نظرية المعرفة الأفلاطونية

نظرية المعرفة الأفلاطونية تحوي على المعرفة الأفلاطونية والتي تقول أن الأفكار هي عملية فطرية وأن التعلم هو عملية استكشاف الأفكار المدفونة في أعماق الروح والتي هي في كثير من الأحيان تتم تحت تأثير المستجوب الذي يقوم بعمل مماثل لعمل القابلة. في عدة حوارات كتبها أفلاطون بلسان شخصية سقراط يعرض رأي سقراطي يرى أن وجدت الروح قبل الولادة بشكل الفضيلة و بمعرفة كاملة للأفكار. بذلك، يكون "التعلم" عنده هو مجرد تذكر.في.

لفت أفلاطون إلى الاختلاف الحاد بين المعرفة والتي هي مؤكدة وبين الرأي الصحيح، والتي هي غير مؤكدة. تستمد الآراء من التحولات في عالم الإحساس، بينما تستمد المعرفة من عالم الأشكال السرمدية فيما يسمى بالجوهر. أوضح هذه الأفكار في كتابه "الجمهورية" ، باستخدام استعارة الشمس، وقياس على تقسيم الخطوط ورمزية الكهف.

شرح

لنبدأ عرض فلسفته بالبحث في نظرية المعرفة لديه ، ثم نبحث في نظرية المثل أو الصور، وإن كان هذان الفرعان مرتبطين أشد الإرتباط . وعلى كل حال فنقطة البدء ستكون الأساس الذي عليه أقام أفلاطون فلفته ، وكان هذا الأساس نتيجة هدم لما هو مألوف . فهذا الدور- دور التأسيس -سيكون إذن دوراً سلبياً من ناحية ، وإيجاياً من ناحية أخرى : سنجده سلبياً فيما يتصل بنقد الرأي الشائع وبنقد السوفطائيين ، وسنجده إيجابيا حينما يبين لنا أفلاطون منهجه الجديد الذي على أساسه سيضع فلسفته

وأول ما يعترضنا في هذا الباب هو أنه من الواجب التفرقة بين العلم غير الصحيح والعلم الصحيح : بأن نفرق بين الأقوال الثعبية أو الأقوال المألوفة ، وبين الأقوال العلمية الصحيحة : فمصدر المعرفة بالنسبة للرأي الشائع هو اولاً الإدراك الحسي، وثانياً اتصور الصحبح. إلا أن الإدراك الحسي لير هو العلم بالمعى الحقيقي ؛ لأن الإدراك الحسي يصور لنا نفس الشيء تصويرات متناقضة متضاربة ؛ فيصور الشى ء الواحد باردا وحاراً ، رطباً ويابسأ . وهكذا نجد أن الحواس نخدعنا خداعاً كبيراً . وإلا فإنه إذا كان التصور هو العلم بال معفى الحقيقي ، فإننا لن نستطيع حينئذ أن نفسر التصور الحاطى، ؛ لأن التصور الحاطى، ، أو التصور بوجه عام ، إما أن يتعلق بما هو معلوم ، وإما أن يتعلق بما هو مجهول . وما يتعلق بما هو معلوم لا يمكن إلا أن يكون علما صحيحاً فلا يمكن إذن أن يكون تصوراً خاطئاً . وما يتعلق بما هو مجهول لا يمكن أن يتصور ، فلا يمكن إذن أن نتحدث عن تصورخاطىء ، وتصور غير خاطى، . كذلكلا يمكن أن يقال إن موضوع التصور الحاطى، هو العدم أو اللاوجود ، لأن للاوجود يناظره الجهل، ولا يمكن أن يناظره علم، مهما كان من شأن المعنى الذي نعطيه لهذه الكلمة الأخيرة. فمعى هذا كله أن العلم والتصور ليسا شيثاً واحداً، وإنما العلم هو دائثما الإدراك اليقيني المطابق للواقع. ولا يمكن أن يكون ثمة علم خاطى،، وإنما يقال فقط علم أوجهل، بينما في حالة التصور يقال تصور صحيح وتصور خاطىء.

