توماس هوبز

(بالتحويل من هوبز)

توماس هوبز أو توماس هوبز من ميلمزبيري وفي بعض الكتب القديمة توماس هوبر من ملمزبيري (5 أبريل 1588 - 4 ديسمبر 1679) (بالإنجليزية: Thomas Hobbes) عالم رياضيات وفيلسوف ومفكر سياسي ومنظر اجتماعي إنجليزي من عصر التنوير. يشتهر اليوم بأعماله في الفلسفة السياسية وكونه أحد مؤسسي فلسفة السياسة الحديثة.

و لقد غطت أبعد كتابات هوبز تأثيراً فى الفلسفة السياسية فترة الحرب الأهلية الإنجليزية، وتفسر أعماله فى نظر الكثيرين على أنها استجابة فكرية لخبرة الاضطراب السياسى وفقدان الأمان الفردي. ويقدم عمله الرئيسي المعنون: "لفياثان أو شكل المادة، وسلطة الكومنولث الكنسيّة والمدنية"، الصادر عام 1651، الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية من منظور نظرية العقد الاجتماعي. وقد انصب اهتمام هذا الكتاب على النظرية السياسية. وفي هذا الكتاب أنكر هوبز أن الناس مخلوقات اجتماعية بطبيعتها، وجادل ودلّْل على أن معظم الدوافع الأساسية للناس هي العوامل الأنانية.

كما يقدم تبريراً للسلطة السياسية المطلقة التى يفترض أنها مشتقة من الطبيعة البشرية. ويعتبر تفسير هوبز للطبيعة البشرية امتداداً متطرفاً وغير ذكى لعلم الميكانيكا (كما تعلمه من جاليليو). ففى رأى هوبز أن جميع الخصائص السيكلوجية البشرية - كالإحساس والإدراك والذاكرة، والخيال، والفكر، والكلام، والعواطف - هى آثار ناتجة عن الحركات اللحظية لجزيئات المادة التي نتكون منها نحن بنى البشر، شأننا فى ذلك شان أى أجسام مادية أخرى. وفى ضوء هذه النظرة لطبيعتنا، فإن الفعل تحكمه الانفعالات، التى تصنف بدورها إلى انفعالات "الكراهية" وانفعالات "الشهوة". وهذه الانفعالات هى أساس الأحكام الأخلاقية، وتنعكس فى أفعال تميل إلى الحفاظ على الذات.

وفى اعثقاد هوبز أن الفعل البشرى تحكمه الانفعالات المزدوجة للخوف من الموت والرغبة فى القوة. فإذا ما تصورنا البشر يعيشون فى "حالة الطبيعة" السابقة على إقامة أى قانون أو أى سلطة سياسية تجعلهم يعيشون فى خوف (من سلطانها)، فإن كل فرد يفقد أى منطق يجعله يتوقع الخير من الآخرين، سوف ينخرط فى محاولة لا تهدأ ليصبح أكثر قوة وفى مثل هذا الموقف، فإن الرغبة فى الأمن من جانب كل فرد سوف تنتهى إلى حالة من العداوة وعدم الاستقرار، وهى حالة تكون الحياة فيها (باستخدام عبارة هوبز الشهيرة) "موحشة وفقيرة وقبيحة وفظة وقصيرة". ولكن بنى البشر يمتلكون العقل والبصيرة (وهى خصائص فسرها هوبز بطريقة ميكانيكية). ومن ثم فهم قادرون على أن يدركوا أن أمنهم يمكن أن يتحقق بشكل أفضل من خلال فعل طوعي يتم بمقتضاه التنازل عن قواهم الفردية لفرد (أو جماعة) تتشكل بواسطة قوة سيادية فوق الكل. وفى ضوء نظرية هوبز المثشائمة عن الطبيعة البشرية، فإن الوظيفة الوحيدة للحكومة هى أن تضمن أمن المواطن.

يعد توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصاً في المجال القانوني حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، فقيها قانونياً ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها هذا القرن على المستوى السياسي والحقوقي. كما عرف بمساهمته في التأسيس لكثير من المفاهيم التي لعبت دوراً كبيراً ليس فقط على مستوى النظرية السياسية بل كذلك على مستوى الفعل والتطبيق في كثير من البلدان وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي. ولقد ظل فهمه للبشر باعتبارهم مادة وحركة تنفذ نفس القوانين المادية مثل أية مادة وحركة أخرى ذات تأثير كبير؛ ويظل اعتباره للطبيعة البشرية باعتبارها تعاونًا مركزه الذات وللمجتمعات السياسية باعتبارها قائمة على "العقد الاجتماعي" أحد أهم الموضوعات في الفلسفة السياسية. كذلك يعتبر هوبز من الفلاسفة الذين وظفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم.

كان هوبز مناصرًا للملكية المطلقة، ولكنه قام أيضًا بتطوير بعض أساسيات الفكر الليبرالي الأوروبي: حق الفرد والمساواة الطبيعية بين جميع البشر والشخصية الاعتبارية للنظام السياسي (التي أدت لاحقًا إلى التمييز بين المجتمع المدني والدولة)؛ وهو أيضًا صاحب رأي أن جميع القوى السياسية الشرعية يجب أن تكون "ممثلة" وقائمة على قبول الشعب؛ والتفسير الحر للقانون الذي يمنح الناس حرية فعل ما لم ينص القانون على تجريمه صراحةً.

تأثر هوبز بتطورين حدثا في زمانه، أولهما، النظام الجديد لعلم الطبيعة الذي كان جَالِيليُو وآخرون يحاولون التوصل إليه. وقد استنتج من أفكارهم أن المادة وحدها هي الموجودة، وأن أي شيء يحدث يمكن التنبؤ به وفقًا لقوانين علمية دقيقة. واعتقد الكثيرون في زمانه أن نظرته أنكرت وجود الله، والروح الإنسانية الحرة الخالدة، ولكنه نفى ذلك.

وكانت الحرب الأهلية الإنجليزية هي المؤثر الكبير الآخر على فكره، وقد انتهى إلى أن الناس أنانيون، وأن أشد ما يحركهم هو الرغبة في القوة والخوف من الآخرين، وهكذا تكون أرواحهم فقيرة، رديئة، بوهيمية، ومحدودة مالم يجدوا سيدًا قويًا يحكمهم. وقد صدمت هذه الآراء معاصريه.

و لقد كان باستطاعة هوبز فى العصر الذي عاش فيه أن يحوز قبول أنصار الملكية وأنصار النظام البرلماني على حد سواء. و لقد مدح الماركسيون بعد ذلك نظرته المادية فى الطبيعة البشرية والقوة السياسية، بينما راجت آراؤه التسلطية حول البشر بوصفهم باحثين بالضرورة عن المصلحة، وكذلك حول الحد الأدنى (أو الحالة الدنيا)، واشتهرت هذه الآراء لدى اليمين السياسى. وقد كان هوبز واحداً من أوائل المدافعين عن المنحى الطبيعى فى العلوم الاجتماعية وأشدهم ذكاء. ولقد ظلت الفلسفة السياسية لهوبز مؤثرة في دراسة العلاقات الدولية.

برغم أن علوم الطبيعة ليست مادية جدًا، كما بدت أيام هوبز، وبالرغم من أن الدوافع الإنسانية أشد تعقيدًا مما ظن، إلا أن تأثيره مايزال مستمرًا. لقد أثار أسئلة أساسية ومتحدية عن العلاقات بين العلم والدين، والعلاقة بين الفكر والعمليات الفسيولوجية التي يقوم عليها، وطبيعة القوة السياسية وحدودها. وماتزال القضايا التي أثارها تشغل الناس بالبحث عن حل لها.

ولقد ساهم هوبز أيضًا، إلى جانب الفلسفة السياسية، في عدد متنوع من المجالات الأخرى، من بينها التاريخ والهندسة وفيزياء الغازات والإلهيات والأخلاق والفلسفة العامة.

ولد هوبز في وست بورت وهي الآن جزء من مالمسبيزي في إنجلترا. وتلقى تعليمه في جامعة أكسفورد، وعمل سكرتيرًا للسير فرانسيس ميكون ومعلمًا لوليم كافنديش الذي حمل بعد ذلك لقب إيرل ديفونشاير. وقد سافر كثيرًا مع كافنديش، والتقى بكثير من الفلاسفة والعلماء الأوروبيين، وخلال الحرب الأهلية فر إلى القارة الأوروبية. وقد علّم أمير ويلز الرياضيات لفترة قصيرة. و هو الأمير الذي أصبح فيما بعد الملك تشارلز الثاني. ومع أن هوبز عاد إلى إنجلترا في عهد أوليفر كرومويل، فقد اتخذه تشارلز الثاني صديقًا عندما صار ملكًا عام 1660م.

