منهج بحث

المنهج

ماهو المنهج..ما معناه لغة واصطلاحا..

المنهج لغة= من نهج اي سلك ..ومنه النهج الذي يرادف معاني السبيل الصراك الطريق..كما قد يرادف معاني الطريقة الاسلوب ..الوسيلة..او الكيفية والمنوال..الشاكلة..طبعا مع مراعاة السياقات والالفاظ.

المنهج اصطلاقا=اسلوب وطريقة في التعامل مع المواضيع عرضا وطرحا ومناقشة..وهو بذلك يتعدد بحسيب

   1-طبيعة الموضوع=منهج علمي ... فلسفي..ديني.. اجتماعي ..تاريخي نفسي... 
   2-شكل المنهج   =شكلي او موضوعي  وقد يكون ذاتي بالنظر إلى القائم به

انه فن وعلم ومعرفة في ان واحد

 فهو فن  لانه يقوم على مهارات شخصية وبقوم على عوامل التاثير والتاثر..
 وهو علم لان له قواعد تحكمه وله اسس لا بد من الارتكاز عليه
 وهو اخيرا معرفة من معارفنا الانسانية

انه بحق الوسيلة والغاية.

إشـكالــية المنـهـج في التعامل مع العلوم الاسلامية. د. محمد غاني باحث في العلوم الاسلامية

إن سلطان العلم قد امتد وأوغل في حياتنا الحديثة إلى آماد بعيدة وآفاق واسعة، وقد غدا وصف الشيء بأنه "علمي" مدعاة لإحاطته بهالة من القداسة والتوقير تبعث على الإجلال وتأخذ بالألباب. ومرد هذا إلى تقدم العلوم الطبيعية وآثارها التي غيرت حياة الإنسان في كثير من جوانبها. ولاشك أن المعالجة التجريبية هي دعامة هذا التقدم في العلوم الطبيعية. وقد حاولت العلوم الإنسانية بدورها أن تنحو هذا المنحى في معالجتها لموضوعاتها ومسائلها التي تبحث في الإنسان وسلوكه ودوافعه، وفي المجتمع وظواهره وفي ما يستجد من سلوكات وظواهر، وفي سعيها لالتزام المنهج التجريبي تحاول الوصول إلى ما وصلت إليه العلوم الطبيعية من ضبط ودقة في تفسير ظواهر الحياة وأنماطها. ولعل أول ما يسترعي الانتباه هو هذا الاصطناع لكثير من المصطلحات المستعملة في العلوم الطبيعية للمنهج العلمي التجريبي، كما نصادف ذلك في المصطلحات المتداولة في الأنطروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس. كذلك يلاحظ الباحث هذا النمط الجديد من المعالجة الذي يقوم على التجريب واستخدام الأساليب الإحصائية مما تزخر به كثير من الدراسات. ولبيان الفروق بين تطبيق المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية نبدأ ببيان شروط المنهج التجريبي قبل أن نوضح إلى أي حد يمكن أن يصلح لدراسة ما يتعلق بالنشاط الإنساني كفرد أو كجماعة وإلى أي حد يحتاج الباحث في الظواهر الإنسانية إلى مراجعة ما ذهب إليه من افتراضات؟ الأمر يحتاج حقيقة إلى تقليب وتهوية خصوصا وقد ساد الزعم أن أية معالجة للظواهر الإنسانية لا تقاوم على المنهج التجريبي فإنها لا تستحق أن يلتفت إليها، أو في أحسن الأحوال لا يقاوم لها وزن، إذ أن المنهج التجريبي هو المنهج العلمي الوحيد الذي تدرس به الظواهر دراسة تحظى بالتقدير في هذا العصر العلمي. وكثيرا ما يكتشف المتفطن لبعض هذه البحوث أنها تفسر هذا المنهج التجريبي قسرا وتقحمه إقحاما مصطنعة لأساليبه وأشكاله، دون أن يؤدي ذلك إلى خطوة جديدة أو جدية( ). من المعلوم أن المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية يعتمد على ملاحظة الظواهر التي تثير مشكلة أو تساؤلا يؤدي إلى تحديد نوع المشكلة الناجمة عن هذه الملاحظة، منتقلا إلى افتراض الفرضيات التي يتصور أنها تؤدي إلى تفسير الظواهر وتعليلها وبيان مكوناتها وعلاقات عناصرها، ثم يأخذ في التأكد من صحة افتراضاته عن طريق التجربة التي تقوم على ضبط الموقف والسيطرة على عناصره وتحديدها والتحكم فيها وإقصاء كل ما لا يدخل في مجال الظاهرة المطلوب اختبارها. ومن قبيل ذلك ضبط الظروف –جميع الظروف المعلومة والممكنة- لمعرفة العلاقة بين حجم الغاز وضغطه مثلا، أو العلاقة بين المواد المتفاعلة ونتائجها. فعمليات التحليل والعزل والضبط للعناصر والمكونات هي أساس قيام التجريب العلمي، الذي يؤدي إلى نتائج يمكن تكرارها في نفس الظروف مما يؤدي إلى الوصول إلى قوانين عامة تسري على جميع الحالات المطابقة، وذلك على اعتبار أن عوامل الزمان والمكان ثابتة لا تتغير. وقد لجأ الباحثون في العلوم الإنسانية إلى مثل هذا المنهج التجريبي، ولعل أهم ما استرعاهم من مراحل معالجته مسألة التحديد عن طريق التحليل والعزل والضبط لعناصر مظاهر السلوك البشري. فأخذوا في دراستهم العلمية لها يبحثون عما يسمى بالمفرد الإنساني الذي يمكن معرفة عناصره وعزلها وإخضاعها للتجريب، وهذه من ضرورات المنهج العلمي حتى تتأتى دراسة الموضوع أو الظاهرة المحددة دراسة متعمقة فاحصة قصد معرفة العلاقات بين عناصرها وخصائصها. وهذه خطوة منهجية قد يطبقها الإنسان في مجريات حياته اليومية. فحين يقرأ الإنسان رسالة خطية قد يتعذر عليه إدراك كلمة فيها نتيجة لغموض حرف أو حرفين، فهو يفرد هذين الحرفين ويركز عليهما بصره، أو قد يستخدم عدسة مكبرة ينظر من خلالها إلى هذين الحرفين بالذات. وفي أثناء هذا التركيز قد يغفل بقية الحروف، ولكنه يعود إليها بعد ذلك ليرى مدى استقامة هذين الحرفين مع بقية الحروف ثم مدى استقامة الكلمة مع بقية كلمات الجملة. وقد اتبعت العلوم الإنسانية هذا التحليل والتحديد في اتخاذ مصطلحاتها للبحث العلمي. وليكن مجال التحديد هو: العلاقة بين تفتيت الملكية الزراعية والهجرة إلى المدينة، أو أثر المهنة في اختيار المواد المقروءة، أو علاقة المستوى الاقتصادي بفرص التعليم أو قياس الذكاء، أو فهم النشاط العقلي للإنسان. وغاية ذلك كله تحديد العناصر التي يراد دراستها، وعزلها عن غيرها من العناصر حتى يمكن فهم علاقتها وكيفية تركيبها وعملها بغية الوصول إلى تعميم في مجال البحث. وهنا يقوم جانب كبير من مشكلة المنهج التجريبي في العلوم الإنسانية، وهو أننا حين نحلل ونحدد ونفرد، لابد من أن ننتزع، وننتزع من موقف كلي عام، تتداخل فيه هذه العناصر المكونة وتتشابك تشابكا معقدا تعقيدا كبيرا، بل إن هذه العناصر والمكونات تتحرك فيما بينها وتتفاعل. وتحديد المفرد الإنساني الذي يعالج بالطريقة التجريبية من أكبر مشكلات البحوث الإنسانية( ) وثمة ظروف متعددة هي التي تملي تحديد المفرد الإنساني الذي يراد بحثه ودراسته "علميا" فهناك جانب كبير من