بارمنيدس
بارمينيدس بالإغريقية: Παρμενίδης) (540 ق.م - 480 ق.م) هو فيلسوف يوناني ولد في القرن الخامس قبل الميلاد في إيليا وهو من فلاسفة عصر ما قبل سقراط، وقد أدى دورًا مهمًا في تطوير الفلسفة قبل تطورها في عهد سقراط.
وكان فلاسفة الإغريق، قبل بارمنيدس يذهبون إلى أن أصل العالم والطبيعة يرجع إلى مادة واحدة مثل الهواء، أما بارمنيدس فقد استعان بالحجج المنطقية لتأييد اعتقاده بأن ما هو موجود في العالم إنما هو موجود سرمدي، غير قابل للانقسام، وثابت، ومحدود، ودائري. ولذلك لا يمكن أن يكون الموجود شيئًا آخر، كما أن الأشياء الأخرى لا يمكن أن تُفسّر بتغيير أحوالها. فالتغيير والتعدد مجرد أوهام.
ولد بارمنيدس في إيليا، وكانت مستعمرة إغريقية في جنوبي إيطاليا. وهو من أوائل الفلاسفة الإغريق الذين عبروا عن فكرهم شعرًا.
وقد ترك لنا بارمنيدس قصيدة «في الطبيعة» التي يذكر فيها ما يعتقد أنه الحقيقة المطلقة على نحو دوجماطيقي يقيني. وتنقسم قصيدته على الطبيعة إلى قسمين، كُتِبَ للقسم الأول منها الخلود، على الأرجح.
أفكاره
كان يرى بارمينيدس أن كل ما هو موجود قد وجد منذ الأبد. فلا يولد شيء من لا شيء، وما ليس موجوداً لا يمكن أن يُصبح شيئاً. ورُغم أن حواسُه تلحظ تحول الأشياء إلا أن عقله لا يُصدقها. وتركز عمله كفيلسوف في تأكيد خيانة الحواس، بكل أشكالها.
وهو كان يؤمن بالعقلانية وهو الإيمان الوطيد بعقل الإنسان، ويؤمن بأن العقل هو مصدر كل معرفة بالعالم.
فلسفته
أول الفلاسفة الحقيقيين في المدرسة الايلية هوبرمنيدس، ويعده البعض أول فيلسوف ميتافيزيقى وجد في بلاد اليونان ، خصوصاً إذا لاحظنا أنه فد قصر بحثه على فكرة الوجود، ونظر إلى الوجود بحسبانه شيئا مجرداً وليس هو الطبيعة نفسها . كما أضاف إلى الوجود الصفات الأصلية التي تجعل من هذا الوجود كالألوهية سواء بسواء . ولهذا لم يكن يفرق بين الوجود والآلهة ، لأنه ابتدأ من مسألة الوجود ، بأن قال إن الشيء الحقيقي الوحيد هو الوجود ، أما ما عداه فهو عدم ، والعدم لا يمكن ان يفهم ، ولا يمكن التحدث عنه ، وهو ليس وجوداً بأي حال من الأحوال ٠ وقد رأى برمنيدس عن هذا الطريق أن يحتفظ للوجود بكل صفائه ، ويجعله خالياً من العدم ؛ ولهذا فإن الوجود الحقيقي هو الوجود الثابت فحسب
فالوجود أولاً يتصف بالوحدة، لأنه لا شي، غير الموجود ؛ ويتصف ثانية بالثبات لأن كل تغيرفهومن الوجود إلى الوجود ، ومعى هذ أنه لا تغيرمطلقاً ، لأن التغيرمن الوجود إلى العدم لا يمكن أن يفهم : فمن الوجود ينتج الوجود ولا يمكن أن ينتج العدم ؛ وعلى هذا فالتغيرغيرممكن - وبهذا وضع برمنيدس الصيغة الأولى أولاً للمثالية ، وثانياً للقول بثبات الوجود ، وهوفي هذا قد عارض هرقليطس معارضة شديدة ، فبينما هو يقول بالوجود الثابت الدائم يقول هرقليطس بالتغير المستمر
وإبتدا ء من برمنيدس ستتخذ الفلسفة اليونانية طريقين : الطريق الذي يقول بالوجود الثابت والطريق القائل بالوجود لمتغير ، وسيأقي الفلاسفة بعد ذلك من اجل التوفيق بين هذين القولين المتعارضين ، وسيكون هذا التوفيق إما توفيقا آلياً كما سيفعل الذريون من بعد ، اوتوفيقاً روحياً عقلياً كما سيفعل أنكساغورس ، أوتوفيقا يجمع بين الاثنين وفيه عنصر أسطوري كما سيفعل أمبادوقليس. فإذا ما جعلنا نقطة البدء في فلسفة برمنيدس المشكلة التي ظهرت في فلسفة إكسينوفان -ولكنه لم يستطع أن يحلها - ، وهي مسألة التوفيق بين الثبات الواجب للوجود ككل والتغير الذي تدل عليه الحواس في جميع الجزئيات - فإنا نرى برمنيدس قد اضطر أيضاً إلى البحث في مشكلة المعرفة لأن الحواس تدلنا على أن الوجود متغير ، فكيف نستطيع أن نفسر هذه المعلومات التي تقدمها لنا الحواس ؟
كان على برمنيدس من أجل هذا أن يبحث في المعرفة الحسية من أجل أن يقدر قيمتها في تحصيل المعلومات وإدراك الحقائق ، وقد انتهى عن هذا الطريق إلى مذهب عقلي مثالي يصور الوجود الخارجي على أنه وهم ويجعل الوجود الحقيقي وجوداً آخر هو الوجود الذي يكشف لنا عنه العقل ، وبهذه التفرقة بين المعرفة العقلية وبين المعرفة الحسية وضع برمنيدس لأول مرة مشكلة المعرفة في وضعها الصحيح .
