جورج بيركلي

جورج باركلي (بالإنجليزية: George Berkeley) (12 مارس 1685 - 14 يناير 1753) الشهير بلقب «الأسقف باركلي» (أسقف كلوين)، فيلسوف أيرلندي كان إنجازه الرئيسي تطوير نظرية أطلق عليها اسم «اللامادية» (أشار إليها آخرون فيما بعد باسم «المثالية الذاتية»). تنكر هذه النظرية وجود الجوهر المادي، إذ تؤكد بدلًا من ذلك على أن الموجودات المألوفة -مثل الطاولات والكراسي- ما هي إلا أفكار في عقول من يدركونها حسيًا، وبالتالي فليس بإمكانها أن توجد دون أن تُدرَك. يُعرف باركلي كذلك بنقده للتجريد، وكان يتخذ ذلك مقدمةً منطقيةً هامةً في مناقشته لصالح اللامادية.

يتشارك باركلي في التهجئة الإنجليزية لاسمه مع مدينة بيركلي في ولاية كاليفورنيا (سُميت تيمنًا به)، التي تشتهر بوجود «جامعة كاليفورنيا، بيركلي» فيها، مع أخذ الاختلاف الطفيف في اللفظ بينهما بعين الاعتبار: (الطريقة الدقيقة للفظ اسمه هي «باركليه - Barclay»).

في عام 1709، نشر باركلي أول أعماله الرئيسية «مقال نحو نظرية جديدة للإبصار» الذي ناقش فيه حدود الإبصار البشري وقدّم النظرية التي تقول إن المدرَكات الحقيقية للبصر ليست العناصر المادية، بل الضوء واللون. ومهّد هذا المبدأ لعمله الفلسفي الرئيسي الأكبر «بحث في مبادئ المعرفة الإنسانية» المنشور في عام 1710، والذي أعاد كتابته -عقب ما لاقاه من سوء تلقٍ- على شكل حوار نشره تحت عنوان «المحاورات الثلاث بين هيلاس وفيلونوس» في عام 1713.

في هذا الكتاب، قُدمت آراء باركلي على لسان شخصية فيلونوس (الذي يعني اسمه اليوناني «مُحب العقل»)، بينما جسّد هيلاس (الذي يعني اسمه اليوناني «المادة») مناوئي المفكر الأيرلندي، ومن بينهم جون لوك على وجه الخصوص. جادل باركلي ضد مبدأ الفضاء والزمن والحركة المطلقة لإسحاق نيوتن في عمله المعنون «في الحركة»، المنشور عام 1721، وكانت الحجج الواردة فيه حجر أساس مهّد لآراء ماخ وأينشتاين. وفي عام 1732، نشر كتاب «السيفرون: أو الفيلسوف الصغير»، وهو دفاع تبريري مسيحي في وجه المفكرين الأحرار. ثم نشر في عام 1734 كتاب «المحلل» الذي كان بمثابة نقد لأسس حساب التفاضل والتكامل، وكان له تأثير في تطور الرياضيات.

ويستهلّ باركلي آخر أعماله الفلسفية الرئيسية «سيريس» (1744)، بالدفاع عن الاستخدام الدوائي لماء القطران، ثم يتابع ليناقش سلسلة واسعة من المواضيع تتراوح بين العلوم والفلسفة والإلهيات. تزايد الاهتمام بأعمال باركلي بعد الحرب العالمية الثانية لأنه تطرق إلى العديد من القضايا ذات الأهمية العالية بالنسبة إلى الفلسفة في القرن العشرين، مثل مشاكل الإدراك الحسي والفرق بين الخصائص الأولية والثانوية وأهمية اللغة.

سيرته

أيرلندا

وُلد باركلي في مسكن عائلته، قلعة ديسارت، الواقعة قرب توماستاون في مقاطعة كيلكيني بأيرلندا، وكان الابن البكر لويليام باركلي، سليل عائلة باركلي النبيلة. المعلومات المتوفرة عن والدته شحيحة. وقد تلقى باركلي تعليمه في مدرسة كيلكيني الثانوية ثم ارتاد كلية الثالوث في دبلن، حيث اختير ليحوز على منحة دراسية في عام 1702، فحصل على درجة البكالوريوس في عام 1704 ثم أتم درجة الماجستير في عام 1707. وبقي في كلية الثالوث بعد حصوله على الشهادة، فعمل فيها مدرسًا ومحاضرًا في اللغة اليونانية.