النشأة والتعليم

ولد توماس هوبز يوم 5 من إبريل عام 1588 في ويستبورت Westport، التي هي الآن جزء من ميلمزبيري في ويلتشير (في إقليم Wiltshire) في إنجلترا. ولد تومس هوبز قبل أوانه عندما سمعت والدته بقدوم غزو الأرمادا الإسبانية، ويقول هوبز عن ذلك لاحقًا "لقد وضعت أمي توءمًا: أنا والخوف." كانت طفولته عادية جدًا، ولا يُعرف اسم والدته. وكان والده الذي يدعى هوبز أيضًا يعمل فيقار في شارلتون وويستبورت. وكان لتوماس هوبز الأب شقيق أكبر منه اسمه فرانسيس هوبز وكان تاجرًا ثريًا ولم تكن له أسرة منفصلة. وكان لتوماس هوبز، الابن، شقيق اسمه إدموند يكبره بعامين تقريبًا. ولقد هجر توماس الأب زوجته وولديه وابنته وتركهم في رعاية أخيه فرانسيس، بعدما أُجبر على الفرار من لندن بعد اشتراكه في مشاجرة مع أحد رجال الدين خارج كنيسته. تلقى هوبز تعليمه في كنيسة ويستبورت منذ أن كان عمره أربعة أعوام، ثم انتقل بعدها إلى مدرسة ميلمزبيري ثم انتقل إلى مدرسة خاصة يديرها رجل شاب اسمه روبرت لاتيمير الذي تخرج من جامعة أكسفورد. كان هوبز تلميذًا يشار له بالبنان، وفي عام 1603 تقريبًا في سن الخامسة عشر دخل هوبز كلية مجدلاين هول التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكلية هيرتفورد، بأكسفورد. ولقد كان العميد جون ويلكنسون شخص تطهيري وكان له تأثير على هوبز.

كان يبدو في الجامعة أن هوبز يتبع منهجًا تعليميًا خاصًا به، ولم يكن منجذبًا كثيرًا بالتعليم الدراسي". ولم يكمل شهادة الليسانس حتى عام 1608؛ ولكن أوصى به سير جيمس هيوسي، لدى أستاذه في مجدلاين، ليكون مربيًا خاصًا لابنه ويليام كافيديش بارون هاردويك (الذي صار فيما بعد الايرل الثاني ديفونشير) وبدأ علاقة طويلة الأمد مع هذه العائلة، وهي علاقة استمرت حتى آخر عمره، ولم تنقطع إلا أثناء الحرب الأهلية في إنجلترا. وصحب تلميذه في رحلة إلى أوروبا، لما عاد منها - وكان قد برم بتدريس الفلسفة في أكسفورد - كرس اهتمامه للدراسات الكلاسيكية، وفي الفترة مابين 1921 - 1926 اتصل بفرنسيس بيكون، وساعده في ترجمة بعض «مقالاته» إلى اللاتينية، لكن أهم ثمار عنايته بالدراسات الكلاسيكية (اليونانية - واللاتينية) هي ترجمته لتاريخ ثوكيديدس Thucydides، وقد نشر هذه الترجمة في سنة 1929، وقد اختار لنشرها ذلك الوقت كيما يكون فيها عبرة لبنى وطنه إذ رأى هوبز في مصير أثينا القديمة تحذيراً مفيداً ضد الديمقراطية.

في باريس (1630 – 1637)

وجد هوبز وظيفة كمعلم خاص لجيرفيس كليفتون، ابن السير جريفيس كليفتون، وقضى معظم وقت تدريسه له في باريس حتى عام 1631. عقب ذلك وجد هوبز مرة أخرى وظيفة مع عائلة كافيندش كمعلم خاص لويليام كافنديش، الإيرل الثالث لديفونشاير، والابن الأكبر لتلميذه السابق. وخلال السبعة أعوام التي تلت ذلك، وإلى جانب التدريس، وسع هوبز معرفته بالفلسفة، مما أيقظ بداخله الفضول حول جدالات ومناظرات الفلسفة الكبرى. وقد زار فلورنسا عام 1636، وأصبح بعدها مناظرا معتادا في الصالونات الفلسفية بباريس بصحبة مارن ميرسين.

في أثناء رحلته إلى أوروبا في 1929-1930، تنبه إلى أهمية الفيزياء، وفي رحلته الثالثة ازداد اهتماماً بالفيزياء وصار متعمقاً فيها إلى حد أنه دخل في نقاش مع جماعة الأب مرسين Mersenne في باريس، ومع جاليلو حين زار فيرنتسه في سنة 1936. كان اهتمام هوبز الدراسي الأول دراسة فلسفات فيزياء الحركة والزخم الفيزيائي. ورغم اهتمامه بهذه الظواهر، إلا أنه لم يحبذ الأعمال التجريبية كتلك الفيزيائية. ثم أمضى قدما في فهم النظام الفكري الذي كرس للاستفاضة فيه معظم حياته. فكر في صياغة أفكاره الفزيائية في ثلاثة كتب: كان بداية مخططه أن يؤلف بحثا منفصلا عن مبادئ الأجسام «في الجسم» de corpore، ويحاول فيه أن يبين كيف أن تفسير الظواهر الفيزيائية من حيث حركتها ممكن، وذلك وفق الفهم السائد حينها حول الحركة وميكانيكيتها. ميز هوبز حينئذ الإنسان عن الطبيعة والنباتات. وفي المؤلف الثاني «في الإنسان» de corpore، قام بتوضيح الحركات الفيزيائية المحددة التي تتدخل في الظواهر الفريدة من الإحساس، المعرفة، العاطفة، والشغف، والتي وفقها تتكون العلاقات بين إنسان وآخر. وأخيراً، أوضح في مؤلفه الثالث والأهم «في المواطن» de cive ما يحرك الإنسان للانخراط في المجتمع، وتنظيم الناس في المجتمع، وجادل بأن ذلك واجب التنظيم لتفادي وقوع الإنسان في الوحشية والبؤس. وبذلك فقد اقترح توحيد ظواهر الجسم، الإنسان، والدولة معا.

في إنجلترا

عاد هوبز إلى موطنه انجلترا الذي مزقه الاستياء عام 1637، مما أعاقه عن المضي قدماً في تنفيذ خططه الفلسفية بانتظام واضطره إلى الانصراف عن التأملات النظرية الخاصة بالجسم والحركة، ليخوض غمار المعركة السياسية المشبوبة الأوار آنذاك. فقد كانت هناك حملة شديدة على امتيازات الملكية في انجلترا، لكن هوبز رأى في انتقاص هذه الامتيازات ما يعكر صفو السلام في انجلترا، ورأى أن الحقوق والسلطات التي قامت المعارضة آنذاك للحد منها هي جزء لا يتجزأ من حقوق السيادة، وكان الكل يقر في ذلك الوقت بأن السيادة هي للملك.

وبحلول نهاية البرلمان القصير عام 1640 قام بتأليف «مبادئ القانون الطبيعي والسياسي». إلا إنه لم ينشر، وتم تداوله آنذاك كمخطوطة بين معارفه. رغم ذلك، نشرت نسخة مقرصنة منه بعد عشرة أعوام.

وفيه يقرر بأن السلام الاجتماعي يقتضي وجود سلطة مطلقة ذات سيادة لا يشاركها مشارك. لكنه أغضب في نفس الوقت الطرفين المتنازعين: لقد أغضب القائلين بالحق الإلهي للملوك، لأنه حاول أن يقيم السيادة على أساس عقد اجتماعي، وأغضب البرلمانيين لأنه دعا إلى قيام ملكية مطلقة. ورغم أن الظاهر أن معظم كتاب مبادئ القانون قد تبلور قبل جلسة البرلمان القصير، إلا أن هناك أجزاء انفعالية منه تشير إلى تأثر بالأزمة السياسية المتصاعدة. لكن رغم ذلك، فإن كثيرا من مبادئ هوبز السياسية لم تتغير بين كتابي مبادئ القانون ولوياثان، الأمر الذي يوضح أن الحرب الأهلية الإنجليزية لم تؤثر على نهجه في نظرية العقد الاجتماعي. على أن جدالات لوياثان تختلف عن مبادئ القانون حين يأتي الأمر إلى أهمية الموافقة في خلق التزام سياسي. وبالتحديد، كتب هوبز في مبادئ القانون أن الممالك القديمة لم تنشأ بالضرورة بموافقة المحكومين، لكنه نادى بالعكس في لوياثان. ربما كان ذلك انعكاسا لأفكار هوبز عن جدل المشاركة أو انعكاس لرد فعله تجاه مؤلفات البطرياركيين من أمثال السير روبرت فيلمر بين أعوام 1640 و1651.

العودة إلى باريس

ولما احتد النزاع في سنة 1640 بمحاكمة ايرل استفورد ورئيس أساقفة لود Laud، رأى هوبز أنه في خطر، ففر إلى باريس، حيث التقى بلاجئين آخرين من انجلترا. وصار يغشى حلقة العلماء التي تحلقت حول الأب مرسن Mersenne، وأطلعه مرسن على كتاب «التأملات» لديكارت ولم يكن قد نشر بعد. وكتب هوبز بعض الاعتراضات على كتاب «التأملات» وعلى كتاب Dioptrique لديكارت، فكان هذا سبباً لغضب ديكارت، غضباً جعله يرفض أن يلتقي بهذ «الرجل الإنجليزي» (= هوبز). وفي سنة 1642 ظهر كتابه «في المواطن» de cive، وفيه يتوسع فيما قاله في القسم الثاني من كتابه «عناصر القانون»، ويختمه بفصل عن الدين والعلاقة بين الدولة والكنيسة، فيقول إن الكنيسة المسيحية والدولة المسيحية شيء واحد وهيئة واحدة، رئيسها الحاكم، ولهذا فإن من حق الحاكم أن يفسر الكتاب المقدس، وأن يفصل في المنازعات الدينية وأن يحدد أشكال العبادات العامة. وقد ظن هوبز بهذا أنه وضع الحل لمشكلة النزاع بين الدولة والكنيسة، التي كانت تعصف بمعظم دول أوروبا في القرن السابع عشر.

