بنية تحتية وبنية فوقية

(بالتحويل من بناء تحتي)

بحسب النظرية الماركسية، يتكون المجتمع البشري من جزأين:  البنية التحتية (بالإنجليزية: Base أو substructure) والبنية الفوقية (بالإنجليزية: superstructure)؛ تضم البنية التحتية القوى وعلاقات الإنتاج— ظروف عمل رب العمل-العمال، تقسيم العمل التقني وعلاقات الملكية — التي يدخلها الناس لإنتاج ضروريات الحياة وكمالياتها. هذه العلاقات تحدد علاقات المجتمع وأفكاره الأخرى، ما يطلق عليه اسم البنية الفوقية. البنية الفوقية للمجتمع تشمل الثقافة، المؤسسات، بنى السلطة السياسية، الأدوار الاجتماعية، الطقوس، والدولة. تحدد البنية التحتية البنية الفوقية، لكن علاقتها  ليست سببية تماما، لأن البنية الفوقية غالبا ما تؤثر على البنية التحتية، إلا أن تأثير البنية التحتية هو الأهم. من ناحية أخرى ترى الماركسية الأرثوذكسية أن علاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية هي علاقة أحادية الاتجاه.

دخل مصطلح البناء الفوقي، شانه شأن مصطلح البناء التحتي، إلى الخطاب الماركسي من خلال إشارة ماركس إلى ميدان الإنتاج بوصفه "الأساس الحقيقى الذى ينهض عليه بناء فوقي قانوني وسياسي، وتتلازم معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي". التي تتبدى في عبارة "الخيط الهادئ" التي يحتويها مؤلف ماركس: "مقدمة لمساهمة فى نقد الاقتصاد السياسى" الصادر عام 1859.

وهكذا اتفق على أن البناء الفوقى لأى مجتمع يشتمل على مجاليه السياسى والثقافى (أو الإيديولوجى). وقد تطرق ماركس لمناقشة موضوعات مثل: كيف يرتبط البناء الفوقى بالبناء التحتى، وما هى مكونات البناء الفوقى بالتحديد، وما هى طبيعة الديناميات الداخلية التى تدور فيه. وقد تناول ماركس ذلك فى ثنايا حديثه عن الإيديولوجيا وعن تقديس السلع.

وقد تمحورت المناقشات حول المفهوم منذ الستينيات حول سؤالين: على وجه التحديد، ما هى مكونات القاعدة أو البناء الأساسى؟ وما هى علاقتها بالنباء الفوقى؟ وقد كتب ماركس نفسه فى شأن السؤال الأول يقول إن القاعدة تشتمل على "علاقات الإنتاج التى ترتبط بمرحلة معينة لتطور القوى المادية للإنتاج. ومجمل هذه العلاقات الإنتاجية يؤلف البناء الاقتصادى للمجتمع". وموضوع الجدل الماركسى حول مفهوم البناء التحتى يدور حول معنى المتلازم ومكونات علاقات الإنتاج.

وقد نحت الأجيال الأقدم من الماركسيبن إلى فهم التلازم باعتباره مرادفا للحتم، وأن تنظر إلى مكونات علاقات الانتاج على أنها اقتصادية خالصة بالمعنى البدهى للمصطلح، أى الإنتاج المادى ذاته. وفى مقابل ذلك، فإن الماركسيين الأحدث لم يتبنوا مفهوما أكثر مرونة لمعنى الحتمية الذى ينطوى عليه تعبير التلازم فقط، ولكنهم، فضلا عن ذلك، عكسوا اتجاه التيار الحتمى بحيث أصبح ينطلق من علاقات الإنتاج باتجاه قوى الإنتاج (انظر على سبيل المثال، كتابات لوى ألتوسير). وعلاوة على ذلك، دفعوا بالسؤال المتعلق بطبيعة علاقات الإنتاج خطوة إلى الخلف بطرحهم للتساؤل عما إذا كان من الصحيح أن العلاقات الاقتصادية بالمعنى البدهى يمكن فهمها بأى حال من الأحوال كما لو كانت تشير إلى مسائل الإنتاج المادى الخالصة، حيث أنها تنطوى بالضرورة (فى حدها الأدنى) على علاقات القوة الإدارية، والعلاقات الإيديولوجية (انظر على سبيل المثال مؤلف مايكل بوراواى، سياسات الإنتاج، الصادر عام 1985)

