الروح اليونانية

أراد نيتشه أن يسمي الحضارة اليونانية باسم يعبر عن خصائصها العامة كلها فأعطى لها اسم الحضارة أو الروح الأبولونية نسبة إلى الإله أبولو الذي يمثل الروح اليونانية، من بين جميع الآلهة، أصدق تمثيل. إلا أنه لم يقتصر على هذه التسمية، بل عارضها بتسمية أخرى هي الروح الديونيزوسية نسبة الى الإله ديونيزوس، أو باخوس كما يسميه اللاتينيون. وهذه التفرقة بين الروح الأبولونية والروح الديونيزوسية تقوم على أساس أن الروح الأبولونية هي روح الانسجام، بينما الروح الديونيزوسية هي روح الاختلاط والفوضى. وعلى هذا فبينما فضيلة الاعتدال «سوفروسونية» σωφροσνη تسود الروح الأبولونية، نجد أن صفة الجرأة أو القِحة ύβρις تسود الروح الديونيزوسية. وقد اخذ اشبنجلر التسمية باسم أبولونية، وقصر هذه التسمية وحدها على الروح اليونانية، وذلك في مقابل روح الحضارة الغربية التي سماها باسم الروح الفاوستية. فلنتحدث الآن عن خصائص الروح اليونانية، أو الأبولونية، كما عرضها اشبنجلر.

الارتباط باللحظة الحاضرة

نجد هذه الروح تظهر في جميع مرافق الحياة الروحية اليونانية، من علم وفن ودين وسياسة وفلسفة. وأول ما تمتاز به هذه الروح هو أنها كانت مرتبطة باللحظة الحاضرة، لا تعرف الماضي؛ ومرتبطة بالجسم، بوصفه حاضراً في المكان. وعلى هذا الأساس نراها لا تعرف الماضي؛ وبالتالي لا تستطيع التأريخ ولا الترجمة لحياة الأشخاص. وذلك كله يرجع إلى أن فكرة السكون كانت تسود هذه الروح، بينما كانت تجهل فكرة الصيرورة والحركة المستمرة. ولهذا كانت نظرتها إلى الكون نظرة سكونية لا نظرة حركية.

بهذا الطابع انطبعت الرياضيات عند اليونان، كما انطبع الفن، لأن هذه الفكرة - التي أوضحناها - من شأنها ألا توجد فكرة اللامتناهي، وإنما هي تستلزم قطعاً فكرة النهائية. ومن ثم فقد عجزت الرياضيات اليونانية عن الوصول إلى فكرة الأعداد الصماء (اللامعقولة)، لأن العدد الأصم أو اللامعقول هو عدد لا نهائي، فمثلاً الجذر التربيعي للعدد 2 لا يمكن أن ينتهي، ولهذا لم يستطع اليونانيون أن يؤمنوا بمثل هذه المسائل في الرياضيات التي أنشأوها.

ومع هذا فإنهم لم يستطيعوا في الرياضيات نفسها أن يستمروا على ذلك، أي أنهم لم ينجحوا نهائياً في القضاء على فكرة اللامتناهي. فإنا نرى النظرية المنسوبة إلى فيثاغورس يمكن ان تؤدي إلى فكرة اللامتناهي أو اللامعقول في الأعداد، فإنا إذا اخذنا مثلثاً قائم الزاوية متساوي الساقين، ثم قدرنا ان أحد هذين الساقين هو الوحدة فإن الوتر يساوي 27؛ وفي هذه الحالة قد اضطررنا الى أن نستخرج وتر هذا المثلث على أنه عدد لا متناه، أي أنه عدد أصم. وهذا قد يدعونا إلى القول بأن مثل هذه النظرية - إن كان حقاً قال بها فيثاغورس - قد أتت من تأثره بالروح الشرقية؛ وكان فيثاغورس - كما سنرى فيما بعد - قد خضع خضوعاً كبيراً للروح الشرقية.

إذا انتقلنا من الرياضيات إلى الفن وجدنا أن المثل الأعلى للفن اليوناني هو في النحت، لأن النحت يمثل شيئاً ساكناً، كما أننا لا نجد في هذا الفن فكرة المنظور لأنها فكرة توحي باللانهائية.

