نظرية نقدية

من أجل استخدامات أخرى، انظر نظرية نقدية (توضيح).

النظرية النقدية (بالإنجليزية: Critical Theory) في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، مصطلح يستخدم للإشارة إلى تقييم ونقد فكري للمجتمع والثقافة، بواسطة المعرفة المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانيات. ويوجد للنظرية النقدية أصول في علم الاجتماع والنقد الأدبي أيضًا. وتصبح النظرية نقدية، كما وصفها عالم الاجتماع ماكس هوركهايمر، بقدر ما تسعى إلى تحرير البشر من الظروف التي تستعبدهم.

ترتبط النظرية النقدية على النحو المستخدم في علم الاجتماع والفلسفة السياسية أوثق الارتباط بالفلسفة الماركسية الغربية لمدرسة فرانكفورت في البحوث الاجتماعية، والتي تم تطويرها في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين، على الرغم من أن جذورها ترجع إلى الفكر الهيجلي وإلى الماركسية الغربية بصفة عامة. ويطلق هذا المصطلح اليوم على فرع مختلف تماماً من الماركسية التى ظلت طيلة الخمسين عاماً الماضية - أو نحو ذلك - تعتمد على عدد كبير من الإسهامات المختلفة، من بينها التحليل النفسي، ونظرية النظم. ويتطلب هذا المعنى استخدام حروف كبيرة في المصطلح، بينما نفس المصطلح بالأحرف الصغيرة critical theory أو النظرية الاجتماعية النقدية، قد يشير على نفس المكونات الفكرية لكنه لا يؤكد على انتسابه لمدرسة فرانكفورت على وجه التحديد.

اعتمد مُنظرو مدرسة فرانكفورت النقدية على المناهج النقدية لكارل ماركس وسيجموند فرويد. وتؤكد النظرية النقدية على أن الأيديولوجيا هي العقبة الأساسية بالنسبة لتحرير الإنسان. تأسست النظرية النقدية كمدرسة فكرية بشكل أولي، من خلال منظري مدرسة فرانكفورت: هربرت ماركوزه، وتيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، ووالتر بنيامين، وإريك فروم. وتأثرت النظرية النقدية الحديثة بالإضافة إلى ذلك، بأعمال جورج لوكاتش وأنطونيو جرامشي، فضلًا عن الجيل الثاني من مفكري مدرسة فرنكفورت، وعلى وجه التحديد يورجن هابرماس. فالنظرية النقدية في عمل هابرماس تجاوزت أصولها النظرية في المثالية الألمانية وأحرزت واقتربت بشكل متزايد من البراجماتية الأمريكية. ويُعد الاهتمام بفكرة البنية التحتية والبنية الفوقية الاجتماعية، واحدة من المفاهيم الفلسفية الماركسية المتبقية في الكثير من النظرية النقدية المعاصرة. تعمل النظرية النقدية فيما بعد الحداثة على تسييس المشكلات الاجتماعية من خلال وضعها في سياقات تاريخية وثقافية، لتدفع بنفسها في عمليات جمع وتحليل البيانات، ونسبية نتائجها.

ويجد القارئ أفضل عرض عام للنظرية النقدية فى كتاب دافيد هيلد المعنون: النظرية النقدية (الصادر عام 1980)، أما توثيق تاريخ مدرسة فرانكفورت فيعرضه مارتن جاى فى كتابه الخيال الديالكتيكي (1973). ثم صدر فى فترة أحدث تسجيل تاريخى للنظرية فى كتاب رولف فيجراوس المعنون: مدرسة فرانكفورت، الصادر عام 1995. كما ظهرت تأملات نقدية عميقة خاصة لأعمال هوركهايمر، وماركيوز، وأدورنو، وهابرماس، ممن يمثلون عمد هذه المدرسة في مقال ألكس هونيت عن: "النظرية النقدية" المنشور فى كتاب النظرية الاجتماعية المعاصرة (الصادر عام 1987) وأشرف على تحريره جيدنز، وتيرنر. وأبرز تلك التأملات النقدية اتهام النظرية النقدية بأنها نوع من "الاختزال الفلسفى التاريخي"، والنزوع الدائم نحو الخروج من سيطرة العلوم الاجتماعية الإمبيريقية والدخول إلى حظيرة الفلسفة.

