بنيوية
البنيوية أو البنائية (بالإنجليزية: Structuralism) أساساً منهج بحث مستخدم في عدة تخصصات علمية تقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة لبنى يمكن أن تكون: عقلية مجردة، لغوية، اجتماعية، ثقافية. بالتالي فإن البنيوية تصف مجموعة نظريات مطبقة في علوم ومجالات مختلفة مثل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والاقتصاد لكن ما يجمع جميع هذه النظريات هو تأكيدها على أن العلاقات البنيوية بين المصطلحات تختلف حسب اللغة/الثقافة وأن هذه العلاقات البنيوية بين المكونات والاصطلاحات يمكن كشفها ودراستها. بالتالي تصبح البنيوية مقاربة أو طريقة (منهج) ضمن التخصصات الأكاديمية بشكل عام يستكشف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية في اللغة، أو الأدب، أوالحقول المختلفة للثقافة بشكل خاص مما يجعلها على صلة وثيقة بالنقد الأدبي وعلم الإنسان الذي يعنى بدراسة الثقافات المختلفة. تتضمن دراسات البنيوية محاولات مستمرة لتركيب «شبكات بنيوية» أو بنى اجتماعية أو لغوية أو عقلية عليا. من خلال هذه الشبكات البنيوية يتم إنتاج ما يسمى «المعنى» (meaning) من خلال شخص معين أو نظام معين أو ثقافة معينة. يمكن اعتبار البنيوية كاختصاص أكاديمي أو مدرسة فلسفية بدأت حوالي 1958 وبلغت ذروتها في الستينات والسبعينات.
البنيوية مذهب من المذاهب التي سيطرت على المعرفة الإنسانية في الفكر الغربي، مؤدَّاه الاهتمام أولاً بالنظام العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكوّنة له. ويعرف أحيانًا باسم البنائيَّة، أو التركيبيَّة. وقد امتدت هذه النظرية إلى علوم اللُّغة عامة وعلم الأسلوب خاصة حيث استخدمها العلماء أساسًا للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصلاً لدراسة النص دراسة لغوية. يعد العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير مؤسس المنهج البنيوي الذي انطلق منه علم االلغة المعاصر، وذلك في بدايات هذا القرن. لكن المنهج اكتسب انتشارًا وعمقًا على يد عالم الانثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي صاغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية مذهبًا جديدًا في المعرفة له قواعده. وقد وجه شتراوس النقد إلى الفلسفة الوجودية والوضعية المنطقية والفرويدية، وهاجم الماركسية وأفكارها الأساسية، مثل الصراع الطبقي والحتمية التاريخية، ونادى بالتحول من تحليل صراع الطبقات إلى تحليل البُنَى الأساسية، ورفض التسلط العرقي في التفسير الأنثربولوجي والتطور في خط مستقيم. كما رفضت البنيوية استخدام التفسير التاريخي باعتباره أداة منهجية.
فالبنيوية في المعنى العام تعرض منهجًا تحليليًا يفترض أن الظواهر التي تخضع للملاحظة هي حالات خاصة لمبادئ عامة تحدد العلاقات بين عناصر البناء؛ فالبنيوي لا يحلل الظواهر التي تخضع للملاحظة ولكنه يفترض وجود علاقات هامة وكامنة تؤدي إلى تكون الكل المعُقَّد الظاهر لنا. فالبنية مركب من عناصر بينها علاقات، وهذه العلاقات لا تنشأ مصادفة ولكنها تقوم على مجموعة من القواعد المحددة. فالشعائر جزء من كيان أكبر وترتبط مع عناصر اجتماعية لتكون البناء الاجتماعي. وبعض البنيويين يهتم بشكل العلاقات وصورتها ويتجاهل مضمونها، أي يهتم بصورة العلاقات ولا يهتم بالمضمون. وينبغي أن يهتم البنيوي بشكل العلاقات اهتمامه بالمضمون؛ فالبنية نسق من العلاقات والمواقف. وهذا النسق أكثر واقعية من الدوافع والمقاصد، ويكشف عن قدرة العقل الإنساني على تنظيم عالم التجربة، وأن النظام الظاهر في عالمنا هو محصلة العقل البشري. وقد أثار نشر كتابالبنيات الأولية للقرابة ردود أفعال واسعة، وظهرت أعمال كثيرة تأثرت بنموذج التحليل البنيوي في علم النفس والتاريخ والنقد الأدبي وعلم الأديان وعلم الاجتماع وعلم اللغة. والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال أنها أثارت التساؤلات حول جدوى التفسيرات التجريبية والتطورية والوصفية والتاريخية؛ فالبنيويون يؤكدون ضرورة البحث عن كيفية عمل العلاقات التي تؤدي إلى انتظام الظواهر وضرورة معرفة القوانين التي تحكمها. فالموضوعات التي تستحق الدراسة هي الكليات. وكما وجدت البنيوية من يناصرها وجدت المعارضين مثل عالم الاجتماع هومانز الذي اتهم البنيوية بالغائية. ورغم ذلك؛ فإن الإسهام الأكبر للبنيوية هو أنها أظهرت التقارب بين المذاهب الفكرية وحطمت الفواصل بين العلوم الإنسانية وولَّدت الطموح إلى تفكير شامل حول أهمية العلوم الإنسانية.