هذا ويلاحظ أيضاً أن العلم لا يأتي عن طريق التعليم ، أما التصور فيمكن أن يصل إليه الإنسان عن طريق الإقناع، ولهذا برع السوفسطائيون في إقناع الناس بالأكاذيب أو التصورات غير المطابقة للواقع . والسبب في هذا راجع إلى الاختلاف الرئيسي بين حقيقة التصور الصحيح ، وبين حقيقة العلم بمعناه الحقيقي . فالعلم يتعلق بحقيقة الأشياء ، على أساس أن هذه الحقيقة حقيقة ضرورية صادرة بالضرورة عن طبيعة الأشياء نفسها ، أما التصور الصحيح فلا يلاحظ فيه فكرة الضرورة . ونحن نرى أفلاطون في « طيماوس » يلخص هذه الأشياء كلها فيقول إن العلم يأقي عن طريق التعليم ، بينما التصور الصحيح يأقي عن طريق الإقناع ، والعلم يتعلق بحقيقة الأشياء بوصفها حقيقة ضرورية، بينما التصور الصحيح لا يتعلق بالأشياء من هذه الناحية وسنرى فيما بعد ، حينما نتحدث عن مذهب الوجود ، كيف أن أفلاطون ، خصوصاً في « الجمهورية » يقول إن التصور الصحيح يتعلق بالصيرورة، بينما العلم بمعناه الحقيقي يتعلق بالوجود . وعلى هذا فالتصور الصحيح مرتبة وسطى بين الإدراك الحسي وبين العلم الحقيقي ، ما دامت تناظره هذه الدرجة الوسطى من درجات الوجود، درجة الصيرورة التي هي خليط من التغير المطلق عديم الصورة وهو المادة الأفلاطونية ، ومن الوجود الثابت الساكن الذي هووجود الصور. ومثل هذه التفرقة نجدها أيضاً في الأخلاق فهناك فضيلة شعبية وهناك فضيلة علمية ، اوفلسفية إن صح هذا التعبير . أما الفضيلة الشعبية فهي تلك التي تصدر دائما عن العادة ، بينما الفضيلة الفلسفية هي تلك التي تقوم على أساس العلم . والفضيلة الشعبية تعتمد ، تبعاً لهذا ، على الظروف والصدف ؛ ومثال هذا ما نجده من آراء أخلاقية صحيحة لدى من يسمونهم باسم الحكماء أو الشعراء، فإن هؤلاء قد وصلوا إلى إدراك الفضيلة ، ولكنهم لم يصلوا إلى هذا عن طريق العلم بل عن طريق الصدف ، بشيء من الوحي أوالمعونة الإلهية . وإنما الفضيلة الحقة هي تلك التي تصدر عن العلم ؛ بل إن الإنسان الذي يرتكب إثماًوهو عالم به خيرمنه حينما يرتكب إثماً وهوغير عالم به . وبهذا يثور أفلاطون على تلك الأعذار التي ينتحلها الناس عادة حينما يبررون ارتكاب الآثام عن طريق الجهل بأنها آثام ، ومرجع هذا - كما سنرى فيما بعد في الأخلاق - إلى أن الناس جميعاً متساوون في طلب الغاية من لأخلاق ، لان إنسانا ما من الناس لا يمكن أن يكون شريرا باختياره ٠ وإنما يختلف الناس بعضهم عن بعض بالعلم : فهذا يعلم علماً خاطثاً ان هذا الشيءخير بينما الآخر يعلم علماً صحبحاً ان هذا الشيء نفسه شر ، فالأول يفعله والثافي يتجنبه ؛ ومن هنا فالاختلاف ليس في الغاية، وإنما الاختالاف دائفي عدم كله يماهية الغاية.

