون 1405509 . في رسالته الصغرى للدكتوراه بعنوان: «»النزعة العقلية عند برجسون» (الفصل الثاني، باريس) وان كان تأويله لآراء برجسون في هذا الباب لا يخلو من التعسف.

نظرية الضحك

وعلى أساس التقابل بين الحي والجماد، بين الروحي والآلي، يضع برجسون نظريته في الضحك، التي شرحها في ثلاث مقالات نشرها في «مجلة باريس» Revue de Paris (أول ومنتصف فبراير، وأول مارس سنة ١٨٩٩) ثم جمعها بعد ذلك في كتاب صغير بعنوان: ,الضحك: بحث في معفى الهزلي» .

وهو يلاحظ أولا أنه لا هزلي خارج ما هو انسافي فالمظر الطبيعي يمكن أن يكون رائعا، ساميا، أو قبيحا، لكنه لن يكون أبدا هزليا أو مضحكا، وإذا ضحكنا من حيوان، فذلك لا يحدث إلا إذا شاهدنا فيه لمحة انسانية أو تعبيرا انسانيا. وقد نضحك من قبعة، لكن ما يضحكنا فيها هو الشكل الذي اعطاه لها ناس. وعلى هذا فإنه اذا أثار حيوان أو جماد الضحك فذلك اما لوجود تشابه فيه مع الانسان، واما لعلامة طبعها فيه الانسان، أو للاستعمال الذي استعمله به انسان.

وملاحظة ثانية هي أن الضحك يستلزم عدم الانفعال. ويبدو أن 'لهزلي لا يحدث أوه إلا في نفس خالية من الانفعال. اوفي مجتمع من العقول لملمحضة، فربما لا نبكي، ولكن ربما نضحك، أما النفوس الحساسة باستمرار، المتجاوبة مع نغمات الحياة والتي فيها كل حادث يستطيل إلى رنين عاطفي، فاها لا تعرف الضحك ولا تفهمه» ( , الضحك» ص ٣- ٤= ٣٨٩ من , مجموع مؤ لفاته» ) .

والمشاهدة الثالثة للضحك هي أنه لا يتم إلا في جماعة من العقول ولا يستلذ الانسان الهزلي لو شعر بأنه في عزلة. ويبدو كما لو كان الضحك في حاجة إلى صدى . «إن ضحكنا هو دائما ضحك جماعة من الناس» (ص٤=٣٨٩).

فما الذي يجمع بين هذه المشاهدات الثلاث؟ ,يبدو أن الهزلي (المضحك) يتولد حين يوجه جماعة محترمة من الناس انتباههم إلى واحد من بينهم، مسكتين حساسيتهم وممارسين عقلهم وحده.» (ص٦=٣٩٠) فما هي النقطة الخاصة التي اليها يتوجه انتباههم؟ لنذكر امثلة حتى يتجلى الأمر:

إنسان، وهو يعدو في الشارع، يتعثر ويسقط، فيضحك منه امارة. فماذا جعلهم يضحكون عليه؟ لوكان قد خطر بباله أن يجلس على الأرض، وعرفوا هم ذلك، لما ضحكوا عليه. وإنما هم ضحكوا من كونه جلس على الأرض رغا عنه وبغير إرادته. فليس اذن التغير المفاجى، في وضعه هو الذي أضحكهم، بل ما فيهذا التغير من امرغير ارادي، أي كونه قد حدث عن غفلة وعدم مهارة ومرونة.

فلربما عثر بحجر في الطريق وكان عليه أن يتلافاه أويسترد توازنه الذي اختل من اصطدامه به. لقد استمرت عضلاته تؤدي نفس حركاتها، بينما كانت الظروف تقضي بتعديلها. لقد تصلب حيث كان ينبغي ان يكون مرنا.

ومثلآخر:شخص مدقق في اعماله وحركاته على نحو آلي. وقد دخل مكتبه ليستأنف عمله اليومي. لكن أحد العابثين أفسد ترتيب أوضاع المكتب. وها هو ذلك الشخص الدقيق يغمس قلمه في المحبرة التي ملأها العابث طينا بدلا من الحبر. ويجلس على كرسيه المعتاد، والذي استبدل به العابث كرسيا بلا مقعد، فها هوذا يسقط على البلاط. إن هذا الرجل قد جعلت منه العادة شبه الة. وكان عليه أن يتكيف ويعدل من تصرفاته، لكنه اندفع مع العادة، فكانت حاله مثل حال الشخص المذكور في المثال الأول.

والمضحك في الحالتين راجع إلى أمر عارض خارجي بالنسبة الى الشخص الذي يضحك منه.

إن الحياة والمجتمع يقتضيان من كل انسان انتباها يقظا باستمرار، يميز ملامح الموقف الماثل أمامه، ويقتضيان أيضا مرونة في الجسم والنفس يمكناننا من التكيف مع الموقف. ولهذا فان كل تصلب في الخلق أو في العقل أوفي الجسم سيكون مهما في نظر المجتمع، لأنه علامة ممكنة على نشاط ينام، وأيضا على نشاط يعزل نفسه وينحو نحو الابتعاد عن المركز المثترك الذي من حوله تدور الجماعة، وبالجملة هو علامة على شذوذ.