الاجتهاد الشخصي، يتوقف على خبرة الباحث كما يتوقف أيضا على تصوراته ونظرته الفلسفية إلى الإنسان، كما يتوقف أيضا على الإمكانيات المتوفرة لدى الباحث سواء كانت إمكانيات مادية أو آلية أو زمنية. ولاشك أن مثل هذه العوامل تتدخل في تقدير الباحث لحجم المفرد الإنساني الذي يريد أن يدرسه. ونستعرض هنا بعض الأمثلة التي تؤكد أن الفهم الصحيح لا يستقيم إلا إذا امتدت أبعاد البحث إلى ما يمكن تصوره من مفردات أخرى على أساس ما بينها من ارتباط وتفاعل وتداخل وحركة، مما يكون الصورة الكلية العامة. ولنأخذ مثلا تربية النحل أولا، وهو مثل قد يبدو بعيدا بعض الشيء عن الظواهر الإنسانية، لنعود منه إلى ما هو أكثر وضوحا من صميم الظواهر الإنسانية: ففي دراسة تربية النحل يمكن أن نحدد موضوع البحث أو نجعل "مفرد البحث" هو العلاقة القائمة بين أفراد خلية النحل، ويمكن أن نجعله إنتاج خلية النحل في الصندوق الخشبي الحديث، ويمكن أن نجعله علاقة خلية النحل بالحقول والمزروعات المجاورة، على أساس أنها تستمد رحيقها منها، ويمكن أن يكون أثر الزهور المجاورة في طعم ولون عسل النحل، ويمكن أن يكون العلاقة بين تربية النحل ومستوى الدخل الفردي، ويمكن أن يكون تأثير عادات التغذية الموجودة في تربية النحل، وقد يكون العلاقة بين تربية النحل والاستهلاك المحلي أو التسويق الخارجي. يمكن أن تكون كل دائرة من هذه الدوائر في تربية النحل مفردا للمعالجة العلمية التجريبية، بيد أن هذا المثال يوضح دون تفصيل حقيقة الارتباط بين هذه الدوائر والمفردات بحيث تصبح دلالة كل من هذه الدوائر بمفردها مبتورة وممسوخة إلا إذا ارتبطت ببقية الدوائر التي تشكل المجال العام لتربية النحل. ومن الغريب أن نجد بعض الدراسات الإنسانية التي تبنت الطريقة التجريبية في الدراسة والبحث فد اكتفت بدراسة المفردات دون ردها إلى الصورة الكلية، أو في أحسن الأحوال ربطتها ربطا شكليا ببعض جوانب الصورة العامة. إن منهج "الإفراد والتحليل" قد يكون لازما في كثير من الحالات ولكنه ليس كافيا على الإطلاق. وقد يؤدي ذلك في كثير من الأحيان –أي إذا لم ينظر إلى ما يوفره من حقائق تمتد أبعادها إلى ما وراء مجرد الحقائق التجريبية على أساس التصور الكلي للموقف أو الظاهرة- قد يؤدي إلى تشويه للفهم الصحيح، وإلى تحريف للكلم عن مواضعه، فلا بد إذن من اتخاذ المنهج التكاملي في الدراسات الإنسانية. وهذه مفارقة جوهرية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. لقد سارت العلوم الطبيعية على المنهج التجريبي في الضغط والعزل والتحليل، ودراسة العلاقات والمتغيرات وذلك على اعتبار أن تحليل العلاقات والظروف والعناصر، والوصول إلى أصغر الوحدات في تكوين المادة والأشياء هو أساس المعرفة العلمية. فمنذ أن بدأ المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية وحتى أخريات القرن التاسع عشر( )، وذلك قبل ظهور نظرية النسبية مع إنشتاين كان الاختلاف بين الأشياء يفسر على أنه مجرد اختلاف في درجة الاختلاط والمزج والتركيب بين عناصرها ومكوناتها وفي