ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الأول
تائها في مرارة وخيبة أمل وصداع سببه صوت محرّكات الطائرة التي توقعت أن لا تصل ... شعور بالمرارة ممزوج بالفرحة ... فرحة الحرية التي سجنت 17 سنة في 6 أمتار مربعة ...
مرارة العودة من حيث بدأت خالي الوفاض .... خيبة أمل من شارف الأربعين وظل سعيه في حياته التي لم يعشها .... ربيع عمري تساقطت فيه كل أوراق سنواته التي كان يفترض أن تكون أحلاها ...
عيناي المتعبتان تبحثان عن سرّ مدفون بين نهدي مضيفة الطيران ... 300 يورو هي كل ما إدخرته من سنين الغربة المضاعفة ...
عائد من 18 سنة غربة ... لا حقيبة أدباش ... لا هدايا لا ملابس لا لعب لأطفال العائلة ...العائلة ؟؟ ترى ما مصيرهم ؟؟؟؟
يدي تطارد دمعة حارة على خدي ... إنسلّت بعد أن تذكّرت جنازة أبي التي لم أحضرها ....
فتحة صدر المضيفة البشوش تجذبني من جديد ... تضع خرطوشة سجائر وعلبة ويسكي وبعض علب الحلوى في كيس أمامي ... كلفتني نصف ما أملك ... تهت في ذكريات النهود في شوارع مدينة كان وشواطئها ...
صدر فتاة رومانية تنحني لتربط خيوط حذائها .... هو آخر لقطات مهرجان كان لسينما الصدور ... آخر ما شاهدت فيها ...
كنت ضيفا غير مسجّل في قائمة المدعوين ... أنتظر رئيسي في مجموعة مافيا المخدّرات ... حين وجدت نفسي تحت وقع كلمات حكم من قاضي أشقر بخدود حمراء ... عيناه الزرقاء كانتا كمحيط عميق غرقت فيه ...
المؤبّد ... هكذا شفا حقده من العرق ذي الشعر الأسود فيا أنا ...
مؤبّد وأنا في بدايات العشرين ؟؟؟ فرنسيته الركيكة وهو ينطق بالحكم ظلّت تتردد في أذني طيلة عقد و سبع كلّها عجاف ... صوته إمتزج بهدير طائرة تشارف السقوط منذ أقلعت ...
صوت قائدها يعلن للركاب دخولنا الأجواء التونسية ... مرحبا بعودتنا سالمين لأرض الوطن ...
أساور العدالة التي تزّين معصمي الأيسر.... حوّلت بشاشة صدر المضيفة لعبوس بل إلى إحتقار وهي تساعدني على ربط الحزام ... قالت بصوت تزدريني به
" كيف لا تعرف ربط الحزام وأنت في رحلة إياب"
ذهابي كان على سطح البحر ... أمواج إهتزاز الطائرة وهي تضع عجلاتها على سطح أرضنا المباركة بكل بركات الأزمان و الأديان ... إهتز معها كياني بقرب ما كنت أخافه ...
الساعة الثانية صباحا هكذا أعلن مذياع سيّارة الأجرة التي دفعت فيها مبلغ 50 يورو لتوصلني من المطار للبيت ... على حافة الطريق الرئيسي آخر أعمدة النوير العمومي ودعتني ... تائها في طريق غير معبّد ... حوالي المأتي متر أتعثّر في ظلمة ظلال أشجار البلّوط ...
صوت الباب الحديدي العتيق يعيد لذهني صوت قفل باب السجن الثقيل ... أزيزه يؤلم ذاكرتي ... المفاتيح مخبأة أين تركتها آخرة مرّة ... مفاتيح لا تفتح بابا... النور الخارجي لا يشتعل ...
من شرفة البيت ... خيال بيوت ومباني كثيرة تتراقص تحت ضوء هلال ليلة ساكنة بحرارة أوائل سبتمبر ...
" قوايل الرمان " هو مصطلح تونسي يفسّر حرارة توديع فصل الصيف وإستقبال فصل الخريف ... تتكفّل بإنضاج غلال الرمان ...
لهيب رياح الشهيلي القادمة من الجنوب حرق عطشي ... الحنفية التي كنا نغتسل بها من رمال البحر لا تجود بقطرة واحدة ... كل شيء معطّل ...
إستقبال كريم من بلدي في أوّل ليلة أحتضن جليز شرفة تطلّ على البحر ... رشفة وسكي صببتها في غطاء العلبة أشعلت لهيبا في بطني ...