كانت أولى منشوراته تدور حول الرياضيات، لكنّ أول عمل لفت الانتباه إليه كان مؤلَفه المعنون «مقال نحو نظرية جديدة للإبصار» الذي نُشر لأول مرة عام 1709. يبحث باركلي في المقال المفاهيم البصرية المتعلقة بالمسافة والمدى والموضع، ومشاكل الرؤية واللمس. ورغم أن هذا العمل قد أثار جدلًا كبيرًا آنذاك، فإن الاستنتاجات التي توصل إليها مقبولة اليوم بوصفها جزءًا راسخًا من نظرية البصريات.

وكان المؤلَف الثاني الذي قام بنشره هو «بحث في مبادئ المعرفة الإنسانية» في عام 1710، الذي لاقى نجاحًا عظيمًا ومنحه سمعةً ما تزال باقية إلى يومنا هذا، بالرغم من أن قلة من الناس هم من تقبلوا نظريته التي تقول «لا شيء يوجد خارج العقل». تبع ذلك عام 1713 عمله المعنون «المحاورات الثلاث بين هيلاس وفيلونوس» وفيه قدّم لمنظومته الفلسفية التي يقول مبدؤها الأساسي إن العالم -كما يتمثل لحواسنا- يعتمد من أجل وجوده على أن يُدرَك.

في ما يتعلق بهذه النظرية، فإن «بحث في مبادئ المعرفة الإنسانية» يطرح شرحًا لها بينما يقدم «المحاورات الثلاث بين هيلاس وفيلونوس» دفاعًا عنها، وكان التصدي للمادية السائدة في عصر باركلي أحد أهدافه الرئيسية. ولقد قوبلت النظرية بالسخرية على نطاق واسع، في حين أن أشخاصًا -مثل صموئيل كلارك وويليام ويستون اللذين أقرا بما يملكه باركلي من «عبقرية استثنائية»- كانوا مقتنعين مع ذلك بخطأ مبادئه الأولى.

إنجلترا وأوروبا

بعد ذلك بوقت قصير، زار باركلي إنجلترا واستُقبل داخل دائرة أديسون وبوب وستيل الاجتماعية. في الفترة التي امتدت بين عامي 1714 و1720، تخللت مساعيه الأكاديمية فتراتٌ من التنقل الموسع ضمن أوروبا، شملت واحدة من أوسع رحلات الـ «غراند تور» في أنحاء إيطاليا على الإطلاق. في عام 1721، رُسِّم برتب كهنوتية في كنيسة أيرلندا إذ نال درجة الدكتوراه في اللاهوت، واختار مرة أخرى أن يبقى في كلية الثالوث في دبلن محاضرًا هذه المرة في اللاهوت واللغة العبرية. وفي النصف الثاني من عام 1721 عُيّن كبير كهنة دورمور، ثم كبير كهنة ديري في عام 1724.

في عام 1723، عقب شجارها العنيف مع جوناثان سويفت، الذي كان صديقها الحميم لسنوات، سمّت استير فانهورميغ (التي ابتكر لها سويفت اسم «فانيسا» المستعار) باركلي وارثًا لها إلى جانب محامي القضاء العالي روبرت مارشال؛ فأثار اختيارها هذا مفاجأة كبيرة إذ لم تكن على معرفة جيدة بأي منهما، رغم أن باركلي كان قد عرف والدها في شبابه المبكر. قال سويفت بشهامة إنه لم يحسد باركلي على توريثه، الادعاء الذي زال على أي حال كأنه لم يكن عندما رُفعت دعوى قضائية. والقصة التي تقول إن باركلي ومارشال أهملا شرطًا من شروط التوريث كان ينص على وجوب أن ينشرا المراسلات المتبادلة بين سويفت وفانيسا هي قصة غير صحيحة أغلب الظن.

في عام 1725، باشر باركلي مشروع تأسيس كلية في برمودا لتأهيل الكهنة والمبشرين في المستعمرة، وتخلى في سبيل متابعته لهذا المشروع عن منصب كبير الكهنة والدخل البالغ 1100 جنيه إسترليني الذي كان يرده منه.