وإذا انتقلنا إلى الفلسفة، وجدنا أن الروح اليونانية لم تستطع أن تتصور الزمان والمكان على أنهما لا نهائيان. وكذلك الحال في الدين، لم يكونوا يتصورون الله كما تصورته المسيحية فيما بعد، بحسبانه لا نهائياً أو هو اللانهائي، بل كانت تمثل الآلهة على صورة إنسانية، أي على صورة نهائية (على أساس أن الإنسانية متناهية).

الانسجام

الخاصية الثانية التي تمتاز بها الروح اليونانية هي خاصية الانسجام، وهي الخاصية الرئيسية لهذه الروح، والتي تعبر عنها لفظة إبولونية. فإذا ما بحثنا الآن في المظاهر المختلفة للحياة الروحية، نجد تأثير هذه الفكرة باستمرار في كل ناحية من نواحيها: فنجده أولاً في الرياضيات من حيث أنهم - أي اليونانيين - كانوا ينظرون إلى النقطة في الهندسة بحسبانها شيئاً منسجماً، نظراً إلى أنه إذا ارتكز عليها يمكن بالفرجار أن ترسم أشكالاً جملة. وثانياً بالنسبة إلى النقطتين من حيث أن المستقيم الواصل بينهما هو أقصر خط يصل بين الاثنين. كذلك الحال في الثلاث نقط، التي ليست على خط واحد، فإن لها محلاً هندسياً واحداً هو المحيط. فإذا ما انتقلنا من الهندسة إلى الحساب، وجدنا أنه لم يكن يعنيهم من العدد 10 مثلاً أنه مفيد من حيث العد، لأن الوحدة العشرية هي الأساس في كل عد، بل كان ينظر إلى هذا العدد نظرة خاصة، لإنهم كانوا يرون أنه يشتمل على خصاثص ثلاث تدل على الانسجام: أولاً، لأنه يجوي مقداراً متساوياً من الأعداد الأولية والأعداد غير الأولية؛ وثانياً، لأننا لو جمعنا الأعداد الأربعة الأولى لوجدنا أنها تساوي عشرة؛ وثالثاً، لأن به من الأعداد الزوجية قدر ما به من الأعداد الفردية. لهذه الخصائص الثلاث كان اليونانيون يعنون عناية خاصة بالعدد 10 - فالغاية إذا أو المثل الأعلى للرياضيات عند اليونانيين - كما قال بيير بوترو - هو الانسجام أي أنهم لم يكونوا يعنون من الرياضيات إلا بما فيه انسجام. ومن هنا يمكننا أن نفهم الصلة القوية التي وضعوها بين الأعداد والوجود، كما يظهر ذلك جلياً في فلسفة فيثاغورس. وذلك لأنه لما كانت الأعداد، في نظرهم، هي المثل الأعلى للانسجام، ومن حيث أن الوجود - من ناحية أخرى - لا بد أن يفهم من جهة الانسجام، فلا بد أن تكون ثمت رابطة أولية بين الأعداد والوجود. والمغالاة في تقدير هذه الرابطة تؤدي حتماً إلى القول بأن الوجود أعداد، كما قال الفيثاغوريون.

ومن هنا نستطيع أن نفهم الفارق الكبير بين تصور الفيثاغورين للوجود، بوصفه أعداداً، والتصورات الأخرى التي قد تقول بهذا، والني يشير بعض علماء الاجتماع إلى وجودها لدى بعض القبائل البدائية الهمجية. كما أشرنا إلى هذا من قبل.

وهذه الفكرة تتمثل في الفن بأجلى مظاهرها، فالانسجام بين الأجزاء هو المثل الأعلى الذي ينشده الفنان اليوناني، وسيظهر هذا جلياً عند كلامنا عن خصائص التراجيديا اليونانية والمعبد الدوري هو أوضح مثال لتجلي الانسجام في هذا الفن.