ومع ذلك فإن المجتمع لا يستطيع أن يتدخل ها هنا بواسطة قهر مادي، لأنه لم يتضرر ماديا. إنه بازاء أمر يقلقه لكن على شكل عرض مرضي symptôme فحسب، يكاد أن يكون مجرد تهديد أو بادرة على أكثر تقرير. وهو لهذا إنما يرد ببادرة فقط أيضا. والضحك هو لا محالة شيء من هذا انوع. انه نوع من البادرة الاجتماعية geste social. إنه بما يثيرمنخوف - يردع أنواع الشذوذ، ويوقظ-ويوصلما ين أنواع من النشاط الثانوي التي كانت في خطر أن تعزل وأن تنام، ويشيع المرونة فيكلما يتجلمن تصلب آلي على سطح الهيثة الاجتماعية. فالضحك لا ينتسب فقط إلى علم الجمال المحض، لأنه يسعى (لا شعوريا، في كثير من الأحوال الخاصة لا اخلاقيا ايضا) الى غرض نافع في الاصلاح العام والتكميل، وفيه مع ذلك شيء ينتسب إلى علم الجمال، لأن المضحك (الهزلي) يتولد في اللحظة التي فيها المجتمع والشخص-وقد تخلصا من هم المحافظة على الذات- يبدآن في معاملة نفسيهما بوصفهماأعمالا فنية.

وبالجملة «فالهزلي هو الآلي المصبوب على الحي» لال ٧:٧201 ع1 ٣اك mécanique plaqué، ,ي أن ما يثيرالضحك هو أن يتحول ما هو حي إلى ما يشبه الآلة.

فالأحدب يشير الضحك لأنه يبدو غيرمتماسك: إن ظهره اتخذ وضعا سينا واستمر عليه فتصلب على هذا التو.

وتعبير الوجه المثير للضحك هو ذلك الذي يجعل الخاطر يفكر في شيء متصلب جامد في الحركة المنظمة لقسمات الوجه: مثل تقطيبة متصلبة أو لازمة متحجرة، كما يحدث حين تبدو الأصداغ وكأن صاحبها ينفخ في بوق باستمرار.

وفن الكاريكاتير يقوم في إدراك التمردات العميقة للمادة، تحت الانسجامات السطحية للشكل: فهويبالغ في إبرازالوان التشويهات وعدم الانسجام في الشخص موضوع السخرية: بأن يطيل في الانف في الاتجاه الذي استطال به في الطبيعة.

والنفس تشكل المادة، وتهب الجسم شيئا من الخفة المجنحة: وهذا هو اللطف أو ارشاقة Grâce. لكن المادة تقاوم في عناء وتود لو تحول النشاط الدائم اليقظة إلى الية automatisme انها تريد أن تغرس في المادية لآلية الشخص الحي الذي ينبغي عليه أن يتجدد لدى كل لقاء بمثل أعلى حي: وهذا يتضاد مع الرشاقة واللطف: وهذا هو ما يثير الضحك. ولهذا «فان المضحك تصلبا أولى منه قبحا ودمامة».

كذلك كل مايلفت انتباهنا إلى الجانب الجسماني المادي في الشخص هو أمر يثير فينا الضحك حين يتعلق الأمر بالجانب المعنوي فيه، لا بالجانب المادي. فنحن نضحك من خطيب يعطس في أوج حماسته الانفعالية في الخطابة. كذلك نضحك من هذه العبارة التي قيلت في تأبين شخص: «لقد كان فاضلا ومستديرا كله«

ومواقف الجسم الانساني وبوادره وحركاته تكون مضحكة بالقدر الذي به يجعلنا نفكر في شيء آلي فقط،

وحيث يبدو الانسان مجرد ألعوبة: فالأنف المحمريبدو مضبحكا لاننا نتخيله مغطى بطبفة من القرمز، والملابس كثيرا ما تثيرفينا الضحك اذا اثارت فينا معنى الآلية فيمن يلبسها. والطبيعة اذا تصورت على هيئة الية، أثارت الضحك. فأحد الشخصيات في كوميديا حين علم بوجود بركان خامد صاح؛ »لقد كان عندهم بركان، لكنهم تركوه يخمدا .

والمراسم التي تقتضيها الحياة الاجتماعية فيها دائما جانب يثير الضحك الخفي : فحفلة توزيع جوائز، أو منظر انعقاد محكمة يبدو ان لنا مضحكين اذا أغفلنا الغرض منهما ولم نفكر إلآ في المراسم المصاحبة لهما، ان «كليهما مسخرة اجتماعية» تتعارض مع المرونة الباطنة للحياة. والتنظيم الألي للمجتمع يجعلنا نضحك، مثال ذلك: غرق ركاب سفينة في الميناء، فألقى موظفو الجمارك بانفهم في الماء بشجاعة وانقذوهم. ولما انقذوهم سألوهم : اهل معكم اشياء تستحق عليها جمارك؟» ولهذا فإن الحياة العسكرية، بما فيها من تصلب وآلية، هي مصدر خصب للنكت المضحكة، كما هو مشاهد في أفلام فرناندل، ومسرحيات جورج كورتلين.