أما فيما يتعلق بالعلاقة بين القاعدة والبناء الفوقى، فقد مالت الأجيال القديمة فى هذا المقام أيضاً إلى الادعاء بأن القاعدة تحتم البناء الفوقى على نحو ليس فيه أى إشكالية. ومرة ثانية وبالتعارض مع ذلك، (وفى هذه المرة استندت الأجيال اللاحقة إلى بعض الملاحظات التوضيحية التى قدمها ماركس وإنجلز ذاتهما) مالت الأجيال اللاحقة من الماركسيين إلى التأكيد على ما اصطلح على تسميته بالاستقلال النسبى للجوانب المختلفة للبناء الفوقى وقدرتها على التأثير فى القاعدة من جديد، مع استمرارهم، بالرغم من ذلك، فى التأكيد على "أسبقية الاقتصادى فى نهاية الأمر" وفقا لتعبير ألتوسير. وتقف أعمال مثل كتابات إرنستو لاكلاو، "السياسة والإيديولوجيا فى التظرية الماركسية" (عام 1977)، وبوب جيسوب "الدولة الرأسمالية" (1982)، شاهداً على ذلك. وغني عن القول، أن هذه اللغة المصطلحية قد فجرت حوارات حادة لا نهاية لها بين الماركسيين ونقادهم فى أغلب الأحوال، وكذلك - وبدرجة أقل - فى داخل دوائر الماركسيين أنفسهم، حول الكيفية التى ينبغى أن تفسر بها هذه الادعاءات على وجه الدقة. بعبارة أخرى، ما هى درجة الاستقلال التى ينطوى عليها مصطلح الاستقلال النسبى، وما هى أو متى تحدث "النهاية".

وقد ذهب الفيلسوف كوهين فى دفاعه الذى أثار خلافا واسعا و الذى ضمنه دفتى كتابه: نظرية كارل ماركس فى التاريخ، الصادر عام 1978؛ إلى القول بان القاعدة والبناء الفوقى يشيران إلى علاقة العلة والمعلول، وهو ماكان يعدفى رأى ماركس على الأقل، بمثابة تفسير وظيفى. وعلى الرغم من اختلاف الآراء، فإنه على الأقل من الممكن أن نذهب إلى القول بأن هذا المتفسير قد وضع نهاية للحوار حول الأسبقية التفسيرية لقوى وعلاقات الإنتاج ويتيح مساحة لقبول القول بالاستقلال النسبى للبناء الفوقى على الأقل إلى حد تقرير ما قصده به ماركس.

ومنذ أيام ماركس جرى تناول هذه الموضوعات من خلال مفاهيم مثل: الهيمنة والخطاب. وكانت الثمرة النهائية لتلك الدراسات أن ذلك التشييه المستعار من ميدان العمارة والذى يستند إليه التمييز بين البناء التحتى والبناء الفوقى لم يعد من الممكن اعتباره تلخيصا ملائما للعلاقات المعقدة التى يعتقد الآن أنها قائمة بين ميدان الاقتصاد وسائر ميادين الحياة فى المجتمع. ويعتقد البعض، كما لاحظ بعض الدارسين مؤخرا، مثل كوهين، أن ماركس نفسه لم يكن يقصد هذا الشكل من العلافة العلية ذات البعد الواحد وذات الاتجاه الواحد.