وفي الفلسفة اليونانية نرى فكرة الانسجام قد سادت كل التفكير اليوناني، وكل فيلسوف يحاول أن يحقق فكرة الانسجام في كل مذهب يقول به وكل نظرية يضعها. ففي الأخلاق نجد فضيلة الاعتدال هي الأولى والرئيسية. ومعنى هذه الفضيلة الانسجام بين مختلف قوى النفس. وكذلك الحال في الصورة التى يضعها المفكرون للكون، يلاحظ فيها دائماً فكرة الانسجام. ولهذا أدخلوا، منذ زمن مبكر، فكرة العقل بوصفه المنظم للفوضى التي كان العالم عليها في الأصل. وفكرة النظام هذه، بحسبانه موجوداً في الكون، يعبر عنها أجلى تعبير في الكلمة التي تدل على الكون عند اليونانين، وهي κόσμος (كوسموس). فالمعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة هو النظام، ومن هذا المعنى انتقلت فأصبحت دالة على الكون نفسه، على أساس أنه تحقيق النظام في أجلى صوره.

العلاقة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر

كل حضارة تنشاً بأن يقوم ثمت تبادل بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية، بين الإنسان وبين الطبيعة، بين ما يسمونه العالم الأصغر وما يسمونه العالم الأكبر، وعلى أساس هذا التبادل بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية تكون الصورة التي تتخذها حضارة ما من الحضارات. ومن هنا فلا بد لنا، لكي نفهم جوهر الحضارة اليونانية ونستطيع أن نتبني الخصائص الذاتية للروح اليونانية، نقول إنه لا بد لنا أن نتحدث عن العلاقة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، كما تصورتها الحضارة اليونانية.

وهنا نلاحظ أن هذه العلاقة مرتبطة بالصفة الأساسية التي قررناها من قبل وهي صفة الانسجام، تلك التي كانت الروح اليونانية تنشدها في كل ما تحاول تفهمه أو عمله. وذلك تابع بالضرورة لخصائص الروح الأبولونية كما قدرناها، ولهذا فإنا نرى أن الصلة بين الطبيعة الخارجية الإنسانية هي صلة الانسجام، وأنه ليس ثمت تعارض بين كلتا الطبيعتين. ولكن يجب ألا نفهم من هذا أن ذلك الانسجام كان على حساب إحداهما دون الأخرى، وإنا كان ذلك التوفيق توفيقا حقيقياً يقوم عل أساس أن لكتا الناحيتين حقها في النظر والعمل: فلم تكن الصلة إذا بين الاثنين صلة عدم تفرقة مطلقة، كما هي الحال لدى الروح الشرقية.

فهذه الروح الأخيرة كانت تصور الطبيعة الخارجية على أنها كل شيء، محاولة إفناء الطبيعة الداخلية إفناء تاماً في تلك الطبيعة الخارجية، وإنما لاحظ اليونانيون كلتا الناحيتين: فالروح اليونانية هي أول روح تحررت من نير الطبيعة الخارجية. ومعنى هذا أنها في محاولتها إيجاد فلسفة أو فن او علم، حاولت دائماً أن تؤكد كيانها بإزاء الطبيعية الخارجية، حتى إنها اضطرت إلى النظر إلى الطبيعة الخارجية على أنها مماثلة في صورتها للطبيعة الداخلية الإنسانية. فالنظرة إلى الكون والنظرة إلى الحياة العملية والنظرة إلى الدين - كل تلك النظرات كانت الروح اليونانية تحاول فيها أن تتحرر من قيود الطبيعة الخارجية. فنراها في الدين مثلا تنزل الآلهة، الذين هم فوى طبيعية فوق الإنسان، إلى جبل الأولمب، وهذه الآلهة - كما سنرى فيما بعد - آلهة إنسانية صرفة تخضع لما يخضع له الإنسان، وتتأثر في وجودها بما يتأثر به الوجود الإنساني.

بيد أن هذا التحرر من الطبيعة الخارجية لم يصل إلى حد التعارض بين كلتا الطبيعتين والنزاع المستمر بين الواحدة منهما ضد الأخرى: كما سيكون الحال كذلك فيما بعد عند المسيحية. وإنما كان على هذه الروح اليونانية أن تجعل ثمت مجالاً في تصوراتها للطبيعة الخارجية إلى جانب الطبيعة الإنسانية، وفي هذا يقوم الفارق الضخم بين الروح اليونانية من جهة، والروح المسيحية والروح الغربية الحديثة من ناحية أخرى، فالروح المسيحية أولاً كانت تنظر إلى الصلة بين الإنسان والطبيعة، أو بين الروح والجسم - على حد تعبيرها - نظرتها إلى شيئين متعارضين متضاربين، وأن الخلاص هو بالقضاء على أحد الطرفين وهو هنا بالطبع الطرف الثاني.

