رينيه ديكارت
رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes) (31 مارس 1596 – 11 فبراير 1650)، فيلسوف ورياضيَّ وعالم وفيزيائي فرنسي كبير، يعد مع كل من إيمانويل كانط وديفيد هيوم أحد الرواد المؤسسين للفلسفة في العصر الحديث وكثيرًا ما يُلَقَّب بأَبي "الفلسفة الحديثة"، وكثير من الأطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده، هي انعكاسات لأطروحاته، والتي ما زالت تدرس حتى اليوم، خصوصًا كتاب (تأملات في الفلسفة الأولى-1641م) الذي ما زال يشكل النص القياسي لمعظم كليات الفلسفة. كما قدم ديكارت إسهامات مهمة فى علم الميكانيكا والرياضيات، فقد اخترع نظامًا رياضيًا سمي باسمه وهو (نظام الإحداثيات الديكارتية)، الذي شكل النواة الأولى لـ(الهندسة التحليلية)، فكان بذلك من الشخصيات الرئيسية في تاريخ الثورة العلمية.
وكان أول فيلسوف وصف الكون المادّيّ من حيث المادة والحركة. كما كان رائدًا في محاولة صياغة قوانين عامَّة بسيطة في الحركة تَحْكُم جميع التَّغيُّرات الطَّبيعيَّة.
وديكارت هو الشخصية الرئيسية لمذهب العقلانية في القرن 17 الميلادي، كما كان ضليعًا في علم الرياضيات، فضلًا عن الفلسفة، وأسهم إسهامًا كبيرًا في هذه العلوم، وديكارت هو صاحب المقولة الشهيرة التي تدعى الكوجيتو : "أنا أفكر، إذًا أنا موجود"
ولد ديكارْتْ في لاهاييه قرب شاتيليرو. وتعلَّم في إِحدى الكُلِّيَّات اليسوعيَّة. وخدم في جيوش بَلَدَيْن، كما سافر كثيرًا. وقد مكَّنته الأَموال التي ورثها والتي جاءته ممن تولوه بالرِّعاية من تكريس معظم وقته للدِّراسة. وفي الفترة بين 1628 و 1649م، عاش ديكارت حياة علميَّة هادئة في هولندا، وأنتج معظم مؤلفاته الفلسفيَّة. وفي أواخر عام 1649م، قَبِلَ دعوة من الملكة كريستينا لزيارة السّويد حيث أُصيب بمرض عُضال وتوفي هناك.
كتب ديكارت ثلاثة مؤلَّفات رئيسية وهي: رسالة في منهج التَّصرُّف العقلي السليم للمرء والبحث عن الحقيقة في العلوم (عام 1637م) ويُعرف هذا الكتاب باسم شائع وهو رسالة في المَنْهَج. أَمَّا الكتابان الآخران فهما: تأمُّلات في الفلسفة الأُولى (عام 1641م) ولعلَّه أَهمّ عمل لديكارت، ومبادئ الفلسفة (عام 1644م). وأَصبحت فلسفته تُعْرَفُ بالديكارْتيَّة. وقد استخدم فيها منهجه فى الشك المنهجى من أجل الوصول إلى بعض الأسس غير المشكوك فيها التى يمكن فيها استنباط بعض المعارف اليقينية. وقد اكتشف ديكارت أن بوسعه أن يشك فى كل شئ، فيما عدا الشك نفسه، وأنه يفكر على هذا النحو لكى يستطيع أن يستمر فى الوجود. وإن كان الوجود الذى يؤكده على هذا النحو ليس مقصودا به وجوده الجسمانى، وإنما وجود الذات كشئ مفكر. وقد سعى ديكارت إلى التماس البرهان على وجود الله ليستعيد ثقته فى وجود الأجسام المادية فى الصورة التى تتحدد فيها بوجودها المكانى. وتعرف تلك النظرة الميتافيزيقية للعالم على أنه مكون من أجسام مادية، من ناحية، وأرواح أو عقول مفكرة، من ناحية أخرى، تعرف بالرؤية الثنائية. وقد واجه ديكارت نفسه، ثم الفلاسفة العقليين الذين جاءوا بعده ويؤمنون بالثنائية، واجهوا جميعاً صعوبة كبرى فى تقديم تفسير متماسك للعلاقة الخاصة بين العقل والجسم، والتى تمثل قوام الشخصية الإنسانية.
يُدعى ديكارت بالثَّنَوي لأنه ادَّعَى أَنَّ العالم يتألف من عنصرين أساسيين اثنين هما: المادَّة والرُّوح. فالمادَّة هي الكون المادّيّ الذي تعتبر أجسامنا جزءًا منه. أَمَّا الرُّوح فهي العقل الإِنساني الذي يتفاعل مع الجسم ولكنه يستطيع ـ من حيث المبدأ ـ أَن يوجد بدونه.
وقد انتشر تأثير ثناتية العقل والجسم انتشاراً واسعاً فى كافة العلوم الاجتماعية المعاصرة (من هؤلاء مثلاً تمييز ماكس فيير بين السلوك والفعل ذى المعنى). ويمثل فشل علم الاجتماع - الذى يزداد إشكالية - فى تقديم معالجة ملائمة للتجسيد البشرى أو القضايا الإيكولوجية، يمثل أحد البقايا التى نجمت عن تلك الثنائية. ويلاحظ أن التحليل النفسى والمداخل البنائية المعاصرة فى العلوم الاجتماعية التى تستهدف إقصاء الذات البشرية عن مكانتها المركزية غالباً ما تنطلق من الرفض الواضح لفرضيته عن "شفافية" الذات لمن يتأملها. ونجد في النهاية أن ديكارت يتعرض الآن كثيراً للنقد لأنه كان يدعو الى النظر الى الحيوانات بوصفهم آلات معقدة غير واعية، ومن ثم يستبعد - فى زعمهم - الحيوانات من الاهتمام المعنوى المباشر، وأنه بذلك يدعم الفجوة “ التى لايمكن الدفاع عنها أو تبريرها - بين الطبيعة الإنسانية و الطبيعة الحيوانية.
واعْتَقد ديكارت أَنَّ بالإِمكان فهم المادة من خلال مبادئ بسيطة معيَّنة استعارها من الهندسة، إضافة إِلى قوانينه في الحركة. ووفقًا لما يراه ديكارت، فإِنَّ العالم بأَسره، بما في ذلك قوانينه وحتى حقائق الرِّياضيَّات، من مخلوقات الله الذي يتوقف كل شيء على قدرته. ويعتقد ديكارت أَنَّ الله يشبه العقل من حيث إِنَّ الله والعقل يفكران ولكن ليس لهما وجود مادي أو جسمي. غير أَنَّه اعتقد أَنَّ الله يختلف عن العقل من حيث إِنَّه غير محدود، ولايعتمد في وجوده على خالق آخر.
وفي كتابه تأَمُّلات في الفلسفة الأولى تناول ديكارت بالدِّراسة أقوى الأسباب التي يمكن استخدامها لإثبات أنَّ كل شيء قابل للشك.
واشتملت هذه الحجج أو المناظرات المسمَّاة الشَّكِّيَّة أو الشُّكوكيَّة على الفكرة القائلة إِنه ربما كان يحلم، ولذلك فإنَّ أَي شيء تراءى له لن يكون حقيقيًا. وفي مناظرة أو حجة أُخرى، ارتأى ديكارت أَنَّ ثمة روحًا كانت تحتال على عقله فتجعله يؤمن بما هو زائف. ثم ردَّ ديكارت على هذه الحجج فبدأ بالملاحظة القائلة إنَّه حتى لو كان يحلم، أَو كان مخدوعًا باستمرار، فإنَّ باستطاعته على الأَقل التَّأَكُّد من أنَّ لديه أفكارًا. ولذلك فإنَّه موجود بوصفه كائنًا مفكرًا. وكتب يقول: إنَّ هذا كان إدراكًا واضحًا جليًا للعقل. وليس في وسع أَيّ شيء أن يحمله على الشَّك فيه. وفي مؤلف آخر، ابتدع ديكارت العبارة الشَّهيرة التي معناها: أَنا أُفَكِّر، إِذَنْ أَنَا موجود.
ثم جادل ديكارت قائلاً: إنَّه يستطيع بكل جلاء ووضوح أَن يدرك وجود إله قدير وخَيِّر لدرجة لاحدود لها. ولن يسمح هذا الإِله لديكارت بأَن ينخدع في أكثر إِدراكاته وضوحًا. ومن خلال تصوُّره لله، سعى ديكارت إِلى إِثبات أَنَّ العالم المادي موجود، وله خصائص افترض هذا الفيلسوف أَنَّها موجودة في نظريَّاته عن الفيزياء.
حياته
ولد ديكارت في 31 مارس عام 1596 م في مدينة لاهي La Haye وهي مدينة صغيرة في اقليم التورين La Touraine غربي فرنسا، لكن أسرته كانت ترجع في أصلها إلى هولندا. ينتمي ديكارت إلى أسرة من صغار النبلاء، حيث عمل أبوه جواشيم ديكارت Joachim Descartes مستشارًا في برلمان رن Rennes (عاصمة اقليم بريتاني في شمال غربي فرنسا). وكان جده لأبيه طبيبًا، وجده لأمه حاكمًا لإقليم بواتيه. وفي عام 1604 التحق ديكارت بمدرسة لافلشي La Fliche الملكية، وهي تنتمي إلى طائفة دينية تسمى باليسوعية، وقد تلقى ديكارت فيها تعليمًا فلسفيًا راقيًا يعد من أرقى الأنواع في أوروبا وبدأ فيها ديكارت في تعلم الأدب، والمنطق، والأخلاق ثم الفلسفة وأخيرًا الرياضيات والفيزياء. وهو يروي لنا في القسم الأول من كتابه «مقال في المنهج» ذكرياته الدراسية عن تلك الفترة، وكيف بدأ يفكر في إيجاد معرفة يقينية تشابه المعرفة التي تقدمها العلوم الرياضية. ونال إجازة الحقوق من جامعة بواتيه حيث تخرج ديكارت من الكلية عام 1612 حاملًا شهادة الليسانس في القانون الديني والمدني عام 1616.
وعلى عادة النبلاء في ذلك العصر، نصحه أبوه بالالتحاق بالجيش الهولندي، إذ كان هذا الجيش أفضل جيوش أوروبا نظامًا وخبرة، وكان يشكل مدرسة حربية لكل من أراد أن يتعلم فن الحرب. وبالفعل سافر ديكارت إلى هولندا عام 1618، وانخرط في جيش موريس دي نساو Maurice de Nassau لكنه لم يشترك في أي قتال.
في شهر نوفمبر سنة 1618 التقى بشخصية سيكون لها تأثير حاسم في تطور فكر ديكارت، وهو طبيب هولندي يدعى اسحق بيكمان Isaac Beeckman، وكان يكبر ديكارت بثماني سنوات، وكان متبحرًا في العلوم، وكان قد حصل على الليسانس والدكتوراه في الطب من جامعة كاين Caen (شمالي فرنسا). وفي الوقت نفسه كان على اطلاع واسع بالتقدم العلمي في أوروبا، وكان ينزع الى التفسير الآلي للظواهر الطبيعية وهذه الآلية هي التي أثارت حماسة ديكارت. وقد شجعه على دراسة الفيزياء والرياضيات وعلى الربط بينهما، وكانا يمارسان معًا طريقة جديدة في البحث تطبق الرياضيات على الميتافيزيقا، وترد الميتافيزيقا إلى الرياضيات، وقد كان لهذه الطريقة أبلغ الأثر في تطور ديكارت الفكري وفي تشكيل فلسفته، إذ أن منهجه ومذهبه الفلسفي لن يختلف كثيرًا عن طريقة البحث هذه. واليه اهدى ديكارت بعض دراساته الأولى ورسالة صغيرة عن الموسيقى (سنة 1918)، لكنهما ما لبثا أن دب بينهما الخلاف.
تطوع للخدمة في الجيش الهولندي عام1618 م، وخاض معه عدة معارك، وفي عام 1622 م عاد ديكارت إلى فرنسا وصفى جميع أملاكه ليستثمر الأموال في تجارة السندات المالية وقد أمنت له دخلا مريحا لبقية حياته. وفي الفترة بين 1628 م و1649 م عاش ديكارت حياة علمية هادئة في هولندا، وألف فيها معظم مؤلفاته، والتي أحدثت ثورة في مجالي الرياضيات والفلسفة.