شرفة البيت المزينة بأعمدة جبس منقوش ... بيت كان مضرب الأمثال في مضى ... جدي تفنن في فخامته ... طرازه هجين بين الأندلسي والشرقي ... حاولت التجوّل في الحديقة لكن الظلمة منعتني ...
ذاكرة طفولة قامت بالواجب ... مخزن كبير في الدور الأوّل ... سلّم بدرجات عريضة تصعد منه لتستقبلك شرفة مدوّرة محاطة بأعمدة قصيرة ... باب خشبي بجانبين ... مطرّز برسوم باب آخر داخله ... قاعة جلوس واسعة تحيط بها بيوت الغرف الثلاث والمطبخ والحمام ... جدي هو أوّل من ركّب حوض الإستحمام في قريتنا ...
وضعت مرفقي على حافة الشرفة أراقب البحر .... لم يتغّر شيء سوى ظل شجرة التوت التي تعالت أغصانها ... تركتها تعاني الحياة وحدها ... تذكّرت جدّي وهو يوصيني بالعناية ببيته قبل موته ....
موت جدّي هو سبب إنقلاب حياتي ... كنت أعيش هنا طفولة مدللة ... مراهقة هادئة ... يتمتع بتقاعد مريح من مشاركته ضمن فيلق الجنود الأفارقة تحت لواء فرنسا بحرب الهند الصينية ...
تزوّج أربعة مرّات ... لم يعش له من الأبناء سوى أمي وخالي ... معارضة أمي الزواج من خامسة كانت السبب في أن وهبتني لمؤانسة وحدته ....
موته وأنا اتحضّر لإجتياز الباكالوريا بين يدي كان هنا .... كان يشكو من سرطان الرئة لكنه يدخّن بشراهة ...
عدت بعدها لأعيش في بيت أبي ... أبي يسكن المدينة التي تبعد 25 كم عن قريتنا الهادئة ... راسبا في دراستي أعيد السنة عكس إخوتي الكبار كلّهم ... مدينة مزدحمة لا أعرف فيها أحدا ... حتى إخوتي وأبي كانوا غرباء ...
ضرب مبرح من الكلّ يوم إكتشفت أمي أني أدخّن ... التدخين في عرف عائلتنا علامة على الإنحراف ...
رشفة ثانية من غطاء الويسكي وتداخلت حرارة الذكريات الباردة مع لهيب الطقس ...
نصف قارورة من الويسكي سرقها صديق طفولتي الوحيد من خزانة أخيه الأكبر وأخفاها عندي كانت نقطة تحوّلي الثانية ... لاجئا في بيت جدّي من غضب أبي بعد معركة مراهقة عادية بين ولد طائش وأب صارم ... سببها إصراري على التدخين ...
فتاة من بنات هذه القرية تبلغ 16 سنة عرف عنها تمرّدها على كل الأعراف ... كانت تساعدني ... تجلب لي طعاما تسرقه من بيتهم ثمّ تجالسني تقاسم معي سيجارة ... السيجارة تلو الأخرى ... كانت ترغب في تجربة شرب الخمر ...
آخر ما أذكر أننا نصب من قارورة صديقي ... وجدت نفسي بعدها بأيّام أمضي عقد زواج في مركز الشرطة بحضور أبي ووالد الفتاة ... قالوا أني هتكت عرضها ... حقيقة لا أذكر شيئا ...
أبي الذي قال أني جلبت له العار تبرأ مني ... بينما تكفّل صهري بمصاريفي لمدّة قصيرة ... متزوج في بيت جدي وعمري 21 سنة ... زوجتي حامل ...
إقترح صهري بما أن البيت ملكي بالوثائق ... بيع وشراء بيني وبين المرحوم .... موقعه على البحر ومساحة حديقته والبئر سيوفّر رأس مال إنجاز مشروع والإنطلاق في حياتي ...
زوجة حامل ... عاطل ومنقطع عن الدراسة ... أصلا أنا عاجز عن تحمّل مسؤولية نفسي ناهيك عن زوجة ومولود ... كثر خصامنا ...
صهري أخذ إبنته تعيش عنده ... المفروض كما علّمنا مجتمعنا أني رجل لا يضر سمعتي شيئ ... هي والدها إحتضنها لفضيحتها و أنا والدي طردني ...
الجميع صار يتحاشاني ... الوحيد الذي الذي تواصلت علاقتي به هو صديقي صاحب القاروة ...
