نظرية المثل
نظرية المُثُل نظرية أتى بها الفيلسوف أفلاطون، ويعني بها عالم ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان على علم بجميع العلوم والخفايا، وعند ذهابه إلى العالم الحسي (أي حينما يولد) يكون قد نسي كل هذه العلوم، وما عليه إلا أن يتذكرها في العالم الحسي.
"ويعود أصل (فكرة المثل) أو نظرية المثل عند أفلاطون إلى عملية التمييز بين الحقيقة والمظاهر أو الشيء الظاهر، وقد بدأ الجدال في هذا الموضوع في البداية على يد بارمنيدس ثم فيثاغورس. ويعتقد أفلاطون ان العالم الذي نلمسه، ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي، بل هو عالم مشابه أو مستنسخ من العالم الحقيقي بصورة غير كاملة.
وحسب رأيه ففي هذا العالم تتغير الأشياء، تأتي وتذهب، تبرد وتسخن، لذلك هو عالم الاخطاء الكثيرة. لكنه يرى أن هناك عالم حقيقي توجد فيه كل الاشياء الحقيقية التي تتصف بالكمال ولها مثيلاتها المشابهة لها أو المستنسخة منها في عالمنا المحسوس. ودعى افلاطون هذا العالم عالم الحقيقية أو الصحيح. هذا العالم مستقل من كل شيء وغير مـتأثر بالتغيرات التي تحصل للعالم الذي نختبره عن طريق الحواس.
وتجعل الفلسفة الأفلاطونية عالمنا التجريبي والمحسوس تابعا لعالم الأفكار أو المثل، وبالفعل ففيما وراء العالم المحسوس والمتغير والخاضع للصيرورة والفساد هنالك وجود لحقائق ثابتة، وهي موضوعات الفكر الخالص، بل هي نماذج الأشياء ذاتها، إنها الأفكار أو المثل. وتتميز هذه المثل (الماهيات) بكونها غير مدركة رغم كونها أكثر واقعية من الموضوعات الحسية، وهي التي تؤسس معقوليتها وتعطيها مشروعية.
وهو ما يشير إلى وجود ثنائية جوهرية في الفلسفة الأفلاطونية، وهي ثنائية الدال والمدلول، والمقصود بالدال هنا هو هذا العالم المادي المحسوس، والمدلول هو العالم المثالي المتعالي المحتجب عن الرؤية وبسبب هذا الحجب فإن الفلسفة الأفلاطونية "تحتقر الحواس لحد كبير" كوسيلة للمعرفة، وتقول إن الإنسان يمكن أن يصل إلى المعرفة من خلال تجاوز الحواس والمادة، بالرجوع للعقل والتأمل بالإضافة للحواس، وأنه إذا تم الوصول للمعرفة فإنه يمكن أن تكون متداولة بين البشر من خلال اللغة.
العالم المادي:
يقول افلاطون ان عالم المادة يحكمه قانون اخر في الكون، هذا العالم الذي ليس فيه اي شيء من عالم الكمال أو المثل الذي تكلمنا عنه الآن.اي انه عالم المادة الأولية الذي صورت فيه أو بصمت عليه افكار عالم المثل.
يقول لنفكر في عمل النحات، لنفرض انه لديه فكرة في صنع تمثال معين من مادة الرخام، لنقل الآن ان الفكرة هي (صورة التمثال) وهي مستقلة عن كل أنواع الرخام أو المادة الأولية الموجود في الكون، لكن بالنسبة للرخام (اي المادة الأولية) هناك حالة ضرورية (قانون طبيعي حسب رأي افلاطون) تتطلب أو تتصارع في وجدها من اجل ان تكون مدركة أو معروفة للاخرين عن طريق الحواس. لذلك النحات اخذ قطعة من الرخام ونحت عليها صورة التمثال الذي يرغبها.
اذن الرخام كمادة اولية انطبعت عليها فكرة التمثال، بدون فكرة النحات لم يكن هناك اي احتمال ان يُكون الرخام هذا التمثال بذاته، لكن النحات يستطيع عمل عدة أنواع من التماثيل من نفس الفكرة دون أن تتأثر بها الفكرة الاصلية.
اذن عالمنا ليس عالم حقيقي لكنه عالم مبصومة أو مطبوعة عليها فكرة الحقيقة. لذلك يقول افلاطون ان معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف امام النار ويرون ظلال اشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، لذلك العالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم الاخطاء، عالم النقص.ولا يعود نقصه إلى عالم المثل أو الحقيقي.
تفصيل
إذا كان العلم هو العلم بالماهيات ، فيجب إذن أن يبدأ البحث بها ، ولهذا وجه أفلاطون عنايته الأولى إلى البحث في الماهيات ، ليستطيع سن بعد أن يقيم على هذا الأساس مذهبه : سواء مذهبه الطبيعي والأخلاقي . ونظريته في الصور تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول : أساس انصور ، والثاني : ماهية الصور ، والثالث عالم الصور .