وفي أبريل سنة 1619 غادر هولندا وتوجه الى الدانمارك، ومن ثم انتقل الى المانيا وانخرط في جيش الدوق مكسمليان البافاري. وهناك اكتشف الهندسة التحليلية التي اشتهر بها ووضع يده على قواعد منهجه الفلسفي. ففي 10 نوفمبر كان في نواحي مدينة أولم Ulm (جنوبي ألمانيا) حيث سكن في غرفة تتوسطها مدفأة، وقد اطلق عليها ديكارت ومؤرخوه اسم «مدفأة ديكارت» son poêle. وفي هذه الغرفة، في يوم 10 نوفمبر، حدثت له رؤيا عجيبة هي رؤيا علم رياضي وفي نفس الليلة حلم ثلاثة أحلام فسرها بأنها دعوة له لانشاء «علم مدهش scientia mirabilis» فنذر بأن يحج الى كنيسة نوتردام دي لورت N. D. de Lorette، وقد وفى بنذره هذا فيما بعد ويبدو أن هذه الأحلام، أو الرؤى، كات تتعلق بما سيقوم به فيما بعد من إيجاد بعض الرموز (مثل الأسّ) والمزج بين الجبر والهندسة مما أدى به الى وضع أساس الهندسة التحليلية.
وهذا الشعور برسالته الجديدة دعاه الى ترك الخدمة العسكرية، وفي عام 1620 بدأ في السفر متنقلًا بين العديد من المدن الأوروبية لمدة تسع سنين، فراح يتجول في شمال ألمانيا ومن هناك إلى هولندا، ثم قفل عائداً إلى فرنسا في سنة 1622، حيث أخذ يرتب بعض شؤونه الأسرية، وباع أملاكه التي ورثها عن أمه، مما وفر له مبلغاً من المال جعله في غنى عن كسب معاشه بالعمل. وعرض عليه أبوه أن يشتري له وظيفة حاكم عسكري فرفض ديكارت وآثر أن يعيش حياة العزلة. وارتحل إلى إيطاليا. ثم عاد إلى فرنسا في سنة 1625 وظل طوال عامين يقضي في ربوعها، خصوصاً في باريس، حياته بين البحث العلمي والحياة الاجتماعية. فيدخل الصالونات، ويشترك في مبارزات من أجل نساء، ويجتمع الى أهل العلم مثل الأبيه مرسن Mersenne الذي ستكون له معه مراسلات علمية مشهورة، وكان مرسن على صلات وثيقة نشطة مع كبار علماء عصره ويتولى ابلاغ البعض بأبحاث البعض الآخر، حتى دعي «صندوق بريد علماء أوروبا!».
وفي إحدى المرات حضر في منزل القاصد البابوي، محاضرة لرجل يدعى شاندو Chandaux (شنق في سنة 1631 بتهمة التزوير). هاجم فيها هذا الرجل فلسفة أرسطو. فألقى ديكارت كلمة رد فيها على هذا الرجل، وطالب بأن يقوم العلم على اليقين. وكان من بين الحاضرين بييردي بريل Pierre de Berulle رئيس جماعة الاوراتوار oratoire وقد أعجب بديكارت. وكان عليه من أجل ذلك - أن يلتزم الخلوة والهدوء في الريف. فسافر إلى إقليم بريتاني (شمالي فرنسا) حيث أمضى شتاء 1627-1628. لكنه سرعان ما تبين له أن جو فرنسا لا يلائمه في مشروعه هذا، فاستقر عزمه على الرحيل إلى هولندا، حيث الظروف أكثر ملاءمة للبحث العلمي، فسافر إلى هولندا في ربيع سنة 1928 وفيها استقر نهائياً حتى آخر حياته. والذي جعله يفضل هولندا أنها كانت آنذاك من أقوى وأغنى الدول الأوروبية وأكثرها ازدهارًا في العلوم والفنون. وفي تلك الأثناء كان قد شرع في تأليف كتابه: «قواعد لهداية العقل» وهو كتاب لم يتمه أبداً، وقد نشر بعد وفاته.
ومع ذلك لم يستقر به المقام في بلد بعينه من بلاد هولندا، بل نجده يغير مقامه من فرانكر Franeker إلى أمستردام، إلى ليدن، إلى ديفنتر Deventer إلى Sandport إلى Hardenwijk إلى Emdegeest إلى Egmond de fiaef. حتى قال عنه صاحب أوفى ترجمة عنه وهو Baillet أن مقامه في هولندا كان أقل استقراراً من مقام بني اسرائيل في القفار العربية. وفي هولندا تتلمذ في علوم الرياضيات على يد الأستاذ ياكب يوليوس في جامعة لايدن.
وفي عام 1629 انشأ ديكارت في دراسة الشهب والنيازك météores، وفي سنة 1631 - وكان جوليوس Golius قد اقترح عليه حل المسألة التي وضعها بيبس الرومي Pappus - استطاع ديكارت أن يكتشف مبادىء الهندسة التحليلية: واشتغل بعلم البصريات Optique.
وفي سنة 1633 فرغ من كتابه: «بحث في العالم أو في النور» Traité du monde et de la lumière ويطلق عليه الآن اسم «بحث في الإنسان Traité de l'homme». وفيه يبحث في الطبيعة على أساس النتائج التي توصل إليها كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو في النظام الشمسى ودوران الأرض حول الشمس. وفيه أكد القول بأن الأرض تتحرك. لكن حدث في 22 يونيو سنة 1633 أن أصدر الديوان المقدس البابوي في روما قراراً بادانة كتاب العالم الإيطالي جاليلو الموسوم بعنوان «Massimi sistemi» والذي قال فيه بأن الأرض تتحرك حول الشمس وكان هذا الكتاب قد صدر في سنة 1632، خوفًا من أن تؤدي آراء جاليليو الجديدة إلى سقوط الاعتقاد القديم بأن الأرض ثابتة في الكون والنجوم والكواكب تدور حولها. وفي نوفمبر سنة 1633 علم ديكارت بهذا القرار البابوي، وعندئذ خشى ديكارت أن يكون مصيره نفس مصير جاليليو، فلم ينشر كتابه: «بحث في العالم»، وكاد أن يحرق أوراقه. ولم ينشر هذا الكتاب إلا بعد وفاة ديكارت. وعزم على ألا يكتب أي شيء على الإطلاق، مما أدى إلى توقف ديكارت عن نشر بعض أفكاره. وموقف ديكارت هذا يرجع الى طلبه للعافية، وعدم رغبته في الوقوع في منازعات مع الكنيسة أو السلطة بوجه عام. وقد كتب إلى Pollat في سنة 1644 رسالة يقول فيها: «ليس من طباعي أن أبحر ضد التيار» .
لكن سرعان ما أدرك ديكارت أنه لا يمكن أن يتوقف عن الكتابة نهائيًا وهو الفيلسوف الذي بدأ صيته ينتشر وعندما أحس أن الناس يتشوقون لمعرفة فلسفته عكف على الكتابة مرة أخرى، وأخرج ثلاث رسائل مستقلة تدور كلها حول الموضوعات الرياضية والطبيعية وهي:
- الأولى عن «Dioptrique»، وفيها يبحث في مشاكل انكسار الضوء والأنواء الجوية والهندسة، ويكتشف فيها ما عرف باسم قانون اسنل Snell’s Law والواقع أن ديكارت اكتشف هذا القانون مستقلاً عن اسنل.
- والثانية في «الشهب» Les Météores
- والثالثة في «الهندسة» وفيها وضع أسس ما سمي فيما بعد باسم «الهندسة التحليلية».
والى جانب هذه الرسائل الثلاث نشر مقال صغير بعنوان، «مقال في المنهج» وقد كتبه ديكارت بالفرنسية، بعكس كتبه الأخرى فقد كتبها باللاتينية، وذلك ابتغاء نشر هذا المنهج في عامة أوساط الناس. وقد كتبه ديكارت بأسلوب مشرق من السهل الممتنع الواضح، حتى قال عنه في رسالة إلى أحد اليسوعيين أنه من السهولة بحيث يفهمه الجميع حتى النساء! ويقول أيضاً في رسالة إلى مرسن أنه عنونه بعنوان discours (مقال) لا Traite (بحث) لأنه لم يشأ أن يعلم ما هو المنهج، بل فقط أن يتكلم عنه. وقد نشر ديكارت هذه الرسائل الثلاث و«المقال في المنهج» كلها معاً في مجلد واحد في يوم 8 يونيو سنة 1637، عند الناشر Jean Maitre في مدينة ليدن Leiden (هولندا). وبلغ حد خوف ديكارت أن طبع الكتاب دون أن يكتب اسمه على الغلاف.
ومن سنة 1637 حتى سنة 1641 كان ديكارت يقيم خصوصاً في Sandpoort ودعا لتقيم معه خادمته هيلانة Hélène التي انجب منها قبل ذلك في سنة 1635 بنتاً تدعى Fraisine. وقد ماتت هذه البنت غير الشرعية في سبتمبر سنة 1640، فحزن عليها حزناً بالغاً. وبعد ذلك بشهر توفي أبوه وكان آنذاك عميداً لبرلمان بريتاني، وسنه آنذاك 78 سنة.
وفي 11 مارس سنة 1641 أقام ديكارت في قصر اندخيست Endegeest وكان قصراً صغيراً محاطاً بحديقة جميلة، وفيه استقبل الكثير من أصدقائه. ودخل ديكارت في مساجلات حارة مع بعض مشاهير علماء عصره: مع فرما Fermat الرياضي العظيم، بشأن المماسات tangentes، ومع Plemplus بشأن حركة القلب، وفاصنر Waessener ضد Stampioen.
وقرر ديكارت أن يضع مذهبًا للفلسفة ويطبقه على الميتافيزيقا فأصدر في سنة 1641 كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى» عند الناشر Saly في باريس، والذي أهداه إلى الأميرة إليزابيث البلاتينية التي راسلها كثيرًا وأخذ يشرح لها فلسفته ويناقشها في أمور الأخلاق والسياسة. والحق بهذا الكتب ست سلاسل من الاعتراضات التي كان قد وجهها إليه Caterus وMersenne وهوبز Hobbes وArnauld وجاسندي Gassendi وغيرهم من الفلاسفة والرياضيين واللاهوتيين الذين كانوا يجتمعون عند مرسن - مرفقة باجابات ديكارت عنها . . . وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب في سنة 1642 في هولندا، عند الناشر المشهور Louis Elsevier في أمستردام، وأضاف فيها السلسلة السابعة من الاعتراضات وهي التي وجهها P. Bourdin على رد ديكارت عليها ورسالة الى الأب Dinet.
وحاول ديكارت أن يظفر بموافقة السوربون (كلية اللاهوت) على كتابه «التاملات»، لكن عبثاً. وفي نفس الوقت صار هدفاً لهجوم شديد من جانب اليسوعيين - ومن ذا الذي نجا من هجوم اليسوعيين، وهم الخصوم الألداء لكل مفكر! كذلك هاجمه اللاهوتيون الهولنديون بعنف بالغ، وكان أشدهم وطأة عليه لاهوتي يدعى جلبرت فوتس Gilbert Voets أستاذ اللاهوت في جامعة أوترخت. فإنه هاجم تلميذ ديكارت وهو Regius وهاجم ديكارت نفسه، واحتكم إلى مجلس مدينة أوترخت، فأصدر مذكرة ضد ديكارت وتلميذه. هنالك انبرى ديكارت للدفاع عن نفسه ومذهبه برسالة بعنوان: «رسالة إلى الرجل الشهير جداً جلبرت فوتس من رينيه ديكارت»، نشرها سنة 1643، لكن مجلس مدينة أوترخت أعطى الحق لفوتس ضد ديكارت، فاستعان هذا الأخير بجامعة خروننخن Groningen التي ساندت ديكارت. وفي عام 1643 م أدانت جامعة أوتريخت الهولندية الفلسفة الديكارتية.
لكن على الرغم من هذه المشاحنات، أصدر ديكارت في سنة 1644 كتابه الرئيسي في الفلسفة بعنوان: «مبادىء الفلسفة» عند الناشر لويس الزفير في امستردام، وهو يتألف من أربعة أقسام عرض فيها جماع آرائه الفلسفية والعلمية.
وفي سنة 1647 عادت المنازعات بين ديكارت واللاهوتيين الهولنديين فاشتعلت من جديد، وكان من أبرز هؤلاء الآخرين Revius وTriglandius من جامعة ليدن Leiden واحتدم النزاع عنيفاً إلى حد أن اضطر أمير أورانج إلى التدخل من أجل اسكات خصوم ديكارت، الذي كان قد رد عليهم برسالة عنوانها: «رسالة إلى مديري جامعة ليدن». وتضايق ديكارت من هذا الجو المحموم، ففكر في ترك هولندا إلى فرنسا. فسافر إلى باريس في سنة 1647، وسنة 1648 حيث قابل عدداً من أعلام العلماء والفلاسفة، منهم روبرفال الرياضي، وهوبز الفيلسوف الانكليزي وجاسندي، والعبقري الشاب بليز بسكال. وفد زعم ديكارت أنه هو الذي أشار عليه بالقيام بتجارب عن الخلاء.