كذلك الحال في الروح الغربية الحديثة؛ إذ نجد النضال شديداً بين كلتا الطبيعتين، وإن كان النضال قد انتهى إلى ما انتهت إليه الروح اليونانية من الجمع بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية، فإن الفارق بين موقف الروح اليونانية والروح الحديثة هو في أن ذلك كان صادراً طبيعياً عن الروح اليونانية، بينما صدر عن الروح الغربية الحديثة تبعاً للنضال الذي قامت به ضد الروح المسيحية. وتبعاً لهذا نشاهد أن الأخلاق ستكون أخلاقاً طبيعية، وسيكون المثل الأعلى للفضيلة كما هو عند أرسطو في الانسجام بين مقتضيات الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية. فالأخلاق ستكون أخلاقاً طبيعية من ناحية، روحية من ناحية أخرى.

وهذا الازدواج في الطابع ظهر في كل الأخلاق اليونانية، حتى في العصور التي تقهقرت فيها الروح اليونانية أمام الروح الشرقية المعارضة لها. فالأخلاق، سواء عند أبيقور وعند الرواقيين، لم يكن في استطاعتها أن تتحرر نهائياً من الطبيعة الخارجية أو من الطبيعة الإنسانية، بل كان لا بد لها أن تحسب حساباً لكلا الطرفين.

وهذا الذي نراه في الأخلاق نراه في السياسة أيضاً. والواقع أن الأخلاق والسياسة لم يكونا مفترقين الواحد عن الآخر، لأن اليوناني لم يتصور الطبيعة الخارجية بوصفها مجتمعاً عاماً يشمل إلى جانب شعبه شعوباً أخرى، وإنما اقتصر على شعبه، وجعل الصلة بينه وبين الشعب هي التي تحدد موقفه السياسي. وعلى هذا الأساس لم يكن في عصر الروح اليونانية الحقيقية تفرقة بين المدينة وبين العالم الخارجي؛ وإنما حدث هذا في العصر الذي انحطت فيه الروح اليونانية وخضعت للمؤثرات الشرقية، وذلك عند الرواقيين وعند أفلوطين.

وهذا الطابع الذي نراه في تصور اليونانيين للحياة الأخلاقية أو للسياسة يظهر بأجلى صوره في الفن اليوناني. فالفن اليوناني -كما يقول فشر - فن يجمع بين الصورة والمضمون، ولا يستطيع أن يفرق بين ما يشعر به الفنان في داخل ذاته وبين الصورة الخارجية الى سيعرض فيها هذا الذي يشعر به. وهو لم يكن يعبر مطلقاً إلا عن الأشياء التي تظهر أمامه في معرض خارجي يستطيع أن يحتوي بأكمله على المضمون الروحى الباطن الذي يريد أن يودعه هذه الصورة. وكان موقفه موقفاً هادئاً تجسيمياً، لأن الاضطراب أو موقف القلق الذي يقفه الفنان الحديث إنما هو ناشىء من عدم الانسجام بين المضمون الروحي الانفعالي أوالعاطفي، وبين الصورة التي استطاع بها أن يعبر عن هذا المضمون الباطن. ولهذا نرى اليونانيين لم يبرعوا إلا في الفنون التجسيمية، أو الفنون التي يتيسر فيها الجمع والتوفيق بين الطبيعة الخارجية، والطبيعة الإنسانية، أو بعبارة أوضح بين الصورة والمضمون الروحي.

لهذا لم يبرع اليونانيون في فنين رئيسيين لا يمكن مطلقاً أن يقوما إلا على أساس استخلاص الطبيعة الداخلية وحدها في مقابل أو في تعارض مع الطبيعة الخارجية. وهذان الفنان هما: الموسيقى ثم الشعر التراجيدي. وما وجد عندهم من هذين الفنين مختلف تمام الاختلاف عن طبيعة هذين الفنين كما تصورتهما الروح الغربية الحديثة. وذلك راجع إلى شيئين: الأول والرئيسي أنهما لا يقومان إلا على أساس حياة باطنة قوية غنية، وهذا ينطبق على كلا الفنين. والأمر الثاني هو أن الموسيقى تعتمد بالذات على فكرة اللانهائي وفكرة الصيرورة وذلك لأن الموسيقى في تعبيرها الأصلي إنما تعبر عن اللانهاية، لأنها لا تعبر عن هذه العاطفة الخاصة أو تلك الأخرى، وإنما هي تعبير عام عن إرادة الحياة كما هي، أي بوصفها شيئاً لا متناهياً.