وفيما يتصل بهزلي البوادر والحركات يقول برجسون: ,إن المواقف والبوادر والحركات التي يقوم بها الجسم الانساني تكون مضحكة بالقدر الدقيق الذي به هذا الجسم يجعكا نفكر في الة بحتة» («الضحك» ص ٠ ٣). كذلك المحاكاة تضحك لأن ,محاكاة شخص هي تخليص جانب الآلية الذي تركه يندس فيشخصه». (الكتاب نفسه ص ١ ٣). فهناك حيث يوجد تكرار تشتم الآلية. ويقول: «هزلي كل حادث يلفت انتباهنا إلى ما هو جماني في الشخص، بينما المعنوي هو موضوع النظر» ومن هنا نضحك من خطيب يعطس في اللحظة المؤثرة جدا من خطبته. ونفس المبادىء تنطبق على هزلي الموقف وهزلي الكلمات. «فهزلي كل ترتيب للأفعال والأحداث يعطينا، بإيلاجها بعضها في بعض، وهم الحياة والاحساس الواضح بترتيب الي («الفحك, ص ٠ ٧). مثال ذلك: العفريت ذو اللولب. وفيما يتصل بهزلي الكلمات فإننا ,إذا تركز انتباهنا على مادية مجاز، فان الفكرة المعبر عنها تصير هزلية، مثل: كل الفنون اخوة» («الضحك» ص١١٧).

فلسفة الحياة

فلسفة الحياة عند برجسون فيها التطبيق الأكثر منطقية وتنظيما لعيانه للمدة الخالقة. ويتساءل برجون عن معنى الحياة فيقول: «بالنسبة إلى الوجود الواعي : ان يوجد هو ان يتغير، وان يتغير هو ان ينضج، وان ينضج هو ان يخلق نفسه باستمرار» («التطور الخالق»، ص٨). إن الكوث يعاني المدة. والمدة معناها الاختراع وخلق الأشكال، والصنع المتمرلما هوجديد على وجه الاطلاق. والمدة duree تقدم مستمر من الماضي الذي يعرض المستقبل وينتفخ وهو يتقدم. «وأينما حي شيء، فثم يوجد، في مكان ما، سجل يسجل فيه الزمان» (٠التطور الخالق» ص ١٧). ’إن استمرار التغير، والاحتفاظ بالماضي في الحاضر، والمدة الحقة: هذه الصفات مشتركة بين الشعور وبين الكائن الحي‘ (ص ٢٤). ’إن الحياة تلوح كتيار يمضي من جرثومة إلى اخرى عن طريق كائن عضوي متطور» (ص ٢٩)

ومن الأفكار الأكثر أصالة في فلفة الحياة عند برجون، فكرة السورة الحيوية L’elan vital ومفادها ان ,الحياة منذنشأتها، هي استمرارلسورة واحدة توزعت بين خطوط مختلفة للتطور. لقد نما شيء، وتطور بسلسلة من الاضافات التي كانت الوانا من الخلق. وهذا النمو نفسه هو الذي ادى إلى انغمال الميول التي لم تكن تقدر على النمو بعد نقطة معلومة دون أن تصير غير متوافقة فيما بينها. وبكد، لا شيء يمنع من تخيل فرد وحيد فيه، بسلسلة من التحولات المتوزعة على الاف القرون، يتم تطور الحياة. أو إذا انعدم وجود فرد وحيد، يمكن ان نفترض كثرة من الأفراد يتوالون في سللة على خط واحد، في كلتا الحالتين لن يكون للتطور غير بعد واحد. لكن التطور تم في الواقع بواسطة ملايين من الأفراد على خطوط مختلفة، كل منها افضى إلى تقاطع، منه تفرعت طرق جديدة، وهكذا باستمرار الى غير نهاية. . . وعبثا حدثت تقاطعات، فإن حركة الأجزاء استمرت بفضل السورة الأولى للكل. فثيء من الكل يجب إذن ان يبقى في الأجزاء. وهذا العنصر المشترك يمكن أن يكون محسوسا للعيون على نحو معين، ربما بحضور اعضاء واحدة في اجهزة عضوية مختلفة كل الاختلاف» (٠التطور الخالقى» ص٥٧- ٥٨).

ويرى برجسون أن الحياة في سيرها لا ترسم مسارا وحيدا، يمكن مقارنته بمسار قذيفة مملوءة أطلقت من مدفع،

