اغتراب اجتماعي
الاغتراب الاجتماعي (بالإنجليزية: Social alienation) هو حالة في العلاقات الاجتماعية تنعكس حسب درجة التفاعل أو التكامل الاجتماعي، والقيم، والأخلاق ودرجة المسافة أو العزلة الاجتماعية بين الأفراد، أو بين الفرد ومجموعة من الناس في مجتمع أو بيئة العمل. فهو مصطلح في علم الإجتماع وضع من قبل العديد من المنظرين الكلاسيكيين والمعاصرين، فهو مصطلح له العديد من الاستخدامات والضوابط المحددة.
التأصيل اللغوي
الكلمة اللاتينية alienatio والفعل alienare (وكذلك الكلمة abalienare والاسم abalienatio) معناهما: المبادلة، البيع، المتنازل للغير، انتقال الملكية من شخص إلى آخر؛ - الانفصال، الابتعاد-؛ فقدان العقل، الهذيان. والفعل alienare معناه: يبيع، يبادل، يتنازل عن، ينقل ملكية من شخص إلى آخر؛ - يبعد؛ - يغير، يفيد؛ - يضلل.
وقد استخدم الفعل alienare لترجمة كلمة ἀπαλλοτριόω اليونانية أينما وردت في الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وتدل هناك على «ابتعاد الوثنيين عن الله» وكونهم في جهل وضلالة.
وقد استعمل أرسطو كلمة άχχοτρως بمعنى: المبعد من التعامل وممارسة الحقوق في المدينة (كتاب «السياسة» م٢ ف8 ص١٢٦٨ أس ٤٠). ويستخدم الكلمة άπαλλοτριωσις ("الخطابة" ص1361 أ س 22) بالمعنى القانوني. استعمل شيشرون (Cicero. Top. 25) الكلمة اللاتينية Abalienatio.
وقد بدأت الكلمات المناظرة لها في اللغات الأوربية الحديثة: alienation (في الانجليزية)، alienation (في الفرنسية)، alienazione (في الإيطالية) - بهذا المعنى القانوني أي البيع، التنازل للغير عما يملكه المرء، المبادلة.
وفي اللغة الألمانية نجد الكلمة Entfremdung في اللغة الألمانية العالية الوسطى، وعند السيد اكهرت (١٢٦٠-١٣٢٨)؛ ونجد لوثر في ترجمته للانجيل سنة ١٥٤٥ يستخدم الفعل entfremden لترجمة الكلمة اللاتينية abalienare بمعنى الابتعاد عن الله. أما الاستعمال الفلسفي في اللغة الألمانية لكلمة Entfremduding فنجده لأول مرة عند نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر: إذ استعمله فلهلم فون هومبولت سنة ١٧٩٣، واستعمله هيجل في كتابه "ظاهريات العقل" (ستة١٨٠٧).
تاريخه
وقد استخدم مصطلح "الاغتراب" على مر العصور بمعاني متنوعة ومتناقضة في بعض الأحيان. في التاريخ القديم يمكن أن يعني الإحساس الميتافيزيقي بتحقيق حالة أعلى من التأمل. وقد تم تتبع الأمثلة على هذا الاستخدام إلى الفلاسفة النيوبلاتونيين مثل بلوتينوس (في اليونانية ألويوسيس). هناك أيضا مفاهيم دينية طويلة من الانفصال أو البعد عن الله والإيمان. العهد الجديد يذكر مصطلح أبالوتريوماي باللغة اليونانية - «كونها غريبة عن». وقد وصفت أيضا أفكار الغرور في العصر الذهبي، أو ما يعادلها تقريبا في [الثقافات] [أو الأديان، ومفاهيم الاغتراب. ويظهر الشعور الإيجابي والسلبي المزدوج للاغتراب على نطاق واسع في المعتقدات الروحية المشار إليها باسم (الغنوصية).
الاغتراب عند رجال الدين واللاهوت
وهنا نجده أولاً عند الغنوصيين في مجموع الكتب المنسوبة إلى هرمس Corpus hermeticum في القرون الأول قبل الميلاد والأول والثاني بعد الميلاد بمعنى «تخلص النفس (البنويما) من حياة الضلال والخداع؛ وبفضل الاغتراب يتهيأ المرء للخلاص وسلوك طريق النجاة والميلاد من جديد».
لكن عند اللاهوتيين المسيحيين في القرن الثالث نجد استعمالاً مضاداً للاستعمال الذي أتينا على ذكره. إذ يستعمله كوبريانوس (حوالي سنة ٢٥٠م) للدلالة على العابد الذي لا يزال متعلقا بالأمور الدنيوية، ولا يزال بالتالي «مبعداً» عن مخاطبة الله وعن الأفكار الإلهية. ويستعمله اثناسيوس بمعى الانحلال من رابطة العقيدة المسيحية الصحيحة وعقيدة الكنيسة.
ويستخدم أوغسطين (٣٥٤- ٤٣٠) التعبيرات abalienatio alienatio abalienare alienare لدفع الآراء الى لا تستند إلى العقيدة المسيحية في دعاواها الخاصة بالمعرفة الكونية والنشورية والخلاصية واللاهوتية، مثل آراء الدوناتيين في التعميد اللاحق، ورأي المانوية في وجود إله لنسر، ورأي الأريوسيين في التثليث.