وأمضى هوبز السنوات الأربع التالية في تأليف الكتاب الأول من مشروعه المذكور، وهو كتاب: «في الجسم». لكنه حدث في سنة 1646 أن لجأ أمير ويلز، الذي أصبح فيما بعد الملك شارل الثاني، إلى باريس، ودعا هوبز إلى تدريس الرياضيات له. فانصرف هوبز عن الفيزياء والفلسفة مرة أخرى وخاض غمار السياسة مع اللاجئين الانجليز الهاربين إلى باريس. وفي سنة 1647 أصدر طبعة ثانية من كتابه «في المواطن» وقد أضاف إليها تعليقات للشرح «ومقدمة موجهة إلى القارىء»، وظهرت هذه الطبعة في أمستردام.

وفي سنة 1650 نشر خطوط كتابه: «عناصر القانون» على شكل كتابين مستقلين: الأول بعنوان: «الطبيعة الإنسانية» والثاني بعنوان «في الهيئة السياسية».

وفي سنة 1651 ظهرت الترجمة الإنجليزية لكتابه «في المواطن» de cive.

وفي سنة 1652 أصدر كتابه الرئيسي بعنوان: «لوياثان، أو مادة وصورة وسلطة الجماعة (الكومنولث) الدينية والمدنية» Leviathan, or the Matter, Form, and Power of a Commonwealth Eclesiastical and Civil. وفي القسمين الأولين منه: «في الإنسان» و«في الكومولث» عاد إلى الموضوع الذي بحثه في كتبه السابقة؛ وفي القسمين الثالث والرابع: «في الكومنولث المسيحي» و«في مملكة الظلام» خاض في مناقشة عن الكتاب المقدس وهاجم هجوماً شديداً محاولات أنصار البابوية والكنيسة المسيحية presbyterians لبحث حقوق الملك.

وكان الملك شارل الأول قد توفى في سنة 1651، واستولى اليأس على أنصار الملكية؛ ولهذا نجد في خاتمة كتاب «لوياثان» فصلاً بعنوان «مراجعة وخاتمة» يحاول فيه هوبز أن يحدد الظروف التي تصبح فيها الطاعة لحاكم جديد مشروعة. وكان من رأيه دائماً أن للمواطن الحق في ترك الحاكم الذي لا يستطيع بعد أن يحميه، وفي تحويل ولائه إلى حاكم آخر يكفل له هذه الحماية. لكن عرضه لرأيه هذا في تلك «المراجعة والخاتمة» ضايق مستشاري الأميرشارل، وظنوا أن هوبز يريد بذلك أن يستجلب رضا الحاكم الجديد في انجلترا تسهيلاً لعودته إلى بلاده. لهذا حجبوه عن بلاط شارل المنفي في فرنسا, وفي الوقت نفسه أخذت عليه السلطات الفرنسية هجومه على البابوية، فأدرك هوبز أن مقامه في باريس مهدد، ولهذا عاد إلى انجلترا في نهاية سنة 1651. وتفاهم هوبز مع النظام الجديد في انجلترا؛ وأقام في لندن.

آخريات حياته

استأنف هوبز العمل في كتابه «في الجسم». لكنه في سنة 1654 اشترك في مساجلات سيكون لها تأثير كبير في الشطر الباقي من عمره؛ وتدور هذه المساجلات، التي أجراها مع جون برمهل John Bramhull أسقف لندوندري، حول مشكلة حرية الإرادة الانسانية؛ ودارت المساجلات أولاً على شكل مراسلات خاصة بينهما؛ لكن أحد المعجبين بهوبز اطلع على رد هوبز، ونشره، دون علم هوبز، تحت عنوان: «في الحرية والضرورة»، مما اضطر برمهل في سنة 1655 إلى نشر كل المراسلات التي جرت بينه وبين هوبز، بما في ذلك ردوده على هوبز، وذلك في كتاب بعنوان: «دفاع عن الحرية الحقيقية ضد الضرورة السابقة الخارجية». فرد عليه هوبز في السنة التالية بكتاب بعنوان: «المسائل المتعلقة بالحرية والضرورة والبخت»، وفيه أعاد نشر المراسلات المتبادلة بينه وبين برمهل، مع تنبهات. فعاد برمهل إلى الرد بكتاب عنوانه: «تصحيحات لتنبهات هوبز الأخيرة»، وألحق به ضميمة بعنوان: «صيد اللوياثان أو الحوت الكبير»، وفيه اتهم هوبز بالالحاد؛ وقد رد هوبز على هذه التهمة بعد ذلك بعشر سنوات في كتاب لم ينشر إلا في سنة 1682٢ بعد وفاة هوبز بثلاث سنوات.

ودخل هوبز معركة ثانية مع بعض أساتذة أكسفورد. وكان هوبز في كتابه «لوياثان» قد هاجم نظام جامعة أكسفورد على أساس أنه أقيم في الأصل للدفاع عن البابوية ضد السلطة المدنية، ولا يزال هذا النظام مضراً بالمجتمع لتمسكه بالتعليم القديم. فانتهز بعض أساتذة أكسفورد فرصة صدور كتاب «في الجسم» لهوبز في سنة 1655 فهاجموه. لكنه رد عليهم برد عنوانه «ستة دروس لأساتذة الرياضيات في جامعة أكسفورد» وقد ظهر في سنة 1656 ملحقاً للترجمة لانجليزية لكتاب «في الجسم»

وفي سنة 1658 أصدر كتابه الثالث من مشروعه الثلاثي الذي ذكرناه، بعنوان: «في الإنسان».

ودخل معركة ثالثة في سنة 1660 حين أصدر ست محاورات بعنوان: «فحص وتصحيح الرياضيات المشروحة في كتب جون والس»، وفيها يهاجم روبرت بويل Boyle وسائر أصحاب والس Wallis الذين كونوا جمعية (سميت باسم «الجمعية الملكية» في سنة 1662) للبحث التجريبي، معارضة للمنهج الاستنباطي في الفيزياء الذي دعا إليه هوبز في كتابه «في الجسم» ورد عليه والس برسالة ساخرة نشرت سنة 1662، واتهم هوبز بأنه ألف كتاب «لوياثان» للدفاع عن أوليفر كرومويل، وأنه غدر بسيده، شارل، حين كان في يخته. فدافع هوبز عن هذه الاتهامات في رسالة وجهها إلى واليس في سنة 1662 بعنوان: ,السيد هوبز منظوراً إليه في اخلاصه، ودينه، وشهرته، وأخلاقه» ، وفيها معلومات مفيدة عن حياة هوبز وأفكاره الخاصة كتبها هوبز بنفسه.

وخاض معركة رابعة ضد رجال الهندسة مبيناً أن مؤلفاتهم فيها من الخطأ وعدم اليقين بقدر ما في كتب رجال الفيزياء والأخلاق من خطأ وعدم يقين فألف كتاباً بعنوان: «تربيع الدائرة، وتكعيب الكرة، وتضعيف المكعب» (سنة 1669) وفيم يقدم حلولاً لهذه المشكلات الهندسية المشهورة.

ولما عادت الملكية إلى انجلترا وصار شارل الثاني، تلميذ هوبز القديم، ملكاً على انجلترا، اغتفر لمربيه القديم موقفه من كرومويل، وشمله بعطفه، وقرر له معاشاً قدره مائة جنيه في العام. لكن لما كانت آراء هوبز مقترنة في أذهان عامة التاس بحرية الفكر والالحاد، فقد استغل خصومه هاتين التهمتين للنيل منه عند الملك. لكنه لم يشعر بالخطر الحقيقي إلا في سنة 1666، لأنه في هذه السنة وضع مجلس العموم مشروع مرسوم ضد الالحاد والعلمانية Profaneness وذلك بتأثير الكنيسة وما أحدثه حريق لندن والطاعون من فزع في النفوس؛ وكلفت اللجنة المشكلة لدراسة مشروع المرسوم بفحص كتاب «لوياثان».

غير أن البرلمان أسقط مشروع المرسوم ضد الالحاد. غير أن هوبز لم يستطع بعد ذلك الحصول على إذن بنشر أي شيء يتعلق بالسلوك الانساني.

وفي سنة 1668 نشر مجموع مؤلفاته المكتوبة باللاتينية، في أمستردام، لأنه لم يستطع الحصول على إذن الرقيب الانجليزي لنشرها في انجلترh. ولم يتمكن من طبع بعض كتبه الأخرى فلم تنشر إلا بعد وفاته. ويبدو أن الماك قد تعهد بمنع نشر كتبه في مقابل حمايته له>

فراح هوبز يقضي بفية عمره الطويل في ترجمة بعض المؤلفات اليونانية، فترجم «الأوديسا» لهوميروس، ونشرت الترجمة في سنة 1673 - سنة 1675، وترجم «الألياذة» ونشرت الترجlة في سنة 1676.