وإذا أردنا أن نتبين النتائج التي ترتبت على النظرة الشعبية للفضيلة وجدنا أنها نتائج تتعلق إما بماهية الفضيلة وصورتها وإما بالدوافع إليها والغاية منها . فمن ناحية صورة الفضيلة وماهيتها ، يلاحظ أن النظرة الشعبية قد فرقت بين الفضائل ولم تجعل الفضائل واحدة ، بينما النظرة الفلسفية تؤكد أن الفضائل كلها واحدة وذلك لأن ما يجعل الإنسان الواحد فاضلاً ، لا بد أن يجعل الإنسان الآخر فاضلاً كذلك، ومن هنا اتحدت الفضيلة فيما بين الأفراد بعضهم وبعض ، وبصرف النظرعن الأفراد الذين يحققوها أوتتحقق فيهم . ويلاحظ أن الفضيلة هي العلم ، فالفضائل كلها لا بد أن تتوافر فيها صفة واحدة إذن هي صفة العلم ٠ وإذ كنا سنرى أن أفلاطون في والسياسة» (٣٢٧ د - ٤٣٤ د) يفرق بين الفضائل، فلا يمنع ذلك من أنه حتى في هذا الدور نفسه كان يؤمن بأن الفضيلة واحدة ما دام مصدرها واحداً ، ألا وهو العلم . كذلك فيما يتصل بالدوافع أو البواعث ، والغايات : نجد النظرة الشعبية تختلف كل الاختلاف عن النظرة الفلسفية، فالنظرة الشعبية تجعلالباعثعلى الفضيلة اللذة أوالمنفعة ، وتجعل الغاية تحقيق السعادة الفردية بمعنى الخلومن الألم وتحصيل اللذات ، بينيا ننظر النظرة الفلسفية عل العكس من هذا ، فترى أولاً ان للذة والألم شيئان ظاهريان فحسب . ولا صلة لهما مطلقا بالقيمة الحقيقبة للأفعان : فأحياناً يكون الشر لاذا والخير مؤلماً ، وأحياناً ينفصل الواحد عن الاخر فلا يتبع احدهما الآخر ٠ وعلى كل حال فليس ثمة رابطة ضرورية بين الخيرواللذة من ناحية ، وبين الشر والألم من ناحية أخرى .

وفي « فيلا بوس » ( ٢٣ ب - ٥٥ ج) يبحث أفلاطون في هذه المسألة طويلاً ويبين أن اللذة بوجم عام يخطى أنصارها ، ويناقضون أنفسهم أيضاً . فإنهم لا يقولون بأن كل لذة خير، وإنا يفاضلون بين اللذات ، ويتركون البعض من اللذات طلباً للذات اخرى . ولوكانوامنطقيين مع أنفهم ، إذن لما فاضلوا بين اللذات ، وإذن لما تركوا لذة مهما أنتجت من الام . ويلاحظ على وجه العموم أنه في بيان الغايات والدوافع التي تدفع إلى فعل الفضائل وطلب الخير ، كانت تلك النظرة الشعبية نظرة خاطئة يجب القضاء عليها . وهذا ما فعله لسوفسطائيون في واقع الأمر ، فإن السوفسطائيين حين وجدوا هذا الخطأ في التصور الشعبي ، سواء في المعرفة وفي الأخلاق ، اندفعو إلى القضاء على كل تصور ، وحاولوا أن يقيموا مكانه تصوراً خاطئاً هو التصور الفردي ، وهذا التصور الفردي يؤذن بأن لكل إنان أن يرى ما يراه هو وأن يفعل ما يراه هو ، فكان على أفلاطون مرة أخرى أن يهاجم هذه النزعة السوفسطائية لأنها تؤدي ، في نظره ، إلى الفضاء على الأخلاق، وإلى القضاء على المعرفة ٠