بيد أننا نجد بعد ذلك بزمان طويل عند جويجو فون كاستل (١٠٨٨- ١١٣٧) استعمالا للاغتراب قريباً من استعمال الغنوصيين، إذ يستخدمه للدلالة على تخلص من يعبد اله من علائق الدنيا بواسطة الخدمة والتجلي والوجد . وفي نفس الاتجاه نجد هوجودي سان فكتور (١٠٩٦-١١٤٠). وريشاردي سان فكتور (المتوفى سنة ١١٧٣) يستعملان كلمة «الاغتراب» للدلالة على الدرجة العليا من الدرجات الثلاث للتأمل: بوصفها انتصاراً على العقبات الحسية وانفتاحاً على التجارب البعيدة عن الروح الانسانية، إنها هبة من مواهب اللطف الإلهي.
بيد أن القديس توما الأكويني (١٢٢٥- ١٢٧٤) يستعمل الكلمة alienatio بمعان مختلفة. فهو يعتبر الاغتراب أحياناً اختلالاً روحياً مرضياً، لكنه في أحيان أخرى يستعملها للدلالة على حالة الانفكاك من الحواس والأغراض الخاصة.
الاغتراب عند الفلاسفة
قلنا إن المقابل اليوناني للاغتراب يستعمله أرسطو بالمعنى القانوني والاقتصادي أي: المبادلة، نقل الملكية، البيع .
وفي القرن الثامن عشر نجد روسو يستعمل كلمة aliénation مراراً عدة في كتابه: «في العقد الاجتماعي» أولاً بمعنى «يعطي أويبيع» donner ou vendre وذلك في نقده لهوجو جروتيوس فيما يتعلق بعقد المبادلة بين حرية الأفراد والمصالح التي يحققها الحاكم للمحكومين ( راجع «في العقد الاجتماعي» ١ : ٤ ) يقول روسو، بعد أن ذكر شروط الحياة في مجتمع وما تقتضيه من سلب لحريات أفراده: «ومن البين أن هذه الشروط إذا فهمت على النحو الصحيح فإنها ترجع كلها إلى شرط واحد هوال الاغتراب التام لكل مشارك في هذا المجتمع لكل حقوقه والتنازل عنها للجماعة» («في العقد الاجتماعي»، نشرة بولافون، ص ١٣٩، باريس سنة ١٩٢٢).
وقبل روسو قرر هوبز أن هذا التنازل لا يتم للجماعة، بل للحاكم ذي السيادة. ذلك أن تنازل الأفراد عن حقوقهم للحاكم ذي السيادة هو الشرط الأساسي في العقد الاجتماعي الذي يربط بين الحاكم والمحكومين .
والسبب في هذه الاغتراب، في ميدان السياسة، هو أن «الانسان المتوحش sauvage يعيش في ذاته، بينما الإنسان الاجتماعي - وهو دائماً خارج نفسه - لا يستطيع ان يعيش إلآ في رأي opinion الآخرين» (روسو: «مقال في عدم المساواة»).
نم جاء فلهلم فون همبولت في سنة ١٧٩٣ فأعطى للاغتراب Entfremdung معنى آخر غير المعنى السياسي الذي رآه هوبز وروسو؛ إذ قال إن الاغتراب يحدث نتيجة مايقوم في باطن الانسان من نزاع بين مضمون فكرة الانسانية في شخصه، وبين الموضوعات الخارجة عنه ولما كان جوهر الانسان هو المهم في التربية، فإن الحكمة والفضيلة تقتضيان من الانسان، ألا يفقد ذاته في هذا الاغتراب» لأن فكرة الانسانية تفقد حينئذ مضموغها الأعظم ويكون الاغتراب مصدراً خطيراً لتشتت الذات (راجع W. v. Humboldt: Werke, hg. A. Flitner / Giel, I 235-238)
الاغتراب عند هيجل
لكن فكرة الاغتراب لم تصبح معنى بالغ الدلالة والأهمية إلآ على يد هيجل وكانت عنايته به مبكرة سبقت كتابه «ظاهريات العقل». إذ نجد في نصوص «فلسفة العقل» التي سبقت تحرير «ظاهريات العقل» (سنة ١٨٠٧) ما يدل على هذه العناية. إذ فيها يبحث هيجل في تثقيف الفرد، ويقتبس ما يقوله روسو في كتابه «في العقد الاجتماعي». يقول هيجل: «يتصورون أن تكوين الارادة العامة يتم كما لو كان كل المواطنين قد تجمعوا عن قصد واختيار، وكما لو كان مجموع الأصوات قد صنع الإرادة العامة» (مؤلفات هيجل، نشرة لسون وهوفمسيتر ج20 ط2 ص245). لكن ما حدث في التاريخ لم يتم على هذه الصورة المبسطة، بل على العكس تماماً: بدت الإرادة العامة للفرد كشيء مضاد للفرد وللذات الفردية، أو في القليل كشيء أجنبي عنه. والحق أن الارادة العامة هي ما سيصير إليه الفرد، إذا ما ارتفع من الجزئي - الذي هو ذاته - إلى الكلي، وذلك «بفضل إنكاره لذاته»، أي بالتنازل عن فردانيته في سبيل كلية الارادة العامة للمجتمع المدني. «وعلى الارادة العامة ان تتكون أولاً ابتداء من إرادة الأفراد وأن تكون ذاتها بوصفها عامة، حيث تبدو الإرادة الفردية هي المبدأ والعنصر، بينما الإرادة العامة هى الحدّ الأول والماهية». إن الارادة العامة هى جوهر الأفراد، بيد ان هذا الجوهر يبدو لهم غريباً عنهم، وأمراً ينبغى أن يصيروا إليه بواسطة الحضارة؛ مثلما أن الطفل يرى في أبويه جوهره الذي يبدو له مع ذلك خارجاً عنه. وهذا الانفصال بين الكلي والذات المفردة هو المميز لتطور العقل؛ وعلينا ان نتتبع الحركة التي بفضلها يتحقق الجوهر - وكان في البدء تصوراً مباشراً - بواسطة نمو الشعور الذاتي وتطوره، وما يجري أثناء هذا التطور من اغتراب.