وتوفي هوبز في هاردوك هول Hardwick Hall في مقاطعة دربي Derbyshire في 4 ديسمبر سنة 1679.

الفكر السياسي

تأثر هوبز بالأفكار العلمية المعاصرة، وقصد من نظريته السياسية أن تكون نظامًا شبه هندسي، توصل فيها إلى الاستنتاجات الحتمية من الفرضيات. الاستنتاج العملي الرئيسي لنظرية هوبز السياسية هو: أن الدولة أو المجتمع لا يمكن أن يكونا آمنين إلا تحت التصرف المطلق للحاكم. من هذا يتبع الرأي القائل بأنه لا يمكن لأي فرد أن يحمل حقوق الملكية ضد الحاكم، وبناءً عليه قد يأخذ الحاكم البضائع من رعاياه دون موافقتهم. تكمن أهمية وجهة النظر هذه كونها طوِرت لأول مرة في ثلاثينيات القرن الماضي عندما سعى تشارلز الأول إلى زيادة الإيرادات من رعاياه دون موافقة البرلمان.

اللفياثان

في كتاب اللفياثان، عرض هوبز مذهبه حول أساس الدول والحكومات الشرعية وخلق علم موضوعي للأخلاق. يشرح جزء كبير من الكتاب ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لتجنب شر الشقاق والحرب الأهلية.

بدايةً من الفهم الآلي للبشر وشغفهم، يفترض هوبز كيف ستبدو الحياة بدون حكومة، وهي حالة يسميها حالة الطبيعة. يملك كل شخص في تلك الحالة الحق، أو الترخيص، لكل شيء في العالم. يقول هوبز أن هذا سيؤدي إلى «حرب الجميع ضد الجميع». يحتوي الوصف على ما أطلق عليه أحد المقاطع الأكثر شهرة في الفلسفة الإنجليزية، والتي تصف الحالة الطبيعية للبشرية التي سيكون عليها الإنسان لولا المجتمع السياسي:

«في هذه الحالة: لا يوجد مكان للصناعة لأن إنتاجها غير مؤكد، وبالتالي لا توجد ثقافة للأرض، ولا ملاحة، ولا استخدام للسلع التي يمكن استيرادها عن طريق البحر، ولا مبنى حضاري. لا توجد أدوات للتحرك، والإزالة، وأشياء كهذه تتطلب الكثير من القوة، ولا علم لوجه الأرض، ولا يوجد حساب للوقت، ولا فنون، ولا خطابات، ولا مجتمع. الأسوأ من ذلك كله هو الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وحياة الإنسان المنعزلة، والفقيرة، والشريرة، والبهيمية، والقصيرة.»

في مثل هذه الحالة: يخشى الناس الموت ويفتقرون إلى كل الأشياء الضرورية للحياة القيّمة، والأمل في التمكن من الحصول عليها. ولتجنب ذلك، ينضم الناس إلى العقد الاجتماعي ويؤسسون مجتمعًا مدنيًا. وفقًا لهوبز، المجتمع سكان وسلطة ذات سيادة يتنازل لأجلها جميع الأفراد في هذا المجتمع عن بعض الحقوق بقصد الحماية. لا يمكن مقاومة أي قوة تمارسها هذه السلطة، لأن القوة السيادية للحامي مستمدة من تسليم الأفراد قوتهم السيادية للحماية. وبالتالي فإن الأفراد هم أصحاب جميع القرارات التي اتخذها الحاكم. «من يشتكي من أذى الحاكم كمن يشتكي من أنه هو نفسه المجرم، وبالتالي لا ينبغي عليه أن يتهم إلا نفسه، ومن المستحيل أن يتهم نفسه كون الشخص لا يمكن أن يلحق الأذى بنفسه». لا يوجد مبدأ لفصل السلطات في مناقشة هوبز. وفقًا لهوبز يجب على الحاكم السيطرة على القوى المدنية والعسكرية والقضائية والكنسية، وحتى الكلمات.

الخصوم

جون برمهال

نشر الأسقف جون برمهال في عام 1654 مقالة صغيرة بعنوان «الحرية والضرورة»، موجهة إلى هوبز. التقى برمهال، وهو أرميني قوي، هوبز وناقشه، وبعد ذلك كتب آراءه وأرسلها بشكل خاص ليرد عليه هوبز على النحو الواجب ولكن ليس من أجل النشر. ومع ذلك أخذ أحد معارفه الفرنسيين نسخة من الرد ونشره بعنوان «رسالة تمجيدية سخية». رد برمهال في عام 1655، عندما طبع كل ما كان يمر بينهما تحت عنوان (الدفاع عن الحرية الحقيقية للأعمال الإنسانية من الضرورة السابقة أو الخارجية). كان هوبز مستعدًا للأسئلة المتعلقة بالحرية والضرورة والفرصة في عام 1656، إذ أجاب «بقوة مذهلة» على الأسقف. ولعل هذا أول عرض واضح للمذهب الحتمي النفسي، أوضح أهمية نموذجي هوبز في تاريخ الجدل حول الإرادة الحرة. عاد الأسقف في عام 1658 بـ «انتقاد الملاحظات النقدية للسيد هوبز»، وتضمن ملحقًا ضخمًا بعنوان «صيد لفياثان الحوت العظيم».

جون واليس

عارض هوبز الترتيبات الأكاديمية السائدة، وهاجم بعنف نظام الجامعات الأصلية في لفياثان. نشر كتاب «في الجسم»، الذي لم يتضمن فقط وجهات نظر مغرضة في الرياضيات ولكن أيضًا دليلًا خاطئًا على تربيع الدائرة. كل هذا دفع علماء الرياضيات إلى استهدافه للمناظرة، وأثار جون واليس ليصبح أحد خصومه الأكثر ثباتًا. من عام 1655 العام الذي نشر فيه «في الجسم» ذهب كل من هوبز وواليس في جولة في محاولة ليدحض كل منهما مواقف الآخر. بعد سنوات من النقاش، اكتسب الخلاف حول إثبات تربيع الدائرة سمعة سيئة لدرجة أنها أصبحت واحدة من أكثر الخلافات المشينة في التاريخ الرياضي.

آراء دينية

اتهِم هوبز بالإلحاد من العديد من المعاصرين، واتهمه برمهال بتعاليم يمكن أن تؤدي إلى الإلحاد. كان هذا اتهامًا كبيرًا، وكتب هوبز في إجابته على مقال برمهال بعنوان «القبض على لفياثان»، بأن «الإلحاد، والعقوق، وما شابهها هي كلمات لأكبر قدر من الافتراء». ودافع هوبز دائمًا عن نفسه من هذه الاتهامات. في الآونة الأخيرة أيضًا قُدمت الكثير من وجهات نظره الدينية من قبل علماء مثل ريتشارد توك وجون غريفيل اغارد بوكوك، ولكن ما زال هناك خلاف واسع النطاق حول الأهمية الدقيقة لآراء هوبز غير العادية حول الدين.

أوضح مارتينيتش أن مصطلح «الملحد» في زمن هوبز طُبِق في كثير من الأحيان على الناس الذين آمنوا بالله ولكن ليس في العناية الإلهية، أو على الأشخاص الذين آمنوا بالله ولكنهم حافظوا أيضًا على معتقدات أخرى لا تتفق مع هذا الاعتقاد. يقول إن هذا «التناقض أدى إلى العديد من الأخطاء في تحديد من كان ملحدًا في بداية الفترة الحديثة». في هذا المعنى الموسع الحديث للإلحاد، اتخذ هوبز مواقفًا عارضت بشدة تعاليم الكنيسة في عصره. على سبيل المثال: جادل مرارًا وتكرارًا أنه لا توجد مواد غير مادية، وأن كل الأشياء بما في ذلك الأفكار البشرية، وحتى الله والجنة والجحيم أشياء مادية، وبرأيه توجد مادة وحركة المادة. وقال إنه «على الرغم من أن الكتاب المقدس يعترف بالأرواح، لكنه لا يقول أين هي، إنها غير مادية، وهذا يعني أنها بدون أبعاد وكمية». (في هذا الرأي، ادعى هوبز أنه يتبع ترتليان). مثل جون لوك الذي صرح أيضًا بأن الوحي الحقيقي لا يمكن أن يختلف أبدًا مع العقل البشري والتجربة، على الرغم من أنه جادل أيضًا بأنه يجب على الناس قبول الوحي وتأويلاته لسبب وجوب قبول أوامر الحاكم لتجنب الحرب.

أثناء جولته في البندقية، تعرف هوبز على فولجنزيو ميكانيزيو، أحد المقربين من باولو ساربي، الذي كتب ضد ادعاءات البابوية للسلطة الدنيوية ردًا على قرار البابا بول الخامس ضد البندقية، الذي رفض الاعتراف بالامتيازات البابوية. دعا جيمس الأول الرجلين إلى إنجلترا عام 1612. جادل ميكانيزيو وساربي بأن الله يريد الطبيعة البشرية، وأن الطبيعة البشرية تشير إلى استقلال الدولة في الشؤون الدنيوية. عندما عاد إلى إنجلترا في عام 1615، حافظ ويليام كافنديش على مراسلات مع ميكانيزيو وساربي وترجم هوبز رسائل الأخير من الإيطالية، ووزعها بين دائرة الدوق.