أما في الفن التراجيدي، فإنه على الرغم مما هنالك من تراجيديات أو مآس عظيمة كماسي سوفوكليس فإنه يلاحظ ان الصراع الذي يقوم بين البطل وبين الطبيعة الخارجية ليس صراعاً بالمعنى الحقيقي، وإنما يخضع البطل للطبيعة الخارجية، فليس ثمت مجال للصراع: «فأوديب ملكاً» هو «أوديب في كولونا»، بينما نلاحظ في التراجيديات الحديثة أنها تقوم كلها على أساس صراع مستمر ونضال سجال بين البطل، أي بين الإنسانية، وبين القدر، أو الطبيعة الخارجية. فالملك لير وهملت لا وجود لهما في تلك المآسي إلا بكونهما في نزاع مستمر سجال مع القدر.

والخلاصة أن الصورة في الفن اليوناني كانت مساوية للمضمون، ولم يكن يوجد مضمون إلا وجدت معه الصورة التي تعبر عنه تعبيراً كاملاً. اي أنه كان ثمت توافق تام بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية.

عدم التفرقة بين الذات والموضوع

وطبيعي أن نجد جميع هذه الخصائص التي ذكرناها عن طبيعة الروح اليونانية في الفلسفة بوصف الفلسفة هي المظهر الحقيقي الواضح الذي تتجلى فيه روح كل شعب أو روح كل حضارة: فالفلسفة هي الشعور الواضح بالروح القوية السائدة في شعب ما من الشعوب أو في حضارة ما من الحضارات. والخاصية الرئيسية التي استخلصناها فيما يتصل بطبيعة الروح اليونانية هي التوفيق والانسجام بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية، أي إعطاء كل قسم من هذين القسمين نصيبه في النظرة إلى الحياة. وهذه النزعة الموضوعية - على حد تعبير هيجل - التي تتأمل الأشياء تأملا خالصاً بصرف النظر عن أن تكون مخلوقة للوعي الإنساني أو للذات، نقول إن هذه الصفة تطبع الفلسفة اليونانية بطابعها إلى حد بعيد. إذ نشاهد أن الفلاسفة اليونانيين كانوا ينظرون إلى الأشياء على أنها أشياء حقيقية طالما كان العقل يؤمن بذلك؛ أي أن التفكير الفلسفى اليوناني اتجه مباشرة إلى الأشياء كما هي، صارفاً النظر، إلى حد بعيد، عن الصلة بين إدراك الأشياء والأشياء كما هي.

وهذا هو الاختلاف الضخم بين نزعة الفلسفة اليونانية ونزعة الفلسفة الحديثة. ففكرة الذاتية - بمعنى أن للذات النصيب الأكبر في تصورنا للأشياء الخارجية - هذه الفكرة كانت غير موجودة لدى الفلاسفة اليونانيين، أو على الأقل لم تكن واضحة كل الوضوح عندهم.