بل نحن هنا بالأحرى بازاء قنبلة obus انفجرت فورا على هيثة شظايا يقدر لها أن تنفجر ايضا، وهكذا باستمرار طوال وقت طويل جدا» («التطورالخالق، ص ١٠٧). وتقطع الحياة إلى افراد وأنواع يرجع إلى سلسلتين من الأسباب: المقاومة التي تشعربها الحياة من جانب المادة الغليظة، وقوة الانفجار التي تحملها الحياة في داخلها. وهو يشبه تطور الحياة بوجه عام بتطور اخلاق الفرد منا. يقول: «كل منا، وهو يلقي نظرة إلى الوراء على تاريخه، يشاهد أن شخصيته وهوطفل، وإن كانت لا تنقسم، فإنها كانت تضم في داخلها أشخاصا عديدين كان يمكن أن يبقوا مندمجين معا لأنهم كانوا في حال تولد وهذا التردد الحافل بالوعود هوواحد من اكثر ألوان سحر الطفولة. لكن الشخصيات التي تداخل بعضها في بعض، تصير غير متوافقة بالنمو. ولما كان كل واحد منا لا يعيش غيرحياة واحدة، فإنه مضطر إلى الاختيار. ونحن في الواقع نختارباستمرار، وباستمرارأيضا نتخلى عن كثيرمن الأشياء. والطريق الذي نسلكم في الزمان تناثرت فيه أشلاء منكل ما بدأنا نكونه، ومن كل ما كان يمكن أن نصيره. لكن الطبيعة، وهي تتصرف فيعدد لا يحصى من الحيوات، ليست مرغمة على مثل هذه التضحيات. إنها تحفظ هذه الميول المختلفة التي تفرعت وهي تنمو، وتخلق- معها-سلاسل متباينة من الأنواع التي تتطور على انفصال» (*التطور الخالق» ص ١٠٩).

ومع اقرار برجسون بأن التكيف مع الوسط، شرط ضروري للتطور، فإنه «شيء ان نقر بأن الظروف الخارجة هي قوى ينبغي على التطور ان يحسب حسابها، وشيء آخر ان نقول انها العلل الموجهة للتطور، وهذا القول الأخير هو قول الميكانيكية. انه يستبعد تماما فرض السورة الأصلية» («التطور الخالق» ص ١١١).

أما فيما يخص العلاقة بين الانسان وسائر أنواع الحيوان، فإن الفارق هو في النسب والاختلاف بينها هو في طريقة الغذاء. فالحيوان متحرك بينما الخلية النباتية محاطة بغشاء من السيليلوز يضطرها إلى عدم الحركة. وبين الحركة والشعور توجدرابطة. واضحة والنبات لاواع اما الحيوانات فلأنها مضطرة إلى السعي بحثا عن غذائها، فقد دلفت في اتجاه النشاط الحركي المكاني، وبالتالي في اتجاه شعور متزايد في السعة والوضوح (ص ١٢٢)

والعقل هوملكة، تصنع الأشياء الصناعية، وخصوصا الآلات التي تتخدم في صنع آلات اخرى، وتنويعصنعها إلى غيرنهاية. ولهذا ينبغي ان نقول عن الانسان انه صانع 1000 faber بقدرما هو- أوبالأحرى أكثر مما هو-عاقل» (ص ١٥١) والغريزة عبارة عن ملكة طبيعية لاستخدام الية فطرية mécanisme inné . فهناك إذن فارق جوهري بين العقل والغريزة. «والغريزة التامة هي ملكة استخدام بل وبناء آلات منظمة، والعقل التام هوملكة صنع واستخدام الات غير منظمة» (ص ١٥٢).

الأخلاق

وهنا نصل إلى الأخلاق عند برجسون، وكان الناس ينتظرون اراءه الأخلاقية منذ زمان طويل، لأهم رأوا أن فلسفته لا بد أن تكمل بمذهب في الأخلاق. فأصدر في سنة ١٩٣٢ كتابه المنتظر في الأخلاق وفي الدين بعنوان: «ينبوعا الأخلاق والدين». وقد جمع بين الأخلاق والدين، لأنه يرى أن لكليهما ينبوعين هما: الانفتاح، والانغلاق. فالأخلاق أخلاقان: أخلاق مفتوحة، وأخلاق مغلقة (أو منغلقة)، والدين دينان : دين مفتوح، ودين مغلق . فلنبدأ بالكلام عن مذهبه في الأخلاق.

وكما ينبغي أن تقوم عليه كل أخلاق، وهو الحرية، يقيم برجسون مذهبه في الأخلاق على أساس توكيد معفى الحرية الانسانية وفي هذا يقول: «ان كل جدية الحياة تأتيها من حريتنا. فما يصدر عنا، وما هو لنا، ذلك هو ما يهب الحياة مسيرتها الدرامية احيانا والجادة عامة» . لكن «إذا كنا أحرارا فيكل مرة نريد أن تدخل في داخل أنفسنا، فإن من النادر أن يحدث لنا أن نريد ذلك» «والفعل الارادي يؤثر فيمن يريده، ويعبر بقدر ما في أخلاق الشخص الذي يصدر عنه هذا الفعل. ويحقق، بنوع من المعجزة، هذا الابداع للذات بواسطة الذات، الذي يبدو أنه الغرض من الحياة الانسانية». وعلينا ألا نجعل جهودنا تسيطر عليها العادة، التي هي لون من الآلية. وعلى الانسان أن يصارع سيطرة الآلية الناشئة عن العادة، حتى تظل الحرية موفورة نشيطة فتالة.

ولقد قلنا ان من رأي برجسون أن للأخلاق- كما للدين- ينبوعين : الانفتاح والانغلاق.

