فلسفة واقعية
الواقعية الفلسفية (Philosophical Realism) المعاصرة هي الإيمان بأن واقعنا، أو جزءًا منه، مستقل وجوديًا عن المخططات التصورية والممارسات اللغوية والمعتقدات وغيرها. يمكن التحدث عن الواقعية من منطلق العقول الأخرى والماضي والمستقبل والعموميات والوحدات الرياضية (مثل، الأعداد الطبيعية) والفئات الأخلاقية والعالم المادي والفكر. ويمكن أيضًا تعزيز الواقعية بشعور غير مشروط، وفي هذه الحالة، فإنها تؤكد على وجود عالم مرئي منفصل عن العقل، في مقابل المثالية والشكوكية والذاتوية. ويذكر الفلاسفة الذين ينادون بالواقعية أن الحقيقة تتشكل في تطابق العقل مع الواقع.
يميل الواقعيون إلى الاعتقاد بأنه مهما كان ما نؤمن به الآن، فهو مجرد مقاربة من الحقيقة وأن كل ملاحظة جديدة تقربنا أكثر من فهم الواقع. وبالمنظور الكانطي، فإن الواقعية هي نقيض المثالية. وبالمنظور المعاصر، فإن الواقعية عكس اللاواقعية، وخصوصًا في فلسفة العلوم.
تعريف الواقعية
يقترن استخدام مصطلح الحياة الواقعية فى الحياة اليومية فى العادة بالحذر أو التواضع فى المتطلعات، وهو عكس المثالية أو اليوتوبيا. وتستخدم هذه الكلمة أيضا فى وصف عدد من الاتجاهات فى الأدب والفنون التصويرية التى تهدف إلى تصوير الحقيقة تصويراً دقيقاً. وكل استخدام من هذه الاستخدامات يتضمن تقابلاً أو تناقضاً بين الفكر والخيال الإنسانى من ناحية، والحقيقة الخارجية المستقلة عن العقل من الناحية الثانية. وفكرة أن الحقيقة ذات سلطة معرفية أو معيارية على العقل تكون واضحة بصفة عامة هنا. وتشير الواقعية فى الفلسفة إلى التأكيد على الوجود المستقل للحقيقة بعيداً عن أفكارنا أو معتقداننا عنها. ويتركز الجدل بصفة خاصة فيما يتعلق بمسألة ما إذا كانت العموميات (مثل الخواص الطبيعية كالليونة والحمرة) توجد فى ذاتها، أم أنها مجرد وظائف لتعبيراتنا اللغوية (الفلسفة الاسمية).
الواقعية، بوصفها مذهباً فلسفياً، تضاد المثالية idéalisme. فعن السؤال: «ما هو الموجود؟» تجيب المثالية: «الموجود هو إما الفكرة أو العلاقة مع الأفكار، أو النشاط البنائي الفكري الذي يقوم به العقل»؛ وتجيب الواقعية: «الموجود شيء إما روحي (لأنه توجد واقعية روحية) أو مادي».
أما الواقعية الساذجة فهي الموقف التلقائي للإنسان، الذي يدرك الأشياء ويعتقد أنها موجودة كما يدركها. لكن العلم يبدأ بالقضاء على هذه الواقعية الساذجة. غير أنه مع ذلك يقوم على مصادرتين:
- الأولى هي أنه «يوجد عالم واقعي مستقل عنا».
- والثانية هي أن «العالم الخارجي لا يمكن معرفته بطريق مباشر، بل يدرك فقط ابتداء من إدراكات الحواس.»
ولهذا لا يمكن القول بوجود استمرار واتصال بين العلم والإدراك الحسي، بل ثم نوع من القطيعة، ومهمة العلم هي تصحيح معطيات الحس وتهذيبها.
معلومات تاريخية
يظهر أقدم استخدام لمصطلح «الواقعية» في تراجم القرون الوسطى الدراسية واقتباسات الفلسفة اليونانية. ولكنها هنا واقعية أفلاطونية تطورت عن المناقشات التي أثيرت حول مشكلة العموميات. العموميات هي مصطلحات أو صفات يمكن تعميمها على أشياء عديدة، مثل «أحمر» أو «الجمال» أو «خمسة» أو «كلب». والواقعية في هذا السياق، هي نقيض المفاهيمية والمذهب اللفظي وترتأي وجود تلك العموميات بالفعل بشكل مستقل وسابق إلى حدٍ ما للعالم. وتشير الواقعية المعتدلة إلى وجود هذه العموميات، ولكن بقدر محدود فقط؛ حيث إنها مبرهنة في أشياء محددة، ولا توجد مستقلة عن ذلك الشيء المحدد. وتشير المفاهيمية إلى وجود العموميات، ولكن في العقل فقط، بينما يذكر المذهب اللفظي أن العموميات لا «توجد» مطلقًا، وأنها ليست أكثر من مجرد كلمات (flatus voci) تصف أشياءً محددة.