زواجه وإقامته في أمريكا

في عام 1728، تزوج باركلي من آن فورستر، ابنة جون فورستر-رئيس المحكمة الأيرلندية للدعاوى العامة- من زوجته الأولى ريبيكا مونك. وذهب باركلي عقب ذلك إلى أمريكا براتب سنوي كان مقداره مئة جنيه إسترليني. نزل إلى اليابسة قرب نيوبورت، رود آيلاند، حيث اشترى مزرعة واسعة في ميدلتاون - منزل «وايت هول» الشهير. وثمة مزاعم تقول إنه «أدخل هندسة بالاديو إلى أمريكا باستعارته تصميمًا من كتاب (تصاميم إنيغو جونز) لمؤلفه ]ويليام[ كينت من أجل أبواب منزله في رود آيلاند، وايت هول». واستقدم باركلي كذلك جون سميبرت إلى نيو إنغلاند، وهو الفنان البريطاني الذي «اكتشفه» في إيطاليا، والذي يُعتبر عمومًا الأب المؤسس لرسم البورتريه الأمريكي. وفي تلك الأثناء، وضع باركلي مخططات للمدينة النموذجية التي كان يعتزم تشييدها في برمودا، وعاش في المزرعة الواسعة منتظرًا وصول التمويل من أجل كليته، ولم يكن ذاك التمويل وشيكًا على أي حال، وفي عام 1732 غادر أمريكا وعاد إلى لندن. أنجب مع آن أطفالًا عاش أربعة منهم إلى ما بعد سن الرضاع، وهم: هنري وجورج وويليام وجوليا، إلى جانب اثنين آخرين على الأقل قضيا نحبهما رضيعين. وسببت وفاة ويليام في عام 1751 حزنًا جسيمًا لوالده.

فلسفته

فيلسوف أنجليزي. ولد في ١٢ مارس سنة ١٦٨٥ في قصر ديزرت Dysert بكونتيهكلكني Kilkenny في إيرلنده، وتوفي في يناير سنة ١٧٥٣ .

وكان مبكر النضوج شاعرا منذ طفولته بعدم حقيقة العالم المادي. تعلم أولا في مدرسة كلكي، وكانت نظيرة لكلية ايتون Eaton في انجلتره من حيث القيمة التعليمية، فتعلم فيها الكلاسيكيات والرياضيات. ثم دخل كلية الثالوث Trinity Gollege ، في دبلن، فأبدى من الحماسة وإفراط الخيال ما جعل اترابه يظنون أنه أكبر عبقرية، أو أكبر مخبول . وفيها بدأ يتأثر بلوك Locke ومذهب ديكارت وعني عناية خاصة بالفلفة واكتشف طريقه فيها بنوع من الوجدان. المشبوب الذي اشتهر به طوالحياته.

وفيسنة ١٧٠٧ انتخب مربيا Tutor في كلية الثالوث هذه، ثم رسم في سنة ١٧٠٩ شماسا ثم قسيسا Priest تابعاً للكنيسة الانجليكانية . وفي ذلك الوقت نشر كتابه ,محاولة في نظرية جديدة في الابصار» . وفيه هاجم رأي لوك القائل بأن الكيفيات الأولية موضوعية وليست ذاتية. وتبع ذلك بكتاب عنوانه: «بحث في مبادىء المعرفة الانسانية» وفي تلك الأثناء كان قد رقي إلى درجة ماعد مدرس ورئيس أكليروس Dean . وفي سنة ١٧١٢ عين مدرسا للغة اليونانية.

وفيسنة ١٧١٣ سافر إلى لندن وعن طريق زميله في الدراسة الكاتب الساخر سويفت 1)ن9٧ تعرف إلى ابن عمه لورد باركلي وهذا الأخير قدمه إلى بلاط الملكة ان Anne. وفي لندن غشي جماعات أهل الفكر والأدب، وكانوا وفرة في تلك الفترة، من أمثال: استيل Steele وأديسون Addison وبوب ع000 ، وكلارك Clarke . ونشر مقالات في جريدة الجارديان Guardian التي كان يصدرها استيل هاجم فيها المفكرين الأحرار، كما نشر المحاورات بين هيلاس وفيلونس.

وبعد أن أقام في لندن فترة من الزمن، سافر إلى إيطاليا بوصفه سكرتيرا وكاهنا لبيتربره Peterborough الذي كان سفيرا (مبعوثا) لدى أموديوس Amodeus ملك صقلية. لكن لما توفيت الملكة آن واستدعي بيتربره عاد إلى لندن. وبعد ذلك بعدة سنوات قام بأسفار في أوروبا مرافقا ومربيا لابن أسقف كلوفر Clogher . ومن المحتمل أن يكون قد التقى، وهو في باريس، بالفيلوف الديكاري مالبرانش، وقيل انه تسبب في وفاة مالبرانش لأنه حين زاره وجده مصابا بالتهاب رئوي، وثارت بينهما مناقشة فلسفية حادة عجلت بوفاة مالبرانش. وسافر بعد ذلك إلى إيطاليا فزار روما ونابولي وكلبريا، وأقام في إيطاليا أربع سنوات.

وفي أثناء تلك الفترة لم يكتب شيئا كثيرا. لقد أنجز الجزء

٢٨٨

باركلي

الثافي من كتابه «مبادىء المعرفة الإنسانية» لكن المخطوط فقد اثناء تنقلاته في إيطاليا، ولم يستأنفم بعد ذلك ابداً . ثم عاد الى إنجلترهفيسنة١٧٢٠.