أما الأخلاق المغلقة فهي اخلاق المجتمعات المغلقة، الشبيهة- من بعض النواحي- بخلية النحل أو بيت النمل. . وكان برجسون في «التطور الخالق» قد بين ان تطور المملكة الحيوانية قد تم على خطين متباينين: احدهما، لدى الحشرات، ادى إلى الغريزة، والثاني، لدى الانسان، ادى الى العقل: «وبفضل هذا الأصل المشترك، يشارك الانسان في نفس التضامن بين الجزء والكل كما نجده، في عالم الحشرات، بين نحل خلية، او بين مل بيت نمل، مع هذا الفارق وهو ان ما يتم في الجماعات الحيوانية غريزيا، أي بالضرورة، ندين به للعادة في الجماعة الانسانية، حتى ان نبة الالتزام الى الضرورة، كنسبة العادة إلى الطبيعة» «ينبوعاً الأخلاق والدين» ص ٧). ونحن في الأوقات العادية نمتثل الالتزامات اولى من ان نفكر فيها. «إذ العادة تكفي. وفي الغالب لا يكون علينا الآ ان نرسل أنفنا على سجيتها كي نعطي المجتمع ما ينتظره منا» (الكتاب نفسه ص ١٢) والواجب، مفهوما على هذا النحو، يتم اليا دائما تقريبا. والالزام الاخلاقي ليس إلا الضغط الذي يمارسه المجتمع على الفرد بواسطة العادة، وما هي الا محاكاة للغريزة.

ويؤكد برجسون الفارق العميق بين «المجتمع المغلق» و«المجتمع المفتوح»، بين «النض المغلقة» و«النفس المفتوحة»، بين «الأخلاق المغلقة» و«الأخلاق المفتوحة».

«وما يميزالمجتمع المغلق، وهو المقدرلنا بالطبيعة، هو أنه في كل لحظة يثمل عددا معينا من الأفراد، ويتبعد الآخرين»(ص ٢٥) والغريزة الاجتماعية، وهي أساس االتزام الاجتماعي، تستهدف دائما مجتمعا مغلقا، مهما يكن اتاعه : الأمة، الوطن، الخ. ولا تستهدف لبدا الانسانية في مجموخها. «ذلك أنه بين الأمة، مهما تكن كبيرة، وبين الانسانية، هناك كل المسافة التي تفصل بين المتناهي وبين اللاعحدود، بين المغلق وبين المفتوح».

والفارق بين المغلق والمفتوح فارق في الطبيعة، ولي في الدرجة، ولاينتقل الانسان من التعلق بالوطن إلى حب الانسانية. «ومن ذا الذي لا يرى أن التماسك الاجتماعي يرجع، إلى حد كبير، إلى الضرورة التي تثعر بها الجماعة للدفاع عن نفسها ضد الآخرين، وأنه اولا ضد سائر الناس يحب امرء الناس الذين يعيش معهم؟، إننا نحب-بالطبع ومباشرة- أهلنا ومواطنينا، بينما حبنا للانسانية هو حب مكتسب وغير مباشر، ويمثل نوعا آخر من الأخلاق يختلف تماماعنحبنا للأهل والوطن. إنه يمشل نوعا اخر من الالتزام يوضع فوق الضغط الاجتماعي. وأخلاق المجتمع المغلق تكون اصغر وأكمل كلما رجعت إلى صيغ لا شخصية، اما الأخلاق الكاملة فينبغي ان تتجد في شخصية ممتازة تصير قدوة تحتذى ومن خلال الته، وفي الله، يدعو الدين الانسان إلى حب الجنس البشري. وفي كل زمان ظهر اناس استثنائيون تجسدت فيهم الأخلاق الكاملة. فقبل القديسين الميحيين عرفت الانسانية حكماء يونان، وأنبياء إسرائيل، ورهبان البوذية، وغيرهم. والقديسون ليسوا في حاحة إلى الوعظ، بل يكفيهم ان يوجدوا، ذلك أن وجودهم نداء ودعوة.

وبينما الالتزام الطبيعي ضغط أو دفع، يوجد في الأخلاق الكاملة نداء: نداء البطل، تفان، بذل الذابت، روح التضحية، المحبة، وتلك هي القسمات المميزة للأخلاق الانسانية.

في المجتمع المغلق تدور النفس في دائرة، اغها مغلقة، وعلى عكس هذا تماما موقف النفس المفتوحة، ولو قلنا اغها تشمل الانسانية كلها لما بالغنا كثيرأ، بللما قلنا ما فيه الكفاية، لأن حبها ينتظم كل الحيوانات والنباتات، والطبيعة بأسرها .

والأخلاق تشمل جزأين متميزين: أحدهما له سبب وجوده في التركيب الأصلي للجماعة الانسانية، والآخر يجد تفسيره في المبدأ المفسر لهذا التركيب في الأول يمثل الالتزام الضغط الذي تمارسه عناصر المجتمع بعضها على بعض، وفي الثافي: الالتزام هوقوة طموح أوسورة, وكبار الذين اقتادوا الانسانية، واقتحموا حواجز المدينة، يبدو أنهم بهذا قد وضعوا أنفسهم في اتجاه السورة الحيوية . ونحن في سيرنا من لتضامن الاجتماعي الى الأخوة الانسانية، نقطع الصلة مع طبيعة معينة، لا مع كل طبيعة. ونحن انما ننفصل عن الطبيعة المطبوعة ابتغاء العودة الى الطبيعة الطابعة

والضمير، الذي يضع الواجبات نحو المجتمع ونحو اعضائه ، هو ناتج المجتمع، أي ناتج الطبيعة التي خلقت هذا المجتمع . وهو يأمر بالتكافل الاجتماعي وضبط النفس والنضال ضد الاجنبي . واذا شعر المرء بالحاجة الى تجاوز نطاق مجتمعه، فهذا نوع من «مقاومة المقاومة» .والواجبات في الأخلاق المغلقة تبدو غير شخصية واذا بحثنا في جذورها ، وجدناها تمتد في المقتضيات التي

يقتضيها المجتمع . انه هو الذي ألزم اعضاءه جها. وهذا الالزام يشبه الرابطة الجامعة بين أفراد خلية نحل.