أساس الصور : يبدأ أفلاطون بحثه في الصور ببيان الأساس الذي تقوم عليه هذه النظرية ، والأساسذووجهين ، فهو خاص أولاً بنظرية المعرفة ، وهو خاص ثايأ بنظرية الوجود. ففيما يتصل بالمعرفة نجد أن المعرفة تنقسم إلى قسمين رئيسيين: التصور الصحيح، والعلم الحقيقي والتصور الصحيح هو خطوة وسط بين العلم الحقيقي وبين اللاوجود ، فكل ما يعلم فهو موجود ، وكل ما لا يعلم فهو غير موجود، والوجود الخالص معلوم واللاوجود غير معلوم ، وبين الاثنين وجود يجمع بين الحالتين ويكون مقابلا للتصور ، وهذا النوع الوسط هو الوجود المتغير أو الصيرورة فالنقطة التي يتقاطع فيها الوجود مع اللاوجود هي النقطة التي تظهرفيها ضرورة وجود الصور . ذلك لأن العلم الحقيقي هو العلم يالماهيات ، فإذا كان التصور الصحيح لا يتناول الماهيات وإنما يتناول الوجود المتغير ، فلا بد من وجود موضوع للعلم الصحيح يكون ثابتاً غيرمتغير ، وهذا الوجود هو وجود الصور أو وجود الماهيات . ونحننرى فيهذا كله أثر سقراط منحيث نظرية المعرفة . إذ تقوم المعرفة عند سقراط على أساس الماهيات ، والماهيات ثابتة، فلابدمن افتراض وجود ماهيات ثابتة ، وإلا لما أمكن العلم . فإذا نظرنا إلى المسألة من ناحية الوجود ، وجدنا أولاً أن في الوجود تغيراً مستمراً وأن في الوجود كثرة . إلا أن كل تغير غايته الثبات ، وكل تعدد غايته الوحدة . فلا يمكن إذن أن نقنع بالقول بوجود التغير أو التعدد ، بل لا بد من القول بالوجود الواحد الثابت ، وهذا انوجود الواحد الثابت هووجود الماهيات ؛ ولوأننا سنرى فيما بعد أن القول بالوجود الواحد لا يقال على إطلاقه،بللابد بعد ذلك من القول بالكثرة في هذه الماهيات الثابتة نفسها . فالنظرة في الطبيعة تؤدي بنا إلى اعتبار الغائية، والغائية إذا قلنا بها في الطبيعة فقد فرضنا على التغير أن فيه غاية ، وهذه هي الثبات ، فإذا فرضنا على الكثرة أن تكون فيها غاية ، فتلك ا لغاية هي الوحدة ، وعن هذا الطريق نستطيع اننثبت وجوداً ثابتاً واحداً هو وجود الماهيات أو الصور ويتصل بهذا تلك الأبحاث التي قام بها أفلاطون في » السوفسطائي » وفي « برمنيدس» : في « السوفسطائي » فيما يتعلق بالموجود ، وفي (1 برمنيدس » فيما يتعلق بالوحدة . فنحن نرى أفلاطون أولاً ينكر ألا يكون الموجود صفة عامة تجمع الأشياء كلها، لأنكل الأشياء مهما اختلفت فهى على الأقل تتحد في صفة واحدة ، هي الوجود ؛ وثانياً يحمل على القائلين بالوحدة امطلقة ، لأنه يرى أن هذه الوحدة المطلقة لا يمكن أن تفسر الوجود الحقيقى تفسيراً كاملاً : فإذا كانت الكثرة تقتضي الوحدة ، فالوحدة بدورها تقتضى الكثرة . لأننا إذا قلنا عن الماهيات إنها وحدة ثابتة ، ولم نضف إليها شيئاً من الكثرة أو التغير فإنا حينثذ نسلبها الحياة والحركة؛ كما أننا إذا قلنا بالحياة والحركة، أو التغير والكثرة ، فقد سلبنا الوجود أساسه وجوهره ، وسلبنا العلم الحقيقي موضوعه . ولهذا يجب ألا تطلق الكثرة إطلاقاً كلياً ، بل يجب أن يفرق بين نوعين من الوجود : وجود المحسوسات ، ووجود الماهيات . أما وجود المحسوسات فلما كان وجود حركة وحياة ، فهو وجود كثرة وتعدد ؛ ولما كان وجود لماهيات وجود علم حقيقي فلا بد ان يكون وجودا نابتا واحدا . ثم يبحث أفلاطون في « برمنيدس » (١٣٧ ح-١٦٦ ح ) هذه المسائل بحثاً دقيقاً ، وخصوصاً المسألة الرئيسية في هذا الباب وهي الواحد موجود والواحد لا موجود ، ويستخلص من كل قضية من هاتين القضيتين نتائج متناقضة ، مما يؤذن ببطلان هاتين القضيتين أو المقدمتين . وحينئذ يقول إن هذا التناقض لا يمكن أن يرتفع إلا عن طريق نظرية الصور. غير أنه في ا برمنيدس » لا يبين لنا كيف تستطيع نظرية الصور أن تمحو هذا التناقض ، بل نجده في محاورات أخرى يحاول ذلك.
والخلاصة التي نستخلصها من هذا كله هي أن نظرية الصور تقومعلى أساسين : الأساس الأول هو لعلم لحقيقي ، والأساس الثافي هو الوجود الحقيقي . وكلا الأساسين يمتزج بالآخر تمام الامتزاج : لأن العلم الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا إذا كان موضوعه الوجود الثابت وهو الوجود الحقيقي ، كما أن الوجود الحقيقي لا بد أن يكون معلوماً علما حقيقياً ومعنى هذا كله أن الوجود الحقيقي والعلم الحقيقي يقوم الواحد منهما على الآخر.
فإذا نظرنا الآن في العوامل التاريخية التي حدت بأفلاطون إلىالقول بنظرية الصور ، وجدنا أرسطوييين هذه العوامل بيانا واضحاً في « ما بعد الطبيعة » ، فيقول اولاً إن أفلاطون تأثر في هذه النظرية بهرقليطس وبرمنيدس، ثم بالفيثاغورين، ثم بسقراط. فقدتأثر أولاً بهرقليطس لأنه قد درس وهو في صغره على يد أقراطيلوس ، أحد أنصار المذهب الهرقليطي . وقد ظل خلصاً طوال حياته في نواح كثيرة لهذا المذهب ، لأن هذا المذهب أولاً يقول بالتغير الدائم للأشياء فلا بد أن يكون من وراء التغير شى ء ثابت لا يقبل التغير. وأخذ عن هرقليطس ثانياً القول بأن المعرفة الحسية معرفة باطلة وأن المعرفة الحقيقية هى المعرفة العقلية . وكل معرفة عقلية تفترض الوجود الثابت موضوعاً لها ٠ وبهذا يكون أفلاطون قد تأثر بهرقليطس في إقامته لنظرية الصور ، كما تأثر ببرمنيدس حين رأى أن التغيرالمطلق لا يمكن إلا أن يكون وهماً ، وأنه لا يد من الوحدة إلى جانب هذه الكثرة ، لأن الكثرة المتحققة في الوجود تفترض لها غاية هي الوحدة . ويهذا قال أفلاطون بما قال به برمنيدس من الوحدة ، ولوأنه حدد هذه لوحدة وبين أنها لا تقال على وجه الإطلاق.