فلسفته

كان هوبز مادياً مغالياً في المادية، إذ كان يرى أن كل ما هو موجود هو مادة، وكل ما يتغير هو حركة. والمبدأ الأول والأساس النهائي لكل شيء هو المادة والحركة، أو المادة التي هي في حركة. وحتى العمليات الفعلية هي أيضاً حركات في أدمغتنا وقلوبنا وسائر أعضائنا. والدولة، وكل النظم الانسانية هي تركيبات من حركات وكل حادث يجري في الكون هو حركة، أمر يمكن رده إلى حركة.

ولهذا فإن موضوع الفلسفة عند هوبز هو الأجسام وهي في حركة. ذلك أن الفلسفة هي «معرفة المعلولات effects أو الظواهر appearances، كما نحصلها بالتعقل الصحيح ابتداء من معرفتنا بأسبابها أو تولدها، وأيضاً معرفتنا بالعلل أو التولدات التي نحصلها من معرفة معلولاتها أولاً».

ولما كان الله لا علة له، ولما كان ما يعرف بالوحي لا يستفاد بالتعقل، فإن اللاهوت مستبعد، بحكم تعريفه، من مجال الفلسفة. وما بقي للفلسفة كموضوع لها هو «كل جسم يمكن أن تتصور تولده، ويمكن مقارنته بأجسام أخرى عن طريق النظر فيه، أو كل ما هو قابل للتركيب والانحلال، اعني كل جسم يمكن أن نعرف شيئاً عن كونه (تولده) او خواصه.»

وهناك نوعان من الأجسام: أحدهما من صنع الطبيعة، ولهذا يسمى جسماً طبيعياً، والثاني تضعه إرادات الناس واتفاقهم، ويسمى الدولة Commonwealth (هذا اللفظ كان له في القرن السابع عشر المعاني التالية: الهئية الاجتماعية، الدولة، الجمهورية). والجسم الطبيعي هو موضوع الفلسفة الطبيعية، والدولة هي موضوع الفلسفة المدنية؛ لكن الأخلاق ضرورية للفلسفة السياسية (أو: المدنية)، لأنها تتناول استعدادات الناس ومسالكهم. ولهذا انقسمت الفلسفة عند هوبز إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الفلسفة الطبيعية، الفلسفة السياسية (المدنية)، الأخلاق. ومن هنا قسم هوبز كتابه الشامل في الفلسفة - وعنوانه: «عناصر الفلسفة» إلى ثلاثة أقسام: الأول: في الجسم؛ الثاني: في الإنسان؛ الثالث: في المواطن, وقد كتب الثالث أولاً، ويتلوه الأول، وآخرها الثاني،

والغاية من المعرفة هي القوة، هكذا يقول هوبز مع فرانسيس بيكون. وفائدة الفلسفة الطبيعية تقوم في النهاية على تطبيقاتها التكنولوجية. «لكن فائدة الفلسفة الأخلاقية والمدنية (السياسة) تقدر لا بمقدار المنافع التي نحصلها بمعرفة هذين العلمين بقدر ما هو بمقدار المصائب التي تصيبنا إذا لم نعرفهما» . ورأس هذه المصائب: الحرب، وأسوا أنواع الحروب الحرب الأهلية، وهي تنشأ من «عدم معرفة الواجبات المدنية» (واجبات المواطن) .

والفلسفة بحث عقلي في العلل والمعلولات. ويقصد هوبز بـ «البحث العقلي» raciocination: الحساب computation أي جمع المعاني وطرحها. وإذا كانت الحجوم والأجسام والحركات والأزمنة والنسب ودرجات الكيف قابلة للحساب لأنها يمكن أن تحسب بالعدد، والكل يقر لها بذلك، فقد زاد عليهم هوبز بأن طبق الحساب على أمور لا يرى جمهور العلماء والفلاسفة أنها قابلة لذلك، مثل: التصورات العقلية، الكلام والأسماء. فهو يقول مثلاً في تعريف الإنسان إنه «حاصل جمع الجسم والتنفس (الحي) والناطق (العاقل». والرجل المفرد هو أيضاً حاصل جمع الساقين والذراعين، إلخ.

ويعرف المنهج method بانه «أقصر طريق للعثور على المعلولات بواسطة عللها المعروفة، أو العثور على العلل بواسطة معلولاتها المعروفة». وهناك نوعان من المنهج يناظران عمليتي الجمع والطرح: أحدهما تركيبي، وبه يستطيع المرء أن ينتقل من المبادىء الأولى (التي هي تعريفات) إلى معرفة شيء مركب. والهندسة تركيبية كلها، وكذلك القياس. والنوع الثاني من المنهج تحليلي، وبه نصل إلى فهم الشيء بتحليل الفكرة إلى الكليات التي تتألف منها، والتي أسبابها واضحة ومتجسدة في مبادى ء أولى.

ولتوضيح مقصد هوبز من هذا المنهج بنوعيه نقول إن العلم بنية من المعارف المنظمة، نموذجها ونقطة ابتدائها هما علم الهندسة. إذ في الهندسة نحن نبدأ من بديهيات هي في نظر هوبز تعريفات (وهو رأي سيتضح صوابه عند هنري بونكاريه الذي قال إن البديهيات axiomes هي تعريفات مقنعة). وبعد ذلك نستنبط من هذه البديهيات - التعريفات، أعني أننا «نجمعها»، بالمعنى الواسع «للجمع» كما يفهمه هوبز. والهندسة، في نظره، هي أشد علوم الحركة تجريداً، ذلك لأنه يرى أن الخط، مثلاً، هو الطريق الذي تتخذه نقطة متحركة، وليس الخط مجرد امتداد سكوني (استاتيكي). ومن هنا كانت الهندسة وكيفية الارتباط بعلم الميكانيكا، وإن كان هذا الأخير يحتاج إلى مزيد من المبادىء أو التعريفات الخاصة بالقوة، وكمية المادة، وأمور اخرى لا تكون جزءاً من الهندسة بالمعنى التقليدي.

ولما كان لا يوجد في العالم إلا مادة هي في حركة، فإننا إذا عرفنا قوانين الحركة، كمل علمنا من حيث المبادىء النظرية والأخلاق والسياسة هما — نظرياً — مزيد من التطبيقات للميكانيكا على نوع خاص من الأجسام (الانسان، الدولة).

وهكذا يبنى العلم على الاستنباط من تعريفات؛ وما دام الأمر كذلك، فينبغي أن تنطوي التعريفات على العلل، من أجل أن يقوم العلم بالتفسير. ولهذا فإن المسألة الرئيسية في المنهج العلمي هي توفير التعريفات الوافية. بيد أن هذه التعريفات ينبغي اا تكون اعتباطية، فلسنا احراراً في تعريف القوة أو الكمية كما نهوى ومحك الاختبار لمعرفة كون التعريف وافياً هو أن نقوم بتحليله ثم نستنبط النتائج المترتبة عليه. وهذا الاستنباط يعطى يعض النظريات theorems التي ينبغي أن تكون أوصافاً لما يحدث في ظروف معينة. وبالملاحظة تتبين ما إذا كان ما يجب أن يحدث — بحسب تعريفاتنا — قد حدث فعلاً. فإن كان قد حدث، فبها ونعمت؛ وإلا فلنحاول العثور عل تعريف أخر.

وهكذا فإن ما يسميه هوبز بـ «التعريفات» definitions هو ما نسميه الآن ومنذ القرن الماضي باسم «الفروض» Hypotheses. ومنهجه الذي ينعته هو بأنه مزيج من التركيب والتحليل هو المنهج الافتراضي الاستنباطي في العلم hypothetico deductive method of science ومن هنا كان هوبز أول فيلسوف أدرك أهمية هذا المنهج.

والكشف عن العلل (الأسباب) هو عقدة العلم كله. والعلة هي «حاصل جمع أو مجموع كل الأعراض (الخواص، والصفات)، سواء في الفاعل وفي المنفعل، التي تسهم في إنتاج المعلول موضوع البحث، بحيث أنه إذا وجدت هذه (الأعراض) كلها، فلا بد أن يوجد هذا المعلول؛ كما أنه لا يوجد إذا غاب واحد منها». وبعبارة أخرى، علة الشيء هي الشرط الضروري والكافي لحدوثه. ونحن في البحث عن العلل نحتاج إلى المنهج التحليلي كما نحتاج إلى المنهج التركيبي: نحتاج إلى المنهج التحليلي من أجل أن ندرك كيف أن الظروف تفضي إلى إنتاج المعلولات؛ ونحتاج إلى المنهج التركيبي من أجل أن نجمع معاً ونمزج ما يمكن كل واحد منها بمفرده أن ينتج. ويتضح من كلام هوبز في هذا الموضع أنه أدرك ما سماه ميل فيما بعد باسم: منهج الاتفاق ومنهج الافتراق.