هذه الخاصية نفسها تقودنا إلى خاصية أخرى، وتلك هي أنه تبعاً لما كان عليه الفلاسفة اليونانين من عدم التفرقة بين الذات والموضوع أو بين إدراكنا للطبيعة الداخلية والطبيعية الخارجية كما هي؛ أي إنكار القدر الكبير الذي للوعى في تصور الأشياء وتصور وجود الأشياء - نقول إنه تبعاً لذلك لم يعن الفلاسفة اليونانيون بمشكلة المعرفة بمعناها الحقيقي، وهذا طبيعي ومفهوم، أولاً بسبب الخاصية الرئيسية التي ذكرناها من قبل، وهي التوفيق والانسجام بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية. وثانياً لأن اليونانيين لم تكن معرفتهم بعد كاملة، بل كانت معرفة ناقصة تقوم على تجربة ضئيلة وحياة روحية غير راقية ومجموعة من المعلومات لم تكن كافية. فلم يكن لديهم إذا - كما سيكون لدى روح الفلسفة الحديثة من بعد - محصول ضخم من المعلومات الخاصة بالأمور العلمية. ولم يكن لديهم مذهب لاهوتي (ديني) مثل هذا الذي كان على الروح الحديثة من بعد أن نقف بإزائه موقفاً خاصاً. فموقف النقد بالمعنى الحقيقى لكلمة النقد -كما هو عند كنت (أي امتحان العقل الإنساني من حيث قدرته على الإدراك وإلى أي مدى تكون هذه القدرة) موقف النقد هذا، لم يكن ميسوراً إلا إذا كانت هناك من ناحية طائفة كبيرة من المعلومات العلمية، ومن ناحية أخرى تجربة روحية خلقها الدين. وفي كل عصر وجدت فيه هذه النزعة إلى النقد كان ذلك إيذاناً بأن ثمت ثورة على العلم كما وصل، وعلى الدين كما صُور حتى ذلك الحين.

ففي الفلسفة اليونانية نفسها لم تقم النزعة إلى النقد إلا حين تكونت معلومات عديدة على يد الفلاسفة السابقين على سقراط. وحينئذ بدأت الروح الجديدة، روح التنوير، تثور على ما وصل حتى الأن أو على التجربة الروحية الدينية كما نقلت إليهم، وهذا الدور قد قامت به السوفسطائية.

فلم يكن لنا إذاً أن نتوقع من الفلسفة اليونانية أن تقف هذا الموقف، موقف من ينظر الى الصلة بين الذات المدركة والموضوع المدرك على أنها صلة تنازع، ومن هنا يلاحظ أن الفلسفة الحديثة قد بدأت بأن شك بيكون في العلم كما وصل إليه، وشك ديكارت في المعرفة الإنسانية بوجه عام، وخصوصاً كما تصورها رجال العصور الوسطى أي كما صورتها الحياة الدينية. وهذا الشك الديكارتي إذاً شك شامل تام، يشمل الحقيقة كلها، ومثل هذا الشك لا يمكن أن يقوم إلا حين يدرك الانسان إدراكا حقيقياً واضحاً ان ثمت تفرقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك، اي بين الوعي أو الطبيعة الداخلية، وبين الكون أو الطبيعة الخارجية.

حقاً إن أرسطو قد عنى بالبحث في كل المعارف الإنسانية، أي في كيفية تكوين المعاني والتصورات أو المفهومات عن طريق حس من المحسوسات. إلا أنه لم يبين الشروط التي يكون بها المدرك صحيحاً، أي أنه لم يبحث في نظرية المعرفة بحثاً حقيقياً، يتجه أولاً وبالذات إلى بيان الشروط التي بها، وبها فحسب، تكون المعرفة صحيحة.

فمثل هذه المسائل لم توجد إلا في العصر الحديث ابتداء من لوك وهيوم، وهي التي توسع فيها كنت من بعد ووضعها في أعلى صورة بلغتها. ومن أجل هذا، أي بسبب أن الفلاسفة اليونانيين لم يبحثوا في شروط المعرفة الصحيحة نجدهم كثيراً ما يستنتجون استنتاجات سريعة دون أن يكون في سير البرهان ما يسمح بهذا الاستنتاج. وعلى أساس ما يستنتجون يضعون من المذاهب ما يشاؤ ون، فتجاربهم إذا كانت تجارب ناقصة، ومعرفتهم لم تكن معرفة قائمة على الاستدلال الحقيقي الذي يمتاز بالدقة. ولهذا يمتاز الفلاسفة المحدثون وتمتاز الروح الحديثة بعنايتها بهذه التفرقة الدقيقة، بين الذات المدركة والأشياء المدركة. ولذا فإن المثالية الحقيقية لم توجد بمعناها الحقيقي إلا في العصر الحديث.

حقاً إن رجلا مثل أرسطو حينما كان يرد على السابقين أو يناقش الفلاسفة الأفلاطونيين، كان يستعمل أحياناً من البراعة والذكاء أكثر ما فعله الفلاسفة المحدثون. لكن هذا راجع إلى ضعف أو نقص في الفلاسفة المحدثين لا إلى طبيعة روح الفلسفة الحديثة نفسها. فإن روح الفلسفة الحديثة بمعناها العام هي النقد والتفرقة المطلقة بين الذات التي تدرك والأشياء التي هي موضوع الإدراك.