والنزعة السوفطائية تتلخص في قول بروتاغوراس المشهور : « إن الإنان مقياس كل شى، » ، وهذا القول يتضمن مبدأين : امبدأ الأول ان الحق هوما يبدولي حقاً ، وان لباطل هوما يبدولي باطلا ، والمبدا الثاني هوان الخيرما أريد ، وأن الشر ما لا أريد أن أفعله . قلا بد لأفلاطون من أن ينقض هذين المبداين واحداً فواحداً . أما المبدأ لأول ، وهولخاص بنظرية المعرفة ، فقد قال عنه إن هذا المبدأ لوسلمنا به ، إذن لقضينا على كل حقيقة ولما كان ثمة حقيفة، لأذ الحقيقة هي دائماً في الثبات ، وإذا انعدم الثبات انعدمت الحقيقة . فإذ كان السوفطائي يقرل بان الحقيقة بالنسبة لكل فرد بحسب ما يبدو له ، ولما كان الأفراد مختلفين ، فمن الضروري إذن أن تكون الحقيقة مختلغة أو بعبارة اخرى ألا توجد ثمة حقيقة ؛ لأن الفرد الواحد قد ينظر إلى شيء بنظرة تناقض النظرة التي ينظر بها شخص آخر إلى هذا الشيء عينه ، وهكذا نستطيع أن نضيف إلى الأشياء ، المتناقضات . وهذا يدعونا إلى أن نقول بما قال به هرقليطس من أن الشيء الواحد تتتابع عليه الأضداد باستمرار، وان الوجود دائم السيلان، وان لا شيء ثابت، وبالتالي لا يمكن ان نتحدث عن حقيقة ما من الحقاثق. وإذا كانت الحال كذلك فلاعلم ولا معرفة، ما دام العلم لا يقوم إلا على الحقائق اكابتة، ففي هذا المبدأ إذن نفي للعلم. فإذا نظرنا الآن إلى المبدا الثافي، وجدنا ان هذا المبدأ باطلكذلك، لأن السوفسطائيين يقولون بأن القوانين أو الأخلاق هي في البدء من وضع الأقوياء ، وأن تانون القوي هو القانون الأخلاقي ، وأن لكل إنان ان يفعل ما يقوى عليه . وهنا يجيب أفلاطون بأنه ليس لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه ، وإنما يجب على كل إنان أن يفعل ما يريده ، وما يريده لا يمكن أن يكون أي شيء كان، ل يجب عب أن يطلب الخير، فالعدالة إذن لا تقوم إلا على أساس الخير، ولا تقوم علىحق الأقوياء .

ذلك أن العادل إذا فعل، فإنما يفعلضد الظالمين، بينما الظالم إذا فعل فهويفعل ضد الظالمين والعادلين في ان واحد . كما أن الظلم مصدره الفردية . وإذا كان لكل أن يفعل ما يهواه ، فلن تقوم الجماعة الانانية ، وستصبح الحياة في المدينة مستحيلة . ثم يبحث افلاطون طويلا في « فلابوس » -وسنرى ذلك مفصلا فيما بعد - عن ماهية الخير عحاولا أن يربط هذا بنظريته في الوجود ،فيقول إن اللذة والألم منعلقان بالصيرورة والتغير ، بينما الخيرلا يتعلق بغيرالوجود اكابت ؛ ويقول مرة أخرى إن اللذة والألم يتعلقان باللامحدود ، بينما الخيريتعلق بالمحدود , والمهم في هذا كله ان الخيرلا بد أن يتعلق بشيء خالد ثابت أزلي ابدي عار عن المادة بينما الألم واللذة يتعلقان بالتغيرات . فالفارق كبير إذن بين المادة والألم من ناحية ، وبين الخيروالثر من ناحية أخرى . ومعنى هذا كله أن المبدأ الذي تقوم عليه الأخلاق السوفطائية هونفس مبدأ التغيرالذي فامت عليه نظريتهم في المعرفة ، ولا بد من ان نطرح هذه النظرية في الأخلاق ، كما طرحنا من قبل نظريتهم في المعرفة .