وعندما ذاعت شهرته وضع له ملك فرنسا راتبًا سنويًا يقدر بثلاثة آلاف جنيه عام 1647 لكنه لم يتلق منه شيئًا إذ آثر حياة العزلة.
وفي سنة 1647 قام ديكارت بنشر وتنقيح ترجمة فرنسية لكتابه «التأملات» قام بها دوق لوين duc de Luynes وCierselier، ثم ترجمة فرنسية لكتابه «مبادى الفلسفة» قام بها Abbé Picot وأضاف إليها رسالة على هيئة مقدمة.
ومنذ سنة 1645 كان ديكارت في مراسلات مع إليزبيث أميرة بوهيميا، تدور حول الأخلاق، ومن هذه المراسلات نشأ كتابه «انفعالات النفس» Les Passions de l'âme، والذي صدر في سنة 1649، وكان آخر كتاب أصدره ديكارت ابان حياته.
وفي عام 1648 تعرف على ملكة السويد كريستينا Christine التي ناقشته طويلًا في فلسفته عبر سلسلة من الرسائل، وأصرت على دعوته للسويد ليكون عونًا لها في إدارة الحكم وشئون البلاد كمستشار، وعندما قبل الدعوة سافر إلى استوكهلم عاصمة السويد في أواخر عام 1649. وطلبت إليه الملكة أن يؤلف اشعاراً لرقص أقامته بمناسبة معاهدة وستفاليا. وكانت الملكة تتردد عليه طويلًا لمناقشته في فلسفته، لكن الطقس البارد للسويد لم يكن مناسبًا لصحته.
وفي نهاية شهر يناير سنة 1650 أصيب بنزلة برد وهو في طريقه إلى قصر الملكة حيث دعته للقائها، وفي 2 فبراير تحولت نزلة البرد إلى التهاب رئوي Pneumonie. رفض ديكارت نصائح الأطباء وآثر أن يعالج نفسه بنفسه، وعندما اشتد عليه المرض توفى في صباح يوم 11 فبراير عام 1650. ودفن في «مقبرة الأطفال الذين ماتوا بدون تعميد أو قبل سن الرشد»!! ثم نقل جثمانه - مثوهاً تماماً - إلى فرنسا في سنة 1667. وبقايا ديكارت ترقد الآن في كنيسة سان جرمان دي بريه (الواقعة في شارعى سان جرمان ورن Rennes في لضفة اليسرى بباريس) في كابلة قريبة من الكورس على يمين الداخل، وكان قد دفن في فرنسا أولاً في كنيسة سانت جنفياف سنة 1667، وفي سنة 1794 طالب بعض رجال الثورة الفرنسية بنقل رفاته الى البانتيون (مقبرة العظماء في باريس) لكن لم يتم شيء من هذا بسبب اعتراض أحد النواب. وأخيراً تم نقله إلى مرقده الحالي في سنة 1819.
ديكارت عالماً
لديكارت فضل عظيم على تقدم الرياضيات في العصر الحديث، خصوصاً في ميداني الجبر والهندسة، وفضله يقوم خصوصاً في تطبيقه الهندسة على الجبر، لا العكس كما يُزعم عادةً.
أما في الجبر فقد بسط الرموز الجبرية. فأستعمل الحروف الصغرى a, b, c, d, etc للدلالة على المقادير المعلومة، والحروف الكبرى A, B, C, D, etc للدلالة على الكميات المجهولة. ووضع الأرقام 1, 2, 3 إلخ أما على رؤوس هذه الحروف للدلالة على عدد الكميات، أو بعدها للدلالة على عدد الاضافات relations التي تحتوي عليها.
والكتاب الوحيد الذي كتبه ديكارت في الرياضيات هو كتابه «الهندسة» Geometric (سنة 1647) ويقع في حوالي مائة صفحة. وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام: في الأول منها يبين كيف أن كل العمليات الحسابية يمكن تصويرها في أشكال هندسية وذلك بأخذ طول معلوم وجعله وحدة قياس - وهذا هو الجديد فيما فعله ديكارت. وهذه الأشكال تقتصر على استعمال الدوائر والمستقيمات، أي ما يرسم بالمسطرة والفرجار. وفي القسم الثاني يبين كيف يمكن تمثيل المنحنيات الهندسية بواسطة معادلة بين احداثيين، ويبين كيف يمكن العثور على المماس في نقطة من منحى هندسي. وفي القسم الثالث يبحث في جذور المعادلات ذات الدرجة العليا بواسطة تقاطع المنحنيات الهندسية.
والجديد في الهندسة التحليلية هو أنه من الممكن تحديد نقطة في المكان بواسطة مستقيمين س و ؛ ص و يتقاطعان عمودياً في النقطة و ويمكن بعد ذلك استخدام هذين المستقيمين كمحاور لتحديد وضع أي نقطة مثل ف F في مستواهما، ببيان طول المسافة ف م على الاحداثي السيني، وطول المسافة ف م على الاحداثي الصادي، والمسافات على س وعلى ص تسمى الاحداثيات Coordonnées والعلاقات المختلفة بين س وص تناظر منحنيات مختلفة واقعة فى نفس المستوى الخاص بالشكل. وهكذا إذا كانت ص تتزايد تزايداً متناسباً مع س، أي إذا كانت ص مساوية لـ س مضروبة في عدد ثابت فإننا نمر على الشكل باستواء في الخط و ف. لكن إن كانت ص مساوية لـ س2 مضروبة في عدد ثابت فإنه ينتج قطع مكافئ Parabole، وهكذا. وهذه المعادلات يمكن معالجتها جبرياً وتفسيرها هندسياً. وبهذه الوسيلة أمكن حل كثير من المسائل الفيزيائية التي كانت عسيرة الحل من قبل. وقد استفاد نيوتن كثيراً من أبحاث ديكارت في الهندسة التحليلية.
المنهج الديكارتي
- طالع أيضاً: قواعد المنهج الديكارتي
المنهج الديكارتي هو المنهج الجديد في الفلسفة، وبسببه سمي ديكارت بـ"أبو الفلسفة الحديثة". إن من درس فلسفة ديكارت يندهش عندما يعلم أن تخصص ديكارت الأساسي لم يكن الفلسفة بل الرياضيات والجبر والبصريات. فالمطلع على مجمل أعماله يلاحظ أنها تشكل عدة مجلدات تعد ست مجلدات من القطع الكبير في بعض الطبعات، تنصب أساسًا على الموضوعات الرياضية والهندسية ولا تحتل أعماله الفلسفية التي اشتهر بها سوى جزء ضئيل لا يكاد يصل إلى نصف مجلد. لقد كان ديكارت رياضيًا في الأساس، ولم يكن فيلسوفًا إلا في أوقات فراغه من دراساته الرياضية. لكن هذا الجزء الفلسفي الصغير نسبيًا من مؤلفاته هو السبب في شهرته كفيلسوف وهو الذي صنع منه مؤسس الفلسفة الحديثة. ومعنى هذا أن الجزء الفلسفي من أعماله يعد ملحقًا على أعماله الرياضية الأساسية، أو هامش فلسفي على متن رياضي هندسي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ديكارت الذي شهد درجة النجاح المذهل الذي حققته الرياضيات في عصره من دقة المنهج ويقين النتائج التام أراد للفلسفة أن تصل إلى نفس الدقة المنهجية واليقين المطلق الذي وصلته الرياضيات في عصره وعلى يديه هو شخصيًا. ويتمثل تأثر ديكارت بالمنهج الرياضي في فلسفته في سعيه نحو الوصول إلى نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها يؤسس عليها فلسفته كلها، وهي وجود الأنا أفكر. فهذا الأنا أفكر كان بالنسبة له المبدأ الأول الشبيه بمبادئ الرياضيات التي تؤسس لكل المبرهنات الرياضية التالية عليها. كما يسير ديكارت بالطريقة الاستنباطية السائدة في الرياضيات في مذهبه الفلسفي حيث يستنبط وجود الإله والعالم وخلود النفس من وجود الأنا أفكر. ويقوم المنهج الديكارتي على أساسين، هما:
- البداهة: أي التصور الذي يتولد في نفس سليمة منتبهة عن مجرد الأنوار العقلية.
- الاستنباط: أي العملية العقلية التي تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة.
والحقيقة أن محاولة الوصول إلى اليقين في الموضوعات العلمية والفيزيائية سهل يسير باتباع الطريقة الرياضية، لكنه ليس كذلك بالنسبة للموضوعات الميتافيزيقية. فلا يمكن التعامل مباشرة مع موضوعات مثل وجود الإله وخلود النفس بالطريقة الرياضية. وقد كان ديكارت صادقًا في ذلك مع نفسه، إذ أنه لم يبدأ دراسة هذه الموضوعات مباشرة، بل وضعها كلها موضع الشك وتوقف عن الحكم عليها منذ البداية. يقول ديكارت في التأمل الأول: «وإذا لم يكن في مقدوري الوصول إلى معرفة أي حقيقة، فليكن أن أفعل ما هو في مقدوري على الأقل، أي التوقف عن كل حكم، وأتجنب أن أعطي أي مصداقية لأي شيء باطل».
وعندما فكر ديكارت في وضع منهج في الفلسفة أقامه على أساس أسلوب التفكير الرياضي والهندسي. وهذا هو المعنى الحقيقي لقواعد المنهج الأربعة التي وضعها في كتابه «مقال عن المنهج». تنص القاعدة الأولى على «ألا أقبل شيئًا على أنه حق ما لم أعرف يقينًا أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك». وتسمى هذ القاعدة بقاعدة اليقين، لأنها تدخل إلى يقين بديهي بسيط لا يتطرق إليه شك. ويتضح ارتباط هذه القاعدة بالهندسة الرياضية من الأمثال التي يضربها ديكارت عليها، فاليقين عنده هو القول بأن المثلث هو الشكل المكون من ثلاث أضلاع، وأن المساويان لشيء ثالث متساويان. ولا يهدف ديكارت من هذه القاعدة تأسيس الرياضيات أو الهندسة على أسس يقينية، ذلك لأنهما مؤسسان على اليقين بالفعل، بل يهدف استعارة هذا اليقين الرياضي والهندسي لتطبيقه على موضوعات الفلسفة. وعندما نطبق هذه القاعدة على الفلسفة تبدأ باعتبارها شكًا منهجيًا، ذلك لأنها تنص على «ألا أقبل شيئًا على أنه حق ما لم أكن على يقين أنه كذلك»، فنص القاعدة يبدأ بالسلب، أي بألا يقبل شيئًا، وهذا هو الشك الذي هو الخطوة الأولى في المنهج الفلسفي عند ديكارت. ومعنى هذا أن قواعد المنهج عامة وكلية، وعندما تتم مناسبتها كموضوعات الفلسفة لوضع منهج خاص بالفلسفة تنقسم القاعدة الأولى إلى خطوتين، الخطوة الأولى هي الشك في كل شيء شكًا منهجيًا للوصول منها إلى يقين أول. فبعد أن يشك ديكارت في وجود العالم، ينطلق من هذا الشك نفسه ليتوصل إلى أول يقين وهو أن الشك يتضمن التفكير، والشخص الذي يفكر يجب أن يكون موجودًا: أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.
وتنص القاعدة الثانية على «أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على ذلك»، وتسمى هذه القاعدة بقاعدة التحليل. وتقول القاعدة الثالثة: «أن أُسِّير أفكاري بنظام، بادئًا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة، كي أتدرج قليلًا قليلًا حتى أصل إلى معرف أكثرا ترتيبًا، بل وأن أفرض ترتيبًا بين الأمور التي لا يسبق بعضها الآخر بالطبع». وتسمى هذه القاعدة الثالثة بقاعدة التركيب. أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي تنص على «أن أجري في كل الأحوال الإحصاءات والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئًا»، وتسمى هذه القاعدة بالاستقراء التام.
وبذلك فإن قواعد المنهج الأربعة، من يقين وتحليل وتركيب ومراجعة واستقراء، هي نفسها طريقة التفكير المتبعة في الرياضيات والهندسة. ويحاول ديكارت تطبيقها على موضوعات الفلسفة، لأنه أراد الوصول في الفلسفة إلى نفس درجة الوضوح واليقين الذي وصلت إليه الرياضيات والهندسة.