نظرة عامة

يُعد ماكس هوركهايمر، من مدرسة فرانكفورت الاجتماعية، أول من عرَّف النظرية النقدية في مقاله عام 1937 بعنوان النظرية النقدية والنظرية التقليدية: النظرية النقدية هي نظرية اجتماعية موجهة نحو نقد وتغيير المجتمع ككل، وعلى النقيض فإن النظرية التقليدية موجهة فقط لفهم أو تفسير المجتمع. أراد هوركهايمر أن يميز النظرية النقدية بوصفها صيغة راديكالية تحررية من النظرية الماركسية، ناقدًا كل من النموذج العلمي الذي طرحته الوضعية المنطقية، وما اعتبره هو وزملاءه بمثابة وضعية خفية وسلطوية للماركسية والشيوعية التقليدية. فالنظرية لديه تكون نقدية بقدر ما تسعى إلى تحرير البشر من الظروف التي تستعبدهم. وتشتمل النظرية النقدية على بُعد معياري، سواء كان نقدها للمجتمع من خلال بعض نظريات القيمة والمعايير أو الينبغيات، أو من خلال نقدها له بما تتبناه من قيم. والمفاهيم الرئيسية للنظرية النقدية هي كالتالي:

  1. ينبغي على النظرية النقدية الاجتماعية أن تتوجه إلى مجمل المجتمع في خصوصيته التاريخية (أي كيف يتشكل هذا المجتمع عند نقطة معينة في الزمن).
  2. ينبغي على النظرية النقدية أن تطور فهما للمجتمع من خلال تكامل كل العلوم الاجتماعية الكبرى، بما في ذلك الجغرافيا والاقتصاد وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الإنسان وعلم النفس.

استمدت النظرية النقدية مصطلح (النقد) من الاستخدام الكانطي له في القرن الثامن عشر، والاستخدام الماركسي في القرن التاسع عشر، مثلما فعل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص»، وكما هو الحال مع تصور ماركس لكتابه «رأس المال» بوصفه يمثل نقدًا للاقتصاد السياسي. وبالنسبة للمثالية المتعالية عند كانط، فإن مصطلح النقد يعني اختبار وتأسيس حدود لصلاحية ملكة ونوع وموضوع المعرفة، وعلى وجه التحديد من خلال إظهار الحدود المفروضة من قبل المفاهيم الأساسية غير القابلة للنقصان المستخدمة في ذلك النسق المعرفي.

ارتبطت فكرة كانط عن النقد بإسقاط المعتقدات السياسية والاجتماعية والفلسفي، التي تتميز بالطابع الدجماطيقي أو الخطأ وعدم البرهنة، لأن نقد كانط للعقل اشتمل على نقد الأفكار الميتافيزيقية واللاهوتية الدجماطيقية، وكان متشابكًا مع تعزيز الاستقلال الأخلاقي ونقد التنوير للخرافات والسلطة غير العقلية. وهو ما تم تجاهله داخل أوساط الواقعية النقدية، على الرغم من أن دافع كانط المباشر لكتابة مؤلفه «نقد العقل الخالص» هو مناقشة المشكلات التي أثارتها النزعة التجريبية الشكية لدى دافيد هيوم، والتي وظفت العقل والمنطق خلال مهاجمتها للميتافيزيقا، في المُحاججة ضد إمكانية معرفة العالم والمفاهيم الشائعة حول السببية. ودفع كانط على النقيض، بتوظيف الدعاوي الميتافيزيقية الأولية بوصفها شروط ضرورية، فإذا قيل عن أي شيء أنه قابل للمعرفة، فيجب أن يتأسس على تجريدات متمايزة عن الظواهر القابلة للإدراك.

طور ماركس بشكل صريح مفهوم النقد إلى نقد الأيديولوجيا وربطها بممارسة الثورة الاجتماعية، فكما صرح في أطروحته الحادية عشر الشهيرة حول فويرباخ: لقد اعتاد الفلاسفة على تفسير العالم فقط وبطرق مختلفة، لكن الهدف هو أن يتغير. وهناك سمة مميزة من سمات النظرية النقدية كما أوضحها هوركهايمر وأدورنو في (كتاب جدل التنوير 1947)، هي وجود تناقضات معينة متعلقة بالمصدر الأولي أو أساس الهيمنة الاجتماعية، إذ أن هذا التناقض قد أدى لتشاؤم النظرية النقدية الجديدة بشأن امكانية حرية وتحرر الإنسان. وكان هذا التناقض متجذرًا بالطبع، في الظروف التاريخية التي أُنتج فيها العمل في الأصل، وتحديدًا صعود الاشتراكية القومية، ورأسمالية الدولة، وصناعة الثقافة، بوصفهم صور جديدة تمامًا للهيمنة الاجتماعية، والتي لا يمكن تفسيرها على نحو كاف من داخل مصطلحات علم الاجتماع الماركسي التقليدي.