كان يتقاسم معي سجائره ... أغلب الوقت يبيت عندي لتشابه الوضعية بيني وبينه راسبان في الدراسة وعاقان لأبوينا ....
صديقي الذي ودعني مساء ذلك اليوم ... قال انه سيلتحق بالجيش كضابط صف .... وضيفة تبعده عن مشاكله مع أبيه ... أعطاني 3 دينارات وعلبة سجائر من نوع 20 مارس وسلّم عليا ...
شريط الذكريات كأنه يبث مباشرة من خيالي ... رشفة وسكي ثالثة ... رغبة شديدة في التدخين ... أشعلت سيجارة من إحدى العلب التي كنت انوي إهدائها للمعارف ...
ضحك السكر و طرافة الموقف ... سبب معاركي مع أبي هي التدخين ... وآخر سيجارة أشعلتها كانت هنا .... في نفس المكان ....
دوّي محرّك مركب صيد يشق صمت ليل ساكن ... نفس الصوت سحبني وأنا ارمي عقب سيجارتي الأخيرة منذ سنين ...
مجموعة من العاطلين يعتزمون الهجرة خلسة ... عرضوا عليّا مرافقتهم خوفا من أن أفشي سرّهم فتلحقهم دورية عائمة لحرس الحدود البحرية ...
لم أوافق ولم أتردد ... وجدت نفسي بعد 24 ساعة فوق سطح قدرة المتوسط في ضفته الأخرى ... ذكريات الموت تطاردني ... الموج يهز كياني ... رغبة في إرجاع ما في بطني الخاوية من أثر الويسكي ...
قليل من الحلوى ... أزيز باب الحديقة الذي لم يفتح منذ سنين طويلة يهز المكان ... خطوات قليلة لامس وجهي فيها ماء البحر ... رأيت أثر خطوتي الأخيرة لم يزل محفورا في رمال ذاكرته ...
دموع القهر إختلطت بماء البحر وما تخرجه بطني ... تبوّلت على ألمي وإفترشت الرمل ... خطوات تدنو من أذني ... صوت رجلين يتسائلان في ذعر ... ظنا أني جثة أحد الغارقين لفظها البحر ...
صبّحت عليهما وإنصرفت لم أعرفهما ولم يعرفاني ... نور فانوس غير بعيد من جهة الشمال يعاند نور الفجر ... النهار كشف تغييرات كثيرة بالمكان ... بيوت شاطئية فخمة أخذت مكان أشجار اللوز ... لا حركة فيها ... لقد إنتهى زمن التصييف ...
رجعت للبيت ... الحديقة تغطيها الأوراق والأعشاب ... سرب من الحمام إستوطن البئر ... جرّبت المفاتيح عبثا ...
أردت إشعال النور ... المكبس بمخزن صغير تحت البيت ... سلسلة حديدية وقفل ... خلعت كل سلاسل سجني بخلعه ... إستقبلني جرذ يخرج مذعورا تحت قدمي ... مكبس النور لا تيار فيه ... المخزن كما تركته ... بضع صناديق مبعثرة وجيوش من العناكب ...
درّاجة جدّي من نوع " متوبيكان " بنية اللون ... تتصدر المشهد ... الغبار يغطيها ... حقيبتان من الجلد معلقان بجانبيها ... آلمني منظرها وهي متروكة تعاند السنين مثلي ...
أخرجتها .... عجلاتها فقدت الهواء بما فعله بها الزمن... نفضت الغبار عنها ... مسحت كرسيها الجلدي ... أردت أن أشم فيها ريح عزي مع جدّي ... ركبت فوقها .. صورة جدي يعلمني قيادتها دفعتني للبكاء بحرقة على عمر ضاع هدرا ....
أدرت مواضع الأقدام ... تريد الإستجابة لكنها مبحوحة ... بعض المحاولات بفرك شمعة الكهرباء فيها ... إستجابت ... أصيلة أنت يا روح جدّي ...
كل أدوات الترقيع الخاصة بالعجلات في مكانها بالحقيبة ... شغلتني مهمة الإصلاح والنفخ ... عمل مفيد ... صوت محرّكها يزمجر أفزع سيدتين تمرّان بجانب السور ... البيت مهجور من سنين ...
صوت منبه حافلة يعلم الجميع أن حركة النهار بدأت .. فتحت الباب وإنطلقت بها أسابق الريح رغم بطئ سرعتها ... نسيم الصباح يداعب أذني ... شعري يتطاير للخلف ككلب سعيد بمرافقة صاحبه بجولة في السيّارة ...