وفي اثناء عودته إلى إنجلتره ألف رسالة باللاتينية «في الحركة، Motu ع10 ونشرها سنة ١٧٢١ . وجمع مواد لكتابة التاريخ الطبيعي لصقلية، لكنها فقدت هي الأخرى في نقلاته.

ولما عاد إلى إنجلتره في سنة ١٧٢٠ أخذ يتجه اتجاها جديدا، هو الاهتمام بأحوال إنجلتره التي كانت تعافي آنذاك من انحلال واضمحلال رده هذا القسيس إلى ضعف العقيدة الدينية في نفوس الانجليز انذاك. فكتب رسالة بعنوان: «محاولة لمنع انهيار بريطانيا العظمى» .

ثم سافر إلى وطه إيركنده، حيث أصبح كاهنا لدوق جرافتون، Grafton ، ومنح درجة الدكتوراه في اللاهوت 10 .10 من كلية الثالوث في دبلن وعين فيها محاضرا رفيع المستوى senior Lecturer وواعظا للجامعة. وبعد قليل صار برتبة Dean ومدرسا للغة العبرية.

وكانت فانسا فانيرم Vanessa Vanborough معجبة بالأديب أسوفت وأوصت له بثروتها ، فلما اكشفت علاقته مع استلا Stella أوصت بنصف ثروتها له والنصف الآخر لباركلي، ومقداره ٠٠٠ ٤جنيه استرليني . فرأى باركلي أن يحقق بهذا المبلغ بعض مشروعاته في الاصلاح وكانت جزر برمودة، في المحيط الأطلسي، تعد في نظر الانجليز بلاد البراءةو والنظرة الصافية الأولى. فقرر باركلي انشاء مدرسة هناك لتعليم رجال الدين من ناحية، ونشر امسيحية بين أهلها الأصليين من ناحية أخرى. وبعد التغلب على عدة منازعات بثأن ميراث فانسا وأمور أخرى، سافر باركلي بصحبة عروسه إلى رود أيلند Rhode Island (في جزر برمودة) في سبتمبر سنة ١٧٢٨ ، فوصل ميناء Newport في يناير سنة ١٧٩ وكانت تلك الجزيرة ملجأ للمضطهدين منذ أيام روجر وليمز، لكنهم اثروا فكانت الحياة التجارية مزدهرة فيها والحياة العامة رغيدة. وأحسنوااستقبال باركلي، فأقام بينهم سنتين. وهناولد له ولده الأول، واشتغل بمشروعه وهو كلية برمودة. كذلك كتب في تلك الفترة كتابه «ألفرون» Alciphron وهو محاورات.

لكن الصعوبات المالية ما لبثت أن قضت على مشروعه هذا. فاضطر إلى ترك الجزيرة، وسافر إلى بوسطن، ومنها سافر

إلى انجلتره فأمضى عامين في لندن. وفي سنة ١٧٣٤ عين اسقفا لكلوين Cloyne، فأمضى في عمله هذا العشرين سنة الباقية من حياته دون أن يغادر مقر الاسقفية في *٤0٣ Country إلا مرة واحدة في سنة ١٧٣٧ حين سافر إلى دبلن ليجلس في مجلس اللوردات الايركندي. وفي هذه الفترة كتب رسالة بعنوان Siris بدأها ببيان الفوائد الطبية لماء القطران tar-water وخاض بعد ذلك في مسائل ميتافيزيقية : مبدأ الحياة، طبيعة المكان والزمان، حرية الارادة والجبرية، الهيولى والصورة، النفن، صفات الله وضمنها البحث في فكرة التثليث المسيحية.

١ نظري لابصار:

ونبدأ عرض فلسفة باركلي ببيان نظريته في الإبصار، وقد لفت نظره إليها ما أثاره لوك من شك فيما يتعلق بشخص ولد أعمى وصار يميز بين الكرة والمكعب بواشطة اللم، فهل لو يرد إليه بصره فجأة يستطيع أن يميز بين الكرة والمكعب بالبصر فقط، دون اللم. وبوجه عام، هل الشكل والمقدار (الحجم) يمكن إدراكها بالبصر وحده، أو بتعاون مع اللمس أيضا.