يبدأ برمنيدس بنظرية المعرفة فيقول : من الواجب أن يفرق الإنسان بين نوعين من المعرفة . المعرفة الأولى هي الظنية اوالظن ( دوكسا ٠ع0ة ) والمعرفة الثانية هي المعرفة العقلية . أما المعرفة الأولى فليست جديرة بأن تسمى معرفة لأي اراء و تصورات شعبية وهمية ، بينما ا معرفة العقلية هي وحدها المعرفة الحقيقية لأن الحواس تصور لنا الوجود في شكل تغير ، والحقيقة تصبح تبعاً للحواس خيالأ وحلماً فحسب ، على حين أن العقل هو الذي يستطيع أن يصور لنا الوجود الحقيقي . والآن ، فما هو هذا الوجود الذي يصوره لنا العقل ؟ هذا الوجود هو الوجود امطلق ، الأزلي الأبدي ، الواحد ، غير لمتغير ، غير الحال في المكان . وهو الوجود الذي لا يمكن التعبير عنه . فالوجود أولاً هو كل شيء ، لأن ما عدا الوجود ، وهو العدم، ليس بشيء : فلا شيء خارج الوجود يمكن أن يعقل أو يؤكد ، بل العدم نفسه لا نستطيع أن نصوغه في صيغة السلب ، لأن صوغه أوتصوره معناه أننا نمنح العدم شيئا من الوجود، ولو انه وجود ذهني، وليس وجوداً واقعياً ، ومن هنا فلا نستطيع ان نعقل العدم أو ان نتصوره ٠
ثم إن الوجود إذا كان كذلكفهوواحد ومطلق. وذلك لأنه إذا لم يكن واحداً ، فمعنى هذ أنه متعدد ، ومعنى أنه متعدد أل هناك شيئا اخر غير الوجود به يكون التعدد والتفرقة . ولما كان الوجود هوكل شيء ، فإذاً لا يمكن أن يكون هناك شيء آخر غير الوجود والعدم به يكون التعدد والتفرقة . فإذا قلنا عن التفرقة إنها من الوجود ذاته ، فمعنى هذا أننا نقول إن الوجود مبدأ التفرقة في الوجود ، وهذا خلف .
والوجود ثابت ، لأن التغيرمعناه ان يأخذ الشيء شيثاً لم يكن عنده من قبل أو أن يؤخذ منهشيءكان فيه من قبل، ولما كان الوجود هو الكل ، فلا يمكن أن يضاف إلى الوجود شيء جديد لم يكن لديه منقبل،كما أنه ا يمكن أن يؤخذ منه شيء كانفيه من قبل. وعلى هذا فالوجود غيرمتغير. هذا إلى أن التغيريقتضي المكان ، والمكان هوالسطح الحاوي للأجسام المحوية ، فإذا لم توجد أجام ، لم يكن ثمت مكان . والآن ، فإنه لما لم يكن هناك أجسام فلن يكون هناك مكان، وبالتالي لن تكون ثمت حركة . وعلى هذا فالوجود ثابت .
والوجود قديم أبدي ، لأنه إذا كان حادئاً فإنه في هذه الحالة إما أن يكون محدثاً لنفسه وإما أن يحدثه غيره ، والفرض الثافي غير صحيح لأنه لا شيء غير الوجود كما قلنا من قبل . والفرض الأول كذلك غير صحيح ، لأنه إذا كان هو الذي يحدث نفسه ، فلماذا أحدث نفه في لحظة دون لحظة أخرى ؟ إن حدوثه في لحظة دون لحظة أخرى معناه أن هناك دافعاً سبب اختياره هذه اللحظة دون تلك اللحظة وهذا الدافع لا بد أن يكون شيئاً غير الوجود ، ومعنى هذا أن هناك شيثاً غير الوجود ، وهذا خلف كما ذكرنا من قبل. وإذا كان قد حدث ، فمعنى هذا أنه حدث من غيره ، وهذا الغيرهوالعدم ، والعدم لا موجود كما قلنا ،أي أنه ا يمكن أن يكون علة ولا معلولا ، ومن ثم فهولم بحدث ، أي أنه قديم ؛كما ان معنى هذا ايضاً أنه أبدي ، لأنه لا ينتقل إلى العدم ، من حيث أن العدم لا يمكن أن ينتج عن الوجود ، ومعى هذا أن العدم لا يمكن أن يكون معلولاً أوعلة ، وإذا لم يكن معلولاً فإن الوجودابدي ؛ وإذا لم يكن علة ، فإن الوجود قديم أوأزلي .