سيطرت البنيوية على ساحة الفكر والمعرفة الإنسانية مدة ثلاثة عقود إلا أن الفكر الإنساني متجدد باستمرار ولا ينحبس في إطار واحد، ولهذا أخذت البنيوية في الانحسار عن المسرح الإنساني ابتداء من الثمانينيات وظهرت مذاهب جديدة تعبر كلها عن خصوبة العقل الإنساني وتبرز حالات القلق التي تسود العالم الآن.
تاريخ البنيوية
الحقيقة أن مصطلح البنيوية ليس جديدًا على المعرفة الإنسانية؛ فمنذ القرن السابع عشر الميلادي استخدم المصطلح في مجال علم الأحياء والهندسة والعمارة وعلم النبات وعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. ويقصد بالمصطلح في كل هذه العلوم العلاقات الداخلية التي تكون الكل. أما في الجيولوجيا فيدل المصطلح على البنية الداخلية للكرة الأرضية. وفي العصر الحديث شمل المصطلح كل فروع المعرفة وامتد إلى علم النفس: بناء الشخصية والتحليل النفسي: بناء الخلق وعلم الاقتصاد: البناء الاقتصادي وعلم اللغة: بناء الجملة والكلمة.
ويعني البناء في هذه العلوم ترابط الأجزاء في وحدة متكاملة وهي شيء ثابت ثباتًا نسبيًا ودائم إلى حد ما. وتظهر البدايات الأولى للنزعة البنائية المعاصرة في أعمال أوجست كونت ودوركايم وميردوك ومالينوفسكي. كما ساهمت الدراسات اللغوية والدراسات النفسية المهتمة بالإدراك في تشكيل البنيوية.
ظهرت البنيوية في الغرب في مجال اللغويات وكان الدافع إليها تعذر دراسة اللغات الهندية والإفريقية والشرقية والأوروبية دراسة مقارنة، ومن ثم وجد اللغويون أن عليهم دراسة اللغة من داخلها أي دراستها دراسة بنائية بمنهج موضوعي.
برزت البنيوية بمعناها الحالي في بدايتها في مطلع القرن التاسع عشر ضمن حقل علم النفس، لكن نجمها سطع فعلا في منتصف القرن العشرين حين لاقت شعبية منقطعة النظير مخترقة جميع أنواع العلوم والتخصصات. ظهرت البنيوية كمنهج ومذهب فكري على أنها ردة فعل على الوضع (الذري) (من ذرة: أصغر أجزاء المادة) الذي ساد العالم الغربي في بداية القرن العشرين، وهو وضع تغذى من وأنعكس على تشظي المعرفة وتفرعها إلى تخصصات دقيقة متعددة تم عزلها بعضها عن بعض لتجسد من ثم (إن لم تغذ) مقولة الوجوديين حول عزلة الإنسان وانفصامه عن واقعه والعالم من حوله، وشعوره بالإحباط والضياع والعبثية، ولذلك ظهرت الأصوات التي تنادي بالنظام الكلي المتكامل والمتناسق الذي يوحد ويربط العلوم بعضها ببعض، ومن ثم يفسر العالم والوجود ويجعله مرة أخرى بيئة مناسبة للإنسان.