وبعض المعاني في الفلسفة أساسية وبسيطة ولا يمكن تحليلها، وبالتالي لا يمكن وضع تعريفات علية لها. ومع ذلك ينبغي أن نوضحها، حتى يكون في ذهن السامع أفكار واضحة عنها ومن هذه المعاني: الزمان، المكان، الجسم، العرض، الحركة، القوة.

ويطلب هوبز من القارىء أن يتصور أن كل ما في الوجود فني، ما عدا فيلسوفاً واحداً. فماذا يبقى له ليتعقله؟ ذكرياته، بهذا يجيب هوبز. وهذا مايحدث هنا فعلاً بين الحين والحين «لأننا حين نحسب حجم وحركات السماء أو الأرض، فإننا لا نرقى إلى الماء كي نقسمها إلى أجزاء، أو لنقيس حركاتها، بل نفعل ذلك ونحن جالسون بهدوء في مكتبنا أو في الظلام». فتذكر شيء بوصفه وجد خارج الزمن يعطي الفيلسوف فكرة عن المكان. ومن هنا يعرف المكان بأنه «فنطاسيا - phantasm شيء موجود بذاته خارج العقل.» كذلك يعرف الزمان بأنه «فنطاسيا القبل والبعد في الحركة». وليس من الواضح تماماً ما يعنيه هوبز بـ «فنطاسيا»، لكن يبدو أنه يريد بذلك إنكار أن المكان أو الزمان جسم أو عرض لجسم.

ويعرف اللامتناهي في الزمان والمكان هكذا: «لا متناه في القوة الزمان أو المكان الذي فيه يمكن تصور عدد من الخطوات أو الساعات أكبر من أي عدد معلوم»، أي أن ثمة مقداراً أكبر من أكبر مقدار نتصوره للمكان أو الزمان.

فإذ تصورنا الآن أن شيئاً آخر - غير هذا الفيلسوف المشار إليه - قد خلق، فسيكون هناك شى ء واحد مستقلاً عن ذهن الفيلسوف. ومن هنا يعرف الجسم بأنم ما يشغل حيزاً من المكان ولا يتوقف على عقلنا. والأجسام أشياء، بينما الأعراض (مثل اللون، الطعم، الرائحة، إلخ) ليست أشياء والأجسام لا تتولد (لا تكون)، بينما الأعراض تتولد (تكون). ويمكن تدمير أي عرض في جسم دون أن يدمر الجسم نفسه. والصورة أو الماهية هي العرض الذي بسببه يعطى اسم لنوع معين من الأجسام.

وكل تغير حركة ولما كان لكل حركة علة تجعلها على النحو الذي هي عليه، فإن كل شيء متعين بالضرورة. أما الإمكان ففكرة ذاتية تنبىء عن جهلنا فقط. وكل شىء بمكن فلا بد له أن يتحقق بالفعل. وكل علية هي علية فاعلة، أما ما يسمى «علة صورية» فما هي إلا علة معرفتنا؛ والعلل الغائية، وهي لا توجد إلا في الكائنات المزودة بالحس والإرادة، فإنها في الواقع علل فاعلية.

ويبحث هوبز فيما يحدد الفردية، فيبين أولا أنه لا المادة، ولا الصورة، ولا مجموع الأعراض يصلح أن يكون معياراً عاماً للهوية الفردية، ويقرر: «أن علينا أن ننظر ما الاسم الذي يسمى به الشيء، حين نبحث في هويته». ذلك الرجل سيكون دائماً هو نفس الرجل الذي تصدر كل أفعاله وأفكاره عن نفس ابتداء الحركة، أي تلك التي كانت في ولادته وكونه؛ وهذا النهر سيكون نفس النهر الذي يجري من نفس المنبع، سواء كان نفس الماء أو ماء آخر أو شيء آخر غير الماء يجري من ذلك المنبع».

نظرية المعرفة

ومصدر كل معرفة انسانية هو الاحساس «لأنه لا يوجد تصور في عقل الانسان لم يتولد، كلياً أو جزءاً جزءاً، من أعضاء الحس وباقي المعرفة مأخوذ من هذا الأصل» («لوياثان» ق١ ف١) والسبب في أي إحساس هو ضغط موضوع خارجي على عضو الحس، إما مباشرة كما في حالتي الذوق واللمس، أو بطريق غير مباشر، كما في البصر والسمع والشم. وهذا الضغط على عضو الحس يبدأ حركة تستمر إلى المخ أو القلب، فتستجيب لها حركة من القلب بلون أوصوت أو رائحة أو إحساس بالحرارة أو البرودة أو الخشونة أو ما شابه ذلك. وعلى هذا فإن الاحساس هو ناتج في المح عن مهيج من شيء خارج الجسم.

وما دام الأمر هكذا، فلا محل للكلام عن أن الاحساس ينبغي أن يشابه الموضوع الخارجي الذي «يضغط» على عضو الحس. إذ ليس من الضروري أن يكونا متشابهين. وما دام كل ما هو موجود في العالم الخارجي هو مادة، وكل ما يتغير هو حركة، فليس للمادة من الخواص إلا تلك التي تعزوها الفيزياء إليها. إذ لو كانت الحمرة خاصية من خواص الشيء الذي نراه أحمر اللون، لما كان يمكن فصل هذه الحمرة عنه، كما يحدث في المرآة حين ينعكس عليها هذا الشيء. ولو كان الصوت جزءاً من الموضوع الصائت، لما كان من الممكن أن يسمع في مكان آخر كما هي الحال في الصدى. ولهذا يقرر هوبز أن اللون والصوت والرائحة والحرارة وما شابه ذلك هي إدراكات موجودة فينا أنتجتها أدمغتنا استجابة لمهيجات واردة عن موضوعات مادية، وهوبز يدعوها إدراكات feelings أو «خيالات» seemings أو تخيلات fancies. إنها مظاهر appearances ذاتية. وكان من المفروض في هوبز - وهو المادي الصريح - أن يقول عن هذه «الصفات الثانوية» (من لون، ورائحة، وحرارة إلخ) إنها مجرد حركات مادية في المخ. لكن يبدو من تسميته إياها «خيالات» أو«تخيلات» seemings and fancies أنه لا يعتقد أنها مجرد حركات.

ويحاول هوبز أن يفسر سائر العمليات العقلية على أساس مادي آلي خالص فيقول عن التخيل imagination إنه «احساس منحل» decaying sense. ذلك أن الحركات الحادثة في المخ عن مهيجات خارجية تتضاءل وتشحب، فتنشأ عنها الصور المتخيلة images. والصور المتخيلة تتميز من الادراكات الحسية بسبب ما فيها من شحوب وذبول. وهكذا يضمحل الاحساس. والاحساس المضمحل الماضي هو الذاكرة memory. وشذرات من الاحساس المضمحل تتركب أحياناً في الخيال على نحو مختلف مما أعطى في الأصل، فيتولد عن ذلك الأحلام والرؤى. وبهذا يمكن أن يفسر أيضاً تصور الأشباح والعفاريت: إنه ينشأ عن اضطرابات بين الاحساسات، يختلط معها الخيال بالاحساس.

كذلك ترابط المعاني في الذهن يرجع إلى حركات في المخ وهذا الترابط قد يتم على غير هدى، كما يحدث في الأحاديث العارضة بين الناس. لكن هوبز يرى أن من الممكن حتى في هذه الأحوال العثور على ارتباط علي. ويضرب مثلاً لذلك ما جرى في محادثة دارت حول خيانة شارل الأول (ملك انجلترا) أثناء الحرب الأهلية، إذ تساءل أحد المتحاربين: ما هى قيمة البنس penny الروماني. ويفسر هوبز ذلك السؤال الذي يبدو خارجاً تماماً عن مجرى المناقشة بأن التفكير في الحرب الأهلية أحضر فكرة تسليم الملك لأعدائه؛ وهذه الفكرة أحضرت فكرة تسليم المسيح لأعدائه؛ وهذه بدورها أحضرت فكرة الثلاثين بنساً التي كانت ثمن خيانة يهوذا وتسليمه المسيح إلى أعدائه؛ ومن هنا جاء هذا السؤال الغريب وكل هذا جرى في لحظة قصيرة جداً من الزمن، لأن التفكير سريع.