أنا لازلت طفلا في داخلي ... روحي تبحث عن المرح ... وبطني تبحث عن شيء يملأها ...
وصلت للطريق الرئيس ... كلّ شيء تغيّر ... محلات وبناءات كثيرة على جانبيه ... كانت كلها أشجار بلوط في ما مضى ... باب محلّ مفتوح دلني عليه صوت بطني الجائعة ... أوقفت درّاجتي ... تقدمت منه متثاقلا ...
طلبت منه إن كان يمكنه أن يغيّر لي ورقة نقدية من فئة 100 يورو ... رفض لأنه لا يملك المبلغ من العملة المحليّة ... حزني دفعه أن يطلب مني أخذ ما أريد وأن أدفع لاحقا ...
علبة حليب وخبز تكفي ... أصر أن يكرمني ... جلست أتناول ما قدّمه لي بنهم كمن لم يأكل منذ سنين ... شاب في العشرين من عمره .. يشبه أحدا أهل القرية ...
سألني من أكون ... قبل أن اجيب ... قطعت تساؤله سيدة تدخل للمحل تصطحب طفلا عمره سنوات قليلة ... قالت ألم تعرفه ؟؟؟
إنه دليل إبن بنت عمّك فلان ... 280 مليون سؤال في نفس الوقت ... أين كنت ؟؟؟ متى رجعت ؟؟؟ لم تكبر ؟؟؟ كما أنت ؟؟ تعزيني في أبي ؟؟؟ تسال عن أحوالي ؟؟؟ لم أجبها ولم اعرفها ؟؟
عاتبتني كيف لم أعرفها ؟؟؟ ثم عرّفت بنفسها ؟؟؟ جاهدت لتذكرها ؟؟؟ تركتها طفلة ... كنت أضعها على حجري وأوصلها المدرسة على دراجة جدي ... أخبرتني أنها تزوّجت وهذا إبنها الثاني ...
بدأ مفعول الزمن يصدمني ... التاجر وضع في يدي ورقة عشرين دينار وقال أن أمر عليه مساءا كي يغيّر لي العملة ... إنصرفت شاكرا لكرمه واعدا السيدة بزيارة ؟؟ أصلا أنا نسيت بيت والدها ... كيف سأعرف بيت زوجها الذي لا أعرفه ؟؟؟
خرطوم يرش ماء أما باب مقهى ... دخلت ... قهوة سوداء وقارورة ماء وضعها النادل أمامي ... وجهه يعكس عدم إرتياحه من وجود غريب في الفجر ...
غربتي زادت في كل وجوه الوافدين على المقهى .... مرارة الغربة في وطني ... الشيء الوحيد الذي يكسر إغترابي هو كثرة الهمس حول شخصيتي ... كل ما في البلد تغيّر إلا تلك العادة ...
يئست من وجوه القادمين ... لم أجد أحدا أعرفه ... وقفا انتظر الباقي من يد النادل... لهيب صفعة قويّة تحرق رقبتي ... لم انتظر صوته وهو يقول للنادل أن الحساب عنده ... قياس يده على رقبتي أعلمني بشخصيته ... إنه هو صديقي الوحيد في الكون ...
حضن طويل أغرقت فيه قميصه بالدموع ... حضنني وهو يمسح وجهي ... صوته يلعلع داخل المقهى ... المشاريب كلها على حسابه ... نخب عودة "عشيره " ...
250 يدا صافحت و ألف وجنة قبّلت لم أعرف منهم أحدا ... مرتبك ومكسور... أحس بي صديقي ... العشرة تبقى رغم كل شيء ... سحبني من يدي لسيّارته ... أوصى النادل بالعناية بدراجتي حتى العودة ...
جال بي المنطقة ... لم اهتمّ لشرحه عن تغيٍّر الوضع ... كنت فقط أريد أن أبكي ... على حافة البحر شكوته همي وما جرى لي ...
العشرة لا تهون ... ذهبنا أولا للبيت ... التيار الكهربائي مقطوع لعدم سداد الفاتورة ... دفعها هو ونحن بالمدينة ... أكياس كثيرة من المشتريات الأساسية ... نصفها لي ونصفها لزوم وليمة نخب عودتي ...
المفروض أن اشعر تجاهه بالإمتنان ... لكن صدري ضاق ... الكل صار يقدّره ... الناس تسبقه بالسلام بل وتتسابق للسلام عليه ...