ولكن الأثر الأكبر في تكوين نظرية الصور هذه إنما يرجع إلى سقراط ، لأن سقراط هو الذي قال بأن المعرفة أو العلم الصحيح يجب أن يقوم على الماهيات ، فلا يد ، في البحث في الوجود ، من أن يرتفع الإنسان من الوجود المحسوس إلى وجود آخر غير محسوس، ومن الوجود المتغير إلى وجود اخر ثابت، وهذا ما فعله أفلاطون . وقد رأى أن سقراط قد طبق هذا القول سواء في نظرية المعرفة وفي الأخلاق ، فتوسع أكثر وأكثر في هذا المبدأ ، وقال إن كل شيء في الوجود ، من أية ناحية ينظر إليه ، لا بد أن يفترض وجود صورة له ، وهذه الصورة هي الماهية الثابتة. إلا أن الأهمية الكبرى لأفلاطون هي في أنه استطاع أن يوجه همه إلى الفلسفة الطبيعية وأن يطبق فيها هذا المذهب الذي طبقه سقراط في الفلسفة الأخلاقية وفي نظرية المعرفة فحسب . كما ان تلك الأهمية تنحصر أيضاً في أنه استطاع أن يضيف كل الأبحاث التي قال بها الفلاسفة المتقدمون إلى نظرية سقراط . وأن يجعل من هذه المبادى كلها وحدة واحدة ، هي نظرية الصور. لكن يلاحظ إلى جانب هذا ان أفلاطون لميقنع بالماهيات التجريدية بل أراد أن يصورهذه الماهياتتصويراتجسيميا ؛ لم يقل بالماهيات على أساس إمكان استخلاصها من المحسوسات ، وإنما قال بأن لهذه الماهيات استقلالاً ووجوداً ذاتياً تستقل به عن وجود غيرها من ا لأشياء الني تشارك فيها . وفي هذا تظهر الخاصية الرئيية للروح اليونانية ، خاصية تصوير الأشياء تصويرا تجسيميا لا يقنع بالتجريد بل يحاول دائما أن يعطي للأشياء وجودا ذاتيا مجسما . وقد دفع هذا التصوير التجسيمي أرسططاليس إلى نقد هذه النظرية نقداً يقوم في الواقع على اساس الشكل لا الجوهر، فهو يقول بنفس هذه النظرية في صورة أخرى ، فبدلاً من أن يضيف إلى الماهيات وجوداً مستقلا ذاتياً ، لا يفصل مطلقاً بين الماهيات وبين الأشياء التي تتحقق فيها هذه الماهيات . وهذا هو الفارق الأساسي الوحيد بين أرسطو وأفلاطون . ومصدر هذا كما قلنا ما لجأ إليه أفلاطون من تصوير تجسيمي لهذه الماهيات .
ماهية الصور
من هذا الذي وصلنا إليه حتى الآن نستطيع أن نستخلص أن الصور لا بد من القول جها بوصفها الأشياء الثابتة في مقابل المحسوسات المتغيرة على أساس أنها الماهيات الكلية في مقابل المحسوسات الكثيرة ، ولذلك فإن الصيغة الأولى التي يجب ان نعرف بها الصور أو الماهيات ، هي أن الماهيات أوالصوركليات . والكلي هوما يقال على كثيرين مختلفين في العدد ، متفقين في الماهية . وهذا التعريف نجده في «السياسة» (٥٩٦ أ)، كما نجد في «تائيتاتوس» ( ١٨٥ ب ) أن الكلي هو موضوع العلم . ثم نجد في و برمنيدس» ( ١٣٢ح ) أن الكلي والموجود شيء واحد ٠ وهنا يجب أن نتساءل عن الصلة بين هذا الكلى وبين الأشياءالتى هو كل بالنسبة إليها . فنجد أولاً أن هذا الكل لا كان وجوده وجوداً ذاياً ثابتاً ، فمعنى هذا أنه لا بد أن يوجد مستقلا عن الأشياء ، ولهذا فإن للصور وجوداً في عالم معين مختلف عن عالم الجزنيات المثاركة للصور في ماهياتها .
وقد اختلف المؤرخون في طبيعة هذه الصور نفها . اهي صور لها وجود حسي ، أم إن هذه الصور لها وجود غير حسي ؟ قال البعض إن لها وجودا حسيا ، ولكن هذا القول يتنافى تمام المنافاة مع أقوال أفلاطون نفسه وأرسطو نفسه الذي نقد نظرية الصور نقداً عنيفاً («ما بعد الطبيعة ا م ١ ف ٩ ص ٩٩٠ وما يليها ) ، إنما يقوم كل نقده على أن هذه الصور ليست عحسوسات ، وإنا هي ماهيات منفصلة تمام الانقصال عن الأشياء المشاركة فيها.
وقال آخرون إن للصور وجوداً غير محسوس . وهذا الوجودغير المحوس انقسم القائلون به إلى قسمين : فبعضهم يقول إن الصور أفكار في عقل الإنسان . أو هي أفكار في عقل التة . وهذا القول هو الآخر ليس أقل تهافتاً من الرأي السابق ، وذلك لأن أول خاصية من خصائص الصور أنها أزلية أبدية ، وإذا كانت كذلك فلا يمكن أن تكون مخلوقة سواء بالنسبة لعقل الله أو بالنسبة لعقل الانسان. وقد يقال إن أفلاطون يذكر في أحد المواضع أن زيوس يفكر عن طريق الصور ، ولكن هذا القول لا يختص بزيوس وحده ، بل بأي إله اخر من الآلهة ولا يمكن أن يقال إن الصور هي الأفكار التي على أساسها يخلق الله الأشياء ، كما سنرى هذا الرأي من بعد في المسيحية خصوصاً عند الفديس أوغسطين ؛ ولعل الأصل فيه أيضاً مذهب الأفلاطونية المحدثة .