ثم يحمل أفلاطون على الوفسطائيين حملة عنيفة بوصفهم يدعون أنفسهم مربين ، ويقول إن الفن السوفطاثي قائم على الوهم، لأهم يعلمون الناس أشياء يعلمون هم انفسهم أها باطلة، ويحاولون أن يتملقوا الجمهور. ولا يحاولون الوصول إلى العلم ، وإنما يحاولون الإقناع فحسب ، وتلك مهمتهم . والشيء الرئيسي الذي تقوم عليه الحملة الأفلاطونة ضد السوفسطائيين هو فكرة التغير والثبات سواء في المعرفة أوفي الأخلاق . فهو يطلب العلم بالماهيات لأنها ثابتة ، وهؤلاء يطلبون العلم بالمتغيرات لأنها تؤيد النزعة الفردية ، لذا حمل عليهم هذه الحملة - فإذا انتهى من نقده للسوفسطائيين ، كان عليه أن يقيم مذهبه الجديد.

وهذا المذهب يقوم اولاً على أساس الدافع الذي يدفع إلى الفلسفة ٠ وهذا الدافع هو ما يسميه أفلاطون باسم الإروس أو الحب . فهو بقول إن الإنسان حين يتذكر ما رآه من صوروماهيات في حياته لسابقة ، ويقابل هذه الصوربالأشياء المقابلة لها في العالم الحسي ، يشعر أولاً بالجزع ، ثم يشعر ثاياً بحماسة شديدة نحو التشبه جهذه الصور ، فينتج عن ذلك دهشة ، والدهشة أساس التفلسف . فهذه العاطفة ، أوهذا الوجدان ، مزيج من الحماسة والجزع والدهشة وحب الاستطلاع . وهو يتعلق أول ما يتعلق بالأشياء الجميلة امحسوسة ، لأن الصور أظهر ما تكون ، بالنسبة إلى المحسوسات ، في المحوسات الجميلة فيتعلق بهذه المحسوسات الجميلة ويشعرمن ناحية أخرى بنزعة نحو لتشبه بهذه الصور التي رآها في عالم سابق من حيث خلودها ، فينبغي حينئذ ان يستمر هووأن يكون خالداً . وهذه انزعة إلى الخلود تتحقق عن طريق الولادة ، أي تتحقق عن طريق غريزة الإنتاج . ومن هنا ، ولهذا كله ، سميت تلك النزعة باسم الإروس أو الحب . إلا أن هذه النزعة نزعة فحسب ، أي إنها لبست تملكاً ، فهي في حالة وسط بين الجهل أو المعرفة الفاسدة التي هي المعرفة الحسية الظنية ، وبين حالة المعرفة المثلى وهي معرفة الصور . وهذا ما يميزفكرة الإروس عند أفلاطون , فلا يستطيع الإنسان أن يقتصر على الإروس ، بل لا بد له أن يتعدى هذا الدور إلى دور تال سنتحدث عنه بعد حين . وهذا الإروس أو الحب ليس من نوع واحد ، بلهناك أنواع مختلفة ، فأول وأحط مرتبة من مراتبه هي التعلق يالأشياء الجميلة ، وتعلوعليها مرتبة ثانية فيها يتعلق الانسان بالحقائق الفنية من حيث إنه يوصلها إلى الغير ، وفوق هذه المرتبة مرتبة ثالثة فيها يتعلق بالعلم بوصفه علما ، وبالجمال من حيث هو جمال . والمرتبة العليا والأخيرة هي المرتبة التي يتعلق فيها بالماهيات والصور وحدها ، بصرف النظر عن كل شيء آخر .