الواقعية الأفلاطونية
الواقعية الأفلاطونية هي مصطلح فلسفي يستخدم عادةً للإشارة إلى فكرة الواقعية من منطلق وجود العموميات أو الأشياء المجردة، وذلك من بعد الفيلسوف اليوناني أفلاطون (حوالي 427 ق.م - 347 ق.م)، وهو أحد تلاميذ سقراط. نظرًا لأن أفلاطون كان يعتبر العموميات أشكالاً مثالية، فإنه يطلق على هذا الموقف أيضًا بشكل التباسي اسم المثالية الأفلاطونية. ولا ينبغي الخلط بينها وبين المثالية، كما قدمها فلاسفة، مثل جورج بيركلي:؛ حيث إن التجريدات الأفلاطونية ليست مكانية أو مؤقتة أو عقلية، ولا تتوافق مع تركيز مثالية هذا الأخير على الوجود العقلي. وتتضمن الأشكال التي قدمها أفلاطون أرقامًا وأشكالاً هندسية؛ مما يجعلها نظرية واقعية الرياضيات، وتشمل أيضًا شكل الخير ليجعلها أيضًا نظرية واقعية أخلاقية.
مدرسة واقعية الإدراك الفطري الأسكتلندية
واقعية الإدراك الفطري الأسكتلندية هي مدرسة فلسفية تحاول الدفاع عن الواقعية الساذجة في مقابل المفارقة الفلسفية والشكوكية، وتجادل بأن مسائل الإدراك الفطري تقع في متناول الفهم المشترك، حتى أن معتقدات الإدراك الفطري تحكم حيوات وأفكار هؤلاء الذين يتمسكون بمعتقدات مخالفة للإدراك الفطري. وتتأصل هذه المعتقدات في أفكار أبرز أعضاء مدرسة واقعية الإدراك الفطري الأسكتلندية توماس ريد وآدم فيرغسون ودوغالد ستيوارت خلال عصر التنوير الأسكتلندي في القرن الثامن عشر وازدهرت في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في أسكتلندا وأمريكا.
ويمكن العثور على جذورها في ردود هؤلاء الفلاسفة من أمثال جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم. وكان المنهج ردًا على «النظام المثالي» الذي بدأ بمفهوم ديكارت عن قيود التجربة الحسية وقاد لوك وهيوم إلى الشكوكية التي شككت في صحة كل من الدين ودليل الحواس. وجد علماء واقعية الإدراك الفطري أن الشكوكية غير منطقية ومخالفة تمامًا للتجربة الفطرية لدرجة تجعل من اللازم رفضها. وذكروا في دروسهم أن الخبرات العادية تقدم إثباتًا مؤكدًا بديهيًا على وجود الذات والأشياء الحقيقية التي يمكن رؤيتها والشعور بها، وكذلك «مبادئ أولية» مؤكدة يمكن وفقها وضع الأسس للمعتقدات الأخلاقية والدينية. وقد نادى بمبدأها الأساسي مؤسس المدرسة وأعظم شخصياتها، توماس ريد.
الانتقادات
هناك عدد من الآراء ووجهات النظر المتشككة التى تتحدى الواقعية كنظرية ميتافيزيقية. ففى كل من الفلسفة الإغريقية الكلاسيكية، وفى مطلع العصر الحديث، نجد مثل هذه الآراء المتشككة تبداً عادة بالاعتراض على خبراتنا بهذه الظواهر باعتبارها أحلاماً أو أوهاماً أو هذياناً تقودنا إليه حواسنا. ولأنه من المؤكد أن هذا الأمر يحدث لنا أحياناً، فكيف نعرف إذن أنه لا يحدث كذلك بصفة دائمة؟، وكيف يمكن أن نتأكد من أن ما يبدو لنا أننا نلاحظه فى موقف معين لا يعدو أن يكون توهماً؟. وقد تدعم هذا النقد مؤخراً بتحد آخر مناظر يشكك فى عدم قدرتنا على توفير إطار مرجعى غير مشكوك فيه بالنسبة للحقيقة الخارجية بعيداً عن تعبيراتنا اللغوية. وبما أنه لا يتوافر لدينا أى صلة أو تواصل يالعالم إلا ويتوسطه الفكر واللغة، فكيف لنا أن نختبر - بشكل مستقل - صدق ما نقوله أو نفكر فيه؟.