ولا شك أن هذا المطلب مطلب (عقدي) إيماني، إذ أن الإنسان بطبعه بحاجة إلى (الإيمان). ولم يشبع هذه الرغبة ما كان وما زال سائدا من المعتقدات الأيديولوجية، خاصة الماركسية والنظرية النفسية الفرويدية، فقد افتقرت مثل تلك المذاهب إلى الشمول الكافي لتفسير الظواهر عامة، وكذلك إلى (العلمية) المقنعة، ظهرت البنيوية (ولعلها ما زالت) كمنهجية لها إيحاءاتها الإيديولوجية بما أنها تسعى لأن تكون منهجية شاملة توحد جميع العلوم في نظام إيماني جديد من شأنه أن يفسر علميا الظواهر الإنسانية كافة، علمية كانت أو غير علمية. من هنا كان للبنيوية أن ترتكز مرتكزا معرفيا (إبستيمولوجيا).
فاستحوذت علاقة الذات الإنسانية بلغتها وبالكون من حولها على اهتمام الطرح البنيوي في عموم مجالات المعرفة: الفيزياء، والرياضيات، والانثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة والأدب. وركزت المعرفة البنيوية على كون (العالم) حقيقة واقعة يمكن للإنسان إدراكها. ولذلك توجهت البنيوية توجها شموليا إدماجيا يعالج العالم بأكمله بما فيه الإنسان. أبرز من عمل ضمن اطارها وعمل على تطويرها: فريديناند دي سوسير وكلود ليفي شتراوس.
ومنذ كتب كلود ليفي شتراوس كتابه البنيات الأولية للقرابة عام (1949م) صارت البنيوية وما يرتبط بها من مترادفات (بنية وبناء والبنيوية والتحليل البنيوي) مفهومًا أساسيًا في الفكر المعاصر؛ فلم يعد هذا المفهوم يقتصر على البناء ذاته أو عمل البنية بل شمل ـ عند بعض المنظرين ـ العلاقات بين الفاعلين داخل البناء أو مكونات البنية ذاته أي العناصر الداخلة في تكوين البناء والعلاقات بين الأبنية. وقد طبق كلود ليفي شتراوس التحليل البنيوي في كتابه السابق. ويفسر هذا الكتاب العلاقات القرابية تفسيرًا بنيويًّا.
والقرابة كما كشفت عنها الدراسات البنيوية حقل دراسة لا ينضب لطبيعة العلاقات وثباتها وتطورها وتكرارها وتباينها في مجالات لم تكن متوقعة. وامتد التحليل البنيوي عند شتراوس من النسق القرابي إلى تحليل الأسطورة واللغة، وكلها تشكيلات بنيوية دائمة، وهي مصدر لمعرفة الوعي الإنساني وعقل الإنسان. طبق كلود ليفي شتراوس مناهج العلوم الرياضية ومناهج علم اللغة في دراساته البنيوية.
مفاهيم البنيوية
تستند البنيوية إلى مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الإجرائية في عملية الوصف والملاحظة والتحليل وهي أساسية في تفكيك النص وتركيبه كالنسق والنظام والبنية والداخل والعناصر والشبكة والعلاقات والثنائيات وفكرة المستويات وبنية التعارض والاختلاف والمحايثة والسانكرونية والدياكرونية والدال والمدلول والمحور التركيبي والمحور الدلالي والمجاورة والاستبدال والفونيم والمورفيم والمونيم والتفاعل، والتقرير والإيحاء، والتمفصل المزدوج.الخ. وهذه المفاهيم ستشتغل عليها فيما بعد كثير من المناهج النقدية ولاسيما السيميوطيقا الأدبية والأنتروبولوجيا والتفكيكية والتداوليات وجمالية القراءة والأسلوبية والموضوعاتية.
أنواع البنيوية
إذا تأملنا البنيوية جيدا وبعمق دقيق باعتبارها مقاربة ومنهجا وتصورا فإننا سنجد بنيويات عدة وليس بنيوية واحدة: فهناك البنيوية اللسانية مع دوسوسور ومارتنيه وهلمسليف وجاكبسون وتروبوتسكوي وهاريس وهوكيت وبلومفيلد. والبنيوية السردية Narratologie مع رولان بارت وكلود بريمون وجيرار جنيت. والبنيوية الأسلوبية stylistique مع ريفاتير وليو سبيتزر وماروزو وبيير غيرو، وبنيوية الشعر مع جان كوهن ومولينو وجوليا كريستيفا ولوتمان. والبنيوية الدراماتورجية أو المسرحية Dramaturgie مع هيلبو. أو البنيوية السينمائية مع كريستيان ميتز. والبنيوية السيميوطيقية مع غريماس وفيليب هامون وجوزيف كورتيس. والبنيوية النفسية مع جاك لاكان وشارل مورون، والبنيوية الأنتروبولوجية خاصة مع زعيمها كلود ليڤي شتراوس الفرنسي وفلاديمير بروب الروسي، والبنيوية الفلسفية مع جان بياجيه وميشيل فوكو وجاك دريدا ولوي ألتوسير.