فجاء باركلي في باكورة إنتاجه وهو: «محاولة نحو نظرية جديدة في الأبصار فقرر أنه ليس فقط الشكل والمقدار، بل وأيضا المسافة والموقع البي للأشياء لا تدرك مباشرة بالعين، بل بتعاون بين الاحاسات البصرية والاحساسات اللمسية مع تجربة الحركة. ويسوق على ذلك الأدلة التالية : أولا: لا يرجد في العين أية وسيلة لقياس قرب أو بعد مصادر أشعة الضوء الذي ينطبع عليها . فالصور تنطبع على شبكية العين على استواء ولي فيها ما يدل على القرب أو البعد. ثانيا: لا يمكن قياس المسافة على أساس تلاقي العينين لأننا لا نحسب الزاوية ولا ندرك خطوط التلاقي. وحتى لو أمكننا ذلك فليس هناك ما يدل على أننا نربط بين الاحساس بقلة التلاقي وبين ازدياد بعد المرئيات، أو بين زيادة التلاقي وبين قلة بعد المرئيات. ومن هنا انتهى باركلي إلى تقرير أن المسافة لا تدرك مباشرة بواسطة الابصار، بل بطريقة غيرمباشرة. اننا نتعلم إدراك المسافة من طول ممارسة الربط بين موضوعات اللم وتجارب الوصول والمشي وبين موضوعات الابصار.

والامر عينه ينطبق على إدراك المفدار والموقع. فندرك المقدار وفقا لمعطيات الابصار واللمر معا. فهناك مقدار بحسب اابصار، ومقدار بحب المس، وهما متميزان الواحد عن الآخر، وأحيانايتناقضان.ولا توجد علاقة ضرورية

باركلي

بين مقدار مرني كبير أو صغير وبي مقدار ملموس كبير أو صغير ومن ناحية أخ ى فان المقدار المرئي يختلف عن مسافة الموضع قربا وبعدا. وللتغلب على هذه !لاختلافات فإننا ستعما مقاييس نمطية تتعلق بالمقدار اللمسي ٠ لكنها مقاييس صناعية واصطلاحية.

أما إدراكنا للموقع فهو شديد التعقيد والغرابة. إذ يلاحظ أ ولأ : أنه لما كانت الصورتسقط على الشبكية مقلوبة، فإن الموصوعات الخارجية تعطى مقلوبة. وثانيا: يلاحظ أن المواقع المرثية والملموسة تختلف بعضها عن بعض، وقد تتداخل وتحدث تشويشا فيما بينها . وفقط بالممارسة الطويله نستطيع أن نربط بين المرثية واللمسية .

وبالجملة «فإن الامتداد والشكل والحركات المدركة بواسطة الابصار تتميز نوعيا ع¿ أفكار اللمس المسماة بنفس الاسم، ولا يوجد شي، هو فكرة أو نوع من لفكرة مثترك بين هذين الحسين» .

وهذه الصفات الأولية: الامتداد، الشكل، الحركة، هي ذاتية تماما مشل الصفات الثانوية التي هي اللون، والطعم، والصوت، والحرارة وم شاب ذلك. انها مركبات من إحساسات بصرية ولمسية وحركية فلا الصفات الأولية ولا الصفات الثانوية مهجودة في الأشياء الخارجية، بل كلها ذاتية صادرة عن الحواس نفسها من جراء انطباع لموضوعات الخارجية عليها. وبالجملة فإن الصفان ت والخواص، الاولية والئانوية على الواء، هي ثار يحدثها امعان. الخارجي في ح٠ ا سنا ,

٢ .المادة'

فإن كانت الصفات والكيعبات الأولية والثانوية كلها ذاتبة غير مهجودة في الموصوعات المحسوسة، فملذا بقي إدن لدادة؟

إن الأشياء تدرك على أنها مجاميع من الكيفيات . وعلى لرغم من أننا لا درك لكيفيات منعزلة بعضها عن بعض، فإننا نستطيع بالفكر عزها من أجل التفكبر والنظر فيها منفصلة الواحدةعنلأخرى. والعقا وهو يقارن بي الكيفيات يلاحط بينها مشابه وأمورا مشت كة ٠ وعلى هذا النحو تكتسب هذه لكيفيات أو لمجاميع من لكيفيات مدلولا عاما. وقد تكون الصورة المتكونة غامضة ولا تشير إلى أي مثال للفكرة التي ننظر فيها، لك^هاعلىكا حانج:ئية.لاكلية،عيية وليستجردة .

والصورة التي تؤخذ على أنها علامة أو تمتيا لكل ما يندوج تحتها هي ما يسمى بالفكرة لمجردة . ومن هذا نرى أن الكنيات universalis ليست أسماء لطبائع مجردة واقعية، بل هي أسماء لعلاقات قائمة بين أفراد بعضها مع بعض. وفهذا فإن التجريد أو التعميم لا ينوم في التخلص التام من الفردية والعينية، بل يقوم في جعل صورة عينية جزئية تقوم مقام صنف كامل من الموضوعات.