وفي «ظاهريات العقل» يتناول هيجل لحظات الاغتراب في التاريخ، لكنه يركز بصفة خاصة على عصره، عصر التنوير Aufklärung في القرن الثامن عشر. لقد تجلى الاغتراب منذ زوال المدينة اليونانية التي كانت في الوقت نفسه دولة مستقلة قائمة برأسها، فيها كان المواطن يتصور العلاقة بينه وبين المدينة على أنها علاقة هوية identité. أما بعد انهيار «المدينة - الدولة» اليونانية، فقد صار المجتمع غريباً وأجنبياً عن المواطن في الدولة. وكان على المواطن في الدولة الأمة أن يسعى إلى إيجاد هوية بينه وبين الدولة والمجتمع، لكن كان عليه في سبيل ذلك أن يتخلى عن حريته وفرديته وذاتيته. وذلك هو الاغتراب. فجوهر الاغتراب يقوم في شعور الذات الفردية بأن حياتها تقوم خارج ذاتها، وذلك في المجتمع والدولة .
بيد ان هذا الاغتراب مرحلة ضرورية على الطريق إلى تحقيق العقل (أو الروح) لذاته؛ وهو لهذا مزيج من الواقعي والوهمي. ذلك أن الفرد يشعر بأنه يعتمد على شيء خارجه واعظم منه هو الجماعة والدولة؛ لكن عليه في الوقت نفسه ان يشعر بذاتيته الخاصة. والموقف الأساسي للشعور بالاغتراب هو حين يشعر الناس بأن جوهرهم يقوم في شيء خارج عنهم، وبالتالي يشعرون انهم لا يستطيعون تحقيق ذواتهم إلا بالتغلب على خصائصهم الذاية ابتغاء التوافق مع تلك الحقيقة الخارجة عنهم، أعني المجتمع أو الدولة. والشعور بهذا الاغتراب حاضر سواء لدى من يذعن لهذه الحقيقة الخارجية عن طيب خاطر، ومن ينفر منها ويشيح بوجهه عنها. وهيجل ينعت الشعور الأول بأنه نبيل iedelmutig والشعور الثاني بأنه خسيس niederträchtig.
ويرى هيجل أن «التنوير» Aufklärung يمثل بداية النهاية للاغتراب من حيث أن الحقائق التي يتوجه إليها تقوي الشعور بالاغتراب ويسعى إلى التوافق معها - تتحدد وتتقلص. فالدافع الخارجي يصير موضوعياً، خالياً من المعنى الروحي وينظر إليه على أنه عالم من الأشياء المادية المحسوسة المسبوطة أمام شعور علمي كلي. والدولة والبنية الدينية لم تعودا حقائق تبث الخوف والقلق، بل مجرد جزء من مادة العالم، وعرضة لفحص الشعور العلمى. ويعود الإنسان من جديد هو الحقيقة المهمة، وتعود الذات مركزاً للأشياء. وكانت النتيجة لهذا الاتجاه أن تميزت نزعة التنوير برأيين: الأول هو إرجاع «المطلق» أو الله إلى مجرد فكرة خاوية عن «موجود أعلى être suprême» لا يوصف باي وصف محدد، لأن كل العالم الواقعي أصبح ينظر إليه على أنه مادي ومحسوس، وكل وصف مفهوم ينبغي أن يستمد من هذا الواقع المادي المحسوس. ومن ثم لم يعد من الممكن وصف الله بانه «أب» أو «خالق»، «فعال» إلخ. ومن هنا كان الطابع السائد في تدين أصحاب نزعة التنوير هو التأليهية المجردة deisme التي تقول بوجود موجود أعلى لا نستطيع وصفه بأي وصف. والرأي الثاني هو القول بالمنفعة، أي أن يكون كل شيء نافعاً لغيره. وهذا الرأي مستمد من ماهية التنوير، بوصفه ينظر إلى العالم على أنه عالم مادي محسوس مؤلف من أشياء مادية لا مدلول لها أكثر من ذلك. وقيمة الأشياء المادية هي في المنفعة التي تؤديها أو تحققها، وليس لها معنى وراء ذلك.
وقد أصابت نزعة التنوير - هكذا يرى هيجل - في أنها وضعت دعاوى الملكية والكنيسة في حدودها الصحيحة، وفي اعتبارها الذاتية العقلية هي السائدة. لكنها أخطأت في قصرها الذاتية على الذاتية الانسانية، وعدم إدراكها لمكانة الروح الكلية أو الكونية التي هي المعنى الأعلى للذاتية الانسانية، وهي العقل في التاريخ والروح المطلقة التي تنمو وتتطور على مدى التاريخ فيما ينشئه الإنسان من علوم وحضارات.
إن رفع ( القضاء على) الاغتراب يتم عند هيجل في عملية التاريخ انطلاقاً من القضاء على الاخلاق القديمة (اليونانية الرومانية) مروراً بالإقرار بالشخصية الانسانية عند المسيحية ومروراً بالمجتمع البورجوازي الذي يقر بحقوق الانسان .