النموذج والتوضيح

منطلقا من ملاحظات أليكسيس دي توكفيل، يعرف ماركس المجتمع المدني بأنه البنية التحتية الاقتصادية بينما يكون المجتمع السياسي البنية الفوقية. طرح ماركس أساسيات مفهوم البنية التحتية والبنية الفوقية في مقدمته لكتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859):

« في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس بالذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبًا سريعًا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائمًا أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة علية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. إذا لم يكن في الإمكان الحكم على فرد طبقًا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها؛ وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم. »

مسلّمة ماركس أن «البنية التحتية تحدد البنية الفوقية»، مع ذلك، تتطلب التوضيح:

  1. إن البنية التحتية هي مشمل علاقات الإنتاج، وغير مقتصرة على عنصر اقتصادي معين، على سبيل المثال الطبقة العاملة
  2. تاريخيا، فإن البنية الفوقية تتنوع وتتطور بتفاوت في نشاطات المجتمع المختلفة. على سبيل المثال، الفن، السياسة، الاقتصاد، إلخ.
  3. علاقة البنية التحتية-البنية الفوقية هي علاقة متبادلة؛ انجلز يوضح أن البنية التحتية تحدد البنية الفوقية في المرحلة الأخيرة فقط.

التطبيق، التنقيح، الانتقادات

يمكن العثور على نظرية ماركس حول البنية التحتية والبنية الفوقية  في تخصصات العلوم السياسية، علم الاجتماع، علم الإنسان، علم النفس كما تستخدم من قبل الباحثين الماركسيين. في هذه التخصصات المختلفة، العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية ومحتويات كل فئة قد تتخذ أشكالا مختلفة.

وجهة نظر فيبر

في مراحله المبكرة فضل عالم الاجتماع ماكس فيبر شكلا من أشكال البنيوية على نموذج البنية التحتية والبنية الفوقية  للمجتمع يقترح فيه أن علاقة البنية التحتية والبنية الفوقية هي علاقة سببية متبادلة - لا العقلانية الاقتصادية ولا الأفكار المعيارية تسيطر على نطاق المجتمع. في تلخيص نتائج بحثه من شرق إلبيا ويلاحظ أنه على عكس ما يعتبره نموذج البنية التحتية والبنية الفوقية الذي «اعتدنا عليه» فقد وجد علاقة متبادلة بينهما.

في مؤلفات غرامشي

قسم الفيلسوف السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي بنية ماركس الفوقية إلى عنصرين: المجتمع السياسي والمجتمع المدني. المجتمع السياسي يتكون من القوة المنظمة للمجتمع (مثل الشرطة والجيش) في حين أن المجتمع المدني يشير إلى العناصر التي تُكوّن الإجماع في المجتمع مساهمة بذلك في خلق الهيمنة. كلا عناصر المجتمع تكتسب قيمها من البنية التحتية، وتعمل على ترسيخ هذه القيم وفرضها في المجتمع.

الماركسية الفرويدية والاقتصاد الجنسي

إن مدرسة الماركسي الفرويدي ويلهلم رايخ للتحليل النفسي المعروفة باسم الاقتصاد الجنسي هي محاولة لفهم الاختلاف بن البنية والبنية الفوقية المتصورة الذي حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالمية من 1929 إلى 1933. لتفسير هذه الظواهر، أعاد رايخ تصنيف الأيديولوجية الاجتماعية بوصفها عنصرا في البنية التحتية—وليس الفوقية. في هذا التصنيف الجديد، الأيديولوجية الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي هي سيرورات مادية تديم ذاتها كما تديم النظم الاقتصادية في البنية التحتية ذاتها. ركز رايخ على دور الكبت الجنسي في النظام الأسري الأبوي كوسيلة لفهم كيف يمكن أن ينشأ دعم الجماهير للفاشية في المجتمع.