إن ديكارت لا يطبق المنهج الرياضي نفسه على الفلسفة بل يطبق طريقة التفكير في الرياضيات، فإذا كان يستعير المنهج الرياضي فهو لاتبع طريقة البدء بالبديهيات والمسلمات والفرضيات ولانطلق منها إلى مبرهنات ثم قضايا تلزم عنها ضرورةً، ولو كان قد فعل ذلك لرأينا مؤلفاته الفلسفية تأخذ شكل الاستنباط والبرهان الرياضي. لكن لا تظهر طريقة الاستنباط الرياضي في فلسفة ديكارت، وكل ما يستعيره من الرياضيات هو طريقة التفكير المتبعة فيها وحسب. والملاحظ أن طريقة البرهان الرياضي الهندسي والتي لم يتبعها ديكارت قد اتبعها من بعده سبينوزا بحذافيرها. وبذلك يكون سبينوزا قد سار خطوة أبعد من ديكارت، ذلك لأن ديكارت اتبع مجرد طريقة التفكير في الرياضيات والتي تتمثل في القواعد الأربعة: اليقين أو الوضوح، والتحليل والتركيب والاستقراء التام، وما رفضه ديكارت وهو تطبيق المنهج الهندسي من تعريفات ومصادرات ثم مبرهنات وقضايا مستنبطة منها قد تبناه سبينوزا نجد بحذافيره. وهكذا يكون سبينوزا أكثر جرأة وثورية من ديكارت الذي وقف عند حدود التفكير الرياضي فقط ولم يصل إلى درجة تطبيق المنهج الرياضي الهندسي نفسه في الفلسفة.
نظرية المعرفة
شك ديكارت في المعرفة الحسية سواء منها الظاهرة أو الباطنة، وكذلك في المعرفة المتأتية من عالم اليقظة، كما شك في قدرة العقل الرياضي على الوصول إلى المعرفة، وشك في وجوده، ووجود العالم الحسي، إلى أن أصبح شكه دليلا عنده على الوجود، فقال "كلما شككت ازددت تفكيرا فازددت يقينا بوجودي".
الثنائية الديكارتية
يفرق ديكارت بين النفس والجسد، ويرى أنهما جوهران مختلفان تماما، ويقول:"إنني لست مقيما في جسدي كما يقيم الملاح في سفينته، ولكنني متصل به اتصالا وثيقا، ومختلط به بحيث أؤلف معه وحدة منفردة، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما شعرت بألم إذا أصيب جسدي بجرح، ولكني أدرك ذلك بالعقل وحده، كما يدرك الملاح بنظرة أي عطل في السفينة".
الله
يعتقد ديكارت أن الله يشبه العقل من حيث أن الله والعقل يفكران ولكن ليس لهما وجود مادي أو جسمي، إلا أن الله يختلف عن العقل بأنه غير محدود، وأنه لا يعتمد في وجوده على خالق آخر، ويقول:"إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخير لدرجة لا حدود لها".
الأخلاق
جعل ديكارت علم الأخلاق رأس الحكمة، وتاج العلوم، وأنه لابد من الاطلاع على كل العلوم قبل الخوض في علم الأخلاق، وقال:"مثل الفلسفة كمثل شجرة جذورها الميتافيزيقيا، وجذعها العلم الطبيعي، وأغصانها بقية العلوم، وهذه ترجع إلى ثلاثة علوم كبرى، هي: الطب، والميكانيكا، والأخلاق العليا الكاملة، وهذه الأخيرة تتطلب معرفة تامة بالعلوم الأخرى، وهي أعلى مراتب الحكمة".
ومن العجيب أن مذهب الشك الديكارتي لم يصل بديكارت إلى الإلحاد بل لقد كان مؤمن بوجود الإله ولكنه أوصل الكثيرين إلى الإلحاد.
من الجدير بالذكر أن بعض الباحثين الإسلاميين المعاصرين، ومنهم محمود حمدي زقزوق في كتابه "المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت"، والدكتور نجيب محمد البهبيتي في كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين"، قد تمكنوا من إثبات أن ديكارت قد أخذ من أفكار أبي حامد الغزالي وخاصة من كتابه المنقذ من الضلال. ولا يقتصر ذلك على تأويل التشابه الواضح مع أفكار الغزالي الذي سبق زمن ديكارت بما يقارب الخمس قرون، بل يقول الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك أنه عثر على نسخة من كتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي، مترجمة إلى اللاتينية، في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالأحمر تحت عبارة الغزالي الشهيرة "الشك أولى مراتب اليقين"، وعليها حاشية بخط يد ديكارت بعبارة "تُنقل إلى منهجنا". ذلك رغم أن ديكارت لم يُشر إلى الغزالي في أي من مؤلفاته.
الميتافيزيقيا
الحقائق السرمدية
كانت أولى النظريات الميتافيزيقية التي قررها ديكارت بعد ذلك هي نظرية خلق الحقائق السرمدية، وقد أهتدى اليها ديكارت منذ سنة 1630 وعبر عنها في رسائله إلى مرسن Mersenne لكنه لم يعرضها في أي كتاب من كتبه التنظيمية المذهبية. ومفادها أن الله هو خالق «ماهيات المخلوقات ووجودها» وهو الذي وضعها في الوجود حراً مختاراً. لأن اخضاع الله للبينات المنطقية هو «بمثابة التحدث عنه كما لو كان المشتري Jupiter أو زحل Saturne. إنه اخضاع له للمصير. وهذه الحفائق السرمدية هى البينات المنطقية، والتراكيب الرياضية وماهيات الأشياء. والقيم الأخلاقية. وكان القديس توما، ومن بعده سوارث Suarez يرى أن هذه الحقائق السرمدية تكون جزءاً من حقيقة الله المعقولة. أن الله يتأملها بتأمله لذاته، لكنه لا يخلقها، لأنها جزء من حقيقته العقلية. وما دعا ديكارت إلى مذهبه هذا هو أنه رأى أنه لكي تصبح أية فكرة معطاة لنا بكاملها وميسرة لإدراكنا، فلا بد أن تكون متميزة من غيرها، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا اذا كات مخلوقة. ونتيجة لهذه النظرية، أصبح الموجود ينقسم إلى ميدانين: ميدان المعلوم والمفهوم، وهو الذي نسميه الآن: الموضوع، وميدان الموجود الأعلى L’Etre الذي هو الأساس فيما هو معلوم ومفهوم.
الله والخلق المستمر
ويرتبط بهذه النظرية نظرية أخرى هي القول بأن فعل الخلق لم يتم مرة واحدة بل هو فعل مستمر متصل دائماً. وكل بقاء لأي جوهر إنما يتم بفعل إلهي متجدد يحفظ به بقاء الجوهر. إن الله يعيد أو يستأنف خلق الجوهر في كل آن «وفعل حفظ الله للعالم هو نفسه فعل خلقه له» وقد عرض ديكارت هذه النظرية سواء في «مقال عن المنهج» وفي «التأملات» .
وقد استخدم ديكارت هذه النظرية في الفيزياء من أجل أن يميز بين الحركة المحددة هندسياً، وبين القوة المحركة، وهي التي يرى ديكارت أن مصدرها هو الله.
كذلك استعان بها ديكارت في تقرير رأيه القائل بأن «الطبيعة ليست آلهة»، اعني أن العالم ليس له استقلال ذاتي وليست له حقيقة حقة. إن الطبيعة ممتدة في المكان، وليست لها قوة ذاتية ولا مبادرة، ولا قوام وجودياً (انطولوجياً).
نظرة عامة على كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى»
ينقسم كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» إلى ستة تأملات. في التأمل الأول يطبق ديكارت نظرته المنهجية الأولى وهي الشك، ويتناول فيه الأشياء التي يجب أن توضع موضع الشك، ومبرراته لهذا الشك، ويصل إلى الشك في كل شيء. وفي التأمل الثاني يصل إلى أول يقين واضح بذاته يقدم نفسه بعد خطوة الشك وهو وجود الفكر أو العقل الإنساني، ويميزه عن الجسد ويذهب إلى أن معرفته أيسر وأوضح من معرفة الجسد. وبعد أن يثبت ديكارت وجود الفكر ينتقل في التأمل الثالث إلى إثبات وجود الإله. ويقدم ثلاثة براهين على وجوده. وفي التأمل الرابع يميز بين الصدق والكذب أو الوضوح وعدم الوضوح، وفيه يشرح بمزيد من التفصيل بعض موضوعات التأمل الأول والثاني حول العلاقة بين النفس والجسد وحول الإله. وفي التأمل الخامس يتناول ماهية الأشياء المادية، ويقر بأن ماهيتها الامتداد، وأن ماهية الإله الروح والفكر، وتظهر في هذا التأمل ثنائية ديكارت الشهيرة بين الفكر والامتداد وأنهما جوهرين متمايزين. وفي التأمل السادس يتناول وجود الأشياء المادية ويثبت أنها زائلة، ويميز بين النفس والجسد، ويثبت أن الجسد فاني والنفس خالدة. والحقيقة أن هذه التأملات الستة متداخلة، فالشك المنهجي الذي يتناوله في التأمل الأول يعاود الظهور في كل تأمل تالي، إذ يستخدمه في التمييز بين النفس والجسد والجوهر الفكري والجوهر الممتد، على أساس شكه في كمال الجسد وفي الوجود الحقيقي للأشياء الممتدة. وإثبات وجود الله الذي يظهر في التأمل الثالث يعاود الظهور في التأمل الخامس عندما يشرح ويفسر طبيعة الإله الروحية والفكرية. وثنائياته الشهيرة بين الفكر والامتداد والنفس والجسد تتكرر عبر كل التأملات. ومن ثم نستطيع تناول فلسفة ديكارت في كتاب التأملات بإقامة ترتيب وتنسيق بين كل هذه الموضوعات الجذرية على التأملات الستة، فنبدأ بالخطوة الأولى وهي الشك المنهجي، ثم نتناول تمييزه بين النفس والجسد والفكر والامتداد موضحين بذلك اليقين الأول وهو إثبات وجود الذات المفكرة ثم نتناول كل ما قاله عن الإله وإثبات وجوده وطبيعته.
الشك المنهجي
- طالع أيضاً: شك ديكارتي
هذا الشك منهجي لأن ديكارت لا يستخدمه إلا كوسيلة للوصول إلى يقين أول واضح بذاته، ولا يأخذ الشك موقفًا نهائيا له. يقول ديكارت: «يجب النظر إلى كل ما يمكن أن يوضع موضع الشك على أنه زائف». ولا يقصد ديكارت بذلك الحكم بزيف كل شيء، أو بزيف كل ما يوضع محل الشك، بل يقصد أنه لن يقبل بأي شيء على أنه حقيقي ما لم يُخضع لامتحان الشك، الذي يستطيع به الوصول إلى شيء يقيني عن طريق برهان عقلي. وهو يذهب إلى أننا سوف نتمكن من التأكد من صحة ويقين أشياء كثيرة ومنها العلوم بعد أن نمارس خطوة الشك، وليس ذلك إلا لأننا تمكنا من تأسيسها على أسس من اليقين والوضوح العقلي. ولذلك فهو عندما يضع موضع الشك كل العلوم بما فيها الرياضية والهندسية فليس ذلك إلا بغرض تأسيسها على أسس يقينية واضحة. والحقيقة أنه يقوم بذلك بالفعل ابتداء من التأمل الرابع، حيث يثبت يقين العلم الطبيعي من منطلق أنه في العقل فكرة واضحة ومتمايزة ويقينية عن الامتداد الذي هو جوهر العالم الطبيعي.
لكن يضع ديكارت أشياءً أخرى كثيرة محل الشك وتسقط في هذا الاختبار وبالتالي يستبعدها تمامًا لأنها لم تصل إلى درجة اليقين والوضوح والتمايز الذي يبتغيه. ومن هذه الأشياء كل ما تعلمناه سواء من الحواس أو من خلالها، أي أنه يرفض كل ما تأتى به الحواس من إدراكات ويرفض الإدراك الحسي نفسه كأداة معرفية وهذا يتضمن كل شيء نعرفه عن العالم الخارجي وكذلك عن أنفسنا باعتبارنا أجسادًا. وهو يرفض شهادة الحواس لأنها دائمًا ما تخطئ، ودائمًا ما تكون الحواس عرضة للأوهام أو الاعتقادات الخاطئة، ويذهب ديكارت في ذلك إلى أنه «من الحكمة ألا نثق في الذي خدعنا ولو لمرة واحدة». فإذا ثبت أن الحواس لم تكن محل ثقة في أحيان فكيف لنا أن نثق بها في كل الأحيان؟ وهناك سبب آخر يقدمه ديكارت لعدم الثقة في الحواس، وهو أنه لو لم نكتشف أننا ننخدع بالحواس ونسلم بهذا فما أدرانا أننا لا نحلم؟ ذلك لأن المرء في الحلم يشاهد أشياء كأنه يراها على الحقيقة في حين أنها ليست كذلك، وبالتالي فمن الممكن أن يكون كل ما نراه ونحس به حلم كبير والحالم غالبًا ما لا يعلم أنه يحلم وبالتالي فمن الممكن أن نكون في حلم ونحن لا نعلم ذلك.