علاقات هذه العناصر ببعضها. ومن ثم جاء الاهتمام الكلي بالنسب والمعادلات والقياس الكمي باعتبارها محددة لجوانب الاختلاف وحالاته, ومن ثم كان التعرف على الشيء إنما هو جمع لعناصره، وجاء تفسير الأمور المعقدة في ضوء وحداتها البسيطة، وكل تفسير لابد أن يبدأ بالبسيط من أصغر الوحدات، لأن المركب ما هو إلا مجموعة من الأحداث الأولية في ثوب يخفيها، ولو تم تحليل هذا المركب إلى وحداته الأولية لانجلى سره. هذا هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية الذي قامت عليه دراستها ونظرياتها أمدا طويلا، ثم انتقلت تصوراته إلى العلوم الإنسانية كمحاولة تفسير المجتمعات الحديثة المعقدة في ضوء الأنماط الأولى لحياة الشعوب البدائية، وتغدو بذلك مظاهر الثقافة من آداب وفلكلور وفنون، مجرد غطاء تعبيري للكيان المادي وتركيبه في المجتمع، وهذه بدورها تمثيل وتكيف وتجريد للمصالح الحيوية للجماعات، وهذه المصالح منبثقة من الحاجات البيولوجية للأفراد، وهذه بطبيعتها تعتمد على التكوين الفسيولوجي للفرد. وهكذا يتدرج التفسير من المركب إلى البسيط في درجات ووحدات تختلف في مجرد علاقاتها ومكوناتها. وعلى هدي هذا المنهج التحليلي الذي يسير من البسيط إلى المركب، يمكن تفسير سلوك الإنسان المعقد بدراسة سلوك الكائنات الحية البسيطة. فمن تجارب فئران المختبر وأساليب تعلمها في المتاهات التجريبية يزعم بعض علماء النفس أنهم يهتدون إلى فهم الوحدات الأولية في سلوك الإنسان ودوافعه وطرق تعلمه. والمهم على كل حال أن نعرف مم تتكون الأشياء. وما هي عناصرها؟ وما هي درجة هذه العناصر وكميتها. وما نوع العلاقات القائمة بينها؟ وبهذا يمكن إجراء بعض التعديلات في سلوك الإنسان ومهاراته قصد تطويرها أو على الأقل تصور إمكانية عملها. هذا هو منهج العلوم الطبيعية الذي سارت عليه العلوم الإنسانية فعنيت بالمتغيرات والعلاقات فيما بينها وتقديرها تقديرا كميا مستخدمة الأساليب الإحصائية والفروض الرياضية سعيا وراء فهم السلوك الإنساني، وإحداث ما يمكن إحداثه من تغيرات في ضوء ما يتكشف من قواعد، وبذلك تصبح أمور الاقتصاد والسياسة والإصلاح الاجتماعي نوعا من التغيير في العلاقات ونسبها وعناصرها. وبعبارة أخرى تصبح نوعا من التكنولوجيا كما شاع الاصطلاح في عناوين كثير من الكتب والمقالات التي ظهرت في ميادين العلوم الإنسانية. لكن المنهج التكاملي في المعرفة كما بينا، ضروري في فهم الظواهر الإنسانية. وقد أكدت مدرسة الغشتالت( ) فكرة الإدراك الكلي على اعتبار أن العناصر المفردة إنما تستمد معناها من الصورة الكلية، بل إن وظائف هذه العناصر ودلالتها إنما تستمد من وضعها في وظائف الصورة الكلية لعناصرها المتفاعلة، فليس لليد معنى أو وظيفة إلا في وضعها بالنسبة لبقية أجزاء الجسم ووظائفه. ونقصد بالتكامل هنا أن تتكامل معرفتنا بالمفرد الذي ندرسه بالطريقة التجريبية في ضوء المفردات الأخرى المتصلة به، ثم في ضوء طرق المعرفة الأخرى غير الطريقة التجريبية، من مناهج المعرفة التاريخية، وأساليب التفكير المنطقي والخبرة