جلسنا بمقهى فخمة ... أخبرني أنه إرتقى في رتبته ... صار ملازم أوّل .. تزوّج وله 3 أطفال ... مركب في الميناء يدرّ عليه أرباحا ... ضحكت من منظره لما خلع قبعة كانت تستر صلعته البيضاء .. نصف أسنانه ذهبت ...
قال أني لم أتغيّر ... قلت له أني كنت محفوظا بالثلاجة ... ضحك من لم يفهمني ... قصصت عليه كيف إجتزت البحر يوم إلتحاقه بالعسكرية ...
حياتي بفرنسا كانت صعبة ... عليك أن تعمل منذ الفجر للمغيب في أعمال البناء الشاقة لتحقق ما يسد رمقك ... طرائف قليلة عن من كنا نضرب بهم المثل في الصداقة كيف تقاتلوا من أجل سيجارة ...
مجرّد أن يدفع لك ثمن قهوة يعتبر جميلا عليك أن تحمله طول عمرك ... ناهيك عن من ساعدك في السكنى أو العمل ... الغربة تغيّر الأنفس ...
فرنسا لمن كانت وضعيته غير شرعية جحيم ... خالي هو الوحيد الذي ساعدني ... وضعيته أشعرتني بالخجل ... مدلل مثلي هنا هل تتصوّر أن يحتمل الأشغال الشاقة هناك ...
إلتحقت بالعمل الغير مشروع ... سرعان ما ترقيت من صبي أراقب الشرطة لمسؤول عن التزويد .... كنت أحد رجال " البيضاء" ... البيضاء هي المخدرات البيضاء ... الكوكايين أو كما يحلو للبعض تسميتها ... الكوكا ...
النتيجة الطبيعية لهذا العمل هي إحدى الحسنيين .... إما الموت أو السجن ... قال أن نصيبي كان أخف الأضرار ... بكيت وأنا أقول له أن الموت كان أهون ...
راح يهون عليا من مصابي ... بعض من نعرفهم لا يزال عاطلا والأغلب عيشتهم لا ترتقي للحياة ... قال يمازحني أنّه لو أن والده مات وهو راض عنه لكان مصيره أسوء...
كلمته كالرصاصة خرقت قلبي ... دموعي إنهمرت منها... تذكّرت أبي ... هل مات وهو راضي عني ؟؟؟ ....
أراد تغيير الجو .. سألني إن كنت إدخرت قليلا من المال ... ربما يكون رأس مال مشروع يمكن أن يساعدني فيه بمعارفه...
فجأة تذكّرت ... كنت أعطي جزءا من مرابيح المخدّرات لخالي ... المبلغ يفوق العشرة آلاف يورو ... بفرق العملة يمكن أن أكون حققت شيئا في غربتي ...
كالمفزوع طلبت منه أن يوصلني لبيت خالي إن كان يعرفه ... تركته وهو يؤكد عليا أن أتعشى معه ... زوجة خالي ترحب بي كإبن لها ... أصرّت ان أتغذى معهم ... صوت خالي فرحا يصلني عبر الهاتف .... يبارك حريتي وعودتي ...
قال أنه سيرسل جزءا من أمانتي عنده قبل نهاية النهار... الغذاء وساعات نوم في بيت أحسست فيه ببعض دفء الوطن ... راحة جسدية ساعدتني ...
5 آلاف دينار تسلّمتها زوجة خالي من رجل ... قالت أنها طريقة أسرع في التعاملات من البنوك ... خالي يعطي المبلغ في فرنسا لشخص وهي تسحبها من أخيه في تونس في نفس الوقت ...
تحيّل جميل على قوانين الدولتين ... قالت أن خالي سيعود وسط الأسبوع القادم … رفضت أن أبيت عندهم... طفت شوارع المدينة على قدمي ...كم أكره زحمتها ورائحتها .... ذكرياتي فيها كلّها ألم ...
شمس الأصيل تفسّر تزايد الحركة ... خروج الموظفين ... قادتني خطواتي لمنطقة هادئة ... باب المقبرة يدعوني للدخول ... ترحمت على الموتى جميعا ... جلست عند شاهد قبر آبي ... بكيت حتى جف الدم من عيوني ...
تحاورنا تناقشنا ... ماذا كسب كلانا بعنده ... عنادي سببه طيش الشباب... أنت حكيم كنت تستطيع تغيير حياتي ... لم أحاوره وهو حي لم أبك في صدره... حاورت روحه وبكيت شاهده ... نمت متوسدا الأرض بجانب ضريحه ...