أما ما يعرف باليسار الهيجلي فقد اهتم بالاغتراب في ميدان الروح الموضوعية، وفي الاقتصاد بخاصة، ناقداً اقتصار هيجل على العناية بااغتراب في ميدان الروح الذاتية. ومن بين هؤلاء A. V. Ciezkowski ( ١٨١٤-١٨٩٤) الذي نقد موقف هيجل من الاغتراب لأنه صرف النظر عما هو عيني واقعي متحقق في واقع الحياة. ومنهم خصوصاً لودفج فويرباخ Ludwig Feuerbach (١٨٠٤-١٨٧٢) الذي رأى أن الاغتراب يقوم في الفصل بين التفكير المنطقي وبين ماهية الانسان، وفي النظر إلى حقيقة الانسان على أنها ذات أصل فوق طبيعي، وهو ما يتجلى في الدين (المسيحي واليهودي). ومن هنا رأى فويرباخ أن الاغتراب يقوم أساساً لإفقار معنى الإنسان لصالح إغناء معنى الإلوهية.
لكن هذا النقد غير منصف، لأن هيجل عني بالاغتراب في ميدان الاقتصاد، واهتم خصوصا بما يسببه «العمل» من اغتراب. إن العمل يجعل كل فرد يعتمد على فرد آخر؛ وبهذا لا يعمل الفرد لنفسه، بل للآخرين. وعن هذا الموقف ينجم انفصال - اغتراب - بين الفرد وما يؤديه من عمل. ولهذا فإن العمل الجماعي يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب. يقول هيجل «إن الانسان على هذا النحو يشبع احتياجاته، لكن ذلك لا يتم من خلال الموضوع الذي يعمله؛ إنه باشباعه لاحتياجاته، يصير غيراً ، شيئاً آخر. فلا يعود الانسان ينتج ما يحتاج إليه، ولا يعود يحتاج إلى ما ينتجه. وبدلاً من ذلك، فإن التحقيق الفعلي لاشباع احتياجاته يصبح فقط إمكان هذ الاشباع. إن عمله يصبح عاماً، شكلياً، مجرداً، مفرداً، وهو يجد نفسه في واحدة من حاجاته، ويستبدلها بسائر حاجياته» Hegel: Real- Philosophie, I, 237-8) وهكذا يؤدي اعتماد الإنسان على الإنسان، وإن حقق طبيعة الإنسان الكلية، فإنه في الوقت نفسه يخلق سلطة فوق الإنسان تنمو إلى خارج نطاق سيطرته «إنه لا يوجد إنسان هو بالنسبة إلى نفسه مجموع حاجاته، وعمله، أو أية وسيلة لقدرته من اجل اشباع حاجاته، لا تشبعها. بل الذي يشبعها إنما هو قوة أجنبية عنه eine fremde Macht لا سلطان له عليها، وعليها يتوقف ما إذا كان الفائض، الذي يملكه، يكون له مجموع ما يشبع حاجاته» (Schriften zur Politik, p. 492).
وكلما تقسم العمل وتنوع، ازداد بعداً عن الاشباع المباشر للمنتجين وهكذا يحقق الإنسان المزيد من العمل مع المزيد من التجريد والاغتراب في أثناء عملية الإنتاج نفسها. «إن عمله وما يملكه ليسا ما هما بالنسبة إليه، بل ما هما بالنسبة إلى الكل. إن اشباع الاحتياجات اعتماد كلي من الكل على الكل؛ وهنالك يزول الأمان لكل واحد، ويتبدد علمه بأن عمله ملائم مباشرة لحاجاته الخاصة؛ لقد صارت حاجته الخاصة امراً كلياً» (Realphilosophie, I, 238)
ويزيد هيجل في تحليل «العمل» بعمق وارهاف ذهن عملي واقعي فيقول: «إن تخصص العمل يكثر كمية الإنتاج: إن في المصنع الانجليزي يعمل ١٨ شخصاً في إنتاج إبرة واحدة؛ ولكل واحد منهم جزء خاص من العمل يؤديه، ومن المحتمل أن الشخص الواحد لا يستطيع ان يصنع 12 إبرة، بل ولا إبرة واحدة. . . بيد أن قيمة العمل تتناقص بنفس النسبة التي بها تتزايد إنتاجية العمل. وهكذا يصير العمل أكثر موتاً، إنه يصبح عمل آلة، ومهارة الفرد الخاصة تصبح محدودة إلى أقصى درجة؛ وينحط شعور عامل في المصنع إلى أدنى مستويات العباوة. والرابطة بين الطابع الخاص للعمل وبين الكمية اللامتناهية للاحتياجات تصير غير مرئية تماماً، وتتحول إلى اعتماد أعمى. » (239 ,Realphilosophie).
ويمضي هيجل في بيان ازدياد الاغتراب بازدياد الاعتماد على الألات في الانتاج .لكن هذا لا يدعوه إلى الوقوف في صف المهاجمين لادخال الآلات في الصناعة، ولا في صف الطرف المضاد الذي يمجد الآلة ويطالب بالمزيد من الآلية. إنه يرى في الآلة والآلية عنصراً لا بد منه لتكوين المجتمع الحديث، لأن هذا يتطور في اتجاه تزايد الحاجات، وبالتالي تزايد الإنتاج وتنويعه .