ومثل هذه الآراء المتشككة لا نؤدى بالضرورة إلى إنكار وجود الحقيقة وجوداً مستقلاً عن الفكر. فمن الممكن أن نقر بوجود هذه الحقيقة، مع الاعتراف بأننا لا نستطيع معرفة طبيعتها (أو ربما لا نعرف أننا نعرفها). وغالباً ما تنزلق بنا هذه الشكوك المعرفية (الإبستمولوجية) إلى نوع من الظاهراتية والأنانة Solipsism (أى أنه لا وجود لشئ غير الأنا)، وغيرها من أشكال إنكار وجود الحقيقة وجودا مستقلا عن العقل أو الفكر أو اللغة.
ويميل أصحاب الاتجاه الإمبيريقي في فلسفة العلوم إلى الشك فى وجود الحقائق الكلية (أو الكليات) (التى يكون أغلبها غير قابل للملاحظة)، والتى تتخذها النظريات العلمية كمسلمات. إذ تعتبر وجهة النظر هذه أن المفاهيم الخاصة بتلك الحقائق الكلية هى مجرد أوعية ملائمة لتلخيص الملاحظات الممكنة أو الواقعية أو أنها تمثل أسساً للتنبؤ. ومن ناحية أخرى فإن أصحاب الاتجاه الواقعى العلمى (الذى يرى أن للمادة وجودا حقيقيا مستقلا عن إدراكنا العقلى لها) يرون أن تلك النظريات يجب فهمها على أساس أنها تدعى وجود تلك الحقائق الكلية التى نفترض وجودها (فى صورة جزيئات ذرية أو فيروسات ارتجاعية أو أى صورة أخرى). وهذه الادعاءات قد تكون - بطبيعة الحال- حقيقية أو زائفة. ويفترض العديد من علماء الاجتماع المعارضين لذلك أن أصحاب الاتجاه الواقعى العلمي يلتزمون بالقبول غير الممحص بالادعاءات المعرفية للعلم. ولكن الأمر ليس كذلك. فالأصح أنهم يؤمنون بتفسير تلك الادعاءات بأنها ادعاءات حول طبيعة الحقيقة التى توجد وتؤدى دورا مستقلا عن معارفنا واعتقاداتنا عنها. وقد يكون أصحاب الاتجاه الواقعى متشككين مثل غيرهم فى مدى صدق تلك الادعاءات. والمشكلة التى تواجه معارضى الاتجاه الواقعى هى كيف يجعلون موضوع وهدف العلم أمرا له معنى بصفة عامة، وماذا يعنى الأمر حينما يتضح أن ادعاءات المعرفة العلمية أضحت شيئاً زائفاً بصفة خاصة.
إحياء الاتجاه الواقعي
يعد روى باسكر Bhaskar أبرز الشخصيات البريطانية الرائدة فى إحياء الاتجاه الواقعي فى مجال ما وراء النظرية فى الفلسفة والعلوم الاجتماعية فى أواخر القرن العشرين. فقد قام مؤخراً هو وزملاؤه بتطوير شكل من الواقعية العلمية (أطلق عليها مصطلحات مختلفة مثل الواقعية النقدية أو الواقعية المتعالية)(أي القائمة على القول بأن اكتشاف الحقيقة يتم بدراسة عمليات الفكر وليس عن طريق الخبرة أو التجربة)، والذى تم تقديمه كيديل شامل لكل من الإمبيريقية ونزعة الاتفاق العرفية فى فلسفة العلوم. (ومصطلح "النقدية" فى وصف الواقعية هنايهدف إلى الإشارة إلى أن طريق المبحث عن المعرفة يقود بالفعل، أو يجب أن يقود، إلى التحرر). فأنشطة مثل إجراء التجارب العلمية وتطبيق المعرفة العلمية ينظر إليها باعتبار ها خرقاغيرذكى للافتراض القائل بأن العالم مستقل عن مدركاتتا واعتقاداتنا عنه. ومن الضرورى أيضا أن نميز بين المقوى المسببية الحقيقية والميكانيزمات التى يسعى من خلالها العلم إلى كسب المعرفة، وبين المتتابع الفعلى للأحداث التى يحدثها نشاط هذه الميكاتيزمات - وبالتالى فإنه يجب التمييز بين ماهو فعلى وما هو إمبيريقى ا أى المجموعة الصغيرة والفرعية من الأحداث التى يلاحظها شخص ما. ويرى باسكر أن هذه النظرة إلى العلم تنطبق على كل من العلوم الطبيعية و الإنسانية بطريقة قادرة على أن تأخذ فى اعتبارها بشكل كلى جميع الاختلافات المجذرية بين طبيعة موضوعات كل منها. ومن أهم مؤلفات باسكر العديدة كتابه نظرية واقعية فى العلم (الذى صدر فى طبعته الثانية عام 1978)، وإمكانية الممذهب الطبيعى الصادر عام 1979، والواقعية العلمية والتحرر الإنسانى الصادر عام 1986، واستخلاص الحقيقة الصادر عام 1989.