مجتمع مدني
المجتمع المدني (بالإنجليزية: Civil Society) يشير إلى كل أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة. وتشمل هذه الأنشطة المتنوعة الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني تقديم الخدمات، أو دعم التعليم المستقل، أو التأثير على السياسات العامة. ففي إطار هذا النشاط الأخير مثلا، يجوز أن يجتمع مواطنون خارج دائرة العمل الحكومي لنشر المعلومات حول السياسات، أو ممارسة الضغوط بشأنها، أو تعزيزها (معاقبة صانعي السياسات أو مكافأتهم).
يضم المجتمع المدني مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية.
و من ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى جمعيات ينشئها أشخاص تعمل لنصرة قضية مشتركة. وهي تشمل المنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري. أما الميزة المشتركة التي تجمع بين منظمات المجتمع المدني كافة، على شدة تنوعها، فهي تتمثل باستقلالها عن الحكومة والقطاع الخاص أقله من حيث المبدأ. ولعل هذا الطابع الاستقلالي هو ما يسمح لهذه المنظمات بأن تعمل على الأرض وتضطلع بدور هام في أي نظام ديمقراطي.
تعريف المصطلح
هناك عدة تعريفات متعارضة لمضمون هذا المصطلح. ولكن أهم سماته - على أية حال - أنه يشير إلى الحياة العامة وليس إلى الأنشطة الخاصة، أو أنشطة وحدة المعيشة (العائلة)، فهو يوجد جنباً إلى جنب مصطلحي الأسرة والدولة، وهو موجود داخل إطار النظام القانوني. والتصور الشائع لدى غالبية المفكرين الذين كتبوا حول هذا الموضوع أنه يدل على مجال المشاركة العامة فى الجمعيات والمؤسسات الطوعية، ووسائل الاتصال الجماهيرى، والهيئات المهنية، والنقابات العمالية، وما إلى ذلك.
ووجوده فى مركز متوسط بين الفرد (أو الأسرة)، وبين الدولة كان فى رأى بعض المفكرين (مثل هيجل) يمثل ظاهرة مؤقتة يمكن تجاوزها عندما تتوحد المصالح الخاصة والعامة. وفى رأى نفر من المفكرين الآخرين أن المجتمع المدنى يمثل المجال الخاص فى مواجهة الدولة، قى حين يرى أنطونيو جرامشى أنه يمثل حصناً قوياً للهيمنة الطبقية، التى تعمل فى النهاية على التدعيم الأساسى للدولة (وإن كان ذلك ليس بالأمر المطلق). أما الاستخدام الأحدث لمصطلح المجتمع المدنى فيشير إلى تجربة انهيار الشيوعية فى أوروبا الشرقية، وإلى الضمور الواضح أو انعدام مستوى وسيط من العلاقات الاجتماعية، أى مجال التنظيم الاجتماعى الذاتى، وهو مستوى تداخل المصالح القائمة بين المجال الخاص (العائلي) والدولة الشمولية التى تتحكم فى كل شئ.
ولقد كان المجتمع المدنى يعد دائماً كياناً دينامياً، يستوعب فكرة الحركات الاجتماعية. كما يمكن النظر إليه باعتباره يمثل الجانب الدينامى من المواطنة، و أنه يربط بين الحقوق والواجبات المعترف بها، ويتيح لها فرص الممارسة، والتمحيص، والتنقيح، وإعادة التعريف على مستوى المجتمع المدنى باستمرار. ومن هنا فإن حرية التعبير عن الرأى كحق مدنى أساسى تعتمد على ثقافة و على تنظيم الناشرين والصحفيين وجمهور القراء عامة، سواء من حيث طريقة إسباغ المشروعية عليها، أو من حيث نطاقها ومداها. ويحوى الكتاب الذى أشرف على تحريره بلشنسكى أفضل مجموعة من الدراسات حول هذا الموضوع.
ثمة اجتهادات متنوعة في تعريف مفهوم المجتمع المدني تعبر عن تطور المفهوم والجدل حول طبيعته وأشكاله وأدواره. فالمعنى المشاع للمفهوم هو «المجتمع السياسي» الذي يحكمه القانون تحت سلطة الدولة. لكن المعنى الأكثر شيوعاً هو تمييز المجتمع المدني عن الدولة، بوصفه مجالاً لعمل الجمعيات التطوعية والاتحادات مثل النوادي الرياضية وجمعيات رجال الأعمال وجماعات الرفق بالحيوان، وجمعيات حقوق الإنسان، واتحادات العمال وغيرها. أي أن المجتمع المدني يتكون مما أطلق عليه إدموند بيرك الأسرة الكبيرة.
في المقام الأول يهتم المرء بسبل عمله ومعيشته، ليكفي حاجته وحاجة أفراد أسرته بالغذاء والسكن وغير ذلك من لوازم الحياة. ولكن يوجد بجانب ذلك أشخاص كثيرون يهتمون بالمجتمع الذي يعيشون فيه، ويكونون على استعداد للتطوع وإفادة الآخرين. أي أن المجتمع المدني ينمو بمقدار استعداد أفراده على العطاء بدون مقابل لإفادة الجماعة. هذا يعتبر من «الإيثار العام». وفي المجتمعات الديموقراطية تشجع على ذلك النشاط الحكومات.