وحسبنا هذا القدر لبيان الاغتراب في نظرية العمل عند هيجل.
ماركس
وهذا التحليل اخذه كارل ماركس عن هيجل دون أن يضيف شيئاً من عنده كما هو ظاهر من «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية» التي كتبها ماركس في سنة ١٨٤٤ وظلت غير منشورة حتى نشرت لأول مرة سنة ١٩٣٢. وكل ما كتبه ماركس في هذا الباب تكرار مسهب لما قاله هيجل بإحكام وتدقيق والفارق بينهما أن ماركس استخلص بعض النتائج الاقتصادية لنظرية هيجل في العمل. فقال إن عالم الأشياء المنتجة يكتسب قوة مستقلة، تجاه من أنتجوها، وفي هذا يتضح طابع الاغتراب في النشاط الانتاجي، فيصبح المنتجون (العمال) مجرد وسائل لاشباع حاجات خارج ذواتهم؛ ولما كانوا هم وما انتجوه ينتسبون إلى غيرهم، فإن نشاطهم لن يكون نشاطاً ذاتياً أي خاصاً بهم، والعمل ذو الأجر يجدث اغتراب بين العامل وبين مضمون ومصير نشاطه. ومن الاغتراب في العمل ينشأ بالتكرار الاغتراب العام في الاقتصاد التبادلي: فيحدث اغتراب بين العمل ورأس المال والأرض، كما يحدث اغتراب بين العمل والأجر، ورأس المال، والربح، والفائدة والربح العقاري. وفي العلاقات الاجتماعية يتجلى الاغتراب في الأمور التالية: في أنانية المتنافسين، وفي تقويم الانسان بحسب ما يملك من عقار أو أموال منقولة، وفي التنازع بين الرأسماليين والعمال. وهكذا فإن الاغتراب الناجم عن العمل يؤدي إلى «الاغتراب بين الانسان والانسان». وفي هذا التحليل - المنقول كله عن هيجل - للعمل الذي أصيب بالاغتراب يلخص كارل ماركس ويؤسس نقده لنظام الدولة البورجوازية، وللدين ولانثرويولوجيا الهيجليين الشباب، ثم رأيه في إلغاء الملكية الخاصة ودعوته إلى الشيوعية وهو يحدد الشيوعية بأنها الغاء (رفع) للاغتراب (راجع «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية» لماركس، ص ٥١- ٥٣٦) .
وبعد هذه «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية» (سنة ١٨٤٤) لم يتناول كارل ماركس مسألة الاغتراب إلا نادراً وبمناسبة بعض الإيضاحات أو الجدل مع الهيجلبين اليساريين، كما نجد ذلك في كتبه التالية (وحده أو مع زميله إنجلز): «العائلة المقدسة» (سنة ١٨٤٥)، «قضايا عن فويرباخ» ( سنة ١٨٤٥ )، «الاديولوجيا الألمانية».
لكن كارل ماركس يتخلى عن فكرة الاغتراب في العمل حين يكتب كتابه الرئيسي: «رأس المال» لأنه لم يعد ينظر إلى العمل كناتج فردي، بل كناتج جماعي، ومن هنا أصبح ينظر إلى العمل على أنه «وَحْدة اجتماعية» . وحين يتحدث في فإنه كتاب «رأس المال» عن «التحارج» Veräusserlichung لا يعني به الاغتراب الذي عرضه من قبل في «مخطوطات» سنة ١٨٤٤ .
كان ماركس في البداية ضمن معسكر الهيغلي الشاب ورفض، شأنه شأن فيورباخ، الأساس الروحي، وتمكن من تكييف نموذج الجدل الخاص بهيغل مع نظرية المادية (التاريخية). ذُكرت نظرية ماركس في الاغتراب بأوضح شكل في المخطوطات الفلسفية والاقتصادية 1844 والأيديولوجيا الألمانية (1846). كتب ماركس «الشاب» عن الاغتراب بصورة متكررة وبشكل مباشر أكثر مما فعل ماركس «الناضج»، الأمر الذي رآه البعض انقطاعًا أيديولوجيًا في حين أكد آخرون أن هذا المفهوم بقي مركزيًا بالنسبة لماركس. يرى البنيويون عمومًا تحولًا من مفهوم (كالاغتراب الداخلي عن الذات) أنثروبولوجي فلسفي (الإنسانية الماركسية) إلى تفسير تاريخي بنيوي (كالاغتراب الخارجي عبر الاستيلاء على العمل) ترافق بتغير في الاصطلاح من الاغتراب إلى الاستغلال وإلى تقديس السلعة والتشيؤ. صُنفت مفاهيم ماركس حول الاغتراب ضمن أربع أنماط من قبل كوستاس أكسيلوس: اغتراب اجتماعي واقتصادي واغتراب سياسي واغتراب إنساني واغتراب أيديولوجي.