وإذن فالوجود هوالكل ، وهوواحد ، وهوثابت ، وهو ازلي، وهوأبدي. والآن، فماهو الفكر؟إن الفكر لا يمكن ان يكون غير الوجود ، والوجود الذي يعقل ذاته هو أيضاً وجود ، فالوجود والفكر إذاً ، أو الوجود والماهية - كما سيقال فط بعد-شي وبحد.
ذلك هومذهب برمنيدس الرئيسي في الوجود، وهو المذهب الذي يقول بالعقل . ويكون الشطر الأول من مذهبه . إلا أن برمنيدس - مع ذلك - في الشطر الثاني من قصيدته يتحدث عن الوجود كما تصوره الحواس أو كما يصوره المعتقد العامي ، أي أنه يجب ألا نفهم هذا الجزء على أنه مذهب فال به برمنيدس نفسه من حيث إنه هو مذهبه ، بل نفهمه على أنه قول اراد به برمنيدس أن يصور الوجود الذي تتصوره الحواس . يقول برمنيدس هنا إن الوجود مثل الكرة ، لأن الكرة هي أكمل الأجسام، ومستوية من جميع النواحي ، وثابتة في كل أجزائها .
رم ينتقل إلى بيان أصل الوجود فيقول إن له أصلين : هما الحار والبارد او النور والظلمة ، وعن هذين المبدأين ينشأ الوجود ٠ وهو يسمي هذين المبداين ايضاً باسم الزوج والزوجة، وعن هذا التزاوج بين الاثنين ينشأ الإروس أي الحب، وعن الإروس ينشأ باقي الوجود . ولا يعنينا هنا ما يقوله برمنيدس في الطبيعيات ومذهبه الكوفي ، بل يعنينا أن نرجع إلى اقواله الأولى، لكي نبين مكانة برمنيدس في تاريخ الفر.
يختلف المؤرخون اشد الاختلاف في هذا الصدد . وذلك لأن برمنيدس يصور الوجود تصويراً حسياً خالصاً فيقول إنه الملاء. فهذا القول دعا تسلر ثم بيرنت إلى القول بأن برمنيدس لم ينظر إلى هذا الوجود كوجود عقلي، لأنه تصوره تصوراً حسياً من حيث إن الوجود هو الشيء المادي الباقي ، أو الأساس لكل الموجودات. وعلى هذا الأساس يقول بيرنت إن برمنيدس وإحدي مادي اوأبو المادية. وعلى العكس من هذا الرأي ، يقوم رأي آخر مناقض للأول تمام المناقضة ، وهذا الرأي هو الذي يجعل من الوجود عند برمنيدس وجودا عقليا صرفاً . وأصحاب هذ الرأي نوعان : منهم من يجعل هذا الوجود وجودا ميتافيزيقيا، ومنهم من يجعله وجودا منطقيا صرفا ، فالأولون يجعلون برمنيدس - على العكس عما يقوله بيرنت - أبا المثالية ، اما الآخرون فيجعلونه رجل منطق فحسب انصرف عن ادراسة الطبيعية انصرافا تاما بوصفها أشياء لا غناء فيها ؛ فماذا يعنيني أن أعرف أن أصل الوجود الماء
او الهواء أو النار ، وماذا يعنيني أن أعرف أن مركز الوجود هو النار . . . كل هذه وهميات وظنيات وتصورات من إبداع الحواس أومن نسج الخيال . ومن بين الأولين - وعلى رأسهم جومبرتس - من يجعل الوجود عند برمنيدس متصفا بالصفات التي للجوهر عند اسبينوزا فصفات الجوهر عند اسبينوزا الامتداد والفكر، وكذلك الحال في الوجود عند برمنيدس : هومتصف بصفات الامتداد والفكر فحسب . وفي مقابل ذلك يقول ال منطقيون ، أو الذين يتصورون الوجود عند برمنيدس تصوراً منطقياً ، إن يرمنيدس قد نظر إلى هذا الوجود نظرة منطقية خالصة ، بمعنى أن الوجود هو الفكر وأنه وجود في الذهن او في العقل، وأن الوجود الخارجي وهم. ومن أصحاب هذا الرأي رينهرت ثم انصار مدرسة ماربرج ، ولكن أصحاب هذه النزعة قد غالوا فيها مغالاة شديدة ، وخصوصاً برونو بوخ، لذا يجب ألا نأخذ بتصوير مدرسة ماربرج لفكر برمنيدس ، كما يجب ألا نأخذ بنظرية اتسلر وبرنت.
وخلاصة ما نقوله نحن هو أن الوجود عند برمنيدس ليس هو الوجود الحسي ، كما أنه ليس الوجود المنطقي الصرف ، بل هو وجود حاول صاحبه أن يرتفع به عن الوجود الحسي ؛ لكن درجة التجريد، فيما يتصل بالوجود، لم تكن كافية لكي تجعل من هذا الوجود وجوداً لا حسياً و وجوداً منطقيا