لقد أدى تدخل الدولة في الاقتصاد، وفقًا لأدورنو وهوركهايمر، إلى الإلغاء الفعلي للتوتر بين علاقات الإنتاج وبين القوى المادية المنتجة للمجتمع، وهو توتر وفقًا للنظرية النقدية التقليدية، يؤسس تناقضًا أوليًا داخل الرأسمالية. فالسوق (بوصفه آلية لا شعورية لتوزيع البضائع) تم استبداله بالتخطيط المركزي. ومع ذلك وعلى عكس تنبؤ ماركس الشهير في مقدمة مساهمة لنقد الاقتصاد السياسي، فإن هذا التحول لم يؤدي إلى عصر الثورة الاجتماعية، بل بالأحرى إلى الفاشية والشمولية. وعلى هذا النحو فإن النظرية النقدية تُركت، على حد تعبير هابرماس، بدون أي شيء تحتفظ به حتى يمكن استئنافه؛ فعندما تدخل قوى الإنتاج في تعايش مؤذي مع علاقات الإنتاج التي كان يُفترض أن تفتح الأبواب على مصراعيها، فإنه لم يعد هناك أي ديناميكية لذلك النقد يمكن أن تبني أملها. ووفقًا لأدورنو وهوركهايمر فإن ذلك يفترض مشكلة كيفية تفسير الثبات الظاهر للهيمنة، في ظل غياب التناقض الشديد الذي كان مصدرًا للهيمنة نفسها وفقًا للنظرية النقدية التقليدية.

انتقل يورجين هابرماس في ستينات القرن العشرين، مؤيد النظرية النقدية الاجتماعية، بالمناقشة الإبستمولوجية إلى مستوى جديد في كتابه (المعرفة والمصالح البشرية)، من خلال تعريفه للمعرفة النقدية بوصفها قائمة على مبادئ تميزها إما عن العلوم الطبيعية أو الإنسانيات، عن طريق توجهها للتأمل الذاتي والتحرر. وعلى الرغم من عدم توافق هابرماس مع فكر أدورنو وهوركهايمر المقدم في كتاب ديالكتيك التنوير، فإنه يتبنى الرؤية التي ترى أن عصر الحداثة يتميز بابتعاده عن تحرير التنوير واقترابه من شكل جديد للاستعباد، وذلك وفقًا لصيغة العقلانية الأداتية. تتجاوز النظرية النقدية في عمل هابرماس جذورها النظرية في المثالية الألمانية، وتقترب في حركتها نحو البراجماتية الأمريكية. ويؤثر هابرماس الآن على فلسفة القانون في العديد من البلدان، على سبيل المثال تشكل الفلسفة الاجتماعية للقانون في البرازيل، وتمتلك نظريته أيضًا الإمكانية لجعل الخطاب القانوني بمثابة نظام قانوني واحد وهام في العالم الحديث، بوصفه إرثًا لعصر التنوير.

تعتبر أفكاره الخاصة بالعلاقة بين الحداثة والعقلانية بهذا المعنى، متأثرة بقوة بماكس فيبر. لقد حلّ هابرماس الكثير من عناصر النظرية النقدية المستمدة من مثالية هيجل الألمانية، على الرغم من أن فكره ما زال ماركسيًا على نطاق، في مقاربته الإبستمولوجية. وربما تكون أكثر فكرتين مؤثرتين هما مفاهيمه عن المجال العام، والفعل التواصلي؛ ويظهر هذا الأخير بوصفه رد فعل جزئي على التحديات الجديدة لما بعد البنائية أو ما يسمى (ما بعد الحداثة) في مواجهة خطاب الحداثة. ويراسل هابرماس بانتظام ريتشارد رورتي، إذ يمكن استشعار وجود معنى قوي للبراجماتية الفلسفية في نظريته؛ وهو ذلك الفكر الذي يجتاز بشكل متكرر، الحدود بين علم الاجتماع والفلسفة.