يشير المعنى الأبرز للمفهوم إلى جانب الاغتراب الاجتماعي والاقتصادي الذي ينفصل فيه العمال عما ينتجونه وعن أسباب إنتاجهم له. رأى ماركس في الاغتراب نتيجة منهجية للنظام الرأسمالي. من حيث الجوهر، ثمة «استغلال للبشر من قبل البشر» يخلق معه تقسيم العمل هرميةً اقتصادية (أكسيلوس، 1976: 58). استندت نظريته في الاغتراب على ملاحظته أنه في الإنتاج الصناعي الوليد في ظل النظام الرأسمالي يفقد العمال بشكل حتمي سيطرتهم على حيواتهم وأنفسهم بفقدانهم لأي سيطرة على عملهم. لا يصبح العمال قط بشرًا مستقلين يحققون ذواتهم بأي معنى، باستثناء الطريقة التي يريد بها البرجوازي أن يحقق العامل ذاته. تعتمد نظريته على كتاب فيورباخ جوهر المسيحية (1841) الذي يحاجج أن فكرة الله قد غربت صفات الإنسان. وسّع شتيرنر التحليل في كتابه الأنا وذاتها (1844) معلنًا أنه حتى «الإنسانية» هي مثل مغرّب للفرد، واستوجب الكتاب ردًا من ماركس وإنغلز في الأيديولوجية الألمانية (1845). يحدث الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية لأن كل فرد يساهم في عمله في الثروة المشتركة لكنه لا يستطيع التعبير عن هذا الجانب الفرداني الاجتماعي بشكل جذري سوى عبر نظام إنتاج ليس اشتراكيًا علنًا بل مملوك بشكل فردي، يقوم ضمنه كل فرد بدور آلة لا بدور كائن اجتماعي. يلخص كوستاس أكسيلوس أنه بالنسبة إلى ماركس، في ظل النظام الرأسمالي «يجعل العمل من الإنسان مغتربًا عن نفسه وعن منتجاته». «يعني الشعور بالضيق الناتج عن هذا الاغتراب عن الذات أن العامل لا يؤكد ذاته بل ينكرها، ولا يشعر بالرضى بل بالتعاسة.... لا يشعر العامل بنفسه سوى خارج العمل، وفي عمله يشعر باغتراب عن ذاته... وصفته الاغترابية تظهر بوضوح في حقيقة أنه بمجرد عدم وجود إكراه جسدي أو أي إكراه آخر، فيجري تجنبه كالطاعون». كتب ماركس أيضًا، بشكل مختصر، أن الملاك الرأسماليين يختبرون أيضًا الاغتراب من خلال الاستفادة من الآلة الاقتصادية عبر منافسة لا نهاية لها واستغلال الآخرين والإبقاء على الاغتراب الجمعي في المجتمع.
تشير فكرة الاغتراب السياسي إلى فكرة أن «السياسة هي الصيغة التي تنظم القوى المنتجة للاقتصاد» بطريقة تخلق الاغتراب لأنها «تشوه منطق التطور الاقتصادي».
في الاغتراب الإنساني يصبح الأفراد مغتربين عن أنفسهم في صراعهم للبقاء على قيد الحياة، حيث «يخسرون وجودهم الحقيقي في صراعهم لتأمين سبل بالعيش» (أكسيلوس 1976: 111). يركز ماركس على جانبين من الطبيعة البشرية يسميهما «الشروط التاريخية». يشير الجانب الأول إلى ضرورة الغذاء والملبس والمأوى وما إلى ذلك. ثانيًا، يرى ماركس أنه بعد تلبية هذه الحاجات الرئيسية، يميل الناس إلى خلق المزيد من «الحاجات» أو الرغبات التي سيعملون على إشباعها، وهكذا يصبح البشر عالقين في دائرة مغلقة من الرغبات مما يجعلهم مغتربين عن بعضهم بعضًا.
عند الإشارة إلى الاغتراب الأيديولوجي، يقول أكسيلوس أن ماركس كان يرى أن الأديان جميعها تبعد البشر عن «سعادتهم الحقيقية» وتوجههم عوضًا عن ذلك نحو «سعادة وهمية».
ثمة مشكلة شائعة في الترجمة في التعامل مع أفكار الاغتراب المشتقة من نصوص فلسفية كتبت باللغة الألمانية: كلمة اغتراب وكلمات مماثلة مثل تغريب، تستخدم عادة بشكل متبادل لترجمة كلمتين ألمانيتين مختلفتين، إنتفرمدونغ Entfremdung وإنتاوبيرونغ Entauberung. الكلمة الأولى تعني بالتحديد اغترابًا شخصيًا، في حين قد تشتمل الكلمة الثانية على معنى أوسع وأكثر نشاطًا بأنها قد تشير أيضًا إلى التجسم أو التنازل أو بيع (الاغتراب) الملكية. إجمالًا وخلافًا لأسلافه، ربما استخدم ماركس المصطلحين بشكل متبادل، على الرغم من أنه كتب أن « Entfremdung... يشكل الأثر الحقيقي لهذا Entauberung».
القرن العشرين
كان العديد من علماء الاجتماع في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قلقين بشأن التأثيرات الغريبة للتحديث. كتب علماء الاجتماع الألمان جورج سمل وفرديناند تونيز أعمالاً كثيرة حول الفردية والتحضر. يصف سيمل في فلسفة المال كيف تصبح العلاقات أكثر وأكثر بوساطة المال. ويمكن ملاحظة فكرة الاغتراب هذه في بعض السياقات الأخرى، على الرغم من أن المصطلح قد لا يستخدم على نحو متكرر. وفي سياق علاقات الفرد داخل المجتمع، يمكن أن يعني الاغتراب عدم استجابة المجتمع ككل لفردية كل فرد من أعضاء المجتمع. وعندما تتخذ القرارات الجماعية، يكون من المستحيل عادة مراعاة الاحتياجات الفريدة لكل شخص.