الواعية. المهم أن يدرك الباحث مستوى التحليل الذي يتخذه، كما يدرك أن مستويات التحليل الأخرى لها قيمتها وأهميتها في فهم الموضوع. فمثلا يستطيع الباحث أن يقتصر على جانب المثير والاستجابة، وهذا عمل مشروع في نظر البعض, فلا يمكن أن نبحث في علاقة سكان المدن بالبوادي دون أن نأخذ بعين الاعتبار الماشية والأرض والأطفال ومياه الأنهار والسواقي والبيوت والبرك إلى غير ذلك، وهذا هو منهج السلوكيين( ) في تفسيرهم للسلوك الإنساني. كما يمكن أن يكون مستوى البحث في الصورة الكلية والإدراك العام على طريقة الغشتالت، وهو ما يتمثل –في صورة مبسطة- في اختبارات الذاكرة وما تعيه من الأشياء. ويمكن أن يكون مستوى التحليل في صورة ديناميكية الشخصية ومدى تمثلها الذاتي لعناصر الموقف الخارجي، وما يتصل بذلك من اتجاهات نفسية واجتماعية، ومن تبريرات ودفاع عن النفس إلى غير ذلك من أدوات التكيف في الشخصية، وقد يكون مستوى التجريد قائما على جانب المواقف المحيطة كدراسة أثر السكن في حي معين، أو أثر الانتقال إلى المدينة أو أثر الأسرة، فهنا تكون دائرة البحث في موقف محدد الأبعاد. وقد يصل المستوى إلى الظروف الحضارية العامة أو الفرعية، كأثر القيم، والأدوار الاجتماعية، ونظام السلطة، وعلاقة الطبقات، وأهمية المكانة الاجتماعية والصيت. وأخيرا يأتي المستوى التاريخي في امتداده وتراكمه وأثر ذلك كله في أبعاد الحاضر، إذ لا يمكن مثلا فهم الاتجاهات الخاصة بالتفرقة العنصرية في الولايات المتحدة بين البيض والسود دون معرفة تاريخ الرق والرقيق وتجارته وظروف عمله في المراحل الأولى من استيطان البلاد. نستطيع دراسة السلوك الاجتماعي بالطريقة التحليلية من عدة زوايا وعلى مستويات مختلفة: من زاوية الموضوع الخارجي أو المثير نفسه، ومن زاوية الإدراك الكلي كما يتكون لدى المدرك ومن زاوية ديناميكية الشخصية واتجاهاتها، ومن زاوية المواقف الاجتماعية المحددة. ومن زاوية العوامل الحضارية ومن زاوية القوى التاريخية. واعتبار هذه الزوايا في التحليل أمر ضروري في المنهج العلمي، بشرط أن يكون الباحث واعيا تمام الوعي بالمستوى الذي يتخذه في عمليات تحليله وأن يدرك أن تكامل هذه الزوايا ومعرفة ارتباطاتها من الأمور اللازمة لاستكمال الفهم المحيط والتقدير السديد لما يدرس من قضايا اجتماعية ونفسية. وأخيرا فإن البحوث العلمية في الظواهر الإنسانية إنما تقوم على افتراضات كثيرا ما تؤخذ على علاتها وكأنما هي مسلمات. وحين تتغير الافتراضات تتغير النتائج والاحتمالات والقدرة على التوقع. وهذه الفرضيات تتأثر بحضارة المجتمع ومن ثم كان من العسير التأكد من صحة الافتراض إلى الحد الذي نبلغه في العلوم الطبيعية. لقد دخلت الأدوات والمفاهيم الإحصائية في الدراسات الإنسانية، بيد أن هذه الأدوات الإحصائية بحكم طبيعتها قد اهتمت بدراسة الجوانب الكمية للظواهر والحالات، وأوشك سلطانها أن يطغى على جانب استكشاف الخصائص الكيفية أو العمليات التي يحدث فيها الانتقال والتغير من حالة إلى حالة( ). هذا إلى جانب الزعم الذي توحي به الشبكات