وقد قلنا إنه ليس للإنسان مطلقاً ان يقتصر على هذه الخطوة لأنها مرتبة وسط ، ولأنها على حد تعبيرأفلاطون ، مزيج من البييامءع^والبورس و000* أي الفقر والثراء، وإنما لا بد أن تأقى خطوة تالية هى خطوة التفكير الفلسفى بمعناه الصحيح ، وهي خطوة الديالكتيك , وأفلاطون يكرر مراراً في « فدرس»(ص ٢٦٠- ٢٧٠ ) أولأ أن لإروس في مرتبة أدن من الديالكتيك . ثم يقول في « فيلا بوس »( ١٦ ب وما يليها ) إن المعرفة الديالكتيكية هي المعرفة الفلسفية بمعناها الكامل ، ولا يمكن أن يحصل الإنسان على العلم بمعناه الحقيقي إلا عن طريق الديالكتيك. والديالكتيك ينقسم إلى قسمين : إستقراء ، وقسمة . أما الاستقراء فهو أن يلاحظ الإنسان كل الجزئيات ثم يرتفع من هذه الجزئيات إلى الصفة العامة التي تربط هذه الجزئيات بعضها ببعض . وهنا يلاحظ أنه ، وإن كان أفلاطون قد تاثر بأستاذهسقراط، فإنه أصلح منبج أستاذه إصلاحا كبيرا . فقد قال إن الصفات المشتركة التي يجب الوصول إليها ليست أية صفات كانت ، بل يجب أن تكون صفات جوهرية ، وبعبارة أخرى يجب أن تكون الماهية ، والماهيات هي الأجناس . ويجب على الإنسان أن يرنفع شيئاً فشيئاً بهذه الماهيات حتى يصل إلى اعلى درجة في الماهية ، وهي مرتبة الصور . وقد بدأ أفلاطون كما بدأ سقراط ما هومعلوم وشائع بين الناس ، كي يرتفع منه إلى حقائق الأشياء وماهيتها ، لأن العلم يتم عن طريق الانتقال من المعلوم إلى المطلوب .

وحاول ، كما حاول أستاذه ، أن يعالج النقص الثدي د لذي لا بد أن يكون موجودا في هذا المنهج ، حيث إن الأشياء التي يبدأ منها اشياء جزئية ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تعطي صورة كاملة عن الشيء الذي يبحث عنه . فكما أن سقراط قد عالج هذا بأن كان يذكر القضايا المعارضة لكشيء الذي يبحث فيه ، وعن طريق هذه المعارضة يحدد شيئافشيئا موضوع البحث ؛ كذلك الحال ، لجأ أفلاطون إلى هذه الطريقة وزاد عليها بأن كان يستخرج كل النتائج من التعريفات التي يصل إليها، كما يستخرج كل النتائج التي تنتج عن القضايا المقابلة ، وعن طريق مقابلة هذه الأشياء بعضها ببعض وتحديد الواحد للآخر ، ينتج في النهاية حد الشيء الذي يبحث فيه وماهيته وقد تأثر أفلاطون في هذا من غير شك ، إلى جانب تأثره بسقراط ، بالمدرسة الإيلية ، وخصوصاً بجدل زينون . ولكن يلاحظ أن جدل زينون كان ينتهى دائماً إلى تفنيد حجج الخصوم ، دون أن يقيم شيئا جديدأ ، ببنما أفلاطون في جدله ينتهي إلى تعريفات وماهيات فجدل زينون إذن جدل سلبي في أغلب الأحيان، إنلم يكنفيهاكلها، بينماجدل أفلاطون أوديالكتيكه ، إيجابي ينتهي إلى تعريفات وماهيات .

لكن إذا قارنا الاستقراء الأفلاطوفي بالاستقراء الارستطالي، وجدنا أن الاستقراء الأفلاطوفي ناقص فيه الكثير من العيوب ، وهذا راجع أولاً إلى تأثر أفلاطون مباشرة بقراط ، وثانياً بمذهبه هو الخاص ، فإن مذهب أفلاطون هو أن الوجود الحقيقى وجود الماهيات أو الصور ، والصور لا يمكن ان تمثلها الأشياء امشاركة فيها إلا تمشيلا مشوهاً ناقصاً . فمهما حاولنا من استقراء ، فلا نستطيع أن نصل إلى الماهيات والصور كاملة عن طريق هذا الاستقراء وحده . والحال ليس كذلك عند أرسطو ، لأن الماهيات أو الصور عند أرسطو لا تتحقق إلا مع الهيولي اوالأشياء الحسية التي هي صورها وماهياتها ، فعن طريق الاستقراء إذن في المذهب الأرستطالي يمكن أن نصل إلى ماهيات الأشياء وصورها كاملةتامة. ونحن في الاستقراء - كما قلنا - نرتفع من الأفراد إلى مميزاتها ، والمهم في هذه المميزات أن تكون العوامل المكونة أومقومات الأشياء أو الأفراد نفسها ، ولذا فإن الأفراد تشترك في صفات تكون مقوماتها وتثترك فيها الأفراد جميعها على السواء ما دامت هى مقوماتها . وهذه الأشياء المشتركة هي لانواع ٠ ثم نرتفع من الأنواع شيئاً فشيئاً حتى نصل إلى ماهومثترك بين عدة أنواع، وهو الأجناس . وفي داخل كل نوع من النوعين ، نجد اجناساً عالية وأجناساً سافلة ، كما نجد انواعاً عالية وأنواعاً سافلة . والخلاصة على كل حال فيما يتصل بهذه الطريقة انها ارتفاع من الأفراد ، إلى الأنواع ، إلى الأجناس ، عن طريق تبين الصفات المشتركة ، والارتفاع من هذه الصفات ا مشتركة شيئاً فشيئاً حتى نصل إلى صفة واحدة تعم الجميع . فنحن نصعد إذن من الأشياء الدنيا ، وهي الأفراد ، إلى اجناس الأجناس أو الأجناس السامية . ومن أجل هذا سمي هذا النوع من الديالكتيك أو الجدل باسم الجدل الصاعد