هذا ويلاحظ أنه إذا كانت الصور أفكاراً في عفل الإنسان أو حتى في عقل الله ، فسيكون لها حينئذ وجود كوجود المحسوسات ، بمعنى أنه لكي يدركها العقل أولكي يدركها عقل الله لا بد أن تكون موجودة من قبل ، ثم يتأملها العقل الإنسافي أو العقل الإلهي على النحو الذي يفعله الحس ، فإنه لا يدرك الأشياء إلا بوصفها موجودة من قبل ، ليتأملها فيما بعد . ومعفى هذا كله أن الصور لا يمكن أن تكون أفكارا في عقل الته أو في عقل الإنسان . وإذا ض رداً على الاعتبار الأول إن الصور موجودة منذ الأزل بمثابة أفكار لله ، فإننا نجد أفلاطون ينكر بصراحة أن تكون الصور مخلوقة ، على أي نحو كان هذا الخلق : سواء أكان منذ الأزل ، أم كان خلقاً في الزمان وإنما الص ر ماهيات منعزلة مستقلة قائمة بذاتها في عالم علوي ، وليس للأشياء أوللكائنات بوجه عام من صلة بها غير صلة المشاركة ، ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراك هذه الصور إلا عن طريق التفكير العقلي ؛ أما عن طريق الحس فلا يستطيع أن يصل إلى شيء فهناك صورة للجمال في ذاته ، وهناك صورة للخيرفي ذاته ، وهاتان الصورتان تختلفان تمام الاختلاف ، سواء من حيث الماهية ومن حيث الوجود ، عن الأشباء الجميلة أو الأشياءالخيرة ، وهذا واضح خصوصاً إذا لاحظا النقد الذي وجهه أرسطو لنظرية الصور ، فإن هذا النقد يتجه في الأصل إلى فكرة وجود الماهيات في ذاتها منفصلة عن الموجودات.
كما أننا لا نستطيع أيضاً أن فهم ماهية الصور على لنحم الذي فعله لوتسه، فإن لوتسه في كتاب «المنطق» حاول أل يفس وجود الصور بذاتها ، على أساس ان هذا الوجود وجود ثابت مهما كان من شأن الأشياء المشاركة للصور، أوحتى لو افترضنا أن شيناً ما من الأشياء لم يشارك الصور في ماهياتها . فإن كان معنى هذا التفسير أن الماهيات ثابتة دائماً ولا تتغير ، فمن الممكن أن يعت ف به ؛ أما إذا كان امقصود بهذا أن وجود الصور هو هذا الوجود المنطقي القائم على الذاتية ، بمعى أن الصورتغلل ي هى مهها كان من شأن الأشياء التى تكونها، فإن هذا التفسيرلا يمكن أن يقبا تفسيراً صحيحاً لرأي أفلاطون.
قلنا عن الصور إغها كليات ، ولكن هل معنى هذ أن هذه الكليات وحدة ؟ هنا نجد أفلاطون يبحث بحثاً عميقاً عن فكرة الواحد والموجود ، أولاً في « السوفسطاثي » ثم في « برمنيدس )) فيحاول أولاً في ال السوفسطاني » ان يبين خطأ القول بأن الموجود وحدة ، لأننا إذا قلنا بالوحدة المطلقة ، فإننا لا نستطيع الحكم لأن كل حمل يقتضي وجود شيئين . بل وإذا قلنا متلا إن الوجود واحد ، فإن هذا القول نفسه غيرمكن إذا حسبنا الوجود وحدة لأننا قلنا هنا بصفتين ، هما أولاً الوجود وثانياً الوحدة . وإذا قلنا بهذا لم بمكن العلم ، مع أن العلم يقوم كله على إضافة الصفات إلى الموضوعات ، وفي هذه الحالة الصفة غير الموضوع ؛ إذن لا بد من القول بالكثرة . وإذا كان الإيليون يقولون يأن الوحدة لا يمكن أن يضاف إليها غير الوحدة ، أو ان الوجود لا يمكن أن يحمل عليه غير الوجود ، فإننا حينئذ لن نستطيع العلم بحال من الأحوال . وهذا الرأي غيرصحيح، لأنه يقوم أولا على فكرة أن العدم مستحيل ، فلا يمكن أن يضاف إلى الوجود غير الوجود.
ولكن أفلاطون يرد على هذا يأن يقول إن العدم موجود بمعفى من المعاني . أجل إن العدم المطلق مستحيل، ولكن العدم بمعى السلب والنفي مكن؛ هووجودمنظورا إليه من ناحية أخرى . فإذا فلنا لا أبيض مثلا فإن هذا القول ليس معناه العدم والاستحالة ، وإنما معناه وجود آخر غير الأبيض فاللاوجود بهذا المعنى هو وجود الغير . وعن هذا الطريق نستطيع أن نتبين كيف أن الحمل ممكن بين الصفات المختلفة عن الموضوعات بعضها وبعض ، فالشيء الواحد يمكن أن تحمل عليه صفات عديدة ، وقد تكون هذه الصفات نفسها متناقضة فيما بينها وبين بعض . فالوجود مثلا يمكن أن تطلق عليه الحركة والسكون ، والسكون والحركة متضادان ، وكل ما يطلب في الحمل أن تكون الصفة امحمولة غير متناقضة تناقضا ذاتياً مع الشيء امحمول . ولهذا كلم نستطيع أن نقول عن الوجود إنه يقبل التنافي ، يعني أنه يقبل صفات غيرصفاته هو ، أي بمعنى أنه يحوي الكثرة .