والفرد الذي أدى كل الواجبات التي يقتضيها منه المجتمع المغلق «يشعر» بالراحة bien-être الفردية والاجتماعية ل مشابهة لتلك التي تصحب الممارسة العادية للحياة)).

أما في الأخلاق المفتوحة فثمة شعور بانفعال جديد، هو الينبوع لكل الابتكارات العظمى، في الفن، والعلم، والحضارة الانسانية وهذا الانفعال يهز كيان النف هزا عنيفاً لكنه على توعين: فاما أن يحدث اهتزازاً سطحياً، واما أن يكون «تحريكاً للأعماق». وهذ النوع الثاني هو الذي يستشعره الابطال والقديسون وكبار الصوفية. « «ان الصوفية. الحقيقيين ينفتحون ببساطة على الموجة التي تجتاحهم. والحاجة الى أن ينشروا حولهم ما تلقوه هم يستشعروغها كسورة محبة: محبة يطبع عليها كل واحد منهم خاتم شخصيته، محبة هي في كل واحد منهم انفعال جديد تماماً، قادر على نقل الحيأة الانسانية الى نغمة أخرى نختلفة تماماً، محبة تجعل كل واحد منهم محبوباً لذاته، وبه ومن أجله أناس آخرون يدعون نفوسهم تتفتح على محبة الانانية».

وعلى هذا النحو نشأت الأخلاق الداعية الى محبة الجنس البشري كله، والتي وضعت واجبات الانسان الفرد نحو الانسانيةجمعاء. وهي واجبات ليست غير شخصية مثل تلك التي فرضتها الأخلاق المتعلقة ، بل في الأخلاق المفتوحة نداء : «نداء البطولة».

الدين

في الفصلين الثاني والثالث من كتاب «ينبوعا الأخلاق والدين„ يدرس برجسون حقيقة الدين. وكما قلنا يقمه -كما قسم الأخلاق - الى دين مفتوح ودين مغلق، ويسميهما: الدين الديناميكي، والدين الاستاتيكي.

اما الدين الاستاتيكي فليس من تاج العقل، بل يدين بنشأته «للوظيفة المخترعة للأساطير» التي تفسر بقايا الغريزة المحيطة بالعقل كالهداب. ولما كان العقل يميل الى فصل الفرد عن المجتمع ويهدد بقطع التماسك لاجتماعي في بعض النقاط ، فإن الطبيعة تفعل ضدهذه لقوة المحللة لي للعقل: وبهذا نفسر الوظيفة المخترعة للأساطير، والتي تنتج الخرافات والامتثالات الخيالية والطيرة superstition والاعتقاد الديني. والدين البدائي هو أولا احتياط ضد الخطر الذي يتعرض له المرء متى ما فكر في ذاته ولم يفكر إلا في ذاته. وهذا رد فعل دفاعي من الطبيعة ضد العقل. وثانياً: «الدين رد فعل دفاعي للطبيعة، بواسطة العقل، ضد تصور حتمية اموت)). («. .. ينبوعا. . . . ص ١٣٧ »). وضد فكرة الموت، يفع الدين - كترياق مضاد -فكرة البقاء بعد الموت، ابتغاء اعادة التوازن لصالح الطبيعة. والجماعة تهتم برد الفعل هذا، كما يهتم الفرد. فمن المهم اذن أن يبقى الموقى حاضرين. وبعد ذلك تنشأ عبادة الاجداد. هنالك يقرب بين الموتى والآلهة. وعلى هذا فإن فكرة بقاء الانسان على هيئة ظل أو شبح - فكرة طبيعية ٠ والتصور البدائي للبقاء بعد الموت هو اذن ظل فعال، نشيط، قادر على التأثير في الأحداث الانسانية ولما كانت الدفعة الحيوية متفائلة، فإن كل التصورات الدينية الصادرة مباشرة عنها هي ردود فعل دفاعية من جانب الطبيعة ضد تصور العقل. وتصور برجسون للصلاة والتضحية تصور مضاد للنزعة العقلية، انه يعزو إليهما دوراً اجتماعياً، فالصلاة في أدنى درجاتها كانت تستهدف، ان لم يكن ارغام ارادة الآلهة وخصوصاً الأرواح، فعلى لأقل الى اجتلاب رضاها ومعونتها. اما التضحية - أي تقديم القراين - فلا شك أنها كانت في البدء قرباناً يقصد به الى شراء رضا الاله أو الى توقي غضبه. وبالجملة. ، فإن الدين الطبيعي هو «رد فعل من جانب الطبيعة ضد ما عسى أن يكون هناك من مضايقات للفرد، ومفككات للمجتمع، تأقي من ممارسة العقل» (ص ه٢١).