ولكن هذه العملية نفسها لا بد أن تكمل بعملية أخرى ، ينزل فيها الانسان من الأجناس العالية أو أجناس الأجناس إلى الأفراد . وهنا يجب أن يلاحظ أن القسمة في هذه الحالة لا بد أن تكون قسمة حقيقية عضوية بمعنى أنها ستكون قسمة من حيث الكيف لا الكم، لأن المطلوب في هذه الحالة ليس هو بيان المقدار، وإنما بيان الصفات المشتركة أو الماهيات وأسلم طريق وأسهله هم القسمة الثنائية ، أو القسمة الرباعية في الحالة التي يتقاطع فيها فرعان بالنسبة إلى فكرة واحدة . ولكن ليس معفى هذا أن القمة الثنائية هي وحدها الطريقة لهذا النوع من الجدل ، بل توجد طرق اخرى ، ولكن يجب أن تكون قدر المستطاع قريبة من القسمة الثناثية ما دامت أسلم الطرق .

فإذا نظرنا فيكلهذا المنهج الأفلاطوفي وحاولناأن نستخلص منه علم منطق بالمعنى الصحيح ، فهل نصل إلى هذه النتيجة ؟ الواقع أن لا ، فعلى الرغم من أن افلاطون بحث في القواعد المنطقية الرئيسية وهي الاستقراء والتحليل ، فإنه ل يبحث فيها بحثا كاملا يبين كل الشرائط المطلوبة لكى يكون الاستقراء صحيحاً والتحليل دفيقاً ؛ كما أن له الكثير من الملاحظات المفيدة في المنطق مثل قوله إن القضية مركبة من موضوع ومحمول ، وقوله إن القولين المتناقضين لا يمكن أن يحملا على شيء واحد، ومثل القول بأنه لا بد من وجود الأسباب الكافية لكي يمكن القول بشيء ما. إلا أنه يجب أن يلاحظ أنه في الحالة الأولى لم يصل إلى بحث في القضايا يمكن أن يعد بحثاً منطقياً كاملا مرتباً ، وفي الحالتين الأخريين لا يمكن ان يقال إنه وصل إلى قانون التناقض وقانون العلة الكافية ، وكل ما يمكن أن يقال هوأن لديه بعض الإشارات إلى هذه المبادىء المنطقية العامة وتتأيد هذه النتيجة خصوصاًإذا لاحظناأن أبحاث أفلاطون في المنهج ، فيما يتصل بالجدل الصاعد والجدل النازل ، كانت أبحاثا متجهة ميتافيزيقيا لا منطقبا : فتقسيمه للماهيات لي بوصفها تصورات ذهنية ، وإغما بوصفها حقائق فعلية . ومن أجل هذا لا يمكن أن نعد أفلاطون واضعاً للمنطق ، بمعناه العلمي الدقيق .