والخلاصة التى نستخلصها من هذا البحث في ماهية الحمل هي أن الحمل مكن دانمأ ، وذلك لان الوجود وحدة تتضمن الكثرة أو هو كثرة تتضمن الوحدة . وليس كثرة مطلقة ، وإلا لما أمكن العلم ؛ كما أنه ليس وحدة مطلقة ، وإلا لا أمكن الحمل كما رأينا . وليست مسألة الكثرة خاصة بالمحوسات أوالوجود الحي فحسب ، بل هي أيضاًتتعلق بالوجود غير المحسوس أو وجود الماهيات فإن الماهيات أو الصور عند أفلاطون ليست وحدة بأي معنى من المعاني ، وإنما كل صورة مستقلة عن الأخرى تمام الاستقلال ، لأنها ماهية أو صورة لشيء معين متمايزعن بقية الأشياء . وقد كان هذا أيضاً ما دعا أرسطو إلى نقد أفلاطون . ومن الطبيعي أن يفول أفلاطون بالكثرة إذا ما نظرنا إلى المصدر الذي صدرت عنه نظرية الصور عنده ، فإن هذا المصدر هو سقراط ، وسقراط كان يجعل من الكلي ماهية ، وكان يجعل للأشياء المتفقة ماهية واحدة ، ويقسم الوجود على هذا الأساس إلى ماهيات ختلفة بحب اتفاق كل مجموعة من مجموعات الوجود في ماهية بالذات . ولهذا يمكن أن يقال عن الماهيات إنها الأجناس والأنواع. وإذا كنا سنرى فيما بعد أن أفلاطون قد حاول أن يجعل بين الماهيات وحدة ، بترتيبها بعضها بالنسبة إلى بعض نرتيباً تصاعدياً في عالم المثل ، فالواقع أن هذه الوحدة هي وحدة في الترتيب لا وحدة في ماهية الصور . وقد يقصد بها في بعض الأحيان العلية بمعنى أن أعلى الصور تكون علة ، بعض الشيء ، وبمعنى سنحدده فيما بعد ، لبقية الصرر التي تأقي تحتها في سلم التصاعد . ويتضح هذا أكثز حينم نتناول الأن مألة الصور بوصفها أعدادا .
ومذهب افلاطون في الصور بحسبانها اعداداً مذهب متاخر لا نجده في مؤلفاته الأولى ، وإنما نجده خصوصاً فيما يورده أرسطو عن أفلاطون . ولعل السبب في ميل أفلاطون هذا الميل في أواخرحياته ، أنه قد شغل بالفلسفة الفيثاغورية في أواخر أيامه إلى حد كبير ، فأراد أن يوفق بين مذهب الفيثاغوريين في الوجود بحبانه أعدادا ، وبين مذهبه في الوجود بوصف أنه مشاركة في الصور , ولكن أفلاطون لم يكن في هذا منطقياً مع ا مبادىء والمقدمات التي بتدأ منها ، ولهذا نجد تصويررأيه في الصور بوصفها أعداداً ، يختلف . ولعل مرجع هذا في بعض الأحيان إلى ان أرسطونفسه - وهو الذي قدم لنا راي أفلاطون في الصور بحسبانها أعداداً وشرحم شرحاً وافياً - نقول لعل مرجع ذلك أن أرسطو حينما نقد نظرية الصور بحسبانها أعداداً لم يكن يفرق بين ما هو لأفلاطون وحده وما هو من صنع تلاميذه . خصوصاً ونحن نشاهد ان الأكاديمية بعد موت افلاطون قد اتجهت اتجاها رياضياً فيثاغورياً واضحاً ، خصوصاً عند اسبوسيبوس وإكسينوقراط . ومن هنا ينقسم البحث في هذه المسألة إلى قسمين : القسم لأول : الصور بحبانها هى نفسها أعدادا ؛والثاني : البحث في الصور على أساس ان لها وجوداً فوق الوجود الرياضي ، وذلك بالتفرقة بين نوعين من الأعداد : الأعداد الحسابية، والأعداد المثالية.
يفرق افلاطون بين نوعين من الأعداد : الأعداد الرياضية والأعداد المثالية . فهو يقول إن الأعداد بوصفها وحدات مقالة للأشياء الحسية هي الأعداد الرياضية ؛ أما الأعداد يحباها مبادىء الأشياء ، وعن طريقها نستطيع أن نستخلص بقية الوجود فيمكن أن تسمى باسم الأعداد المثالية او الأعداد كصور . فالوحدة والاثنان إلى العشرة ، هي أعداد مثالية لاننا نستطيع من هذه الأعداد وبحسب ترتيبها واستخلاص الواحد من الآخرثم استخلاص بقية الموجودات سن هذه العشرة أعداد الأولى ، أن نفسر الوجود ونفسر الأشياء من حيث و .ها الحسي .
يضاف إلى نظرية الأعداد بوصفها صوراً ، القول بأن الصور علل ولكن هذا الرأي أيضأ ليس رأياً شاعا في مؤلفات أفلاطون وإنما هو رأي يمكن أن يستخلص من بعض الأقوال التي أدلى بها في محاراته . فلنأخذ الآن في الكلام عن الصور بحسبانها أعداداً بوجه عام .
رأينا عند الفيثاغوريين أن العدد ، خصوصاً الوحدة والاثنان أو المحدود واللامحدود ، هما أصل الوجود . وبالطريقة عينها يحاول أفلاطون أن يوفق بين نظريته في المثل وبين نظرية الأعداد عند الفيثاغوريين ؛ ويطبق بعد هذا الصفات التي أضافها الفيثاغوريون إلى الأعداد على الصور نفسها ، فبنسب للصور أنها أصل الأشياء كما أن الأعداد أصل الأشياء عند الفيثاغوريين .