البنيوية التكوينية
البنيوية التكوينية، أو التوليدية (بالإنجليزية: Genetie Structuralism) فرع من فروع البنيوية نشأ استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين للتوفيق بين طروحات البنيوية، في صيغتها الشكلانية، وأسس الفكر الماركسي أو الجدلي، كما يسمى أحيانا، في تركيزه على التفسير المادي الواقعي للفكر والثقافة عموما. أسهم عدد من المفكرين في صياغة هذا الاتجاه منهم المجري جورج لوكاش، والفرنسي بيير بورديو. غير أن المفكر الأكثر إسهاما من غيره في تلك الصياغة هو الفرنسي الروماني الأصل لوسيان غولدمان. وكانت طروحات غولدمان نابعة وبشكل أكثر وضوحا من طروحات المفكر والناقد المجري جورج لوكاش الذي طور النظرية النقدية الماركسية باتجاهات سمحت لتيار كالبنيوية التكوينية بالظهور وعلى النحو الذي ظهرت به، في الوقت الذي أفاد فيه أيضا من دراسات عالم النفس السويسري جان بياجيه، وقد أشار غولدمان إلى تأثير بياجيه تحديدا في استعماله لمصطلح (البنيوية التكوينية): (لقد عرفنا أيضا العلوم الإنسانية الوضعية، وبتحديد أكثر المنهج الماركسي بتعبير مماثل تقريبا (استعرناه، علاوة على ذلك، من جان بياجيه)، هو البنيوية التكوينية.
البنيوية في علم الاجتماع
يستخدم مصطلح البنيوية بشكل عام كل العمومية فى علم الاجتماع للإشارة إلى إى اتجاه نظرى يعطى البناء الاجتماعى (سواء كان ظاهرا أو غير ذلك) أولوية على الفعل الاجتماعى.
أما البنيوية بمعناها الخاص الأكثر تحديدا فنشير إلى اتجاه نظرى معين أصبح موضة فى أواخر الستينيات ووائل السبعينيات، و اتتشر عبر طائفة من العلوم نذكر منها: الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وعلم اللغة، والنقد الأدبى، والتحليل النفسى، وعلم الاجتماع. وقد جاء تأثيرها على علم الاجتماع من عدة مصادر، من بينها: ماقام به كلود ليفى شترواس من دراسات أنثروبولوجية بنيوية وتحليل دلالى (سيميوطيقى) للظواهر الثقافية عموما، ودراسات ميشيل فوكو عن تاريخ الأفكار، واتجاه التحليل النفسى عند جاك لاكان، و الماركسية البنيوية عتد لوى ألتوسير.
والقكرة الأساسية فى هذه البنيوية هى أننا نستطيع تمييز الأبنية القائمة وراء المظاهر السطحية للواقع الاجتماعى التى تتميز بأنها كثيرة التغير والتحول. ونموذج ذلك هو تصور اللغويات البنيوية عند سوسير وقكرته بأن اللغة يمكن أن توصف بالاعتماد على مجموعة من القواعد الأساسية التى تحكم ترابط الأصوات لكى تنتج المعانى. ويرى ليفى شتراوس، وعلم الدلالة (السيميوطيقا) عموما، أن هذه البنى الأساسية هى عبارة عن مقولات عقلية، نستخدمها ونعتمد عليها فى تنظيم العالم من حولنا. ويرى ليفى شتراوس تحديدا، وليس بالضرورة كافة الينيويين، أن هذه المقولات يمكن فهمها دائما بوصفها ألوانا من التعارض الثنائى (مثل: أعلى/ وأسفل، وحار/وبارد.. وهكذا). وقد استبدلت الماركسية بهذه التعارضات الثنائية، أى المقولات الذهنية، أوضاعاً فى أنماط الإنتاج (مثل أوضاع العمال فى مقابل غير العمال) وأحلت العلاقات محل وسائل الإنتاج بوصفها القواعد التى تحكم عملية إنتاج المعانى.