لكن التفكير العقلي يمكن أن يكون منظماً ثابتاً تقوده رغبة وخطة توجه مجراه إلى غاية معلومة. فمثلاً شخص فقد شيئاً، ويريد أن يعثر عليه، فيرجع ذهنه من مكان إلى مكان وزمان إلى زمان، ليعثر على المكان الذي عساه يكون قد فقده فيه والوقت الذي فقده فيه. ومثال آخر، رجل يريد أن يعرف نتائج فعل لو أقدم عليه، فيقارنه بأفعال مشابهة قام بها في الماضي. كذلك إذا أردنا الحصول على شيء، فإننا نبحث عن الوسائل المؤدية إلى تحصيله أو قد نتخيل كل الآثار الممكن أن يحدثها شىء متى ما حصلنا عليه.» إن الحاضر هو وحده الذي له وجود في الطبيعة؛ أما الاشياء الماضية فلا وجود لها إلا في الذاكرة؛ والأشياء المقبلة ليس لها وجود مطلقاً؛ إذ المستقبل هو مجرد توهم من الذهن، يطبق تسلسل الأفعال الماضية على الأفعال الحاضرة، وهو أمر يقوم به من هو أوفر حظاً من الخبرة، لكن ليس بدرجة كافية من اليقين . . . إن أفضل متنبى، هو بالطبع أفضل متكهن؛ وأفضل متكهن guesser هو أكبر الناس تضلعاً في الأمور التي يتكهن بها، لأن لديه قدراً أوفر من «العلامات» التي يستعين ما في التكهن» («لواياثان» ج١ ن٢)

ولا يرى هوبز في الأفكار العقلية إلا حركات في المخ. كذلك يرى أن عمليات الادراك والارادة هي أيضاً حركات في الجسم. وهناك نوعان من الحركات خاصان بالحيوان والإنسان، وهما: الحركة الحيوية، مثل جريان الدم، والتنفس، والتغذي، والتبرز، إلخ؛ ثم الحركة الإرادية مثل: يمشي، يتكلم، يحرك أعضاءه على النحو الذي نتخيله في عقولنا. والتخيل هو البداية الأولى لكل حركة إرادية؛ أما آخر ما يجري في الجسم قبل أن يصير مرئياً في الخارج، فهو النزوع Conatus. والنزوع حين يتجه إلى شيء بسببه هو الاشتهاء appetite كما في الجوع والعطش، أو الشهوة desire كما في معظم الأحوال الأخرى. وحين يكون النزوع إشاحة عن موضوع ما، يسمى نفور وكراهية والناس يحبون ما يشتهون، ويكرهون ما منه ينفرون؛ والفارق الوحيد هو أننا نقصد دائماً بالشهوة والنفور غياب الموضوع، بيني نقصد بالحب والكراهية حضور الموضوع غالباً. وما يشتهيه المرء يسميه خيراً، وما ينفر منه يسميه شراً، أياً ما كان هذا الشيء والحواس إذا ما أدركت شيئاً، حدثت حركة تسري من أعضاء الحس إلى القلب، فيستجيب القلب بنزوع نحو الشهوة أو نحو النفور. فإذا أشبعت الشهوة أو النفور، شعرنا باللذة؛ وإذا حيل بيننا وبين الإشباع، سكرنا بالألم. وهكذا نجد أن هوبز يقرر أن الخير هو اللذة، والشر هو الألم. فهو إذن من أنصار مذهب اللذة. وأكثر من هذا هو من أنصار اللذة الأنانية، لأنه يحدد الخير بالنسبة إلى الفرد فقط.

ويسمي هوبز آخر شهوة أو تطور في عملية الروّية، وهي التي تسبق الفعل الخارجي مباشرة، باسم الإرادة Will.

وهكذا نرى أن هوبز يقرر أن كل العمليات العقلية والنفسية هي حركات لجزئيات مادية في الجسم. وهذه العمليات في جوهرها آلية (ميكانيكية)، ومادية في تركيبها. فالشهوة حركة نحو موضوع يسمى من أجل ذلك خيراً، والنفور حركة ابتعاد عن شيء يسمى من أجل ذلك شراً. وسائر الشهوات تتحدد على نفس النحو؟ فالخوف نفور مع اعتقاد أن الموضوع سيؤذي؛ والشجاعة نفور مع رجاء تجنب الأذى. والغضب شجاعة مفاجئة. والدين، وهو وجدان مهم، هو خوف من قوى خفية؛ مسموح به علناً. أما إن كان الخوف غير مسموح به علناً فإنه يكون خرافة وتطيراً superstition. ومجموع الشهوات والنفورات وتغيراتها إذا ما سار بها المرء حتى يفعل الأمر أو ينظر إليه على أنه مستحيل - مجموع هذا يسمى الروية deliberation.

ولما كانت الشهوات بغير نهاية، فإن السعادة ليست حالة سكونية (استاتيكية)، بل هي عملية اشباع شهوات. وكل دافع أناني. والشهوة الأساسية في الانسان هي الشهوة إلى القوة، وهي لا تنتهي إلا بالموت، شأنها شأن سائر الشهوات.

الدين

وفي إطار مثل هذه الفلسفة المادية المغالية، لا محل للدين بالمعنى المفهوم. وهوبز يعرض رأيه في الدين في كتابه الرئيسي «لوياثان» فيقول إن الدين اخترعه الناس بسبب اعتقادهم في الأرواح، وجهلهم بالعلل، وعبادتهم لما يهابونه. وهذا يفسر لماذا زعم المشرعون الأوائل في الأمم الوثنية أن تعاليمهم جاءتهم من الله أو من أي روح، ولماذا استطاع الكهنة ان يستغلوا الدين لتحقيق مآربهم الشخصية الأنانية. والأديان تنحل إذا رؤي أن مؤسسيها أو زعماثها يفتقرون إلى الحكمة أو الاخلاص أو المحبة.

الفلسفة المدنية (السياسية)

أما في فلسفته السياسية فقد استعان هوبز بالمعاني الرائجة في عصره، مثل: المساواة، القانون الطبيعي، الحقوق الطبيعية للإنسان، العقد الاجتماعى، السيادة، العدالة، إلخ. لكنه يعالج هذه المعاني عل نحو مختلف كثيراً عن معالجة فلاسفة السياسة السابقين عليه لها مثل أفلاطون وأرسطو، والقديس توما الأكويني، وجان بودان Jean Bodin، وهوجو جروتيوس Grotius. كذلك تأثر هوبز بآراء مكيافلي في الأنانية وحاجة الحاكم إلى السلطة المطلقة.

ونبدأ أولاً ببيان نظرية العقد السياسى عند هوبز. إنه يرى أن النظام السياسي أمر اصطلاحي وطبيعي في آن معاً: فهو اصطلاحى بمعنى أن الانسان هو الذي أوجده؛ وهو طبيعي، مع ذلك، لأن الانسان إنما صنعه وفقاً لميوله الطبيعية. لكن الإنسان عند هوبز ليس كائناً اجتماعياً بطبعه كما يقول أرسطو، وليس كائنا عقلياً مجرداً كما سيقول فلاسفة عصر التنوير، أي في القرن الثامن عشر، بل هو كائن شرير حافل بالنقائص، جبان، فاسد، خبيث، تدفعه المصلحة الذاتية، وتتحكم فيه الغرائز الأولية من أنانية وجشع. وهو لا يذعن إلا إذ خاف، ولا يضحى بمصالحه إلا مرغماً، ولا يحب السلام للسلام؛ بل فزعاً من نتائج الحرب. ويتلخص هذا كله في العبارة المشهورة التي قالها هوبز: «الانسان للانسان ذئب؛ والكل في حرب ضد الكل؛ والواحد في حرب ضد المجموع». والحياة إذن مجال للقوة الباطشة، بالنسبة إلى الأقوياء، وللخداع والمكر والتحايل بالنسبة إلى الضعفاء.

لكن هذه الشرارة (صفة من: الشر الانسانية هي التي دفعت الانسان إلى أن يبحث بعقله عن علاج؟ فراح عقل الانسان يفتش عن أسباب هذه الحال الأليمة المتمثلة في حالة الطبيعة، وفي أسباب الحروب، والنزاع. وانتهى إلى أن العلاج هو في إيجاد مجتمع تسوده قوانين تحكم الجميع، فيزول الخوف والنزاع.

كيف يمكن إيجاد هذا المجتمع؟ لا يمكن أن يوجد مثل هذا المجتمع إلا بتخلي الأفراد عن حقوقهم الخاصة وشهواتهم الخاصة فييا يتصل بتوجيه النظام في المجتمع . . وعلى الكل أن يخضعوا لإرادة واحدة.

لهذا اتفقوا على تفويض أمرهم إلى إرادة واحدة تتولى فرض نفسها على الآخرين، أي انتقال حقوق كل فرد إلى فرد واحد. ذلك لأنه إذا تخلى كل فرد - ما عدا واحداً - عن حقوقه الطبيعية، فمن الواضح أن حقوق هؤلاء ستذهب إلى هذا الواحد الذي لم يتخل عن حقوقه. وسيكون هذا الواحد أقوى من الباقي بمجرد تخلي هؤلاء عن حقوقهم. وسيتقوى بما يقوم به من أعمال تؤدي إلى تحقيق الأمن والعدل لهؤلاء الآخرين. وهكذا فإن سلطة الحاكم ستقوم على أمرين: تخلي الأفراد عن حقوقهم، والغاية التي من أجلها تخلوا عن حقوقهم وهي السلام والعدل.

فالعقد فينا قد أبرم بين الأفراد وبين فرد (حاكم) وهم في حالة فوضى، وبموجبه تخلى هؤلاء الأفراد عن حقوقهم ليفوضوها إلى شخص يمثلهم ويقبل عنهم أن يتولى تصريف أمورهم بما يكفل لهم الأمن والسلام والاستمتاع.

والشيء المميز لهذا العقد هو أنه بين ثلاثة أطراف: الطرف الأول: متعاقد فردي؛ الطرف الثاني: كل أفراد المجتمع؛ الطرف الثالث: طرف لا يدخل في العقد إلا للانتفاع منه، دون أن يقدم شيئاً في مقابل ذلك وهو الحاكم. وهو عقد من نوع خاص، إذ فيه الحاكم يوافق على شروط العقد، لكن دون أن يلتزم بشيء تجاه الغير.