ذلك أنا نرى أفلاطون في مؤلفاته يفرق تفرقة كبيرة بين الأعداد الرياضية وبين الصور ، ولكننا نجد مع ذلك في بعض المؤلفات الأخيرة بذوراً لنظرية الصوربوصفهاأعداداً فإنكان قد قال ، في كل المحاورات تقريباً ، إن للاعداد صور كما ان لبقية الأشياء صوراً ؛ فإننا نجده في ا فيلابوس ا يقول إن من الممكن أن نطبق على الصور صفات العدد كما هي عند الفيثاغوريين، ويحاول أن يقرب قدر الإمكان بين الأعداد الرياضية وبين الصور بأن يقول إن وجود الأعداد هو وجود متوسط بين وجود الأشياء المشاركة في الصور وبين وجود الصور نفسها , ولكننا نجد أرسطويعرض هذا الرأي وهو أن أفلاطون رأى أن الصور أعداد ، عرضاً واضحاً ومن هذ العرض نستنتج أولاً انه إما أن تكون الأعداد أعداداً مثالية ، وإما أن تكون الصور نفسها أعداداً ٠ والأرجح في عرض أرسطولراي أفلاطون هو القول لثاني. أما القول الأول فإن لدى أفلاطون كثيراً من الأقوال التي تؤيده ، إذ هو يفرق تفرقة واضحة بين الأعداد المثالية وبين الأعداد الرياضية ، وتقوم هذه التفرقة على أساسين رئيسيين : الأساس الأول أن الصور العددية أو الأعداد المشالية لا تختلف فيما بينها وبين بعض من حيث الكم بل من حيث الكيف . والحال على العكس منهذا فيما يتعلق بالأعداد الرياضية ، فإنها تختلف من ناحية الكم لا من ناحية الكيف , وعن هذه الخاصية الأولى تنتج الخاصية الثانية وهي أنه بإضافة الأعداد المثالية بعضها إلى بعض لا ينتج شيء ، بينما نحن إذا أضفنا الأعداد الرياضية بعضها إلى بعض نتجت لنا أعداد جديدة . والاتجاه الذي أخذته الأكاديمية بعد ذلك لا يدلنا على أن أفلاطون قد كان يميل في آخر حياته ميلاً تامأ إلى القول بهذاالراي ٠ ولهذافإننانستطيع أن نفهم هذه الإشارة من جواب أفلاطون في مؤلفاته ومن عرض أرسطولمذهب أفلاطون في لصور بوصفها أعدادا ، نقول نستطيع أن نفهم ذلك على أساس أن أفلاطون قد قال إن الصور أعداد أوشبيهة بالأعداد إذ إن الصور يمكن أن تحتوي على أكثر من واحد ، أو بتعبير فيثاغوري ، أن تحتوي على المحدود واللامحدود ؛ وهذا ما انكره الإيليون في نظريتهم في الوجود . فهوهنا في الواقع يحاول أن يرد على الإيليين في قولهم بوحدة الوجود المطلقة . وهويرد عليهم ثانية حينما يرى الإيليين - ويتبعهم الميغاريون - ينكرون الحركة والتغير ؛ فالايليون والميغاريون قد أنكروا التغيروالحركة على اساس أن الوجود الحقيقي مجب أن يكون وجوداً ثابتاً . وأفلاطون نفسه لم يستطع أن يتخلص من هذه النتيجة ، ولكنه حاول من بعد أن يجعل للوجود علية، وهذه العلية اقتضت منه أن يقول عن الصور إنها علل ، والنتيجة لهذا أن يقول بالتغير والحركة . فأفلاطون قد اضطر من ناحية إلى القول بأن الوجود ثابت تبعاً لنظريته في العلم ، لأن العلم عنده لا يمكن أن يقوم إلا إذا كان موضوعه ماهيات ثابتة ؛ ولكنه من ناحية أخرى قال إننا إذا قلنا عن الصور إنها ماهيات ثابتة على وجه الإطلاق فقد سلبنا الفعل وسلبنا الحياة . والواقع أن أفلاطون يضيف إلى الصور أولاً الفعل والانفعال : فيقول إن مجرد علمنا بالصور يؤذن بان الصور نفسها تنفعل بأن تصبح معلومة ، فالانفعال إذن موجود . كما أننا من ناحيتنا حين نعلمها نحن نفعل ؛ فالفعل إذن موجود . كما أن هذا الوجود لا بد أن تنسب إليه الحياة ، وإذا نسببت إليه الحياة فقد نسب إليه الفعل ، أي نسب إليه التغيروالحركة. كما أن الحياة لا تقوم بغير العقل ، فإذا سلبنا عن الوجود الحياة فقد سلبنا عن الوجود أيضاً العقل، والعكس بالعكس .
وهنا نرى أفلاطون قد وقف موقفين متعارضين : فهو مضطر ، من ناحية الأساس الذي أقام عليه نظريته في العلم ، ثم نظريته في الصور ، أن يقول بأن الصور ذات وجود ثابت ، ولكنه مضطر من ناحية أخرى أن يقول بأن الصور فاعلة وقابلة بالتالي للتغير. فما وجم الاضطرار في هذا ؟ ولماذا اختلف أفلاطون في تفسيره عن الميغاريين والايليين ؟ العلة في هذا أن الميغاريين والإيليين قد نظروا إلى الوجودفي ذاته وبصرف النظر عن الأشياء المتحققة بالوجود ؛ بينما أفلاطون ، على العك من هذا ، قد استخلص نظرته في الصور على أساس تأمله في الموجودات والأشياء الحسية ، فكان لابدله إذن ، وهوينظر في الوجود ، أن ينظر في الصلة بين الموجودات المحسوسة وبين الموجودات الثابتة وهي الصور . وكان عليه أن ينظرإلى الصور جهاتين النظرتين المتعارضتين : النظرة الثابتة ، والنظرة الحركية أو الديناميكية . ومن هنا نستطيع ان نفهم لماذا قال بأن الصور علل كذلك . ثم إن فكرة المشاركة ، وهي الصلة بين الموجودات المحسوسة وبين اموخجودات المعقولة أو الصور ، تؤذن بضرورة وجود صلة العلية بين هذه وتلك . لكن أفلاطون لا يقف عند هذا الحد ، بل يحاول أن يرجع العلل المختلفة ، التي هي الصور ، إلى علة واحدة تسودها جميعاً ، وتلك هي الصورة الأولى أو الصورة العليا ، الا وهي صورة الخير . وهذا الرأي ، وهو أن الصور علل ، يؤيده ما هو مذكور في محاورة «فيلابوس» (٢٣ ج وما يليها)، فإنه فيها يقسم الوجود كله قسمة حصر إلى أربعة أقسام اللامحدود ، والمحدود ، والمركب من الاثنين ، وعلة التركيب . أما علة التركيب فيذكر عنها صراحة في هذا الموضع أنها هي العقل او الحكمة ، ويذكر عن اللامحدود أنه المادة لأنها قابلة لكل شيء -وسنرى هذا فيما بعد عند كلامنا عن المادة عند أفلاطون . فهل نقول إذن - ما دام أفلاطون لم يذكر في أي قم من الأقام توجد الصور ، ولا بد أن توجد في واحد من هذه الأقسام ما دامت هذه القسمة للموجود قسمة حصر - نقول هل معنى هذا ان الصور تدخل تحت المحدود؟ هنا نرى أفلاطون يقول عن المحدود إنه الأعداد والمقادير ، ويقول أيضاً كما رأينا منذ حين قليل إن الصور لا يمكن أن تكون أعداداً ( على الأقل كما ورد في مؤلفات أفلاطون من حيث إن للأعداد أيضاً صوراً ) فعلينا إذن أن نبحث عن شيء آخر ندخل تحته الصور .