في العادة أنا أخاف من ابسط الأشياء... نومي بجانب أبي لأوّل مرّة في حياتي أشعرني بالطمأنينة ... مع أشعة الشمس الأولى... نفضت تراب ليلة سددت فيها كل ديوني معه... قلت ما لم أستطع قوله قبلا...
صدري إنزاحت عنه غمّة ... أحسست كأني تخلّصت من حمل ثقيل ... فطور الصباح بمقهى فخم ... زبائنه كثر... قهوة كبيرة ومجموعة من الحلويات والبيض والعصير ... روحي تغذت بخلاص الدين مع أبي وعروقي تغذّت بإفطاري ...
وقفا أطلب الفاتورة من النادلة... منظري المزري دفعها لإحتقاري ... فتاة في العشرين... تنورة سوداء قصيرة فوق الركبتين ... حذاء أسود وجوارب شفافة... قميص أبيض... فتحت أخر 3 أزار أعلاه ... قطعة قماش سوداء تلف بها وسطها عليها إسم المحلّ ...
رزمة الأوراق الخضراء في يدي أربكتها ... أرادت إرجاع الباقي ... تدحرجت قطع نقدية أرضا ... إنحنت تلتقطها ... صورة فتحة صدرها الأسمر أعادتني للحياة ... فتحة صدر روماني سلبت حياتي و نهود تونسية أعادتها ...
طلبت منها أن تترك الباقي عندها ... رفعت عينيها وهي لا تزال مقرفصة... قالت أن المبلغ كبير ... غمزتها وأنا أنظر لصدرها ... قلت أن هديتها أكبر ...
هممت بالخروج لكنها لحقتني ... طلبت رقم هاتفي... آخر عهدي بالهاتف في تونس هو ذلك الصندوق الأزرق الكبير... نحشر فيه قطعة نقدية ونزعج الناس ... تونس تطوّرت ... كما أن العالقات تطوّرت ...
كتبت رقم هاتفها ووضعته في يدي ... همست في أذني قالت أنها تنهي عملها الثالثة بعد الزوال ... سطح صحراء عطشي تشقق لصوتها الناعم بنسيم عطرها الأخّاذ ...
أحسست بإنتفاخ بين فخذي ... خلت أن تلك العضلة فقدت إحدى مهمتيها ...
قلت لها أن عندي مشاغل لمدة أيام ثم أكلمها ... إنصرفت من أمامي تلبي نداء زبون ... خطوتان تاه نظري في تأرجح مؤخرتها ... إلتفتت وقالت بشفتيها دون صوت ... " في أي وقت "
إن كان خروج الروح صعبا فعودتها أصعب ... اللون الوردي يكسو نظري ... الروح تسترجع الرغبة في الحياة ... كما هو الشارع يسترجع حركيته.... المحلاّت تفتح ... البنات تحتل الشوارع ...
كفراشة ليل يسحبها كل نور نظري يلاحق كل مؤخرة... الشوارع لم تكن هكذا يوم غادرت تونس ... هل نسبة الجمال تزداد ... هل هي الملابس ؟؟؟ ماذا وضعوا لنا في الأكل ؟؟ أم هي كثرة كبتي جعلتني أتخيّل ...
مقبلا على الحياة بنهم ... مزودا بمبلغ محترم ... إشتريت كمية من الملابس ... كنت أجلس في أحد المقاهي أريح رجليا من تعب الطواف ... أطالع صفحات جريدة ... كل صفحات تتحدث عن الإنتخابات ... لم أفهم شيئا ...
أدخن سيجارة وأطالع الإعلانات ... جذبتني صورة إعلان ملوّن ... إمرأة ظهرها عاري و يدان تدلكان ظهرها ... أكرمت سائق التاكسي الذي أوصلني للعنوان بسرعة...
فتاة لم تبلغ العشرين ... تقف وراء مصرف أبيض .. عليها أوراق إشهارية ... عيناها العسليتان ترقص فرحا من قدوم زبون في هذا الوقت المبّكر ... عبارات الترحيب تتطاير من شفتيها العسليتين ... صدرها المدور الصغير يهتز من تحت لباس ابيض خفيف ...
خرجت من وراء المصرف تريد أن تحمل عني الأكياس ... ركبتاها مدورتان تميلان للزرقة ... قصبتا رجلها ضعيفتان ... منظرهما لا يتناسق مع إستدارة فخذيها ...