ولهذا فإن الحدود أو الأسماء لكلية لا تدل على فكرة واحدة، كما يظن عادة، ولكن خطأ، بل تدل على كثرة من الأفكار فمثلا الكلمة أو الحد الكلي: «فرس»تدل على عدد هائل من صور الفرس تستدعى في أذهان عدد هائل من الناس لمجرد سماعهم لهذا اللفظ : فرس. وهذا الاسم يدل على كل تلك الصه ر، لأنه يعرم مقام صفات مشتركة بينها . فالأسماء لا تحد اذن الأفكار التي تدل هي عليها. إذ لا يوجد معفى محدد دقيق واحد يفهم من اسمكلي، بلالأسماءتدل على عدد كبير من لأفكار الجزئية وهي كما تثير افكاراتثير انفعالات وتكتسب هالات من القيمة غالبا ما تلقي بظلال من الغموض على المى.

والنتيجة لهذا أن ما نسبه الاسكلائيون إلى الكليات من سلطان وسحر هو أمر باطل , فالحدود المجردة والكلية لا توسع من معرفتنا !لا من حيث كونها رموزا مناسبة لتمثيل صوز الأشبا، الجزية. وهي تبدأ من التجربة وتنتهي في التجربة. وبدون ارتباطها بالادراك الحسي فانها لا معفى لها ولا فائدة.

فإذا طبقنأ هذه ااعتبارات على فكرة «المادة» تمثلت لنا المادة على صورة شيء ممتد، يبدي عن مقاومة، غيرمجرد الشكل ولا الحجم، متح ك أوساكن، ذي لون باهت، خشن أو ناعم صئب أوهش، إلىآخرهذه الكيفيات الثانوية والخارجة من هذه الصورة. وصورةاي شيء مادي هي أننا نجعل حسورة المادة ممثلة لسائر الادراكات التيتبين عن نفس الكيفيات

وبالجملة فان «المادة» لا تعني غير مجموعة من الاحاسات. فلا يوجد اذن «جوهر» substance يتخذ كيفيات أولية أوثانوية، أوتتعاقب عليه هذه الكيفيات.

وينتهي باركلي إلى وضع هذا المبدأ الذي صارمشهور فيمابعد وهو: «الوجود هوالادراك الحسي percipi ان esse أو وجود شيء هو أن يكون هذا الشيء مدركا بالحس. فكل شيء يدين بوجرده للادراك الحسي، وليس له وجود في ذاته.

باركلي

والخلاصة اذن هي أن الاعتقاد في لأفكار المجردة قد أدى إلى افتراض أن الموضوعات المادية تختلف تماما عن الاحساسات، بينما الحقيقة- في نظر باركلي- هي أن الموضوعات المادية ليست شيئا اخر غير مجموعات من الاحساسات الشمية والبصرية واللمسيةالخ ٠ أعطيت اسئما مشتركا بين كل أفراد التصور

أن يوجد هو أن يكون مدركا بالحس هذا هو الحق في كل ما يتعلق بكل الموضوعات المادية .

والقول بأن الأفكار هي نسخ ذهنية للموضوعات امادية هو اذن قول باطل.

وباطلة كذلك التفرقة التي وضعها لوك وغيره بين الكيفيات الأولية (مثل الشكل، والمقدار، والحركة) وبين الكيفيات الثانوية (مثل اللون، الرائحة، الصوت) على أساس أن الأولى موضوعية والثانية ذاتية، ذلك أن لكيفيات الأولية تتوقف على الكيفيات الثأنوية، وكلا الصنفين داتي أي صادر عن الحواس، لا عن الموضوعات.

٣-«المحاورات يين فيلونوس وهيلاس»

وفي «المحاورات بين فيلونوس وهيلاس» يتابع باركلي بيان مذهبه هذ والدفأع عنه، وذلك على هيئة محاورات بي فيلونوس - وهو الذي يمثل موقف باركلي - وبين هيلاس الذي يمثل مواقف امعارضين لآراء باركني مثل لوك ونيوتن ٠

ففي المحاورة الأولى يفند رأي لوك في التفرقة بين الكيفيات الأولية والكيفيات الثانوية، كما يفند رأي نيوتن القائل بأن المكان والزمان والحركة توجد مستقلة عن الامتداد المحسوس والحركة المحسوسة والمدة المحسوسة ٠ ويقرر أن أمثال هذه الأمور المطلقة هي تجريدات من الأمثلة الجزئية المحسوسة ٠ كذلك يضطر هيلاس إلى التسليم لفيلونوس (= باركلي) بأن فكرة الجوهر«س12أ08سه، أي الأساس الذي يجري عليهتعاقب الكيفيات، فكرة زائفة

وفي المحاورة الثانية يضطر هيلاس إلى التسليم بأن جسمه ودماغه امفترخس أنه أصل لفكر، ليسا غيرمركبين من الادراكات الحسية الموجهدة في عقله هو.