المبادئ الأساسية للنظرية النقدية

لعل أفضل سبيل لتعريف المبادئ الأساسية للنظرية النقدية هو وضعها فى مواجهة مسلمات المدرسة الوضعية فى القرن العشرين، بل إن بعض أنصار النظرية النقدية يصفونها أحياناً بأنها فلسفة سلبية. وعلى النقيض من المقولة القائلة بأن المعرفة تستمد من خبراتتا الحسية، تعد النظرية النقدية شكلاً من أشكال المذهب العقلي، حيث يؤكد أصحاب النظرية على أن مصدر معرفتنا، ومصدر إنسانيتنا المشتركة هى حقيقة أننا جميعا كائنات رشيدة عقلانية. وقد أوضح هيجل أن "الواقع هو العقلاني". أما النظرية النقدية فترى أن الواقع يجب أن يكون عقلانياً. لا تشير العقلانية - فى هذا السياق - إلى منطق صوري، وإنما تشير إلى عملية فكرية جدلية، الكل فيها أكبر من الأجزاء، وتظهر التناقضات باستمرار، وتختفى لتظهر فى قضايا تركيبية جديدة، وفى رأى هيجل أن التاريخ يتحرك بلا هوادة تجاه نهاية عقلية (رشيدة)، ولكن التفسير الماركسى لهيجل عمل تدريجياً على استبعاد فكرة الحتمية، وربط عملية التطور التاريخى بالممارسة الإنسانية (التطبيق العملى). ويمكن أن نتابع هذه الفكرة بأجلى صورها فى أعمال جورج لوكاش.

عادة ما تتضمن النظرية النقدية تنبؤاً لإمكانية وجود حالة يوتوبية فى المستقبل، على الرغم من أنه يبدو أحياناً (خاصة فى أعمال مدرسة فرانكفورت) أن الحالة اليوتوبية كانت متحققة فى الماضي. وترى النظرية النقدية أننا نستطيع من واقع فكرة العقلانية أن نستنتج الشكل الأساسى للمجتمع العقلانى الرشيد. فنحن جميعا بفضل كوننا بشراً نمتلك خاصية أو إمكانية القدرة على التفكير العقلى الرشيد. ومن هنا، فإن المجتمع الرشيد هو ذلك الذى نشارك فيه جميعاً من أجل خلق ييئتنا وتعديلها. وهذه النقطة نفسها هى التي تزودنا بالمعيار الذى على أساسه وبهدى منه نستطيع تقويم ونقد المجتمعات القائمة فى الحاضر، فالمجتمعات التى تستبعد بعض الجماعات من المشاركة فى حياتها الاقتصادية والسياسة أو تعمل بانتظام على تجريد بعض الجماعات المكونة لها من القوة هى مجتمعات غير رشيدة. تطرح أعمال يورجن هابرماس - الذى يعد أبرز ممثلى المدرسة المعاصرين - نموذجا آخر للمجتمعات مختلفا عن ذلك بعض الشئ. فهابرماس لا ينطلق من التسليم بأننا نمتلك خصائص وقدرات رشيدة، وإنما ينطلق من حقيقة أننا جميعا نستخدم اللغة. إن اليوتوبيا لديه "موقف حديث مثالى" تمتلك فيه جميع الأطراف نفس القدرة على الوصول إلى المعلومات، وعلى المشاركة فى الجدل العلنى. ويمكن القول من ناحية الجدل النظرى، أن النظرية النقدية تفكر بصورة جدلية، فلا تقتصر على وضع مجموعة من دعاوى الحقيقة إلى جانب الأخرى، ولكنها تسعى للبحث عن التناقضات الداخلية، وتحديدها، وعن الثغرات فى نظام التفكير، ثم تعمل بعد ذلك على دفع تلك التتاقضات إلى الحد الذى يظهر عنده شىء ما مختلف. وهذا هو ما يطلق عليه أحياناً اسم النقد الداخلي.

مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية

تأسست مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية عام 1923 كمركز للبحوث الاجتماعية ذات التوجه الاشتراكي. ثم هاجر أبرز مفكريها إلى أمريكا عندما ظهر هتلر، وبقى بعضهم مقيماً فى أمريكا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وعلى رأس هؤلاء نذكر تيودور أدورنو، وماكس هوركهيمر، وهربرت ماركيوز. ولكن هناك بعض الأسماء الأخرى المشهورة التى ارتبطت بمدرسة فرانكفورت مثل ليو لوفنتال، وكارل ويتفوجل، وإريك فروم. وتبنت مدرسة فرانكفورت منذ البداية موقفاً نقدياً من الماركسية الأصولية، وطرحت تحليلاً للإيديولوجيا، والسياسة، وتخلت عن الأشكال التقليدية للتفسير الاقتصادي فقد وضعت النظرية النقدية الكلاسيكية - بالصورة التى عرفناها عند رواد مدرسة فرانكفورت - فى المحل الأول من اهتمامها ما يطلق عليه التفسير الذرائعي، ودراسة ذلك الشكل من السيطرة الشمولية، الذى رأوه يتخلق فى المجتمع الصناعى الحديث. وينهض التحليل الذرائعي على النظر إلى العالم - بما فى ذلك النظر إلى الآخرين - من ناحية كيف يمكن استغلاله (أو استغلالهم)، بما يتضمنه ذلك من انفصال الحقيقة عن القيم، وتدنى القيم حتى يصبح دورها غير مؤثر فى المعرفة والحياة. تلك كانت طريقة التفكير المميزة للمجتمع الصناعى (فى رأى النظرية النقدية) وهى طربقة ترتبط أوثق الارتباط بأبنية السيطرة (الهيمنة).

اشتهرت النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت بأنها ذات صبغة تشاؤمية. وكانت الحجة الأساسية فى هذا الاتهام أن الرأسمالية قد نجحت فى التغلب على العديد من تناقضاتها، وأنه أمكن دمج الطبقة العاملة داخل النظام ولكن ماركيوز استطاع أن يرى أن هناك يعض جماعات الأقلية التى تعيش على هامش النظام - مثل الجماعات الإتنية، بل وبعض الجماعات الطلابية - وأنها تمثل بؤراً محتملة لرفع لواء المعارضة. ولكن يبدو أن أدورنو كان يرى بصيصاً من الأمل فى الثقافة الطليعية، التى دفعت الناس على الأقل إلى إعمال الفكر. وقد اعتمدت بعض الأعمال الشهيرة التى صدرت عن مدرسة فرانكفورت، مثل كتاب الشخصية التسلطية لأدورنو وزملائه (الصادر عام ١٩٥٠ )، وكتاب الحب والحضارة لهربرت ماركيوز (الصادر عام ١٩٥٥)، على التحليل النفسى فى تقديم تطرية فى الإيديولوجيا لا تفسر لنا فقط كيف يخضع الناس للسيطرة، ولكن الأهم أنها تفسر لنا كيف يريد الناس الخضوع للسيطرة.

يورجين هابرماس

أما مؤلفات هابرماس فتختلف مذاقاً عن تلك النوعية، حيث نجدها تقترب بشكل أوثق من نظرية النسق عند تالكوت بارسونز، وإن ظلت محتفظة مع ذلك بالبعد النقدى فيها حياً ونشطاً. ويختلف هابرماس عن الجيل الأول من مفكرى مدرسة فرانكفورت فى رغبته فى تشييد نظرية اجتماعية منظمة، وحرصه على أن يؤمن للتفكير الذرائعى مكانة شرعية معترفا بها فى بنائه النظرى الجديد. واستطاع هابرماس أن يفسح مكانا أصيلا للتفكير الذرائعي، واستخدام التحليل النفسي كنموذج لوصف ما يقصده "بالعلم التحررى"، أو العلم الذى يخدم وظيفة تحرير العقل البشرى، فهو فى رأيه لا يقتصر على إنتاج معرفة جديدة وحسب، وإنما يمكننا من أن نصبح واعين بأنفسنا، وقادرين على تغيير أنفسنا كذلك. ومن شأن ذلك أن يزيل كل ما يشوب عمليات الاتصال من تشوه وعدم تكافؤ. وقد حدد هابرماس في كتابه المعنون: المعرفة والمصالح البشرية (الصادر عام 1968) ثلاتة اهتمامات معرفية مشتركة لدى حميع البشر. الاهتمام الأول تقني فني يتمثل فى معرفة البيئة المحيطة وفى السيطرة عليها والتحكم فيها. وهذا الجانب هو المسئول عن قيام العلوم الطبيعية ذات التوجه الإمبيريقي أساساً. ثم هناك اهتمام عملى يتمثل فى قدرة كل منا على فهم الآخرين، وعلى العمل المشترك والتعاون فى مناشط الحياة. وهذا هو الاهتمام المسئول عن قيام العلوم التأويلية. وهناك أخيراً اهتمام تحررى ينطوى على الرغبة فى تخليص أنفسنا من كل ما يعمل على تشويه عمليات الفهم والاتصال، وهو الاهتمام المسئول عن قيام العلوم النقدية كالتحليل المتفسى.