لكن الدين الاستاتيكي ليسهوكل الدين، اذ لا بد من الانتقال من الدين الاستاتيكي الخارجي، الى الدين لديناميكي الباطن؛ وكلاهما لا ينبثق من العقل. وبينما الاستاتيكي تحت عقلي، فإن الديناميكي فوق عقلي. كما أن الدين الاستاتيكي يدين بأصله «للوظيفة المخترعة للأساطير» ، أعني لهذه البقية من الغريزة التي تحيط بالعقل كأنها هالة، كذلك القوة المولدة للدين الديناميكي هي ذلك الهداب من الوجدان المحيط بالعقل. وبعبارة أخرى: «الدين الحق يولد من اتصال وتطابق جزئي مع المجهود الخالق للحياة، مع السورة الحيوية أو التطور الخالق. ومعنى هذا أن الدين النديناميكي يستمد أصوله من التصوف الذي يؤمن للنفس، على شكل متاز، الطمأنينة والسجو اللذين مهمة الدين الاستاتيكي توفيرهما. وهذا الجهد الخلاق يأتي من الته . انه هو الله نفسه («ينبوعا. . . ص ٢٢٧), وبالقدر الذي به التصوف استمرار للفعل الألهي، فإنه خلق وحب. لكن هذا لا يصدق إلا على التصوف الكامل، كما نجده في المسيحية، لا على التصوف اليونانى، الذي هو عقلى النزعة كثيراً، ولا على التصوف الشرفي (البوذية) الذي هو منشانم جدأ ان تياراً هائلاً من الحياة قد غمر كبار الصوفية النصارى «ومن حيويتهم المتزايدة انطلقت طاقة، وجسارة ، وقوة تصور وتحقيق هائلة ويمكن أن نتذكر ما قام به، في ميدان العمل، رجل مثل القديس بولس أو القديسة تريزا الآبلية، والقديسة كترينا السييناوية، والقديس فرنشسكو، وجان دارك وكثيرون غيرهم» («ينبوعا. ..ص ٢٤٣»). «والحب الذي يستهلك الصوفي الكبير ليس مجرد حب انان للة. بل هو حب اللته لجميع الناس: ومن خلال الله، وبالله، يحب الانسانية كلها حبا إلهيا» (ص ٢٤٩).

وفي الفصل الأخير من كتاب «ينبوعا الأخلاق والدين» وعنوانه: «الآلية والتصوف» يتناول برجسون مشكلة العصر الحاضر، وهي مشكلة الصراع بين طغيان لألية وتضاز ل نصيب الروح. وفيه ينعى على العصر الحالي زيادة جسم الانسانية وطغيان الآلية على نحو مفرط جدا، بينما بقيت نفس الانسانية على حالها. ومن هنا ذلك الفراغ بين الجسم والنفس. ومن هنا المشاكل الرهيبة الاجتماعية والسياسية والدولية. ان هذه الآلية المفرطة في حاجة الى ما يوازنها من الصوفية. والآلية لن تجد وجهتها الصحيحة إلا اذا واصلت الانسانية بواسطتها، بعد أن حنتها الى الأرض أكثر فأكثر، النهوض والنظر الى السماء . ويكفي أن تظهر عبقرية صوفية كي تجر وراءها انسانية تضخم جسمها بدرجة هائلة ، وتقتادها الى النفس المتجلية بفضلها.

ويتناول برجسون بعض الأفكار السياسية الرئيسية . فنراه يشيد بالديمقراطية لأنها، من بين كل النظم السياسية، هي التي تعلو - في مقاصدها على الأقل - على ظروف المجتمع المغلق. «ان الديمقراطية النظرية تنادي بالحرية، وتطالب بالمساواة ، وتوفق بين هاتين الأختين المتعاديتين بأن تذكرهما بأنهما أختان، واضعة الاخاء فوق كل شيء .. . ان الاخاء هو الأمر الجوهري. وهذا ما يخول لنا أن نقول ان الديمقراطية انجيلية في جوهرها، .(ودافعها هو المحبة» (ص ٢٠٤).

ويرى برجسون أن السلام محاولة لتجاوز حالة لطبيعة الموجودة في المجتمع المغلق، اذ الأصل في الحروب هو الملكية، سواء أكانت فردية أم جماعية فاذا أريد الغاء الحروب فيجب قدر المستطاع التخلص من التحامل ضد الاجنبي، وتجنب تضخم السكان وذلك بالتحكم العقلي في النسل، والعودة الى الحياة البسيطة.

ويشيد، ها هنا، بقيام «عصبة الامم» ، لكنه يرى أن منظمة دولية تهدف الى القضاء على الحوب يجب أن تعمل على القضاءعلى الأسباب المؤدية الىالحروب،تلك الأسباب هي تضخم الكان، وعدم توزيع المواد الأولية توزيعاً عادلا بين الدول لهذا يجب أن تعمل هذه لمؤسة لدولية على عدالة توزيع لمواد لأولية، وعلى تنظيم تداول لمنتجات . كذلك ينبغي عدم التمسك بسيادة الدولة لمطلقة، يقول برجون: «انه لخطأ خطير الاعتقاد أن منظمة دولية يمكن أن تحصل على السلام النهائي دون أن تتدخل بالقوة في تشريعات الدول المختلفة وربما أيضاً في إدارتها».