ثم يأتي ديكارت بعد ذلك إلى تناول حقائق الحساب والهندسة ويذهب إلى أننا يجب أن ننحيها جانبًا على الرغم مما هو فيها من وضوح وتمايز، حتى أنه الحقيقة القائلة أن اثنين زائد ثلاثة تساوي خمسة وأن المربع هو ما له أربع أضلاع ليست محمية من الشك، فمن الممكن أن يكون هناك شيطان ماكر هو الذي أوحى لي بهذه الأشياء وأوهمني أنها حقائق وهي ليست كذلك، وينتهي ديكارت إلى القول بأنه «ليس هناك أي شيء كنت أعتقده في السابق أنه حقيقي لا يمكن أن أضعه موضع الشك، وذلك بناء على أسباب قوية ومعتبرة». والحقيقة أن ديكارت الذي شك في حقائق الحساب والهندسة في التأمل الأول على أساس افتراض الشيطان الماكر لن يعود إلى إثباتهما إلا في التأمل الرابع عندما يثبت أن الإله الرحيم العادل لن يتركه يخضع لسلطة هذا الشيطان ولن يجعله ينخدع ويثق في أشياء باطلة وذلك بعد أن يثبت وجود الإله في التأمل الثالث.
اليقين الأول - إثبات وجود الذات
هذا هو موضوع التأمل الثاني، وفيه يبدأ ديكارت من النقطة التي انتهى عندها في التأمل الأول، قائلًا: «سأستمر بتنحية كل ما فيه قليل من الشك.. حتى أصل إلى شيء يقيني». يذهب ديكارت إلى أنه حتى ولو كان افتراض وجود شيطان ماكر صحيحًا، وحتى لو كان هذا الشيطان الماكر يخدعه بأن يصور له وجود عالم لا وجود له، فإن هذا الشيطان الماكر لا يمكن أن يخدعه في وجوده ذاته، فلا يمكن أن يصور له أنه موجود في حين أنه ليس موجودًا. وبذلك يتوصل ديكارت إلى أول يقين وهو وجود الذات، ويقول أنه يشعر بوجوده وبهويته، وبالتالي فهو موجود.ويستخدم ديكارت حجة شبيهة في «مبادئ الفلسفة» إذ يقول: «لا يمكننا الشك في وجودنا أثناء عملية الشك»، ذلك لأن الكائن الذي يشك يجب أن يكون موجودًا في البداية، «ذلك لأن من التناقض الاعتقاد في أن الذي يفكر لا يوجد أثناء التفكير». فالتفكير في حد ذاته دليل على وجود الذات التي تفكر، «هذا الاستنتاج القائل (أنا أفكر، إذن أنا موجود Cogito, erg osum) هو أول شيء يقيني على الإطلاق».
والحقيقة أن ديكارت ينطلق إلى تأكيد هذه النتيجة على أساس العلاقة التقليدية بين الجوهر والأحوال، أو الموضوع والمحمول، فحسب هذه العلاقة التقليدية لا يمكن أن تكون هناك أحوال دون جوهر تحمل عليه، ولا يمكن أن يكون هناك محمول، بالمعنى المنطقي بدون موضوع، ولا يمكن أن يكون هناك فعل دون قائم بهذا الفعل. والتفكير فعل يجب أن يكون له فاعل أو محل يحدث فيه أو شيء يقوم به وهو الذات المفكرة. وهكذا نرى أن الثورة الفلسفية التي أتى بها ديكارت تكمن خلفها بعض الاتجاهات التقليدية القديمة في الفلسفة. هذا بالإضافة إلى أن الانطلاق من الفكر إلى الوجود، أي من واقعة حضور شيء ما في الفكر إلى القطع بوجوده الواقعي، مثلما سيفعل ديكارت مع فكرة الإله الكامل، هو أيضًا اعتقاد فلسفي تقليدي موغل في القدم يصل إلى فلاسفة ما قبل سقراط وعلى رأسهم بارمنيدس.
ويتساءل ديكارت بعد ذلك عن طبيعة وجود هذه الذات التي اكتشف وجودها اليقيني والواضح، ويذهب إلى أنه يدرك نفسه باعتباره جسمًا، أي ممتلكًا لإحساسات معينة ورغبات ومشاعر. وعلى الرغم من أنه يمكن الشك في الأشياء الحسية، إذ يمكن أن تكون مجرد أوهام، إلا أنه لا يمكن الشك في أن المرء حاصل على وعي بالإحساسات، وهذا الوعي في حد ذاته موجود وحاضر ولا يمكن أن يكون وهمًا. ويتوصل ديكارت من ذلك إلى أن الوعي بالجسد نفسه يأتي من الفكر، ذلك لأن الإحساس والرغبة والمشاعر كلها عناصر فكرية يدركها المرء بفهمه وعقله، وينتهي ديكارت إلى القول بأن الذات توجد باعتبارها شيئًا مفكرًا، أي فكر خالص يعد هو نفسه أساس الوعي بالحالات الجسدية. لكن يقف ديكارت طويلًا على مفهوم آخر مرتبط بالجسد، وبكل الأشياء الجسمية، ويتساءل: هل أمتلك وعيًا بذاتي بفضل امتلاكي لجسد ممتد، أي ذي أبعاد تشغل حيزًا من الفراغ؟ ويجيب بالنفي، ذلك لأن إدراك الشيء الممتد، بما فيه الجسم الإنساني لا يعتمد على الحواس بل على الفكر. ويضرب مثالًا على ذلك بقطعة من الشمع. فهذه القطعة لها شكل معين ولون وملمس، وعندما تتعرض للحرارة تذوب ويتغير شكلها وملمسها ولونها، وليس معنى هذا أنها اختفت أو كفت عن الوجود بل يظل الفكر يعرف أنها باقية، وذلك من كونها لا تزال شيئًا ممتدًا. ومعنى هذا أنه لا الشكل أو اللون أو الملمس قادر على إبقاء هوية شيء ثابتة في الفكر، والامتداد وحده هو القادر على ذلك. هذا الامتداد ليس شيئًا تتلقاه الحواس مثل اللون والملمس والرائحة بل هو شيء يدرك بالفكر وحده. ومعنى هذا أن الفكر لا يدرك ماهية المادة من الإحساسات التي يتلقاها منها بل من فكرة الامتداد التي يدركها الفكر مباشرة على أنها ماهية كل ما هو جسمي بما فيه الجسم الإنساني.
التمييز بين الفكر والامتداد، وبين النفس والجسم
على أساس نظريته في الأفكار الواضحة والمتمايزة، يذهب ديكارت إلى أن ما يدركه العقل بوضوح وتمايز يتمتع بحقيقة وواقعًا موضوعيًا يفوق ما يدركه العقل غامضًا ومختلطًا. وعندما يبحث في أفكاره عن المادة والأجسام المادية يدرك أن أفكاره عنها ليست واضحة، ذلك لأن مصدر هذه الأفكار الحواس والإدراك الحسي وهي غالبًا ما تخطئ في المعرفة وتتعرض للزيف والأوهام. ونظرًا لأن ديكارت يشك في قدرة الإدراك الحسي على إمداده بمعرفة واضحة يقينية فهو أيضًا يشك في إمكان الحصول على أفكار واضحة عن موضوعات هذا الإدراك الحسي مثل المادة والجسد.
فموضوعات الإدراك الحسي دائمًا ما تكون مختلفة بطبيعتها، فهي دائمة التغير والتحول، مثل مثال قطعة الشمع الذي يستخدمه. وينتهي ديكارت إلى القول بأن معرفة الفكر أيسر وأوضح من معرفة المادة، ومعرفة النفس أيسر وأوضح من معرفة الجسد، ذلك لأنه من اليسير على الإنسان ملاحظة ما يدور في عقله من عمليات فكرية، فالفكر هو النشاط الأساسي للإنسان، وما الجسد سوى ملحق بالعقل والفكر، كما أن الجسد نفسه يعرف بوضوح ويقين عن طريق الفكر ذاته، أما إذا استعملنا الجسد لمعرفة الجسد فسوف نخطئ ونقع في الأوهام، مثل استخدامنا للإدراك الحسي لمعرفة أجسادنا. كل ما نعرفه عن الجسد هو آثاره العقلية، أي ما يثار في العقل من إحساسات وانفعالات. وبالتالي فالعقل هو الذي يعرف الجسد، ومن هنا فإنه له الأولوية على الجسد.
ويؤسس ديكارت تمييزه بين النفس والجسد على أساس نظريته القائلة أن ما يدركه العقل متمايزًا أو منفصلًا عن الآخر يوجد على الحقيقة متمايزًا ومنفصلًا. وهو يستطيع أن يفكر في النفس في استقلال عن الجسد، وبالتالي فهما في الحقيقة منفصلان. كما يذهب ديكارت إلى أن في الوجود جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، والفكر هو جوهر النفس، والامتداد جوهر الجسد، وعلى هذا الأساس يكونا منفصلين نظرًا لانفصال وتمايز جوهري الفكر والامتداد. لكن الإنسان في النهاية يمثل اتحادًا بين النفس والجسد، وفي نفس الوقت فهذا الاتحاد تظهر فيه النفس والجسد متمايزان ومنفصلان، والدليل على ذلك ما يدركه الإنسان بوضوح عن انفصالهما. ولا يميل ديكارت إلى الرأي القائل أن الاتحاد بين النفس والجسد يصنع موجودًا جديدًا هو الإنسان نفسه، بل يصر على أن هذا الاتحاد ما هو إلا تلازم جوهرين من طبيعتين مختلفتين تمامًا. ويثبت ديكارت رأيه هذا على أساس معادلة حسابية بسيطة وهي 1 + 1 = 2 فالنفس زائدة الجسد يساويان اثنين نفسًا وجسدًا. ولا يصرح ديكارت بهذه المعادلة الحسابية بل هي متضمنة في تحليلاته. كان يمكن لديكارت أن يلجأ إلى معادلة حسابية أخرى وهي 1 × 1 = 1، بمعنى أنه كان يمكنه النظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنهما عملية ضرب لا عملية إضافة. لو قام ديكارت بهذه المعادلة لأدرك أن اتحاد النفس بالجسد سوف يصنع موجودًا مختلفًا عنهما، لا هو بنفس فقط ولا هو بجسد فقط، بل هو كائن جديد ليس في العالم مثله وهو الكائن الإنساني، وكان يمكنه أيضًا أن ينظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنه شبيه بامتزاج العناصر الكيميائية لصنع عنصر جديد لكنه لم يستطع أن يجري تلك المعادلة أو هذا التشبيه لأنه يعتقد منذ البداية بتمايز واختلاف الفكر والامتداد وأنهما لا يمكن أن يمتزجا لصنع وجود جديد هو الوجود الإنساني. ومن أجل ذلك اعتقد ديكارت أن اتحاد هذين الجوهرين المختلفين أشد ا لاختلاف في الكائن الإنساني ليس إلا فعلًا للإرادة الإلهية ونتيجة لقرار إلهي بأن يوجد الإنسان الذي هو فكر ونفس في الأساس في جسد معين في هذا العالم.
وعلى عكس كثير من الفلاسفة المحدثين، فإن ديكارت لا ينتهي باختزال الجسم إلى العقل، أو العقل إلى الجسم، بل يؤكد على أن لدينا عقلًا وجسمًا في نفس الوقت، وأن الاثنين مختلفان عن بعضهما تمامًا، لكنهما في نفس الوقت في اتحاد تام. ويذهب ديكارت إلى أن هذا الاتحاد ليس تشاركًا بين متساويين، ذلك لأنه كما يصر على حقيقة الجسم ولا يختزله إلى العقل، فإنه كذلك يقطع بأن الجسم هو مجرد شيء امتلكه، في حين أن العقل أو النفس هو شيء أكونه، أي هو ما يشكل هويته الحقيقية، بمعنى أنني عقل أو نفس في الأساس وبالدرجة الأولى، ولهذا العقل أو لهذه النفس جسد تمتلكه. والحقيقة أن ديكارت يقع في تناقض خطير في نظريته حول ثنائية العقل والجسد، فحسب منطق تفكيره الذي يعتمد على النظرية التقليدية في العلاقة بين الجوهر والأحوال، والموضوع والمحمول، والتي يقول بحسبها أن التفكير نشاط أو فعل في حاجة إلى فاعل أو جوهر يقوم به وهو النفس، فإن رأيه هذا غير مبرر ومتناقض، ذلك لأنه من الممكن القول بأن التفكير فعل ذهني لفاعل أو حامل مادي هو الجسم، وأن العقل أو النفس ذاتها ما هي إلا صفة أو حال للجسم. كل ما فعله ديكارت أنه ألحق النشاط الفكري بجوهر مفكر هو النفس، في حين أنه كان من الممكن أن يلحقه بالجسم دون أي تناقض، فمن المفترض أن يكون الجوهر والقوام مادي ويكون الحال أو الفعل فكري أو روحي، والحقيقة أن سبينوزا سوف يفضل هذا الخيار، وهو إلحاق الفكر بالجسم وليس العكس كما ذهب ديكارت.