ونلاحظ وراء هذه الآراء مراجعة نقدية جذرية لنظرة الماركسية الأصولية إلى طبيعة الوجود الإنسانى. فهابرماس ينظر إلى العمل كعنصر مهم فى الوجود البشرى، ولكن بوصفه العامل المسئول عن توليد أول تلك الاهتمامات المعرفية الثلاثة. ولكن من المهم - فضلاً عن ذلك - أن ندرك أننا كبشر نتميز أيضاً بأننا كائنات مستخدمة للرموز، وأن تلك السمة هى المسئولة عن توليد الاهتمامين المعرفيين الثانى والثالث. ولذلك كان هابرماس يرى بوضوح أننا لا نستطيع الدفاع عن أى شكل من أشكال الحتمية الاقتصادية، اللهم إلا بالنسبة لفترة فجر الرأسمالية، وهى فترة زمنية محدودة تاريخياً.

اعتمد هابرماس على عدد من الحلوم فى تطوير نظرية تطورية فى التاريخ ذات آفاق عريضة، وكان يحدد المداخل التطورية فى ضوء ازدياد مستويات العمومية، ويرى أن كل مرحلة من تلك المراحل تطرح على البشرية مشكلات جديدة، وتفتح أمامها فرصا وإمكانيات جديدة، كما أن كل نمط من أنماط الممجتمعات يحكمه مركب تنظيمى خاص به. من هذا مثلاً أن المجتمع القبلى تحكمه نظم القرابة، فى حين أن الرأسمالية المتأخرة تحكمها تظم الدولة. واستطاع فى تحليله للرأسمالية أن يضع يده على عدد من الأزمات المتى يمر بها النظام الرأسمالى. ونجد أن تحليله لملمرحلة المبكرة من الرأسمالية كان يتم على أسس قريبة من تحليل ماركس لها، حيث تمثل الأزمات الاقتصادية الممشكلة الرتيسية. وقد بين هابرماس أن المتدخلات المسياسية التى تستهدف التصدى للمشكلات الاقتصادية من شأنها أن تخلق أزمة فى التفكير الرشيد، وذلك بسبب استحالة تأسيس نظام اجتماعى مستقر على اقتصاد سوق غير مسثقر، وهو الأمر الذى يمكن أن يؤدى - بدوره - إلى أزمة شرعية، تفقد فيها الدولة شرعيتها نتيجة عجزها عن المتوفيق بين المطلبات المتعارضة التى توجه إليها، والداعية إلى وجود نوع من تخطيط النظام الاقتصادى القائم. إما إذا نجحت الدولة فى المتوفيق بين الممصالح المختلفة، فمن شأن ذلك أن يؤدى إلى إضعاف أخلاقيات العمل، والدوافع التنافسية، الأمر الذى يقود إلى أزمة دافعية يمكن أن تعمل كذلك على تهديد التكامل الاجتماعى.

لايستتد النموذج الذى يتبناه هابرماس إلى فكرة الممجتمع الرشيد، بصورتها التقليدية التى كانت معروفة بها فى النظرية النقدية، وإنما ينهض على مفهوم نموذج موقف الكلام المثالى. وأساس ذلك أننا كبشر نتميز جميعا بأننا مستخدمون للرموز، ونؤدى مهام حياتنا الاجتماعية بالعمل المشترك، وهو الأمر الذى يطرح نموذجا اجتماعيا يكون فيه الاتصال حرا لا تشوهه أشكال عدم التكافؤ الاجتماعى، أو القمع الخارجى، أو القهر الداخلى. معظم هذه الأفكار منشورة فى كتابه المعنون: أزمة الشرعية (الصادر عام 1973)، وكتابه عن الاتصال وتطور المجتمع (الصادرعام 1976).