عدم التفرقة بين الروح وبين الجسم

وهذه الخاصية الثانية تقودنا إلى وضع خاصية ثالثة، هي في الواقع المقابل الوجودي للخاصية الثانية. فالتفرقة بين الذات وبين الموضوع في نظرية المعرفة يقابلها في نظرية الوجود التفرقة بين الروح وبين الجسم. وهنا نلاحظ كما لاحظنا فيما يتصل بالذات والموضوع أن التفرقة بين الروح والجسم لم تكن تفرقة واضحة قوية عند الفلاسفة اليونانيين في تصورهم للكون. فنحن نجد من جهة أن الفيلسوف اليوناني أنكساغورس قد فرق بين العقل وبين المادة، كما نلاحظ أيضاً أن أفلاطون قد عنى دائماً بأن يفرق بين الحياة الروحية والحياة الجسمية، بين عالم غير الحس وعالم الحس، بين المثل أو الصور وبين الأشياء. كذلك الحال عند أرسطو ؛ فعنده تصل هذه التفرقة إلى قمتها.

لكن، ومع هذا كله، نلاحظ من جهة أخرى أنهم لم يكونوا يفرقون تفرقة واضحة بين تصورهم للطبيعة الخارجية على غرار الروح، وتصورهم للروح على غرار الطبيعة الخارجية. فهم كانوا يفسرون الظواهر النفسية تفسيراً طبيعياً صرفاً، كما أنهم كانوا يتصورون الطبيعة من ناحية أخرى بحسبانها كائناً حياً. وعلى هذا النحو نشاهد أولاً أن الفلاسفة السابقين على سقراط كانوا من أتباع المذهب الذي يقول بأن المادة حياة - وهو ذلك المذهب الذي يؤمن بإن الطبيعة أو الكون ليس مادة فحسب بل هو مادة حية. وهذا المذهب قال به، الى جانب السابقين على سقراط، أفلاطون ثم الرواقيون الذين قالوا إن الكون كائن حي، بينما قال أفلاطون إن الكواكب حية. ومن ناحية أخرى تشاهد أن الظواهر النفسية كانت تفسر تفسيراً مادياً صرفاً، ليس فقط عند الذريين والأبيقوريين، بل أيضاً عند كبار الفلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو. فالأولون كانوا ينظرون إلى الحس مثلاً نظرة مادية صرفة على أساس أنه تقابل الذرات. كذلك نلاحظ أن أفلاطون لم يكن ينظر إلى الصور على أنها أشياء ذهنية، بل كان يتصورها باستمرار تصوراً وجوديا على أنها اشياء لها وجود خارجي، وهذه هي النزعة إلى التجسيم التي رأيناها من قبل واضحة في الفن.

كذلك الحال في الأخلاق - وقد عرضنا لذلك من قبل - نرى الفلاسفة اليونانيين لم يكونوا يفرقون بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية. فالأخلاق واحدة: أخلاق الفرد هى أخلاق الفرد بوصفه عضواً في المجتمع، وأخلاق المجتمع هي أخلاق الفرد بوصف أنه وحدة تضم عدة أفراد. ومن هنا لم يكن لديهم أدنى تفرقة - أو على الأقل كان ذلك في بدء الفلسفة اليونانية - بين السياسة والأخلاق. وأرسطو الذي يحاول أن يفرق بينهما بعض التفرقة لم يستطع أن يتخلص من هذا الطابع الذي امتازت به الفلسفة اليونانية كلها - في كتابه "في السياسة". إذ نراه يتعلق بنفس الأشياء التي توحي بالروح الفردية من جهة، والروح الصادرة عن المجتمع من جهة أخرى. فالمشاهد من هذا كله إذا أن الخاصية الرئيسية التي وجدناها متمثلة في كل مرافق الحياة الروحية في الحضارة اليونانية - وهي خاصية عدم التفرقة بين العالم الخارجي والعالم الداخلي - نجده امتمثلة أجلى تمثل في الفلسفة اليونانية

انظر أيضاً