وبهذا يتحول هيلاس إلى شكاك في وجود أي شيء خارج إدراكه الحسي . لكن فيلونوس لا ي يد الذهاب لى هذا المدى، فيقول لصاحبه انه ينكر فقط أن يكون للأشياء

المحسوسة وجود مطلق متقا في خارج الذهن أومنفصلة عن كونها مدركة بالحس. لكنهذا لا يمنع من وجودها «في عقل «روح» لا متناهية حاضرة في كا مكان تشتمل عليها وتسندها«.

وهنا يتساءل هيلاس : مع التسليم بوجود الله، ألا يمكن أيضا التسليم بوجود عالم مادي، وأن هذا العالم المادي هو «السبب الثانوي والمحدود لأفكارنا»؟ لا نتول مع مالبرانش ان ثم «رؤ ية في لله» dieu ٤٦) vision، بمعى أن الروح «في عجزها عن الاتحاد بالأشياء المادية بحيث تستطيع إدراكها في داتها، فإنمها تدركها بواسطة اتحادها مع جوه النه»، وبمع فة الأفكار أو الامتثالات الخاصة بالأشياء المادية الموجودة في لعقل لافهي؟

فيرد عليه فيلونوس (باركلي) قائلاً : إن الحجج ضد مكان أن تمثل أفكارنا أشياء غيرعقلية صادقة أيضا بالسبة إلى العقل الالهي ٠ أما المادة فكيف يمكن أن تكون علة لأفكار لا مادية؟! وهل لله في حاجة إلى المادة كوسيلة ثانوية لاحداث الأفكار فيا؟

وفي مستها المحاورة الثالثة جذ هيلاس ح ينا. لقد قتنع بان الجوهر المادي هومج د فرض لا أساس له لكه لا يستطيع أن يتصور امكان وجود الأشياء كمج د أفكار في عقا الله:- كذلك يأخذ هيلاس على فيلونوس أنه يقر بجواهر روحية على الرعم من أنه ليست لديه فكرة عنها) بيما ينكر الجواهر المادية لأنه ليست لديه فكرة عنها

فيجيب فيلونوس على هذين الاعتراضي قائلا ان فك ة الجوهر المادي فكرة غيرمتوافقة في ذاتها ولا يمكن الاتيان بدليل على وجود المادة. فأنا لا أشعر بوجودها ولا بماهيتها، هكذا يقول ومن ناحية أخرى فانني وان كنت لا أعاين الروح مباشرة وليس لدي بينة مباشرة عنها أو ب هان على وجود أرواح أخرى متناهية، فإن وجود الأرواح بوجه عام أم غيرمتنافض مع داته وعندي إدراك تأملي لروحي أنا , فأنا أعلم «أنني أنا نفسي لست أفكاري، با شىء اخ ، أن مبدأ الفكر نشيط يدرك إدراكا حسيا، ٠ يع ف لديه افكاراًويعمل بأفكار».

ويثير هيلاس اعت اصأ اخر مستمدا من الادراك لعام وهو أن كون الشيء مدركا غير كونه موجوداً، وأر للأشباء وجودا خاصا جها مستقلا عن إدراك العقا لها ثم كيف نمير حينئذ بين الواقع والخيال؟ وكيف «نبرىء الله من كونه «الفاعل» المباشر للقتل والتدنيس والزنا وما شابه ذلك من الخطايا»؟

باركلي

أوليس يجب علينا أن نقول إن الله يقاسي نفس الألم والضيق في داخل نفسه كما يحدث غالبا في عقلنا بسبب هذه الأفكار نفسها حين يضعها فينا؟

في د فيلونوس على هذه الاعتراصات الجديدة قائلا انه لا يوجد شيء في الاشارة الخارجية لافكار الانسان يتنافى مع الديانة امسيحية أو ينكر أل مه ضوعها «الموجودبدون عقله يع فه ويفهمه عقا اله» أما الأفكار التي تمثا مختلف أنواع الشر الأخلاقي فانها لا ينتجها العقل اللامتناهي، بل النشاط الحر لأرواحنا. أما الألم والضيق فإن النه يدركهما، لكه لا يشعر مط•

ويعود هيلاص إلى الاعت اص مستندا إلى مذهب

الديكارتيين فيقول: «لماذا اذن وصع الله في عقولنا هذا الايحاء الفوي بأن ثم مادة وعالماً فيزيائياً؟ اليس معن هذا أنه يخدعنا؟» .