فهذا العقد، كما تصوره هوبز، يلزم الفرد بالعضوية، الدائمة غير القابلة للفسخ، في مجتمع سياسي مهمته الأولى والوحيدة بمجرد تشكيله هي أن يعين حاكماً (سواء أكان فرداً، أم قلة من الناس، أم جماعة ديمقراطية) له سلطة وضع القوانين، والفصل في المنازعات، وصياغة الأحكام والحقوق والواجبات. وإذا ما عين الحاكم فعل المواطن الخضوع له والطاعة المطلقان، في مقابل ما يحققه له الحاكم من حماية ضد منتهكي القوانين وضد أعداء الوطن. وهذا العقد صفقة رابحة للمواطن، لأنه يكفل له الأمن والسلامة في مقابل الموت المحتوم والظلم الذي لا بد سيقع عليه لو أنه استمر يعيش في حالة الطبيعة. وإرادة الحاكم ستكون بمثلة لإرادة المواطن، ولهذا فإن الحاكم يملك كل سلطة لتحقيق إرادته التي هي إرادة كل مواطن.

ولما كان الحاكم ليس «طرفاً» في هذا العقد، فإنه لا يجوز لرعيته مساءلته عن الطريقة التي بها يؤدي مهمته، ذلك أنهم بمجرد أن فوضوا له تولي أمورهم فقد سقط حقهم في مساءلته. يقول هوبز إنه من أجل تأمين السلم «لا بد من تفويض الأفراد كل قوتهم وكل سلطتهم إلى رجل واحد أو إلى هيئة اجتماعية (أو جمعية) واحدة يمكنها أن تجعل من كل إرادتهم إرادة واحدة، بمعنى... أن كل واحد يقر بأنه فاعل لكل الأفعال التي يفعلها هذا الرجل، وأن يغضع إرادته لإرادة هذا الرجل وحكمه. وهذا شيء أكثر من مجرد الوفاق: إنه اتحاد الجميع في شخص واحد، وهذا هو ما يتم بتعاقد كل واحد مع كل واحد، كما لو قال كل واحد لكل واحد: إني أفوض إلى هذا الرجل أو هذه الجمعية كل سلطتى وكل حقي في توجيه نفسي، بشرط أنك أنت أيضاً تفوض له سلطتك وحقك في توجيه نفسك. فإذا تم هذا، فإن هذا الجمهور يصير شخصاً واحداً يسمى مدينة أو جمهورية» («لواياثان»، فصل ١٧).

ويرى هوبز أن الناس، في حالة الطبيعة، متساوون تقريباً في القوة، والقدرة الفعلية، والخبرة، ولكل واحد نفس الحق الذي لغيره في كل شيء. فلو كانوا بدون حكومة، لأدى النزاع الناشىء عن شهواتهم وعدم ثقتهم بعضهم ببعض - إلى حالة حرب بين كل إنسان ضد كل إنسان، وفيها لن توجد ملكية، ولا عدل، ولا ظلم، وستكون الحياة «متوحدة، فقيرة، قذرة، متوحشة، وقصيرة». لكن لحسن الحظ فإن الوجدان - على شكل الخوف من الدين والرغبة في حياة سارة طويلة -، وكذلك العقل - على شكل معرفة مواد السلام على هيئة قوانين الطبيعة - نقول إن الوجدان والعقل يتضافران لإيجاد أساس مجتمع مدني (سياسي) وللتخلص من النزاع الشامل.

وأول قوانين الطبيعة هو السعي إلى السلام والمحافظة عليه. والثاني - وهو وسيلة ضرورية للقانون الأول - هو أن يريد الانسان، حين يكون الآخرون مريدين لهذا أيضاً، أن يحصل على الأمن والدفاع عن النفس اللذين يرى أنهما ضروريان له، فيتنازل عن حقه في كل شي، ويقنع بنفس القدر من الحرية تجاه الآخرين، الذي يسمح هو به للآخرين تجاه نفسه هو وهذا يتم بالتعاقد مع الآخرين.- والقانون الثالث للطبيعة هو أن يلتزم الناس بتنفيذ هذا التعاقد. لكن ليكون العقد نافذاً لا بد من وجود سلطة ذات سيادة من شأنها أن تجعل الظلم - وهو انتهاك شروط العقد - أشد ضرراً وأذى من العدل أي المحافظة على تنفيذ العقد ذلك أن العقود بغير سيوف هي مجرد كلمات جوفاء لا تضمن شيئاً ولا تؤمن شيئاً.

وهكذا فإن قوانين الطبيعة الأخرى، التابعة للقوانين الثلاثة الأولى هذه، تقتضي ممارسة الاخلاص، وعرفان الجميل، والحشمة والتأدب، والنزاهة والانصاف، والاعتراف بالمساواة الطبيعية، وتجنب الوقاحة والكبرياء والعجرفة.

ويمكن تلخيص نظرية القانون الطبيعي عند هوبز في هذه الجملة أو القانون العام: لا تعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك به.

وفي تقرير العلاقة بين الحاكم والمحكومين، يقرر هوبز أن على المحكومين - ويسميهم الرعية subjects - أن يطيعوا الحاكم طالما كان قادراً على حمايتهم، إلا إذا أمرهم أن يقتلوا أو يجرحوا أو يبتروا أعضاءهم أو أن يجيبوا على أسئلة تتعلق بجريمة يكونون قد ارتكبوها. وهذه ليست قيوداً تحد من سيادة الحكم، بل هي فقط حريات يحتفظ بها المحكومون تحت قوانين الطبيعة. وفي مذهب هوبز أنه لا يجوز سياسياً ولا قانونياً وضع حدود قانونية على سيادة الحاكم. ولا يوجد مثلاً حق التمرد (أو العصيان)، لأن الحاكم غير ملزم بأي عقد، ما دام هو لم يكن طرفاً في العقد، كما أوضحنا منذ قليل. ولا حقوق قانونية (شرعية) للرعية إلا تلك التي منحهم إياها الحاكم. والحاكم هو المشرع الوحيد، وهو لا يخضع للقانون المدني، وإرادته - وليس العرف - هي التي تعطي القوانين سلطتها ونفوذها.

ومن حق الحاكم أن يراقب كل تعبير عن الرأي، وأن يهب ممتلكات خاصة للأفراد، وأن يحدد ما هو خير وما هو شر، ما هو قانوني وما هو غير قانوني، وأن يفصل في كل القضايا والمنازعات، وان يأمر بالحرب أو بالسلام، وأن يختار الموظفين في الدولة، وأن يمنح المكافآت ويفرض العقوبات، وأن يفصل في جميع المسائل الدينية والأخلاقية، وأن يفرض الأوضاع التي بموجبها ينبغي عبادة له!

والحكم يتخذ ثلاثة أشكال فقط، في نظر هوبز، هي: الملكية، والارستقراطية، والديمقراطية. أما الأشكال الظاهرية الأخرى فهي، في رأي هوبز، مجرد انعكاسات لمواقف: فمثلاً: إذا كره إنسان الملكية سماها: طغياناً tyranny.

وعلى الرغم من أن مذهب هوبز يؤيد أي شكل من اشكال الحكم المطلق، فإنه مع ذلك يفضل الملكية، لأنه يرى أنها أفضل وسيلة لتحقيق السلام والأمان، وأن مصلحة الملك هي مصلحة الرعية، وما هو خير للملك خير للشعب. والملك ثري، وماجد إذا كانت الرعية ثرية وماجدة، وهو غير ثري ولا ماجد إذا كانت الرعية غير ثرية ولا ماجدة. والمقربون لدى الملك أقل عدداً من أية جمعية نيابية. وهو أقدر على تلقي النصائح في السر من الجمعية النيابية. وقرارات الملك تصدر دون اختلاف في الرأي، فتكون بذلك أشد رسوخاً بعكس الحال في قرارات المجالس النيابية. والانقسام والتحزب والاختلاف شيعاً وأحزاباً لن توجد في الملكية، وكذلك ما ينجم عن هذه الأمور من حروب أهلية.

ويعترف هوبز بأن في النظام الكلي مشكلات تتعلق خصوصاً بوراثة العرش، لكنه يقول إن من الممكن حلها باتباع إرادة الملك الجالس على العرش أو العرف أو عمود النسب.

تلك آراء هوبز السياسية، وهي آراء لم تلق تأييداً من آية جماعة في عصره. فالبيوريتان كانوا يقولون بحق الشعب في اختيار شكل الحكم الذي يريده، وفي تغييره كما يشاء. وآل استيورت (ملوك انجلترا آنذاك) ومؤيدوهم كانوا يؤكدون حق الملوك الإلهي، وأن الملكية نظام مستمد من الله، لا من عقد بين رعية وحاكم. وجاءت ثورة سنة 1688 - بعد وفاة هوبز بتسع سنوات - فأثبتت أن من الممكن للشعب أن يغير نظام الدولة ودستورها دون العودة إلى الاضطراب الكلي، وأن الحكام يمكن أن يكونوا مسؤولين معنوياً أمام رعاياهم، وأن من الواجب كفالة الحرية الفردية في أمور الدين والرأي والنشر وما سوى ذلك.

انظر أيضًا