وضعت أمامي أوراقا عديدة ... أرجعتها لها قلت لها أريد أن أنزع غبار السنين ... أكياسي وأوراقي وأموالي في خزانة... رميت ملابسي القديمة في سلّة المهملات ... ضحكت من فعلي ...
قلت لها أريد أن أولد من جديد ... ملتحفا بفوطة بيضاء في وسطي أتبعها ... روحي تتبع إهتزاز ردفيها ... فتحت بابا ونادت زميلاتها ... خرجت سيدة تجاوزت الأربعين ترحب بي ... أعلمتها الفتاة أن تحسن الإهتمام بي وإنصرفت ...
الجو جميل والروائح عطرة .. شموع معطرة موسيقى هادئة ... رأسي داخل مغطس تغسله قبل القص ... وصوت عذب جميل يرحب بي .. يدان ناعمتان تشاركان في غسل شعري ... كنت أتلهف أن تزاح المنشفة عن وجهي لأتعرّف على صاحبة الصوت الآسر...
ويا ليتها ما فعلت... رغم جمالها لكنها أكبر من صاحبتها سنا ... ليس هذا ما أشتهي ... الجيل الذي نشأ وترعرع في غيابي ... اللحم الطري الغض هو بغية قرمي ...
كبر السن مكروه لكنه يكسب الخبرة ... الحلاقة على يد النساء نوع آخر... لحيتي تنزلق عليها قطرات الماء من نعومتها ... شكل شعري لم أتوقع أن أسرّحه هكذا يوما... قالت إحداهما أن شكلي وسيم وجسدي جذّاب ...
اشارتها التي لم أستقبل ذبذباتها دفعت ثمنها لاحقا ... داخل مغطس ماء حار .... كصوف كبش تدعكني أيديهما وتغطسني ... أعتقد أنهما قشرتا جلدي ... لوني تحوّل للوردي وأنا اخرج من المغطس ...
شبكة العنكبوت تحت إبطي دفعتهما للقرف ... همست السيدة الثانية في أذني قالت أن ذلك ممنوع لكن مقابل 10 دينارات من فوق وعشرين من تحت ستتكفل بأمر تنعيمي ...
موافق على طول ... يدها الخبيرة في ثواني جعلت إبطي أنظف من وجهي ... سحبت الفوطة من وسطي ... زبي تائه وسط غابة شعر ملبّد ... يدها القوية تهزه للأعلى ... كبت العمر تحرّك بحركتها ...
إنتصابي على أشده ... بقوة تسحب زبي للأمام ... موسى الحلاقة والكريمات المزيلة تحصد محصول سنين طويلة من الإهمال ... إنكسرت الرغبة تحت عنف حركاتها ... أي إحتجاج أمام يدي هذه السفاحة يهددني بقطع قضيبي ...
لم ينتهي تعذيبي ... طلاء من الطفل الأخضر يشوي جلدي ... يسحب البرد من المفاصل ... قبل إطلاق سراحي من قبل فرقة أمن الدولة ... حفلة الوداع حشرت داخل بيت الساونا أطبخ فيه بالبخار...
وقفتا تسلماني للفتاة عند الباب ... صدق العندليب في قوله ... لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت ...
قهوة تفوح وسرير وثير وقاروة ماء ... وضعت 50 دينار في يد الفتاة قلت لها أن تحاسب السيدتين ... وتحتفظ بالباقي وتوقظني وقت إغلاق المحل ...
شربة ماء ورحت في غيبوبة نوم ... أحلام لذيذة ... البنات في الشارع تتقافز حولي ... الأثداء تهتز ... المؤخرات تتراقص ...
فتاة الإستقبال في المركز تفتح لباسها ... صدرها العاري وكسها يتكلمان يناديان بإسمي ... نادلة المقهى ترضع شفاهي ... سيدتا الجحيم ... واحدة تشلّ حركتي والأخرى تعصر زبي ... كس فتاة الإستقبال يناديني ... سيد دليل... سيّد دليل ...
قذفت كبتي ... فتحت عيني... البشكير مفتوح ... يد الفتاة تهز كتفي ... زبي يقطر مائه ... عيناها مفتوحتان على آخرهما وفمها يضحك .. قالت أن الساعة السادسة إلا ربع ...
تملكني الخجل القاتل ... فتحت باب غرفة الإستحمام وطلبت مني أن أسرع ... ساعدتني في تحسين هندامي ... وتسريح شعري ...