ولعل المبدأ الأساسى للبنيوية يتجلى بأوضح صورة فى أعمال ليفى شتراوس. وقد أقر بوجود ثلاتة مؤثرات هى: الجيولوجيا، والتحليل النفسى، و الماركسية. فهذه العلوم الثلاثة تكشف لنا قوانين أو بنى خفية (أو لاواعية) كامنة تحت المظاهر السطحية. ولكن كان هذا هو المدى الذى بلغه فى تتبع دلالات العلمين الآخرين. وليفى شتراوس، على خلاف التراث المتأثر بأعمال برونيسلاو مالينوفسكى، كان أقل اهتماماً بالدراسات الكلية الشاملة و المفصلة لمجتمعات معينة، وإنما كان أشد اهتماما بالتعرف على العموميات (السمات العامة) التى يعتقد بوجودها وعلى البنى العقلية المشتركة. ومن أجل هذا درس ليفى شتراوس كماً هائلاً من أنساق التصنيف فى مجتمعات أجنبية ومن الأساطير (انظر كتابه: الأساطير، أربعة مجلدات، صدرت فى الفترة من 1964 حتى 1971). و انتهى من دراساته تلك إلى أنه يمكن اختزالها جميعاً إلى أنواع من التعارض الثنائى، هى التى تفسر بدورها ثراء وتعقد الخيال لدى الشعوب المختلفة. وقد كشف فى مؤلفيه التوتمية (1962) والعقل البدائى (1962) عن عديد من التحولات الخادعة ذات المنطق الخفى فيما كان يهمل فى الماضى لكونه خرافات، وانتهى من ذلك إلى أن البدائيين لديهم علم لفهم الأشياء الملموسة. كذلك فعل فى كتابه الضخم الهائل المعنون: الأبنية الأولية للقرابة (1949)، حينما أراد أن يبين أن العدد الهائل من أنساق القرابة يمكن اختزاله فى نمطين اثنين فقط هما: التبادل العام، أو التبادل المحدد.
ولكن أياكان الشكل الذى تتخذه البنيوية، فإنه يترتب عليها بعض الدلالات المحددة بالنسبة لتصور العالم. أول تلك الدلالات أن المبادئ الأساسية للبنية تظل ثابتة (نسبياً طبعاً)، وأن العلاقات المتباينة بين تلك المبادئ هى التى تنتج أنواعاً مختلفة من اللغات، والأنساق الفكرية، وأنماط المجتمعات. ومن هنا ينتقل محور الاهتمام من التركيز على كيانات متميزة إلى التركيز على العلاقات بينها، إلى حد الاعتقاد بأن الأشياء التى تبدو لنا فى الظاهر ككيانات متميزة ليست سوى ثمرة من صنع هذه العلاقات. وقد ذهب هذا التأكيد على العلاقات إلى مدى أيعد من ذلك كثيرا فى نظريات مابعد الحداثة.
النتيجة الثانية هى أن ما يبدو لنا ثابتاً أو طبيعياً أوسوياً ليس فى الحقيقة سوى الثمرة النهائية لعملية إنتاج احدى البنى الأساسية. ولعل هذه النتيجة تتجلى بأكثر صورها إثارة فى ميدان النقد الأدبى، حيث يذهب أصحابها إلى أنه حتى الرواية الواقعية ليست سوى ثمرة لعملية إنتاج فنى لا تختلف فى قليل أو كثير من أصالتها حتى عن أول عمل رائد فى نوعها. فهى ليست نسخة من أى شئ سابق عليها وموجود فى الواقع حولنا. ومن الجدير بالدكر أن هذه الفكرة قد أصبحت اليوم أمراً بديهيا، مثلاً فى دراسات علم الاجتماع للنوع (ذكور وإناث)، حيث يعتقد أن الذكورة، والأنوثة، و الجنسية المثلية وغيرها إنما هى تصورات اجتماعية. كما يعتقد بالمثل أن المعرفة العلمية ليست عبارة عن معرفة بعالم واقعى خارجى، ولكنها ثمرة بعض العمليات الاجثماعية و أساليب التفكير التى نسميها علمية.