النظرية النقدية والمجالات الأكاديمية

النظرية الاجتماعية النقدية لما بعد الحداثة

بينما تشغل النظرية النقدية الحداثية (كما وصفت بالأعلى) نفسها، بأشكال السلطة والظلم المصاحب لتطور الرأسمالية الصناعية والشركات، بوصفها نظام سياسي اقتصادي، فإن النظرية النقدية لما بعد الحداثة تعمل على تسييس المشكلات الاجتماعية عن طريق وضعها في سياقات تاريخية وثقافية، لتلزم نفسها بعمليات جمع وتحليل البيانات، ونسبية النتائج التي تتوصل إليها. يُنظر إلى هذا المعنى نفسه بوصفه غير مستقر نتيجة للتحولات السريعة في البنيات الاجتماعية. وبالتالي ينصب اهتمام البحث حلو المظاهر المحلية عوضًا عن التعميمات واسعة النطاق. يتسم البحث النقدي لما بعد الحداثة أيضًا بأزمة التمثيل، التي ترفض فكرة أن يكون عمل الباحث هو الوصف الموضوعي لهذا الآخر المستقر. وعوضًا عن ذلك يتبنى العديد من باحثين ما بعد الحداثة، بدائل تشجع على التفكير بشأن سياسة وشاعرية أعمالهم. ويتجلى بوضوح في تلك المداخل، الجوانب المتجسدة والتعاونية والحوارية والارتجالية للبحث النوعي.

وغالبًا ما يُستخدم مصطلح النظرية النقدية عندما يعمل المؤلف انطلاقًا من مصطلحات علم الاجتماع، حتى وإن هجم العلوم الإنسانية والاجتماعية (وهكذا يحاول أن يبقى خارج تلك الأطر البحثية). ويُعد ميشيل فوكو واحدًا من هؤلاء المؤلفين. ويوصف أيضًا جان بودريار بأنه مُنظر نقدي، إلى الحد الذي كان فيه عالم اجتماع نقدي وغير تقليدي؛ هذا الاستخدام يكون غير رسمي بطريقة مشابهة، سواء كان على صلة محدودة بمدرسة فرانكفورت أو لم يكن. ويعتبر يورجن هابرماس واحدًا من هؤلاء المفكرين الأساسيين في مدرسة فرانكفورت الذين ينتقدون ما بعد الحداثة. وتُركز النظرية النقدية على اللغة والرمزية والتواصل والبناء الاجتماعي. وتُطبق النظرية النقدية داخل العلوم الاجتماعية بوصفها نقدًا للبناء الاجتماعي ومجتمع ما بعد الحداثة.

العلاقات العامة

تسمح النظرية النقدية لممارسي العلاقات العامة أن يتعرفوا على الخطط التشاركية، من خلال فتح المجال لسماع الأصوات التي لم يُسمع بها من قبل. وأكثر من ذلك فإن هذا يسمح للمهنيين بإمكانية خلق حملات أكثر تخصصًا مستخدمين معرفة مجالات الدراسة الأخرى؛ ويزودهم ذلك بالمقدرة على فهم وتغيير المؤسسا الاجتماعية عبر تأييدها.

دراسات التواصل

منذ ستينات وسبعينات القرن العشرين فصاعدًا، فقد ظهر اهتمام بموضوعات للدراسة مثل اللغة والرمزية والنص والمعنى، بوصفها أساسًا نظريًا لحقل الإنسانيات، وذلك من خلال تأثير عدد من المفكرين مثل: لودفيغ فيتغنشتاين، وفريدناند دو سوسور، وجورج هربرت ميد، ونعوم تشومسكي، وهانز جورج جادامير، وجاك دريدا، ورولان بارت وغيرهم آخرين في مجال اللغويات والهرمينوطيقا والفلسفة التحليلية واللغويات البنائية والتفاعلية الرمزية وعلم العلامات والتحليل النفسي الموجه لغويًا (جاك لاكان وألفريد لورينزر) والتفكيكية. وعندما أعاد يورغن هابرماس في السبعينات والثمانينات، تعريف النظرية الاجتماعية النقدية، بوصفها دراسة للتواصل، أي الكفاءة والعقلانية التواصلية من جانب، والتواصل المشوه من جانب آخر، فقد بدأ التداخل بدرجة أكبر مما قبل، بين الاتجاهين السائدين في النظرية النقدية.

انظر أيضًا