انعدام القوة والسلطة
وقد تم تعريف الاغتراب بمعنى عدم وجود السلطة من الناحية الفنية من قبل سيمان على أنه «توقع أو احتمال من قبل الفرد أنه عن طريق سلوكه لا يمكن تحديد وقوع النتائج». ويدعي سيمان أن هذا هو «مفهوم الاغتراب لأنه نشأ من وجهة النظر الماركسية لحالة العامل في المجتمع الرأسمالي: فالعامل مغترب لدرجة أن أصحاب الامتيازات ووسائل اتخاذ القرار مصادرة من قبل أصحاب المشاريع الحاكمة».
الاغتراب السياسي
ويمكن أن يكون أحد مظاهر وأبعاد الاغتراب المذكورة أعلاه هو الشعور بالخروج عن النظام السياسي وعدم المشاركة فيه. ويمكن أن ينتج عن هذا الاغتراب السياسي عدم تحديد أي حزب أو رسالة سياسية معينة، ويمكن أن يؤدي إلى ثورة، أو الامتناع عن العملية السياسية، ربما بسبب عدم مبالاة الناخبين.
العجز
يمكن أن تكون الاختلافات بين الأشخاص ذوي الإعاقة والأفراد ذوي القدرات النسبية سببا للاغتراب. دراسة واحدة، «الاغتراب الاجتماعي وتحديد الأقران: دراسة البناء الاجتماعي للصمم»، وجدت أنه قد ظهر بين الصم البالغين قضية واحدة باستمرار في جميع فئات التجربة وهي: الرفض الاجتماعي من قبل، والاغتراب من، مجتمع السمع أكبر. فقط عندما وصف المشاركون التفاعل مع الصم موضوع العزلة تفسح المجال للتعليقات حول المشاركة والتفاعل. ويبدو أن هذا يرتبط باحتياجات محددة، على سبيل المثال للمحادثة الحقيقية، للحصول على المعلومات، وفرصة لتطوير صداقات وثيقة والشعور بالأسرة.
الاغتراب وعلم الاجتماع
يصف هذا المفهوم فى أكثر معانيه عمومية إحساس الأفراد بالغربة عن بعضهم البعض، أو عن موقف أو عملية معينة. وهو مفهوم ذو أهمية مركزية فى كتابات كارل ماركس، ويقترن عادة بعلم الاجتماع الماركسى. ولهذا الموضوع أبعاد فلسفية وسوسيولوجية وسيكولوجية (وقد تم استعراض هذه الأبعاد فى أفضل صورة فى مؤلف ج تورانس "الغربة والاغتراب والاستغلال" الصادر عام ١٩٧٧).
وتقع المناقشة الفلسفية للمصطلح إلى حد كبير خارج نطاق علم الاجتماع (وإن كان الماركسيون قد يذهبون إلى أن مثل هذا النوع من التمييز بين مختلف فروع المعرفة ليس صادقاً). ويذهب البعض أحياناً إلى أن المصادر الرئيسية الثلاث التى أثرت فى فكر ماركس هى: الفلسفة المثالية الألمانية (هيجل وفويرباخ) والاقتصاد السياسى الإنجليزى (أوين وريكاردو وسميث)؛ والاشتراكية المثالية الفرنسية (سان سيمون، وبرودون، وفورييه). ويعد الاغتراب كمفهوم فلسفى أبرز ما أبدعه المصدر الأول من هذه المصادر الثلاث. فقد أمد هيجل ماركس بالأدوات الفلسفية اللازمة لتجاوز الازدواجية الكانطيه بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون، ذلك أن ما هو موجود بالفعل بالنسبة لهيجل، يوجد فى حالة نضال مستمر ليتحول إلى مثالى. إن عبور الفكرة الخالقة للذات؛ ومعرفة الذات عبر التاريخ، ثم اغترابها من خلال تخارجها وتموضعها، وإعادة الاستحواذ عليها بعد ذلك من خلال المعرفة، قد زود فكر ماركس بطابعه الثورى. فبقلبه لجدل هيجل وجعله يقف على رأسه، وتجذيره لأفكاره فى إطار رؤية مادية، ذهب ماركس إلى القول بأن الإنسانية تضيع فى خضم التحولات التاريخية، ولكنها فى ذات الوقت تتخلق وتبعث من جديد مع حلول الشيوعية، التى تمثل عودة الأفراد من جديد وبشكل تام إلى ذواتهم ككائنات اجتماعية.