ويبني ديكارت افتراضه بأولوية النفس على الجسم على افتراض أن الشيء المفكر يجب أن يكون حائزًا على جوهر مفكر وهو العقل أو النفس، وأن الشيء الممتد يجب أن يرجع إلى جوهر مادي، فالفكر في حاجة إلى عقل كي يقوم به، والامتداد في حاجة إلى جسم مادي كي يقوم به، وهذه هي الثنائية الديكارتية الشهيرة في أعلى صورها. لم يكن ديكارت ليتصور إمكان وجود نشاط فكري في جوهر مادي أو وجود صفة الامتداد في جوهر روحي أو عقلي خالص، وقد كانت هذه الاعتقادات المسبقة هي الميدان الأفلاطوني الذي استمر متخفيًا في فلسفة ديكارت، ومن هنا لا تكون فلسفته ثورية تمامًا كما اعتقد الكثيرون بل تقليدية للغاية، حتى وإن كانت التصورات الفلسفية التقليدية غير واضحة في مذهبه للوهلة الأولى. وكدليل على أن في فلسفة ديكارت عناصر فلسفية تقليدية أن معظم الفلسفات الحديثة التالية له سوف تنقد هذه العناصر التقليدية وترفضها، وأهمها فلسفة سبينوزا التي سوف تنظر إلى الفكر الامتداد على أنهما صفتين لجوهر واحد، وإلى النفس والجسم على أنهما شيء واحد ولا يمكن تصور أحدهما بدون الآخر، وجون لوك الذي سوف يرفض أولوية الفكر على الامتداد وينقد نظرية ديكارت في الأفكار الفطرية، وديفيد هيوم وإمانويل كانط اللذان سوف يرفضان استنتاج الوجود من الفكر وحده. لكن هذا الاستنتاج هو الذي تمسك به ديكارت في كل مؤلفاته وأصر عليه، وأقام عليه تمييزه بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، من منطلق أن ما يمكن التفكير فيه بمعزل عن الآخر هو في حقيقته متمايز ومختلف عن الآخر، والفكر يمكن التفكير فيه بمعزل عن الامتداد، ويمكن التفكير في النفس بمعزل عن الجسم، وبالتالي فهما متمايزان على الحقيقة، ويقول في ذلك «يكفي أن أكون قادرًا على إدراك شيء ما بمعزل عن الآخر كي أكون على يقين أن الواحد منهما مختلف عن الآخر». إن ديكارت بذلك يعتقد أنه إذا كان من الممكن التفكير في جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، فإن هذا يكفي لاعتبارهما منفصلين في الواقع. هذا الأسلوب في التفكير الذي يتوصل إلى الوجود الحقيقي من خلال الفكر وحده هو ما ثارعليه لوك وهيوم وكانط. أيضًا معظم الفلاسفة المحدثين قد بنوا فلسفاتهم عن طريق معارضته ونقد أفكاره الأساسية لا عن طريق السير وراءها أو توسيعها أو تطويرها، ناهيك عن الفلاسفة المعاصرين الذين أعطوا الأولوية للجسم والامتداد على النفس والفكر. لقد انبنت الفلسفات الحديثة والمعاصرة على أساس اختلافها مع ديكارت لا اتفاقها معه، ومثلت ابتعادًا مستمرًا عنه لا اتباعًا له.
لقد كان استخلاص الوجود من الفكر، والاعتقاد في وجود جوهرين متمايزين هما الفكر والامتداد، وأن الذات الإنسانية توجد على أنها فكر وأن الجسم ما هو إلا زائد أو ملحقًا بالعقل، كل هذه الأشياء كانت مسلمات في فلسفة ديكارت ورثها من فلسفة العصور الوسطى دون وعي منه ودون أن يضعها موضع الفحص، ولم يشك فيها أبدًا أو يطبق عليها منهجه الشكي، ذلك لأنها كانت ضمنية أقامها واستخدمها في فلسفته دون وعي منه. إن ديكارت الذي بدأ تأمله الأول بالشك المنهجي وبرفض الاعتقادات والآراء السابقة لم يرفض في الحقيقة كل تلك المسلمات السائدة في فلسفات العصور الوسطى، إذ ظهرت لديه بقوة ووضوح.
لكن إذا كان ديكارت قد فصل بين النفس والجسم هذا الانفصال التام والنهائي فكيف نظر إلى إشكالية اتصالهما واتحادهما في الفرد الإنساني؟ إن هذا الفصل يجعل من تفسير اتصالهما في الإنسان مشكلة عويصة واجهت ديكارت وحاول أن يبحث لها عن حلول. وقد قدم ديكارت عددًا من الحلول لهذه المشكلة، مشكلة اتصال النفس بالجسم، وذهب إلى أن الجسم ما هو إلا آلة Machine تحركها النفس. فالجسم شيء مادي مثله مثل باقي الأشياء المادية الموجودة في العالم، وقوانينه الحاكمة له هي نفس القوانين الحاكمة لكل الأجسام المادية، لكنه في نفس الوقت جسم خاص لنفس معينة. هذه الآلة التي هي الجسم الإنساني لا تستطيع أن تعمل بدون النفس، وتتوقف عن العمل إذا فارقتها النفس. ويذهب ديكارت إلى أنه على الرغم من تمايز النفس والجسم، إلا أن الوجود الإنساني في العالم يتمثل في اتحاد النفس بالجسم، ذلك لأن الله أراد من الإنسان في هذا العالم أن يكون نفسًا وجسمًا في نفس الوقت. فليس في اتحاد النفس والجسم أي صدفة أو عرض، ذلك لأن هذه هي إرادة الله التي صنعت هذا الاتحاد. ولم يؤدي هذا الحل إلى حل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن الثنائية التي وضعها ديكارت بينهما كانت قوية، وعادت مشكلة اتصالهما إلى الإلحاح عليه. فكيف يمكن للنفس التي هي فكر خالص أن تتحد في الجسم الذي هو مادي خالص؟ وكيف تحرك النفس الجسم وتحدث فيه أفعالًا وحالات، وكيف تؤدي الأحداث الجسمية إلى حدوث أفكار في العقل؟ وكل هذه المشكلات أتى ديكارت بافتراض لحلها وهو قوله بوجود شيء في الجسم يمثل اتحاد النفس بالجسم ويتصف بالصفة العقلية والصفة الجسمية في نفس الوقت، وهو الغدة الصنوبرية التي تقع وراء المخ. فعن طريق هذه الغدة يرسل العقل إشارات عصبية إلى الجسم كي يتحرك ويفعل، وعن طريقها أيضًا يستقبل العقل أحداث وإحساسات الجسم لنقلها إلى العقل. وعلى الرغم من هذا الحل الجديد الذي يبدو عليه البراعة والذكاء إلا أنه لم يحل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن ديكارت كان قد وصف الجسم بأنه آلة، والآلة لا تحركها إلا آلة مثلها، والغدة الصنوبرية ليست آلة بل هي جزء من الجسم، وكأن ديكارت يقول بأن جزءًا من الجسم يحرك الجسم كله، ويظل دور النفس غائبًا، لأن هذه الغدة ليست جزءًا من النفس بل هي وظيفة من وظائف الجسم. وهكذا لم يستطع ديكارت حل إشكالية الاتصال وظلت ثنائية النفس والجسم لديه قائمة على الرغم مما يبدو عليه افتراض الغدة الصنوبرية من تجديد، وعلى الرغم من أن هذا الافتراض سوف يلقي أصداء لدى علم النفس التجريبي الحديث الذي سوف يحل نفس المشكلة بتبني الافتراض الديكارتي.
وجود الإله وطبيعته
يعتقد ديكارت أن الله يشبه العقل من حيث أن الله والعقل يفكران ولكن ليس لهما وجود مادي أو جسمي، إلا أن الله يختلف عن العقل بأنه غير محدود، وأنه لا يعتمد في وجوده على خالق آخر، ويقول:"إنني أدرك بجلاء ووضوح وجود إله قدير وخير لدرجة لا حدود لها".
مبررات ديكارت لإثبات وجود الإله
- طالع أيضاً: إثبات ديكارت لوجود الله
ينتقل ديكارت في التأمل الثالث إلى تناول وجود الإله وطبيعته، ويثبت وجوده بدليلين، وفي التأمل الخامس يستخدم دليلًا ثالثًا. وجدير بالذكر أن الذي جعل ديكارت ينتقل من إثبات وجود الذات المفكرة إلى البحث عن يقين آخر وهو الإله ويشرع في إثبات وجوده هو أنه استمر في ممارسة شكه، ذلك لأنه رأى أن مجرد إثبات وجود الذات لا يكفي كي يصل إلى يقين مطلق حول باقي أفكاره وحول العالم، حتى أنه لا يزال يشك في التأمل الثالث في الحقائق الحسابية والرياضية ويفترض أن هناك من يخدعه حولها وأن هذا المخادع هو الذي جعله يعتقد في صدقها في حين أنها ليست كذلك. ويتناول ديكارت يقينه الأول الذي وصل إليه وهو وجود الذات ويذهب إلى أن هذا الوجود لا يكفي في حد ذاته لإثبات حقائق العالم المختلفة، حتى أنه يفترض أن الذات تحصل على يقينها من خلال نور فطري في النفس الإنسانية لا يرجع إلى العالم الخارجي. لكنه يعود ليشك في هذا النور الفطري ذاته لأنه لا يذكر عنه سوى ما تلقاه من حقائق في العالم الخارجي، وبذلك يكون النور الفطري مجرد عامل مساعد يظل معتمدأً على ما تتلقاه الذات من العالم الخارجي. وهذا الاعتماد للنور الفطري على أشياء العالم لا يجعله عند ديكارت يقينًا مستقلًا بالذات، بل يمكن أن يكون هو نفسه عرضة للشك، لأن النور الفطري يقتصر دوره على ما تتلقاه الذات من العالم، وبذلك فهو ليس فاعلًا بل منفعلًا، ليس إيجابيًا بل سلبي. والنور الفطري ليس سوى تأكيد الذات على حقائق العالم بناء على وضوح وتميز أفكارنا عنه. هذا الوضوح والتمييز في حد ذاته عرضة للشك لأنه يمكن أن ينتهي في النهاية إلى مجرد خداع أو إلى شيطان ديكارت الذي لا يكف عن افتراض وجوده دائمًا في مؤلفاته. وفي مواجهة عدم كفاية اليقين الأول وهو وجود الذات، وبسبب أن هذه الذات يمكن أن تكون منخدعة، يشرع ديكارت في البحث عن أساس ثان لليقين يستطيع به تأسيس يقينه بحقائق العالم. وعندما يبحث في فكره عن أفكار يدركها في وضوح وتميز يجد أنه يستطيع التفكير في إله كامل. فبعد أن ينحي العالم كله ويستبعده من تفكيره هو والأفكار المتعلقة به وما يؤكده من نور فطري الذي هو في حد ذاته محل للشك، يتناول الفكرة الثانية التي تطغي على تفكيره بعد فكرة الذات المفكرة مباشرة وهي فكرة الإله. ويجعل ديكارت فكرة الإله هي الفكرة الوحيدة القادرة على تخليصه من شكه، لأنه بدون هذا الإله لن يستطيع أن يكون على يقين من أي شيء، ولن يستطيع أن يتخلص من فكرة الشيطان الماكر الذي يخدعه دائمًا، ويقول في ذلك: «يجب أن أبحث فيما إذا كان هناك إله بمجرد ما أن تأتي الفرصة لذلك، وإذا اكتشف أن هناك إله، يجب علىَّ أيضًا أن أبحث فيما إذا كان مخادعًا»، ذلك لأن الإله إذا كان مخادعًا فلن يكون هو الإله الحقيقي بل سيصبح الشيطان الماكر بعينه، «ذلك لأنه بدون معرفة بهاتين الحقيقتين، أي وجود الإله وأنه ليس مخادعًا، فلا يمكن أن أصبح على يقين من أي شيء»، عدا كونه وجودًا مفكرًا وحسب.