فلسفته

ركزت أعماله على نقطة جوهرية ألا وهي: الفكر والمتحرك والتي اعتبرت نوعا من انقلاب أو ثورة فلسفية.

فلسفة الحياة

عند برغسون فيها التطبيق الأكثر منطقية وتنظيما لعيانه للمدة الخالقة ويتساءل عن معنى الحياة فيقول:(بالنسبة إلى الوجود الواعي: أن يوجد هو أن يتغير، وأن يتغير هو أن ينضج، وأن ينضج هو أن يخلق نفسه باستمرار) (التطور الخالق). إن الكون يعاني المدة والمدة معناها الاختراع وخلق الأشكال والصنع المستمر لما هو جديد على وجه الإطلاق والمدة تقدم مستمر من الماضي الذي يعرض المستقبل وينتفخ وهو يتقدم. (إن استمرار التغير والاحتفاظ بالماضي في الحاضر والمدة الحقة: هذه الصفات المشتركة بين الشعور والكائن الحي). (ان الحياة تلوح كتيار يمضي من جرثومة إلى أخرى عن طريق كائن عضوي متطور).

ويتحدث برغسون عن خصائص الحياة النفسية وكيف تتحقق في الحياة النامية فالكائن الحي ليس مجرد مركب من (عناصر سابقة) الحياة شيء غير العناصر وشيء أكثر من العناصر ان الكائن الحي (يدوم) ديمومة حقة إذ أنه يؤكد وينمو ويهرم ويموت وهذه ظواهر خاصة به لا تبدو بأي حال في المادة البحتة وليست الأنواع الحية ناشئة من أصول متجانسة نمت وتحولت بتأثير القوى الفيزيائية والكيميائية بطريقة الصدفة العمياء.

النمو والتطور

حسب برجسون كل نوع من الأنواع الحية قد صدر دفعة واحدة عن (نزوة حية) من وجدان شبيه بوجداننا وأعلى منه فهو في النبات سبات وجمود وفي الحيوان غريزة وفي الإنسان عقل وهذه طبقات مختلفة بالطبيعة لا بالدرجة فقط أما المادة فقد نشأت من وهن التيار الحيوي أو توقفه فما هي ا لا شيء نفسي تجمد وتمدد ويعطي برغسون تشبيها هو الآتي عن نشوء المادة:

«ان الماء عندما يخرج من النافورة يرتفع خطا كثيفا، ثم يهبط على شكل مروحة فتنفصل نقط الماء المتراصة فتتباعد وتتساقط في مساحة أوسع، كذلك المادة فهي شيء نفسي متراخ صار متجانسا وهي إمكانية محضة وحدا ادنى من الوجود والفعل والعالم اجمع ديمومة أي اختراع وتجديد وخلق وتقدم متصل.»

الأفكار السياسية

يتناول برغسون بعض الأفكار السياسية الرئيسية. فهو يشيد بالديمقراطية لانها من بين كل النظم السياسية هي التي تعلو - في مقاصدها على الاقل- على ظروف المجتمع المغلق. ويرى ان السلام محاولة لتجاوز حالة الطبيعة الموجودة في المجتمع المغلق إذ الاصل في الحروب هو الملكية سواء أكانت فردية أم جماعية.

ويشيد هاهنا، بقيام عصبة الأمم لكنه يرى ان منظمة دولية تهدف إلى القضاء على الحروب يجب أن تعمل للقضاء على الأسباب المؤدية للحروب تلك الأسباب هي تضخم السكان وعدم توزيع الثروة توزيعا عادلا.

مؤلفاته

من مؤلفاته:

  • محاولة في الوقائع المباشرة للوجدان.
  • المادة والذاكرة
  • التطور الخلاق
  • الفكر والمتحرك
  • الضّحك
  • الطّاقة الرّوحيّة
  • نشر برجسون كتاب بعنوان (المدة والتزامن: برجسون وكون آينشتاين) وهو كتاب في الفيزياء، انتهجه بمحادثة جدلية مع ألبرت آينشتاين في الجمعية الفرنسية للفلسفة. وكان هذا الكتاب يعتبر واحداً من أسوأ مؤلفاته. وزعم الكثيرون أن علمه في الفيزياء لم يكن كافياً، وأن الكتاب لم يلحق بالتطورات المعاصرة في مجال الفيزياء. لم ينشر الكتاب في طبعة الذكرى المئوية بالفرنسية في عام 1951، والتي تتضمن كل ما لديه من أعمال أخرى، ونشرت فقط في وقت لاحق في عمل يعتبر جامع لمقالات مختلفة بعنوان «مخاليط» (Mélanges). استفاد كتاب المدة والتزامن من تجربة برجسون في عصبة الأمم، حيث ترأس اللجنة الدولية للتعاون الفكري التي تضمنت آينشتاين وماري كوري وغيرهم ابتداءاً من عام 1920.