التتيجة الثالثة أن البنيوية تحدث تحولا فى فكرتنا التى نكوثها عن الأفراد، فتنظر إلى هؤلاء الأفراد بوصفهم ثمرة للعلاقات الاجتماعية، لا باعتبارهم صانعين للواقع الاجتماعى. فقد أحلت البنيوية محل الموضوع الإنسانى المتميز وجوديا تصورا موزعاً (لا مركزيا) لملذات. فعلى حين ترى الماركسية البنيوية أن الفردليس سوى حامل للعلاقات الاجتماعية (ملكية أو عدم ملكية وسائل الإتتاج)، يذهب آخرون إلى أن الأفرادإنماهم نتاج ألوان الخطاب القائمة والعلاقات بينهما. ويتحول هذا التغير فى الرؤية إلى تقدم مضطرد لفهمناللعالم، وهى العملية التى تعرف باسم اللامركزية، أو تعدد المراكز. وهكذا علمنا بفضل كوبرنيكوس أن الأرض ليست هى مركز العالم، وعلمنا بفضل داروين أن البشر ليسوا مركز الخلق، وإنما هم ثمرة من ثمار التطور. وعلمنا ماركس أن البشر ليسوا هم المنتجين، وإنما هم نتاج العلاقات الاجتماعية القائمة. وأدركنا بفضل فرويد أن الأفراد ليسوا أصحاب اختيارات واعية، وانما هم ثمرة اختيارات لاواعية. بل وصل الأمر فى ذروة ازدهار شعبية البنيوية إلى حد الحديث عن موت الموضوع (الذات الفاعلة)، أى زوال الاعتقاد بأن الأفراد يقومون بعمليات الفعل والاختيار طواعية. وأرجع البعض دور الفاعل المؤثر إلى البنية الأساسية، ومن ثم أصبح يقال "الناس متحدثو اللغة"، "والناس قارئو الكتب"... إلخ. غير أن هذا التصور الأكثر تطرفا قد أصبح أكثر اعتدالا مع تطور ما بعد الحداثة.
وأخيراً بشرت البنيوية بحدوث تغير فى تصورنا للتاريخ، وذلك بالابتعاد عن فكرة التطور المستمر نسبياً، والتى تعنى حلول شكل من أشكال المجتمعات محل الآخر. والاتجاه بدلا من ذلك إلى رؤية للتاريخ كتسلسل متقطع يتسم بالتغيرات الراديكالية. وترجع جذور هذا التحول فى الرؤية إلى التمييز بين التتابع و التزامن. فالتتابع يشير إلى التغيرات التى نعيها بشكل مباشر إلى حد كبير. فإذا أخذنا ميدان اللغة على سبيل المثال، فإن ذلك يعنى أن اللغة تتغير عبر فترات قصيرة أو طويلة، من خلال دخول كلمات وعبارات جديدة إلى الاستخدام العام لتلك اللغة، فى الوقت الذى تختفى فيه كلمات وعبارات أخرى. غير أنه يمكن القول بأن بنية اللغة تظل ثابتة على الدوام، وذلك على أساس أن التغيرات التى تطراً تحدث من خلال ارتباطات جديدة كان معمولا حسابها، أو أنها كانت متضمنة فى القواعد الأساسية لتلك اللغة. ويتجلى هذا الاستمرار على المستوى الممتزامن. كذلك الأمر فى حالة المجتمعات، حيث يمكن القول أن البنية الأساسية للرأسمالية (مثلا) تظل كما هى، وتظل متحكمة فى تاريخ التغير الاجتماعى الظاهر أمامنا، هذا هو التاريخ الذى نحسه ونلمسه فعلا. أما التغير فى نمط المجتمع نفسه فسوف يتضمن حدوث تحول أكثر جذرية فى البنية الأساسية.
ولم تعد البنيوية (على الأقل فى صورتها المتطرفة) موضة بالشكل الذى كانت عليه فى الماضى القريب. وإن كانت بعض أفكارها الأساسية التى عرضنا لها قد أثرت فى دوائر أوسع من البنيويين. وقد تناول بادكوك الدلالة السوسيولوجية للبنيوية بشكل مستفيض فى كتابه: ليفى شتراوس، البتيوية ونظرية علم الاجتماع الذى صدر عام 1975.