انتقادات النظرية النقدية

التفسيرات الماركسية المعاصرة مثل النظرية النقدية تدين هذا الفهم لتفاعل للبنية التحتية والبنية الفوقية  وتدرس كيف تؤثر على بعضهما. رايموند وليامز، على سبيل المثال، يجادل ضد الاستخدامات «الشعبية» الفضفاضة لمصطلحي البنية التحتية والبنية الفوقية ككيانات منفصلة، مما يختلف عن مقصد ماركس وإنجلز:

«لذلك، علينا القول أنه حينما نتكلم على "البنية التحتية"، فإننا نتكلم عن سيرورة وليس عن حالة ثابتة [...] علينا أن نعيد تقييم "البنية الفوقية" نحو مجال من الممارسات الثقافية، وبعيدا عن محتوى تأملي، مستنسخ أو يتكل على التخصص. وضروري أن نعيد تقييم "البنية التحتية" بعيدا عن التصورات لتجريد ثابت اقتصادي أو تكنولوجي، ونحو نشاطات محددة للرجال في علاقات اجتماعية واقتصادية حقيقة، تحوي تناقضات وتنويعات أساسية وبناء على ذلك في حالة دائمة من السيرورة الحركية.»

هل يمكن فصل البنية التحتية عن البنية الفوقية?

يطرح جون بلامناتز ادعاءين ضد الفصل الحاد بين البنية التحتية والبنية الفوقية. الأول هو أن الهيكل الاقتصادي مستقل عن الإنتاج في كثير من الحالات، التي فيها علاقات الإنتاج أوعلاقات الملكية أيضا تأثير قوي على الإنتاج. الادعاء الثاني هو أن علاقات الإنتاج لا يمكن تعريفها إلا بشروط معيارية—وهذا يعني أن الحياة الاجتماعية لا يمكن فصلها عن الأخلاقيات الإنسانية حقا لأن تعريف كلاهما تعريف معياري.

مسألة القانونية

إحدى انتقادات نظرية البنية التحتية والبنية الفوقية هو أن علاقات الملكية (التي يفترض أنها جزء من البنية التحتية والقوة المحركة للتاريخ) في الواقع يتم تعريفها ضمن العلاقات القانونية، التي هي عنصر من عناصر البنية الفوقية. المدافعون عن النظرية يدعون أن ماركس آمن أن علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج الاجتماعية يشكلان كيانين منفصلين.

الليبرالية الجديدة والدولة

يزودنا كولن جنكينز (2014) بنقد لدور الدولة الرأسمالية في عصر الليبرالية الجديدة، وذلك باستخدام البنية التحتية والبنية الفوقية نظرية بالإضافة إلى مؤلفات نيكوس بولانتزاس وتحديدا فيما يتعلق بالتطورات في الولايات المتحدة خلال هذه الحقبة (بشكل عام 1980-2015)، جنكينز يسلط الضوء على كون الأحزاب السياسية والنظام السياسي نفسه بطبيعته قد صمم بهدف حماية القاعدة الاقتصادية للرأسمالية، وبذلك أصبحت «مركزية، منسقة ومتزامنة على نحو متزايد، على مدى نصف القرن الماضي.» وهذا وفقا جنكينز، أدى إلى «الشركات الفاشية الدولة» هددت التوازن الهش لتلك العلاقة. وقد عني وجه التحديد بتحليل دور كلا الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة:

«يذكرنا بادعاء جون ديوي أن "ما دامت السياسة ظلا تلقيه الشركات الكبرى على المجتمع، فإن تخفيف الظل لن يغير الجوهر." في الولايات المتحدة، نظام الحزبين السياسي أثبت نجاعته الفائقة في هذا المجال. باستثناء خلافات حول قضايا اجتماعية مثل الإجهاض، زواج المثليين، بالإضافة إلى قضايا اجتماعية-اقتصادية مثل مخصصات البطالة، والمساعدات الاجتماعية، كلا الحزبين يؤيدا مصالح رأس المال/الشركات الكبيرة إذ أنها يقومان بدور وكيل خدمات للطبقات المهيمنة: الحزب الجمهوري بدور الرائد، يدفع حدود الرأسمالية إلى شفير الفاشية؛ والحزب الديموقراطي بدور الحاكم، موفرا درجات متقطعة من السحب والإرخاء ضد الانتقال الحتمي إلى صيرورة "فاشية-شركاتية".»

راجع أيضا