قضايا مثارة حول المفهوم ومصداقيته
يستخدم المجتمع المدني عادة كمفهوم وصفي لتقييم التوازن بين سلطة الدولة من جهة، والهيئات والتجمعات الخاصة من جهة أخرى فالشمولية مثلاً تقوم على إلغاء المجتمع المدني، ومن ثم يوصف نمو التجمعات والأندية الخاصة وجماعات الضغط والنقابات العمالية المستقلة في المجتمعات الشيوعية السابقة بعد انهيار الحكم الشيوعي، توصف هذه الظواهر بعودة المجتمع المدني.
ومع ذلك، يلتصق مفهوم المجتمع المدني في أغلب الحالات بدلالات معيارية وأيديولوجية. فوفقاً للرؤية الليبرالية التقليدية، يتسم المجتمع المدني بأنه مجال تطوع الاختيار ، والحرية الشخصية ، و المسئولية الفردية ، تجاه المجتمع الذي يعيش فيه المرء ويريد العطاء له بما لديه من إمكانيات معرفة أو أمكانيات مادية. أي أن المجتمع المدني يتيح للأفراد المجال لتشكيل مصائرهم الخاصة ومساعدة الآخرين. ويفسر ذلك أهمية وجود مجتمع مدني قوى متسم بالحيوية في صورة تأسيس جمعيات تطوعية ومنتديات وجمعيات خيرية كملمح أساسي للديموقراطية الليبرالية، والتفضيل الأخلاقي لدى الليبراليين التقليديين للمجتمع المدني، وهو ما يظهر في الرغبة في تعضيد عمل الأجهزة التنفيذية في الدولة عن طريق النشاط في المجال الخاص.
وعلى النقيض من ذلك، يوضح الاستخدام الهيجلي للمفهوم أبعاده السلبية حيث يضع أنانية المجتمع المدني في مواجهة الإيثار المعزز في إطار كل من الأسرة والدولة، من ناحية ثالثة، فإن الماركسيين والشيوعيين عادة ما ينظرون إلى المجتمع المدني بصورة سلبية حيث يربطونه بالهيكل الطبقي غير المتكافئ والمظالم الاجتماعية. وتبرر مثل هذه الآراء التخلص من الهيكل القائم للمجتمع المدني كلية، أو تقليص المجتمع المدني من خلال التوسع في قوة الدولة ودورها التنظيمي. ولكن التاريخ يبين أن تلك السياسات الماركسية والشيوعية والاستبدادية قد فشلت.
المجتمع المدني والاقتصاد
لا يقتصر المجتمع المدني على التطوع الفردي فقط بغرض تحقيق فائدة اجتماعية للناس أو تكوين اتحادات مع أناس يشتركون في ممارسة رياضة أو هواية مشتركة في أوقات الفراغ، بل تشمل أيضا حرية تأسيس شركات ومؤسسات أهلية للتجارة أو الإنتاج الصناعي. فبتزايد الشركات المساهمة التي تنشؤها الأهالي تزداد فرص العمل، ويقل العبء على الدولة لتوفير عمل لكل مواطن، ويتيح للحكومة أن تهتم بالتعليم من المدرسة الابتدائية إلى الدراسة الجامعية والتأهيل الجيد للشباب ليقوم بعد ذلك بالمشاركة الفعالة في الإنتاج. ومن واجبات الدولة بناء البنية التحتية ومثلا الاهتمام بالمواصلات وتسيير السكك الحديدية، والبريد. فالمجتمع المدني هو تضامن اجتماعي يشمل الجميع، يشمل الترابط بين صاحب العمل والعمال، ويكون للدولة والجهاز التشريعي فيها باصدار القوانين التي تحدد علاقة صاحب العمل بالعامل والعمال، كما تصدر القوانين الخاصة بالتأمين الصحي للعمال والموظفين.
تتبع النمسا وألمانيا مفهوم المجتمع المدني على هذا المفهوم الموسع، حيث تتيح الدولة للاهالي إنشاء شركات ومؤسسات تساهمية إلى أبعد الحدود. وفي الوقت التي تقوم فيه الدولة بإنشاء المقومات الأساسية مثل بناء البنية التحتية، وتشغيل السكك الحديدية والمواني، والبريد، فهي تهتم أيضا بأن تقوم الأجهزة التشريعية بتحديد العلاقة بين صاحب العمل والعامل والعمال. فمثلا يقرر المشرع بأن يكون التأمين الصحي للعامل وذويه من القصر مناصفة بين صاحب العمل والعامل. كما ينظم المشرع تأمين العامل ضد البطالة إذا ما ساء حال شركة ما واضطرت لتسريح بعضا من عمالها. فالدولة هي التي تقوم بتحصيل تأمين البطالة من المنبع (أي من الشركة أو المؤسسة مباشرة) وتحدده وترفعه بحسب نقص أو غلاء الأسعار، وهي التي تقوم بعد ذلك بدفع إعانة البطالة للعامل بالقدر وللمدة التي حددها القانون.
معظم الشركات الألمانية والنمساوية الكبيرة، مثل سيمنز ودايملر بنز وكروب للحديد والصلب، وباير للصناعات الكيميائية وصناعة الدواء هي شركات مساهمة تمتلكها الأهالي. فهي أدوات إنتاجية وتوفر فرص العمل والعلاقة بينها وبين العملين فيها ينظمها المشرع، فهي منظومة نشطة للتضامن الاجتماعي وتحقيق الرخاء.