الإحصائية من ضبط وموضوعية وبعد عن التحيز. إلا أننا نرى الأبحاث الإنسانية قد انقلبت إلى موضوعات لتجريب طرق إحصائية وكأنما هي تدريبات إحصائية لذاتها يصعب على الباحث أن يدرك أنها تتحدث عن الإنسان ودوافعه وسلوكه، وفي كثير من الحالات لا تستطيع أن تترجم لغتها ونتائجها إلى ما يعين على الفهم أو التفسير أو التنبؤ في مجالات الحياة العادية. ومن أجل السير في الطريق السوي قصد تحقيق الأهداف المبتغاة من دراسة الظواهر الإنسانية لابد من استخدام كل مناهج التفكير العلمي كالمنهج التاريخي والأنطروبولوجي ومناهج التفكير المنطقي كالاستقراء إلى جانب المنهج التجريبي حتى نستطيع أن نجمع بين النظرة التحليلية والتكاملية في دراسة الإنسان والمجتمع، وحتى نكون أكثر قربا من الإنسان ومن المجتمع. وفي ضوء هذا التوجيه يمكن أن نستعين بمختلف المناهج العلمية ولا يصبح المنهج التجريبي أو الإحصائي هو الأسلوب العلمي الوحيد فتصبح مناهج التجربة والكم والقياس واحدة من هذه الأساليب. إذ نحتاج لفهم الظاهرة الإنسانية إلى بحوث تتناول النواحي الكمية وبحوث تتناول النواحي النوعية أو المعيارية لها. والملاحظ أن كثيرا من البحوث في الظواهر الإنسانية قد تأثرت بفرضيات السببية الميكانيكية بمعنى "أن نتائج معينة تحدث بالضرورة نتيجة لوجود أسباب معينة" وقد ظهر هذا الاتجاه في العلوم الإنسانية نتيجة تأثر بنظرية نيوتن في تصور عملية التغير الطبيعي. فالحركة في نظره حركة جزء، والقياس ما هو إلا حساب للقيمة الحقيقية للجزئيات ولسرعتها، ومن هنا ساد الاعتقاد بوجود جزئيات حقيقية ولها كيان منفصل، ولما كان العالم المادي مكونا من جزئيات فإن أسباب التغير تتحدد بخصائص هذه الجزئيات. وهذا في نظره ينطبق أيضا على الإنسان فإذا عرفنا جزئياته أمكننا معرفة مظاهر التغير في الحياة الإنسانية، ومن تم كانت الصعوبة موقوتة بالقدرة على الوصول إلى معرفة أكبر عدد ممكن من الجزئيات الخاصة بالحقائق الإنسانية ولذلك كان قياس هذه الجزئيات أمرا جوهريا. وعلى حد تعبير ثورنديك: "كل ما يوجد، يوجد بمقدار. وكل ما يوجد بمقدار يمكن أن يقاس" وكأنما الوجود قائم دون تدخل الإنسان أو سلوكه فيه، والاختلاف بين عشرة أشخاص وثلاثمائة مليون شخص اختلاف كمي فقط، وفي ضوء معرفة الجزئيات وحسابها يتقرر سلوك الناس فرادى وجماعات( ). ولقد ارتبط موضوع القياس الكمي أيضا بفلسفة الثورة الصناعية في أوربا حين كانت الحاجة –في هذا المنعرج الجديد من حياة الإنسان- ماسة إلى القياس والتدقيق. ومن هنا نشأ الافتراض بأن المعرفة الحقيقية هي التي يمكن قياسها، وأن ما عدا ذلك من الظواهر التي لا تخضع للقياس أمور لا قيمة لها. ولاشك أن الوصول إلى معرفة الحالة والكيفية لا يقل أهمية عن قياس هذه الحالة أو الكيفية ويصبح البحث لمعرفة الحالات الكيفية مادة هامة لقوانين يتوصل إلى وضعها التفكير العلمي والمنهج التجريبي فيمكن التنبؤ مثلا بقولنا إن المادة الصلبة سوف تتحول إلى سائل وفي ظروف معينة سوف يسمع صوت وأن الكراهية سوف تنقلب صداقة. كل هذه التنبؤات كيفية