يقول أفلاطون في أحد المواضع إن العقل والحكمة شبيهان بالصورتمام المشابهة. فإذاكانت الحكمة والعقل داخلين إذن في باب علل التركيب ، فمعنى هذا أنه لا بد أن ينطبق على ما يشابههما وهو الصور ، هذا القول أيضاً ، فتكون الصور داخلة تحت باب العلل . هذا ويلاحظ من ناحية أخرى أن أفلاطون يذكر بصراحة في » فيدون » أن الصور علل . والنتيجة الأخيرة التي يمكن أن تستخلص من هذ كله هي أن الصور علل كذلك.
نحن إذن أمام تصورين لماهية الصور : أحدهما الذي يجعل للصور وجودا ثابتا ، والآخر الذي يجعل الصور عللا فاعلة . فكيف نفسرهذا التناقض ؟ هنايمكن أن نفسرذلك أولاً بأن نقول-كما قال تسلر-إن فكرة العلة الفاعلية والعلة الصورية لم تكن واضحة عند أفلاطون كما هي واضحة عند ارسطو وعندنا نحن اليوم . فإذا قال أفلاطون عن الصور إنها علل ، بمعنى أنها علل صورية ، وقال عنها مرة اخرى إنها علل بمعنى أنها علل فاعلية- وفي الحالة الأولى يمكن أن يكون لها وجود ثابت ، وفي الحالة الأخيرة لا يمكن أن يكون لها ذلك الوجود الثابت - فإن ذلك يفسر على أساس أن التفرقة بين العلة الفاعلية والعلة الصورية لم تكن واضحة في ذهن أفلاطون . كما نستطيع ثانيا أن نفسر هذا التناقض على اساس ما قلناه عن منهج أفلاطون في البحث . فهو يحاول دائما - خصوصا في الأدوار الأخيرة من حياته - ألا يقول برأي قطعي وأن يعرض الأقوال المتناقضة ، ولا يستطيع أن ينتهي إلى نتيجة إيجابية . ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف قال بهذين القولين المتعارضبن . ومن هنا أيضاً يمكن أن يقال إن هذه المحاولات التي قام بها كثير من المؤرخين من اجل التوفيق بين الرأيين محاولات لا طائل تحتها ، خصوصاً إذا لاحظنا ان البعض من هذه المحاولات قد قام على أساس إنكار نبة محاورة ٠ السوفسطائي » إلى افلاطون . وما تكشف هذه المحاورة عنه من تناقض فيما بينها وبين محاورات أخرى فيما يتعلق بماهية الصور ، لا يمكن أن ينهض دليلا على أن هذه المحاورة منحولة وليست صحيحة النسبة إلى أفلاطون .
عالم الصور
إذا كان أفلاطون قد أقام نظريته في الصور على أساس أنها الكليات التي تجمع بين الأشياء المختلفة من حيث إن هذه الأشياء تتصف بصفات مشتركة ، فقد حاول أيضاً من ناحية أخرى أن يجعل بين الماهيات أو الصور روابط تشابه ، وأن يرتبها فيما بينها وبين بعض ترتيباً تصاعدياً .