أدلة وجود الإله:
الملاحظ أن ديكارت يتوصل إلى وجود الذات المفكرة لا بأدلة وبراهين عقلية مثل التي يستخدمها في إثبات وجود الله، بل بالحدس والبصيرة. ذلك لأن السلسلة التي ينتقل فيها من الشك إلى اليقين بوجوده باعتباره كائنًا مفكرًا، والتي يقول فيها: «أنا أشك إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود» ليست ببرهان عقلي بل هي في حقيقتها برهان حدسي، يقوم على البصيرة والنور الفطري. وعندما يأتي ديكارت لتناول فكرة الإله كفكرة في الذهن وحسب، وكي يوضح أنه ليس مجرد فكرة وأنه يتمتع بوجود حقيقي يشرع في تقديم أدلة عقلية وبراهين منطقية على وجوده. ومعنى هذا أن ديكارت يقدم أدلة وبراهين على ما توصل إليه عن طريق حدس باطني وبصيرة داخلية، ذلك لأنه يبحث في ذاته عن فكرة أخرى غير فكرة الذات المفكرة ويجد فكرة الإله، وهذا هو طريق الحدس، الذي يثبته بعد ذلك عقليًا في صورة أدلة. إن كثيرًا ممن يعرض لفلسفة ديكارت ينتقل مباشرة من إثباته لوجود الذات المفكرة إلى أدلته على وجود الإله، متناسيًا الكيفية التي ظهرت بها فكرة الإله لديه. فهو لم يتوصل إلى هذه الفكرة بأدلة عقلية بل بحدس باطني وبصيرة داخلية، وهذه هي النقطة التي لم يركز عليها أغلب من تناولوا فلسفته من مؤرخي الفلسفة. فكرة الإله ذاتها يعرفها ديكارت بحدس وبصيرة داخلية، أماوجوده فيعرفه أو يثبته بأدلة وبراهين عقلية. وكونه يعرف فكرة الإله بحدس باطني يجعل فلسفته مشابه لفلسفة القديس أوغسطين التي تعتمد على نفس الوسيلة وهي الحدس والبصيرة الداخلية لاكتشاف فكرة الإله داخل النفس. ومرة أخرى نرى كيف أن فلسفة ديكارت ليست جديدة تمامًا بل تنطوي على عناصر تقليدية سبق ظهورها في فلسفات العصور الوسطى.
الدليل الأول:
وهو دليل الكمال. يميز ديكارت بين نوعين من الوجود: الوجود الموضوعي والجود الفعلي أو الواقعي. الوجود الفعلي هو وجود الأشياء المحسوسة الحاضرة أمامنا في هذا العالم، أما النوع الآخر من الوجود فهو الوجود الذي يتمتع بصفات الكمال. يمكنني أن أفكر في الحصان الطائر مثلًا، على الرغم من أنه غير موجود، ويمكنني أيضًا أن أفكر في المائدة الحاضرة أمامي وأدرك أنها موجودة، وأفكر كذلك في إله كامل. ومن بين هذه الأفكار نرى أن فكرة الحصان الطائر موجودة في ذهني فقط وليس لها وجود فعلي، والمائدة موجودة أمامي وهي بذلك تتصف بالوجود الفعلي إلى جانب كونها فكرة حاضرة في ذهني. وعلى الرغم من أن الإله غير حاضر أمامي إلا أن وجوده موضوعي، ذلك لأن ما يتصف بصفات الكمال يتمتع بوجود أكثر موضوعية من الأشياء الموجودة بالفعل، لأنها في النهاية ناقصة ومصنوعة، وفكرة الخالق أكثر موضوعية من فكرة المخلوق حتى ولو لم يكن هذا الخالق حاضر فعليًا أما الحواس. وفي ذلك يقول ديكارت: «إن إلهًا أعلى – أبدي – لا متناهي – كلي العلم والقدرة وخالق لكل شيء خارجًا عنه حاصل على حقيقة موضوعية في ذاته أكثر من تلك العناصر المتناهية». ويبني ديكارت استدلاله هنا على أساس أن الخالق أكثر حقيقة من المخلوق، والكامل أكثر حقيقة من الناقص، والكلي العلم والقدرة أكثر حقيقة من ناقص العلم والقدرة، واللامتناهي أكثر حقيقة من المتناهي. ويذهب ديكارت إلى أن كل تلك الصفات التي نعرفها عن الإله يجب أن تكون لها أسباب لوجودها، ولا يكون الإنسان هو مخترعها، ذلك لأن الإنسان ناقص وبذلك لا يمكن أن يكون هو سبب فكرة الكمال. كما أن كل تلك الصفات يجب أن ترجع إلى علة كافية وضرورية وهي الإله نفسه الموجود وجودًا فعليًا. فمن صفات الكمال الوجود، وإذا لم تكن فكرة الكمال ترجع إلى كائن موجود بالفعل فسوف تصبح فكرة ناقصة وهذا تناقض. وبالتالي فالكائن الكامل يجب أن يكون موجودًا، لأنه لو افتقر إلى الوجود لأصبح غر كامل ولكان مجرد فكرة في الذهن.
الدليل الثاني:
وفيه يثبت ديكارت وجود الإله انطلاقًا من وجوده هو، بمعنى أنه ليس سببًا لوجود نفسه، وبالتالي يجب أن يكون هناك كائن خالق هو الذي أوجده. يقول ديكارت: «واسأل نفسي، من أين أحصل على وجودي؟ ربما من ذاتي أو من والديَّ، أو من أي مصدر آخر أقل كمالًا من الإله؟». ولا يمكن أن يكون سبب وجوده شيء ناقص أو مفتقر إلى الكمال، وبالتالي فالإله الكامل هو سبب وجوده، وبما أنه موجود فالإله أيضًا موجود. وهو يفترض جدلًا أن يكون والديه هما السبب في وجوده، إذ يمكن أن يكونا سببًا في ميلاده كجسم وحسب، في حين أنه يوجد في الحقيقة باعتباره فكرًا منفصلًا ومتمايزًا عن الجسد. فالوالدان يمكن أن يكونا سببًا لوجود هذا الجسم المادي، لكنهما لا يمكن أن يكونا السبب في النفس أو الروح. ويناقش ديكارت احتمال أن يكون السبب في وجوده شيء أكثر كمالًا من الوالدين لكن أقل كمالًا من الإله مثل الطبيعة مثلًا، ويرفض ديكارت هذا الاحتمال، ذلك لأن الأقل كمالًا من الإله لا يمكن أن تكون لديه القدرة على الخلق من العدم. ويستمر ديكارت في المزيد من توضيح هذا الدليل، ويذهب إلى أنه باعتباره جوهرًا مفكرًا موجود لكنه لم يكن يوجد دائمًا بل إن وجوده حادث، أي حدث بعد أن لم يكن. وعندما يبدأ شيء في الوجود بعد أن لم يكن فمعنى هذا أنه أتى من العدم، أي خُلق. والقدرة على إيجاد شيء من العدم تتطلب قدرة تفوق قدرة إدراك الأشياء. وبما أن الإنسان لا يحصل إلا على قدرة على إدراك الأشياء وفهمها وحسب وليس حائزًا على قدرة إيجادها أو خلقها من العدم، فهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يكون سببًا في وجوده، وبالتالي فهذا السبب يكون أكثر قدرة من الإنسان. وإذا كان الإنسان قادرًا على إيجاد نفسه من العدم فمعنى هذا أنه قادر على الحصول على الكمال، لكن الإنسان ناقص، وبالتالي، فهو لا يمكن أن يكون سببًا في وجود ذاته، ولا يمكن أن يكون سبب الوجود إلا الإله الكامل.
ويقدم ديكارت حجة أخرى في إطار هذا الدليل، ويذهب إلى أن الوجود عبارة عن المرور عبر لحظات الزمن، وهذا المرور عبر الزمن يفترض القدرة على جعل الشيء الموجود في لحظة يستمر في الوجود في كل لحظات الزمن. وبما أن الإنسان ليس قادرًا على إيجاد أي شيء يستمر حاضرًا في كل الأزمنة، فلا يمكن أن يكون هو السبب في استمرار وجوده في الزمن. وبذلك فيجب أن تكون هناك قدرة على استمرار الإيجاد في الزمان، وهذه القدرة غير متوافرة في الإنسان، وبالتالي فالإله هو هذه القدرة التي تجعل وجودي، ووجود الأشياء كلها. مستمرة في الزمان. والملاحظ أن هذه الحجة هي في حقيقتها ليست حجة لإثبات وجود الله وحسب بل حجة على استمرار خلقه واستمرار العناية الإلهية. فديكارت يعتقد في أن الإله لم يخلق الإنسان والعالم في لحظة من الزمان ثم انتهى عمله عند ذلك، بل كان يعتقد في نظرية الخلق المستمر والعناية الإلهية تلك النظرية المستمدة من فلسفات العصور الوسطى.
الدليل الثالث:
ويسمى هذا الدليل بالدليل الأنطولوجي، وذلك لسببين، الأول أنه يستخلص وجود الإله من فكرة الكائن الكامل، والثاني أنه يوحد الفكر والوجود في حالة الإله، ويعتبر أن الإله باعتباره فكرة مساويًا للإله باعتباره وجودًا حقيقيًا. ويحتوي هذا الدليل على مسلمة منطقية تذهب إلى أن ما هو ممكن ومقبول منطقيًا يمكن وجوده واقعيًا، بمعنى أننا إذا كنا نستطيع تصور أن المفهوم أ ينطوي على المفهوم ب، فمعنى هذا أن الشيء المسمى أ ينطوي على الشيء المسمى ب، فالعلاقة المنطقية التي تدرك بيقين وتميز في الفكر يمكن وجودها واقعيًا خارج الفكر. ويسير الدليل الثالث بنفس الطريقة، إذ يذهب ديكارت إلى أن لديه فكرة واضحة ومتميزة عن الكائن الكامل، وهذا الكائن لا يمكن أن يفتقر إلى أي صفة بما فيها صفة الوجود. ومن التناقض تصور فكرة الإله باعتباره الكائن الكامل دون تصور وجوده، ذلك لأن الكائن الكامل غير الموجود حقيقة يعد تناقضًا ونقصًا في فكرة الكمال ذاتها، وبالتالي فإن الوجود جزء من مفهوم الإله، إذن الإله موجود.
العالم وأشياؤه
لم يثبت ديكارت حتى التأمل الخامس سوى وجود الذات والإله، وميز بين النفس والجسد، أما في التأملين الخامس والسادس فينطلق إلى إثبات وجود العالم وحقيقة أشياءه. وأول ما يتناوله ديكارت في هذا الشأن ليس وجود المادة في حد ذاتها أو الأجسام المادية أو العالم في كليته بل حقائق الحساب والهندسة، ويذهب إلى التمييز بين معرفة العالم باعتباره مادة ومكونًا من أشياء مادية، والمعرفة الرياضية، ويقر بأن المعرفة الرياضية تتمتع ببداهة وصدق داخلي، والضمان الوحيد لهذا الصدق الداخلي هو أن الإنسان قادر على الحكم في المسائل الرياضية بيقين، وهذه القدرة على الحكم الصحيح ليست زيفًا أو خداعًا، لأن الإله الذي خلق الإنسان هو الذي وضع فيه القدرة على الحكم الصحيح، ولأنه ليس مخادعًا فهو الذي يضمن وصول الإنسان إلى اليقين في الرياضيات طالما استخدم ملكة الحكم لديه على نحو صحيح. والحقائق الرياضية من حساب وهندسة يتوصل إليها العقل وحده دون الاعتماد على الحواس، ودون أن يلاحظ الأشياء ويستقرأها ويستخلص منها القوانين الرياضية. وحقائق الرياضيات مستقلة عن العالم المادي، ولا يهم ما إذا كانت هناك أشياء مادية تتحقق فيها القوانين الرياضية أو لم تكن، فهذه الحقائق موجودة وموضوعة على مستوى الفكر وليست في حاجة إلى العالم المادي كي تتحقق. وهي موجودة قبليًا وما على العقل إلا اكتشافها، وهو يكتشفها بنفسه بدون الاستعانة بالإدراك الحسي.
ولا ينشغل ديكارت فيما إذا كانت الرياضيات هي التعبير الحقيقى عن جوهر الطبيعة وماهيتها، بعكس ما سيفعل من بعده سبينوزا ونيوتن والعلم الحديث كله، فالطبيعة عنده مادة في الأساس وهي في ذلك مختلفة من حيث طبيعتها وجوهرها عن الرياضيات التي هي فكر خالص، فالرياضيات عنده تتمتع بالصحة واليقين سواء كان هناك عالم أم لا. وكأن ديكارت بذلك يعتقد في وجود عالم قائم بذاته للرياضيات مثل عالم الماهيات والمثل عند أفلاطون. والحقيقة أن في فلسفة ديكارت الكثير من العناصر الأفلاطونية في صور مسلمات ضمنية لم يكن على وعي بها، فالتمييز بين النفس والجسم وبين الفكر والامتداد، أو المعقول والمحسوس، كلها تمييزات ترجع إلى أفلاطون الذي يعد أول من أدخلها في التفكير الفلسفي.