قد يمكن قياسها والواقع أن التنبؤات الكيفية هي من أشيع وربما كانت من أهم التنبؤات في الحياة العادية، ومع ذلك فإن هناك عرفا شائعا نتيجة تصورات معينة هو أنه لا يقوم علم بدون قياس وهو عرف سائد ليس هناك ما يبرره إلا من وجهة تطبيق المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية هذا هو الافتراض الميكانيكي الحسابي الذي يكمن وراء محاولة تطبيق المنهج التجريبي في دراسة الظواهر الإنسانية. إلا أنه يوجد فارق جوهري كبير بين الظواهر الطبيعية والظواهر الإنسانية كما أنه من المعلوم وجود منهجين هما: المنهج المعياري وهو الذي يتأسس فيه التحليل على قواعد أخلاقية، والمنهج الوضعي وهو الذي لا يرتبط فيه التحليل إلا بما هو ثابت بالتجربة. ومن المعلوم أن بين المنهجين فروقا واسعة، إلا أن ما يهم هذا البحث إثباته أن المنهج الوضعي لا يعتبر عالم الغيب، ومن المعروف أن الأخلاق وثيقة الصلة بالإيمان بالغيب، من أجل ذلك فقد اعتمدنا المنهج المعياري في بحثنا عن الأبعاد الأخلاقية لمقاصد الشريعة الإسلامية. وقد دفعنا إلى هذا الاعتماد عدة مبررات منها: إن ممارسات البحث العلمي التي نتبعها في تمييز ما هو واقعة مما ليس واقعة يفترض قيما ومقاصد مختلفة هي عبارة عن رؤيتنا الخاصة للعالم، أي يفترض، على سبيل المثال، معايير للعقلانية وللموضوعية كما نراهما، بحيث إذا تغيرت هذه المعايير المخصوصة تغيرت الوقائع المقبولة. إن الأوصاف التي يمكن أن تأتي بها للواقعة الواحدة لا تقف عند حد، لكن هذه الأوصاف تبقى مجرد سرد ليس تحته كبير طائل، حتى نستطيع أن نحدد تصورنا للوجه الذي يكون به الوصف عندنا مفيدا ومثمرا، ولا طريق لنا إلى هذا التحديد إلا إذا توسلنا في ذلك بقيم ومقاصد تختص بنا. - إن الأوصاف الكثيرة للواقعة قد تكون متباينة فيما بينها لوجود تباين في المعايير التي استندت إليها. على الرغم من ثبوت فائدة كل واحد من هذه الأوصاف في نطاق نسق المعايير الخاص به. - إن الخطاب الديني الإسلامي ليس خطابا نظريا فحسب وإنما هو خطاب عملي ذلك أن الدين الإسلامي لم يأت لكي يعلم الناس ما يمكن أن يدركوه بحواسهم وعقولهم وقدراتهم المختلفة التي خلقوا بها، ولا أتى على نسق نظرية علمية حتى يمكن أن تجرى عليها وسائل التحقيق المعلومة في المنهج التجريبي التي تقدم بيانها وإنما أتى لكي يرشد الخلق إلى الطريق التي ينبغي أن يوجهوا بها حواسهم وجوارحهم وعقولهم حتى يستطيعوا أن يحيوا حياة طيبة في العاجل وحياة سعيدة في الآجل وذلك لأن هذه الحواس والجوارح والعقول والقدرات المختلفة يجوز أن تأخذ في ممارستها كل اتجاه إذ ليس لها من ذاتها ما يحملها على فعل هذا بعينه أو فعل هذا دون فعل ضده بحيث قد تصنع المضار صنعها للمنافع إذ لا تهتدي من ذاتها إلى تمييز الضار من النافع ولا مطمع في توجيهها إلا بتعيين جملة من القيم التي ينبغي لها أن تطلبها وهاته القيم هي التي يتولى الدين الإسلامي الإعلام بها والتوجيه إليها فإذن لا خطاب في الدين بمعزل عن قيمة أخلاقية عالية.د. محمد غاني باحث في العلوم الاسلامية