يقول أفلاطون بأن الصورمفارقة ، فلننظر في الأشياء التي يمكن أن تكون لها صور . فنرى اولاً أن هذه لأشياء متعددة كل التعدد ، لأن كل جنس او نوع يمكن أن يكون صورة ، والأنواع والأجناس عديدة ، فالصور إذن عديدة . وليس هذا فحسب، بل إنكل شيء في الوجود -أوهذاعلى الأقل ما يظهر في المحاورات الأفلاطونية ، خصوصاً في الدورين الأول والثافي - نقول إن أفلاطون يرى أن كل شيء في الوجود له صورته ، فليست الصورة مقصورة على الأشياء الجميلة أو الخيرة أو الحقيقية ، بل لكل شيء مهما كان شراً أو قبيحاً أو باطلا ، صورته , بل ولا يقتصر هذا على الجوهر ، وإغما يتعداه أيضاً إلى النسب والإضافات . فالنسب بين الأشياء لها أيضاً صورتها : فالمشابهة والكبر والصغر لها أيضاً صورها ، بل وتسمية الأشياء لها صورتها كذلك . ويغلوأفلاطون في هذا القول فيذهب إلى حد القول ايضاً بأن اللاوجود له أيضاً صورته . ولكننا نراه مع ذلك قد حاول في أواخر ايامه ، كما يثاهد في عرض ارسطو ، أن يضيق من نطاق الأشياء التى لها صور شيئاً فشيئاً . فنجد عند أرسطو( « ما بعد الطبيعة ، م ١٢ ف٣،ص١٠٧٠أ١٣ ومايليه) أن أفلاطون ينكر أن تكون للأشياء المصنوعة صور ، وإنما الأشياء الطبيعية هي وحدها ذات الصور . وبعد أن كان أفلاطون يقول إنه حتى الشعر أو القذارة نفسها لها صور ، نجده يحاول شيئاً فشيئاً أن يقصر الصور على الأشياء الحسنة . ولكنه في هذه المحاولة نحوتضييق ميدان الصور إنما يسير في انجاه مضاد للمبدأ الأصلي الذي أقام عليه نظريته . فإذا كان مذهبه يقوم على أساس أن العلم لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الماهيات أو الصور، فإن معى هذا ان أي شيء يصلح ان يكون موضوعاً للعلم ،لابد أيضاً أنتكون لهصورته؛ ولما كانت هذه الأشياء التى يحاول أفلاطون أن ينكر أن تكون لها صور ، تصلح أن تكون موضوعاً لعلم ، فلا بد أيضا تبعا لمنطق مذهبه ، أن تكون لها هي الأخرى صور كذلك -
وعلى كبل حال فيلاحظ ان أفلاطون قد حاول من بعد ان يبحث في الصور الأساسية التي تحمل على الوجود - فهو يبحث في الشبيه واللاشبيه ، وفي الحركة، والمساوي واللاماوي، وفي الكبيروالصغير، وفي المحدود واللامحدود، ويجاول أن يربط بين هذه الصور وأن يحدد علاقاتها يعضها يبعض . ولكنه لم يتوسع في هذا البحث كثبراً، ولم يكن بحثه منظماً، وإنما كان بدءاً للبحث في هذا الاتجاه. فعلى الرغم من أنه ليس من العيرأن يكتشف الانسان في مباحث أفلاطون المقولات الأرسططالية، فإن أفلاطون لم يستطع، او لم يوضح بالفعل، المقولات التي تحمل على الوجود كله، وإليها يرجع كلحل على الوجود.وإنما كان بحثه بحثا موزعا غير منتظم، لا يكون مذهبا منطقياً وجودياً واضحاً.
ثم يبحث افلاطون بعد هذا في صلة المثل بعضهاببعض، ويقول إن الموجودات مترتبة ترتيبا تصاعديا. ويرتفع بهذه الموجودات شيناً فشيئاً حتى يصل في الصور إلى أعلى صورة، وهي صورة الخير، فيقول : كما أن الشمس هي مصدر الضوء والحياة في هذا الوجود، كذلك الحال في عالم المثل : صورة الخير هي مصدر النورومصدر الحياة بالنسبة إلى بقية الصور، فجميع الصور معلولة لصورة الخير، بمعنى أنه لا كانت صورة الخير أعلى الصور فإن ما تحتها من الصور يستمد وجوده منها، أو كما سيقول أرسطو فيما بعد («ما يعد الطبيعة» م١٢ ف٧ ، ص ١٠٧٢ ا ٣٥)، إن الأعلى في مجموعة هوعلة الوجود في بقية المجموعة. وهنا تعترضنا مسألة خطيرة كل الخطورة، وتلك مسألة الصلة بين صورة الخيروبين الله ٠ فإن أفلاطون يتحدث عن فكرة الخيركما رأينا بوصفها علة الصور. فإذا كانت الصور علة الأشياء، فعلة الصور هي علة الوجود، ومعنى هذا ان علة العالم هي صورة الخير. فكيف إذن نتصور الصلة بينها وبين الله؟ هنا نجد أيضاً موقفين متعارضين لأفلاطون: فهو في محاورة مثل «فيلابوس» (٢٢ ح) أو «السياسة» (٥١٧ ب) يجعل صورة الخيروالله شيثاً واحداً. ولكننا نجده مرة أخرى في «طيماوس» (٣٧ح)يقولإنهناك من ناحية: الصا نع ومن ناحية أخرى الصور، والصانع يخلق العالم بأن يتأمل الصور فالصور إذن موجودة إلى جانب الصانع أو الله. وهنا لا يمكن أن يقال ، توفيقاً بين هذه الأقوال المتعارضة، إن الصور أفكار الله فقد رأينا من قبل كيف أن هذا الرأي باطل ولا يمكن أن يقال بالنسبة لأفلاطون. كما لا يمكن أن يقال من ناحية أخرى إن ذلك التوفيق يأي عن طريق الفصل فصلا تاماً بين صورة الخيروبقية الصور، فإن كلام أفلاطون لا يسمح لنا بهذا الفصل التام وعلى هذا لا يمكن أن يقال عن الصانع إنه صورة الخير، في مقال الصور التي على أساسها يصنع الأشياء . فنحن إذا سرنا من «السياسة» مارين «بفيلابوس» واصلين حتى «طيماوس»، وجدنا رأي أفلاطون في هذه المسألة يتغيرتغيراً كبيراً : فبعد أن كان يجعل الله وصورة الخيرشيئاً واحداً، ينتهى بأن يفصل بين لاثنبن فصلا تاماً . والذي يميل إليه تسلر هنا هو أن يقول إن فكرة الصانع في «طيماوس» فكرة أسطورية غامضة، بينما نجد فكرة صورة الخير بوصفها علة الوجود فكرة واضحة في «السياسة» كل الوضوح، فالأفضل إذن أن نأخذ بهذا القول، وأن نطرح القول لأول. ولكننا نستطيع أن نرجع هذا الاختلاف في موقف أفلاطون فيما يتصل بالصلة بين صورة الخير وبين الله إلي نفس المنهج الأفلاطوني، وأن نقول إن أفلاطون كان متأثراً بعض التأثر بالدين الشعبي، ولهذا اضطر أن يتحدث عن الله كما تصوره الدين، ولكنه لم يحاول أو لم يستطع ان يوفق بين أقواله الفلسفية وبين هذه النظرة الدينية. وعلى كل حال فإننا نجد في «طيماوس» نزعة دينية واضحة، خلاصتها أن الله هو الخير، وأنه إنما يصدر عنه الوجود لأنه خير، والخير يقتضي الفيض والجود، وعن هذا الجود ينشأ العالم.