ملابسي الجديدة وشكلي يوحي أني عائد من الخارج فعلا ... طلبت مني أن أوصلها معي في طريقي... كما يمكننا أن نشرب شيئا للتعارف...
إنسحاب فض لما علمت أني لا أملك سيّارة ...
سيّارة... البارحة كنت أموت جوعا ... لولا أمانة خالي لما فكّرت في المرور أمام باب مركزكم أصلا ... سيارة تاكسي تقودني لوجهتي... متخيّلا تلك الفتاة ورائي على درّاجة جدي...
أنا أصلا لا أملك رخصة قيادة ولا أعرف سواقة السيارات ... واقفا في أوّل نهج بيتنا... خطوات ثقيلة... نحو بابه ... كل شيء تغيّر ... ما كان بيتا البيت أرضيا تحوّل لعمارة ... مجموعة من البيوت بنيت فوقه ... محلاّن وكافيتيريا مكان مرآب السيارة الكبير ...
ضربت الجرس مترددا ... صبية عمرها حوالي 15 سنة تفتح الباب ... هي متعجبة من شكلي وأنا متعجّب منها ... صوت من الداخل يسألها من ؟؟ التعجّب صار دهشة ؟؟؟ سيدة محجبة في الثلاثينات تقف خلفها ؟؟ سألتني من أكون ؟؟ قبل أن أجيب...
ولد وبنت لم يتجاوزا العاشرة يهرولان نحو الباب ... تقف ورائهما سيدة شعرها أحمر مجعّد وتلبس نظارة ... الكل ينظر مستفسرا ... كنت سأتكلم قبل أن يلحق ركب الغرباء امرأة أخرى تلبس شورتا و قميص بحمالات وحافية القدمين ...
هي الوحيدة التي تشجّعت وسألتني من أكون ؟؟؟ .... فكّرت أن إخوتي باعوا البيت ... سألتهم هل أن أمي موجودة ...
أمي من الداخل تسأل من الطارق ؟؟ ... صوتها سحبني بقوة متجاوزا الجميع نحوها... سقطت الأكياس من يدي و بركت أرضا قبل أن انزع بعنف يد واحدة من النساء تمسكني متسائلة " رايح فين ؟؟؟ "
قبلت قدمي أمي ... تركت عجلات كرسيّها المتحرّك ... يداها رفعتني نحو صدرها ... شعرها صار أبيض ووجها الجميل تجعّد ... عانقتني وأغمي عليها ... بحر من القبل والأحضان إسترجعت فيها أوراق جنسيتي ...
تجمع الجميع حولي ... سلام بارد بيني وبين إخوتي ... المتدينة زوجة الأوسط ... والصهباء زوجة الأصغر و العارية زوجة الكبير ....
الوحيدة التي غمرني شعور دافئ نحوها كانت بنت الأوسط ... إسمها دليلة ... ربما إسمها هو السبب ... قالت أمس أنّ أبي أصّر على تسميتها ...
طلبت من الجميع الإنسحاب أريد أن اشبع من أمي ... عشاء بين يديها أشبع جوعي .... رغم نومي طيلة النهار بالمركز ... نمت نوما عميق في حضن أمي ...
هذه أول مرّة أذكر فيها أني نمت في حضنها ... هي السبب لو لم توافق أن تهدني لوالدها ربما لكنت فردا في هذه العائلة الناجحة ...
كبت كلاما كثيرا كنت أدين لها به... أصلا كنت أتدرّب على قوله في زنزانتي لسنين طويلة... تلاشى أمام وضعيتها الصحيّة ...
طالبت بمفاتيح بيت جدي ... وطلبت منها عدم التدخّل بيني وبين إخوتي وأن تبقى على الحياد ... وإلا فالكل أعداءي... ودعتني بدموع المشتاقة ....
قبل خروجي ... صعدت للأدوار العليا دخلت كل البيوت دون إستئذان ... زوجة الأكبر حاولت مناكشتي ... أجبتها أن المحاكم بيننا ؟؟؟ كيف تتصرفون في ورثي من أبي دون إذني ؟؟؟
هذا ما رسمت خططه على أرضية زنزانة لسنين طويلة ...
زعزعت إستقرارهم ... هدمت عروش راحتهم ... المنتقم عاد من جديد ...
ما بعد الغربة ... (الدليل)
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الأول
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الثاني
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الثالث
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الرابع
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الخامس
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء السادس
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء السابع
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء الثامن
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء التاسع
- ما بعد الغربة ... (الدليل) - الجزء العاشر