أما عن طبيعة الأشياء المادية فيذهب ديكارت إلى التمييز فيما بين ما يدركه العقل منها وما تدركه الحواس. فالعقل يدرك الصفات الأولية للأشياء، مثل الامتداد والشكل والعدد، والحواس تدرك الصفات الثانوية مثل اللون والطعم والرائحة والملمس. ويذهب ديكارت إلى أنه طالما يدرك العقل الصفات الأولية في الأشياء بوضوح وتميز فمعنى هذا أن هذه الصفات موجودة بالفعل في المادة وهي ما تشكل ماهيتها، أما الصفات الثانوية فليست في المادة نفسها بل هي ناتجة عن تأثر الحواس بالمادة، ذلك لأن لون الشيء ورائحته وملمسه يمكن أن يتغير مع بقاء هذا الشيء على حاله من حيث الامتداد والعدد. وبالتالي تكون الصفات الثانوية غير داخلة باعتبارها جزءًا جوهريًا في المادة، فالمادة في الأساس امتداد وعدد وشكل وحركة. هذه الصفات الأولية يدركها العقل لأنها صفات يستقبلها العقل منها، وبما أن العقل هو الذي يستقبلها فمعنى هذا أنها حقيقية، أما الصفات الثانوية فلا تستقبلها الحواس من المادة بل تتأثر بها وحسب، والاستقبال عند ديكارت يختلف عن التأثر إذ أن الاستقبال لشيء حقيقي موجود بالفعل، في حين أن التأثر يمكن أن يكون عائدًا إلى طريقة تركيب وطبيعة حواسنا، وبالتالي فنحن لا نعرف من الأشياء على الحقيقة إلا ما نستقبله منها بوضوح وتميز وهو الامتداد والحركة والعدد، أما ما تتأثر به حواسنا فلسنا على يقين من أنه داخل في طبيعة المادة، بل هو صفات ثانوية فيها يمكن أن تتغير مع بقاء الصفات الأولية للمادة كما هي.
النفس
النفس هي الجوهر المفكر، يقول ديكارت: «في كل جوهر توجد صفة هي التي تكون طبيعته وماهيته، وعليها تتوقف سائر صفاته». وأنا أجد في ذاتي مجموعة من الأفعال: الشك، الفهم، التصور، الإيجاب، النفي، الإرادة، إلخ. وهى أمور لا يمكن أن تحد إلا بالفكر. ولهذا فإن جوهر النفس هو الفكر ومن هنا تتميز النفس تميزاً تاماً عن الجسم. ذلك أن الجسم، وصفته الاساسية الامتداد، لا يتضمن التفكير، وفي مقابل ذلك فإن النفس، وصفتها الأساسية هي التفكير، لا تتضمن الامتداد.
ميز ديكارت في الفكر بين أمرين: التعقل (أو التصور أو الفهم) والإرادة. ووظيفة العقل هي المعرفة والمعرفة عيان الأفكار الواضحة المتميزة. والافكار توجد فينا كامنة بالفطرة، وهي ليست بالضرورة أفكاراً بالفعل، بل تكون بالقوة، التي ربما انتقلت إلى الفعل، وربما ظلت على حالها من القوة والامكان. يقول: «لم أقصد أبداً أن مثل هذه الأفكار هي بالفعل ... بل أني لأقرر أنه لا يوجد من هو أبعد مني عن هذا الخليط المشوش fatras من الكيانات الاسكلائية أن لدى الطفل هذه الأفكار، ولكن بالقوة، مثلما هي عند البالغين حين لا يفكرون».
إن الأرادة فعالة، وفعلها الرئيسي هو الإيجاب، أي القول بالأفكار اثباتاً. إن العقل يعاين الفكرة، ولكن الأرادة هي التي تقرر حقيقة هذه الفكرة. والعلم هو إذن في جوهره إقرار الارادة بالأفكار الضرورية والسرمدية، التي جاءت إلى العقل من الله.
ويؤكد ديكارت حرية الأرادة. ومعنى الحرية هو القدرة على فعل أمر أو عدم فعله. إنها ملكة الاختيار faculté d’élire. وبالجملة نحن نشعر، تجاه الأفكار التي يقدمها لنا العقل، أنه لا توجد قوة خارجية ترغمنا على فعلها أوعدم فعلها («التأمل الرابع») لكن ليس معنى هذا أن الأرادة هي الهوى المطلق، بل الأرادة تخضع لدواع وأسباب هي الني توجهها. والمهم هو حسن التقدير وسلامة الحكم. ولهذا ينبغي الانتباه كيما تكون أفعالنا الإرادية حسنة وسليمة.
وديكارت في تقريره لحرية الارادة يستهدف في الوقت نفسه هدفاً لاهوتياً هو تبرئة الله من نسبة الخطأ الإنساني إليه. ولهذا يقرر أن الخطأ الذي يرتكبه الإنسان لا يصدر عن الله، بل عن حرية إرادة الإنسان. إن الإنسان كائن متناه، ويمكن أن يوصف بأنه يشارك في الوجود وفي العدم معاً، وهذا يفسر وجود الخطأ الذي هو نوع من السلب. لكنه ليس سلباً فقط، بل فيه جانب إيجابي هو إرادتنا، فهي التي تسيء الحكم، فنقع في الخطأ. إن الحكم فعل، فعل تقوم به الإرادة لأنه قرار وتصميم عقلي.
ويفصل ديكارت بين النفس والجسم فصلاً واضحاً متميزاً. فالنفس جوهر مفكر، والجسم امتداد فقط. والإنسان مؤلف من جسم ونفس، وقد شاء الله أن يجمع بينهما في كل فرد فرد. لكن كيف يفسر ديكارت هذا الاتحاد؟ لقد بعثت الأميرة إليزابيث تستوضحه هذا الاتحاد بين النفس والجسم كيف يتم، على الرغم من التميز التام بين جوهر النفس وبين جوهر الجسم؟ كيف يفسر تحريك الإرادة للمادة، وكيف أن حركة جسمية تحدث في النفس ألماً؟
لقد قرر ديكارت في «التأمل» السادس من «تأملاته» أن وجود النفس في الجسم ليس كوجود الملاح في السفينة، وإلا لما تألمت النفس كلما اختل في الجسم شيء، كما أن الملاح لا يتألم اذا أصيب جزء من السفينة بعطب. إذن كيف يفسر ديكارت العلاقة بين الجسم والنفس؟ الواقع أنه في اجابته على تساؤلات الأميرة إليزابيث يتحير ولا يقدم تفسيراً مقنعاً لهذه المسألة.
ويفسر ديكارت انفعالات النفس passions de l'âme - في كتابه الذي ظهر قبيل وفاته تحت هذا العنوان (سنة 1649) - عن طريق استخدام فكرة الأرواح الحيوانية وحركاتها. فهو يفسر الخوف مثلاً بأنه ناتج عن فعل الأرواح الحيوانية في النفس، وذلك في مستوى الغدة الصنوبرية - وهي وثيقة الأرتباط بالنفس إذ تتوجه هذه الأرواح الحيوانية إلى الأعصاب والعضلات القادرة على الأمر بالهرب.
وفي نفس الكتاب يعرض مذهبه الأخلاقي الذي يتلخص في أن الأمر في الأخلاق لا يقوم على الصراع بين جزء سام وجزء منحط في النفس، كما هي الحال عند أفلاطون وأرسطو وفلاسفة العصور الوسطى، بل بين النفس والجسم.
الفلسفة الميكانيكية
ذاع صيت الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت من خلال مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذا أنا موجود". لقد قام دیکارت بإجراء القليل من التجارب واعتمد على نوعية الأفكار المتعددة للوصول إلى المعرفة. لذلك ، لم يكن دیکارت عالما بالمعنى الحديث. ولكن جمعه في عام 1637 بين الجبر والهندسة فيما يعرف بالهندسة التحليلية أو الهندسة الإحداثية يعد بمثابة أداة قوية، لا سيما حينما يرتبط هذا النوع من الهندسة بعلمي التفاضل والتكامل اللذين سرعان ما تم ابتكارهما. إن مجموعات الأعداد التي يتم استخدامها لتحديد موقع نقطة في فضاء ثنائي أو ثلاثي البعد لا يزال يطلق عليها الإحداثيات الديكارتية.
كان دیکارت صاحب الفلسفة الجديدة التي تشبه الطبيعة بالآلة بدلا من اعتبارها نظام يخضع لتأثيرات عشوائية. لقد سبق دیکارت العالم نيوتن بأربعين عاما في محاولته لشرح مسار الكون على أساس علم الميكانيكا المفسر في علم الرياضيات.
قام نیوتن بنشر تصوره في عامي 1686 - 1687 في عمله المعروف باسم Principia. وكان هذا بمثابة نجاح له وما زال تأثير هذا النجاح حتى يومنا هذا. وقام دیکارت بإصدار محاولته في عام 1644. لكن، لم تستمر هذه المحاولة لمدة طويلة. وفي العالم الخاص به، كان دیکارت يرى أن المادة الدقيقة المحيرة" تملأ الفراغات الموجودة بين الأجسام العادية. بن الحركة الدائرية للكون كانت تحمل الكواكب والمذنبات في المدارات الخاصة بها حول الشمس ؛ والأقمار المتعددة حول الكواكب.
كان هذا التصور واضحا ومعروفا لدى الجميع. إذ يستطيع الناس فهم فكرة الحركة الدائرية للكون؛ لأنهم بالفعل شاهدوا الدوامات المائية وهي تحمل وتجرف المخلفات الطافية على السطح من خلال حركتها الدائرية. على النقيض من ذلك، تعد الفكرة القائلة ان الجاذبية قد تسيطر على مسافات كبيرة من الفضاء الفارغ – الذي قام نیوتن بتفسيرها - فكرة غير منطقية ولا معنى لها.
لكن، تصوره السابق للكون لم يقدم الإجابة عن بعض الأسئلة المهمة. على سبيل المثال، لماذا لا تدور كل الكواكب حول الشمس بالطريقة نفسها؟ ولماذا لا يوازي مدار القمر مدار الأرض أو خط الاستواء؟ لذلك بعد حوالي قرن، فقدت فكرة دیکارت حول الحركات الدائرية أو المدارات بتعتها وأهميتها. أما فكرته عن المادة الدقيقة أو المعروفة باسم "الأثير" استمرت حتى القرن التاسع عشر (1887). كما أنه ذكر أن الطبيعة ما هي إلا آلة تعمل بنجاح.
"لا يستطيع المرء فهم وإدراك أي شيء غريب للغاية أو لا يمكن تصديقه إذا لم يؤكده فيلسوف أو أكثر." رينيه ديكارت
نقد
ظهرت معارضة ديكارت منذ أصدر مؤلفه الرئيسي، والذي عرضه على بعض العلماء بهدف أخذ آرائهم، وكان هناك ثلاث جهات رئيسية تعارضه:
- كان الموقف الطبيعي يحارب عناصر ديكارت الروحانية، وكان خصم ديكارت الرئيسي في هذا الاتجاه هو هويس.
- كان اللاهوت المحافظ يحارب محاولاته العقلانية لإثبات حقائق الأشياء دون اللجوء للتجلي الإلهي، كما حاربوا شكه المنهجي، ومن الأمثلة على هؤلاء بوردين وجسبير فويتيوس
- ربط جاسندي كلا المفهومين السابقين في معارضته لديكارت
- هاجم الشكاك عقلانيته، ومن الأمثلة على ذلك كتاب "Censura philosophiae Cartesianae" الصادر سنة 1723 الذي ألفه الأسقف ب.د.هيوت (1630-1721)
علي الرغم من أن ديكارت كان معروفا في الدوائر العلمية حتي وفاته إلا أن تدريس أعماله للطلبة كانت مسألة مثيرة للجدل. هنري دي روي (Henricus Regius, 1598–1679) أستاذ في الطب بجامعة يوترخت أدين من قبل جيجسبرت عميد الجامعة لتدريسه بعض أعمال ديكارت في الفيزياء، كما منعت مؤلفاته في هولندا عام 1656، وروما 1663.
أهم مؤلفاته
- مقال عن المنهج (1637 م).
- علم الهندسة (1637 م).
- تأملات في الفلسفة الأولى (1641 م).
- مبادئ الفلسفة (1644 م).
- العالم
- قواعد لتوجيه التفكير
وله عدة مؤلفات أخرى لم تنشر بالعربية إلى اليوم، منها في الفلسفة والرياضيات والعواطف والموسيقى، ومنها بعض المراسلات.
انظر أيضاً
- ديكارت 3587 (حزام صغير من الكويكبات تم اكتشافه في عام 1981 وأطلق اسم ديكارت عليه).
- الهندسة التحليلية
- باروخ سبينوزا
- الدائرة الديكارتية
- النظام الإحداثي الديكارتي
- جداء ديكارتي
- الزاوية الناقصة
- قاعدة الإشارات التي ابتكرها ديكارت
- الثنائية التفاعلية
- التنظيم الذاتي
- الثورة العلمية
- مثنوية (فلسفة العقل)
- عصر العقل
- الأدب الفرنسي
- الهندسة
- علم النفس
- إثبات ديكارت لوجود الله
- ميتافيزيقا