فيجي فيلونوس (باركلي) قائلا ان لله لا يخدعنا. ن كل ما يوحي به هو أنه يم جد عالم خارجي. وهذ ا الايحاء صادق ولكنه لا يوحي بأن هدا العالم الخارجي مادي، «إن فتراض المادة هو خدا ء م أنفسنا لانفسنا، ويمكن تبديد هذا الخدا ء باستعمال العقا الذي وهبنا الاه اياه».

وفضلا عن ذلك ، يق ل هيلاس : كيف يمكننا أل ندرك نفس لشيء؟ ما دامت هناك أرواح (عقول) كثيرة، بالاضافة الى عقا الله الذي لديه لادراك الحقيقي، فإنه سيكون ثم من الادراكات لنفس لشي؛ الواحد لقدر ما هنالك م عتول يي يدرييي ونر ماذا نعنى بقولنا سي الش. أن الهوية أم ع٠ر محدد . إدا اين ضا أن منزلاً قد دمر كله ولم يبق منه غير جدرانه الخارجية، ثم أعيد سناؤ ه من لداخل مع الابقاء على جدرانه الحارجية، فهل نعتبره هو نفس المنزل، أونعتبره من لا اخر مختلفا؟ ربم تقه ل أنت انه نفس امنز، وأقول أنا انه غيره، «لك ينبغي علينا أد نتفقتماماعلى فك تنا عن لمنزل، معتب ا في ذاته» . وعلى كا حال فان الماديحى جميعا ملة واحدة . نه يدركون أشياء مختلفة وهناك م الأفكر عن لشيء الواحد بقدرها هنالك من الماديين الذي شول لم ينظرو إنى شيء واحد .

فيستنكر هيلاس هذا القول مؤكدا أن الماديين يعتقدون أن أفكارهم المتعددة عن انشيء الواحد تشترك في «نموذج» أو نقطة اشارة خارج عقولهم من شأغها ن تجعل مجموعات

احساساتهم أفكارا عن نفس الشيء . فيرد فيلونوس قائلا أننا نحن الباركليين نعتقد نفس الاعتقاد، لكن نقول ان فكرتك وفكرقي تشير إلى نفس الشيء الموجود خارج عقلينا كلينا، أعني فكرة النه عن هذا الشيء. أي أن باركلي يرى أن فكرتنا عن شيء ما إنما تشير إلى فكرة الله عن الشيء، لا إلى شيء مادي موجود في خارج عقولنا.

هنالك يسأل هيلاس: لكن كيف يمكن عالما ممتدا ان يوجد في عقل غيرعتد؟ فيجيب فيلونوس :مادام العقل غيرمتد، فإنه لا يوجد فيه شيء بالمعنى الحقيقي، إن قولنا: «في العقل» قول مجازي فقط وتجوز في التعبير.

وحين يعود هيلاس فيسأله : كيف يتفق هذا مع وصف الخلق في أول سفر التكوين من الكتاب المقدس حيث يرد أن الله خلق أشياء (اضاء، الأرض، النور الخ)؟ فيجيب فيلونوس قائلا أن التوفيق سهل إذ لا يوجد تناقض بين افتراض ان الله خلق أولا الأرواح المتناهية، وبعدنلكطبع ي عقولها ذلك المجموع من الأفكار المسمى باسم «الكون».

وخلاصة الرأي عند باركلي هي أن الوجود هو الادراك esse est percipere أوأن يكون الشيء مدركا percipi . وأنه لا يوجد غير أرواح (نفوس، عقول) وأفكارها. وأن الحقيقة الواقعية مؤلفة من جواهر لفكرة غير مادية وما لها من تجارب وأفكار. وأحد هذه الجواهر المفكرة هو الله، وهوأزلي أبدي لا متناه, أما سائر الجواهر المفكرة فمتناهية ومخلوقة . وفي الأرواح (النفوس، العقول) المتناهية توجد تجارب (إدراكات) لا أفكار على نوعين: فبعضها ناتجة عن نشاطها في الادراك والتفكير، والبعض الآخر (ونسميها نحن: العالم الخارجي) أعطيت للعقول المتناهية من العقل اللامتناهي خلال العملية التي نطلق عليها اسم : المعرفة. والمادة لا توجد بوصفها جوهرا أو أساسا موضوعا تتعاقب عليه الكيفيات. وغاية أمرها أن تكون اسما ملاى لتلك المركبات من الادراكات أوالأفكار التينطلقعليها اسم: الموضوعات الفيزيائية. صحيح أن هذه الموضوعات خارجة من العقول المتناهية، لكن ذلك معناه أنها موجودة في عقل الله، لافي أي مكان آخر.

وهكذا ذى ان مذهب باركلي مذهب مثالي جدا، بل يمثل قمة المثالية والروحية.