هذا الفهم الفلسفى والغائى للإغتراب نجده يهيمن على كل كتابات ماركس. إلا أن المناقشات السوسيولوجية للمصطلح ترتبط بقدر أكبر بما ذهب إليه من أن الغربة إنما هى نتاج للبناءات الاجتماعية التى تقهر الناس، وتنكر عليهم جوهرهم الإنسانى. فالاغتراب ظرف موضوعى متأصل فى الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية. وبهذا المعنى، فإن الأهمية المركزية للعمل المغترب هى التى تعبر بأكبر قدر من الوضوح عن مفهوم الاغتراب. فقوة العمل تحدد الإنسانية -وجود الإنسان بما هو إنسان- حيث يفضى إشباع الحاجات إلى تطوير قوىوإمكانات البشر. إلا أن كافة أشكال الإنتاج تؤدي إلى التموضع حيث يصنع المبشر سلعا تجسد مواهبهم الخلاقة، إلا أنها تتعالى على خالقيها وتنفصل عنهم. و الاغتراب هو الشكل المشوه الذى يتخذه تحول الإنسان إلى شئ (موضوع) فى ظل الرأسمالية. ففى ظل الرأسمالية، تنتمى ثمار الإنتاج إلى صاحب العمل الذى ينتزع الفائض المنتج بواسطة الآخرين، وهو بذلك يخلق العمل المغترب. ويعزو ماركس أربع خصائص أساسية إلى هذا النوع من العمل: اغتراب العامل عن جوهر وجوده النوعى ككائن إنسانى وانحداره إلى الوجود المحيوانى. اغتراب العمال عن بعضهم البعض، حيث أن الرأسمالية تختزل العمل إلى سلعة يتم تبادلها فى سوق العمل، بدلا من كونه علاقة اجتماعية. اغتراب العامل عن نتاج العمل، الذى تنتزعه الطبقة الرأسمالية، وبذا يفقد العامل السيطرة عليه. و أخيراً، الاغتراب عن العملية الإنتاجية فى حد ذاتها، إلى الحد الذى يصبح العمل معه نشاطاغيرذى معنى، لا يزود العامل إلا بقدر ضئيل (قد ينعدم تماما أحيانا) منالرضا الداخلى. ويولد هذا الملمح الأخير مناقشات سيكولوجية حول الاغتراب باعتباره حالة ذهنية قابلة للتحديد ذاتياً تنطوى على مشاعر العجز والعزلة، وعدم الرضا فى العمل، وخاصة عندمايتم هذا فى إطار تنظيمات اجتماعية بيروقراطية كبيرة الحجم وذات طابع لا شخصى.
ومن المستحيل أن نعزل أفكار ماركس حول الاغتراب عن مناقشته السوسيولوجية الأشمل لتقسيم العمل، وتطور علاقات الملكية الخاصة، وبزوغ الطبقات المتصارعة. فالاغتراب فى اللغة الاصطلاحية الماركسية، حالة يمكن التحقق منها موضوعيا، تكون متأصلة فى العلاقات الاجتماعية النوعية للإنتاج الرأسمالى. ومع ذلك، فقد مال الباحثون فيما بعد إلى إهمال هذه الاعتبارات البنائية، وحاولوا عوضا عن ذلك أن يعرفوا المفهوم إجرائياً فى ضوء عدد من الخصائص المعرفية والاتجاهية المحددة. فقد ذهب ميلفن سيمان فى مقاله المعنون "حول معنى الاغتراب" المنشور عام 1959، إلى القول بأن الحالة النفسية للإغتراب تشتمل على أبعاد: فقدان القوة، وفقدان المعنى، والعزلة، واللامعيارية، والغربة عن الذات. وقد حاول روبرت بلونر فى دراسة شهيرة للعمال الصناعيين أن يربط ما بين هذه الأبعاد الذاتية للاغتراب وأنماط معينة من مواقف العمل، ذاهبا فى ذلك إلى الادعاء بأن التكنولوجيات المرتبطة بالحرف واستخدام الآلات وخطوط التجميع والانتاج ذى العمليات المستمرة يوضح وجود علاقة ارتباط تتخذ شكلا منحنيا مع الاغتراب. ويقصد بهذا "أنه فى المراحل المبكرة التى هيمنت عليها المصناعات الحرفية، كان الاغتراب ببن العمال فى أدنى مستوياته، وكانوا يتمتعون بأقصى درجات الحرية. وتتدهور الحرية، فى حين يتصاعد منحنى الاغتراب بشكل حاد فى ظل الصناعات الآلية. ويستمر منحنى الاغتراب فى اتجاهه التصاعدى ليصل إلى ذروته فى ظل الصناعات التى تعتمد على خطوط التجميع فى القرن العشرين.... وفى ظل هذا الموقف المتطرف، يقوم العامل الفاقد لشخصيته والمغترب عن ذاته وعن الكيانات الأخرى الأكبر بأداء الحركات المطلوبة لأداء العمل فى ظل المناخ الصارم للسيور النقالة لمغرض وحيد هو كسب العيش. ودخلنا مرحلة جديدة فى ظل الصناعات ذاتية الحركة (الأوتوميشن)، حيث بزغ اتجاه معاكس ... فالصناعة التى تعتمد على الأوتوميشن تزيد من سيطرة العامل على عملية العمل، وتحد من الاضطراد فى تقسيم العمل ونمو المصانع الكبيرة. (انظر كتابه: الاغتراب و الحرية، الصادر عام ١٩٦٤. عند هذا الحد، تصبح مناقشة قضية الاغتراب مجرد جزء من الحوار الأوسع حول الخبرة الذاتية للعمل بصفة عامة، والإشباع الوظيفى بصفة خاصة.
وقد ارتبطث كثير من المذاهب السياسية التى تتبنى مفهوم التسيير الذاتى، مثل يوغوسلافيا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - ارتبطت ارتباطا واضحا بالمسعى إلى تجاوز الاغتراب بواسطة الملكية الجماعية والسيطرة الجماعية. ويرجع جانب من الفضل فى وجود نظم المشاركة فى الأرباح وملكية العاملين للأسهم إلى مفهوم العمل المغترب. ومن المتناقضات فى هذا الصدد، أن نمط الملكية السائد فى مجتمعات اشتراكية الدولة قد أدى إلى ازدياد الإحساس بالاغتراب وفقدان القوة، ذلك أن حالة فراغ الملكية (حيث لم يكن هناك من يمتلك ملكية الدولة) قد أدت إلى المزبد من تدمير المعنويات، على نحو أشد مما تفعله الملكية النشطة التى تسم السوق الحر والتى كانت تؤرق ماركس.