مادية
المادية (بالإنجليزية: Materialism) هي نوع من الفلسفة الأحادية تتبنى أن المادة هي المكون الأساسي للطبيعة، وأن كل الأشياء، بما فيها الجوانب العقلانية كالوعي، هي نتاج لتفاعلات مادية.
تعتبر الفلسفة المثالية كلا من العقل والوعي حقائق من الدرجة الأولى، ولهما تخضع المادة التي تعتبر بدورها حقيقة من الدرجة الثانية. لكن في الفلسفة المادية يكون الامر بالعكس. فهنا، يعتبر العقل والوعي منتج ثانوي أو ظاهرة مصاحبة للعمليات المادية (الكيمياء الحيوية للدماغ والجهاز العصبي على سبيل المثال) التي من دونها لن يتواجد أي منهما. إذ وفقا لهذه الفلسفة، الماديات هي من تخلق وتحدد الوعي، وليس العكس.
تنقسم النظريات المادية في عمومها إلى ثلاثة مجموعات. المادية البسيطة تحدد العالم بعناصر محددة (مثل العناصر الأربعة –نار، هواء، ماء، وتراب– التي ابتكرها فيلسوف ما قبل سقراط إميمبيدوكليس). المادية الميتافيزيقية تفحص مكونات العالم المنفصلة والمنعزلة. والمادية الجدلية تتبنى الجدلية الهيغلية للمادية، وتفحص علاقة مكونات العالم ذات الطبيعة الديناميكية ببعضها البعض.
تربط المادية علاقة قرابة مع الفيزيائية، وهي الرأي القائل بأن كل ما هو موجود هو في النهاية فيزيائي. تطورت الفيزيائية الفلسفية عن المادية مع اكتشاف العلوم الفيزيائية لتندمج مع المزيد من المفاهيم المطورة حول الفيزيائية بحيث لا تدمج معها المفاهيم غير المعتادة، مثل الزمكان، الطاقات الفيزيائية والقوى، المادة المظلمة، وغيرها. ومن هنا فإن مصطلح الفيزيائية مفضل عن المادية لدى البعض، والبعض الآخر يستخدمون المصطلحين وكأنهما واحد.
الفلسفات المعارضة للمادية أو الفيزيائية تتضمن المثالية، التعددية، الثنائية، وبعض الأشكال الأخرى من الوحدوية.
نظرة عامة
تنتمي المادية إلى فئة الأنطولوجيا الأحادية. وهي بذلك تختلف عن النظريات الأنطولوجية المبنية على الثنائية والتعددية. وتعارض المادية الفلسفة المثالية، الوحدوية المتعادلة، والروحانية في التفسيرات الأحادية للظواهر الواقعية.
رغم العدد الكبير من المدارس الفلسفية والفروق الدقيقة بين كثير منها، فيقال أن الفلسفات جميعها تقع تحت تصنيفين رئيسيين متعارضين: المثالية والمادية. والافتراض الأساسي لهذين التصنيفين يتعلق بطبيعة الواقع، والفرق الجوهري بينهما هو الكيفية التي يجيب بها كل منهما عن الأسئلة الأولية: «مم يتكون الواقع؟» و «ما هو منشأ الواقع؟» بالنسبة للمثاليين، فالروح أو العقل أو خصائص العقل (الأفكار) هي الأساس، والمادة تابع لهم. وبالنسبة للماديين، المادة هي الأساس، والمادة أو الروح أو الأفكار هي التابع الذي ينشأ عن فعل المادة تجاه المادة.
ربما يكمن الفهم الأفضل للمادية في تعارضها مع الفلسفات اللامادية التي طبقت تاريخيا على العقل، واشتهر بذلك رينيه ديكارت. ومع ذلك، فالمادية نفسها لا تخبرنا بشيء حول ما يجب علينا فعلها لتصنيف الأشياء المادية. وعمليا، تتمثل المادية عادة في جانب واحد من الفيزيائية.
ترتبط المادية عادة بالاختزالية، والتي وفقا لها فإن الأشياء أو الظواهر إذا كانت حقيقية فإنها يجب أن تقبل التفسير على مستوى أكثر اختزالا من مستواها الذي تنفرد به. لكن المادية اللاختزالية ترفض هذا المفهوم صراحة، ومع ذلك فهي تحاول صنع اتساق بين المكونات المادية لكل الأشياء مع وجود خصائص أو ظواهر حقيقية لا تقبل التفسير على نفس النحو الذي تفسَّر به المكونات المادية البسيطة. يجادل جيري فودور جدالا مؤثرا لصالح هذه النظرة، فبالنسبة له فإن القوانين التجريبية وتفسيرات العلوم الخاصة كعلم النفس أو الجيولوجيا تختفي عند النظر إليها من زاوية الفيزياء. وقد تم تأليف الكثير من المؤلفات المؤثرة بناء على العلاقات التي تربط وجهات النظر هذه ببعضها البعض.
يوسع الفلاسفة الماديون الحداثيون تعريف الظواهر الملاحظة علميا كالطاقة، القوى، وانحناء الفضاء. لكن فلاسفة مثل ماري ميدغلي ترى أن مفهوم «المادة» مراوغ وذو تعريف ضعيف.
تعارض المادية بشكل مباشر مع الثنائية، الظاهراتية، المثالية، الحيوية، والوحودية ثنائية الجوانب. ويمكن ربط المادية، ببعض الطرق، بمفهوم الحتمية الذي يتبناه التنويريون.
خلال القرن التاسع عشر، وسع كارل ماركس وفريدريك إنغلز من مفهوم المادية لإصدار مفهوم مادي للتاريخ متمحور بشكل أساسي حول عالم النشاط البشري التجريبي (بما في ذلك العمل)، والمؤسسات التي نشأت، أعيد إنشاؤها، أو دمرت بفعل ذلك النشاط (انظر إلى المادية التاريخية). لاحقا، قام الماركسيون من أمثال فلاديمير لينين وليون تروتسكي بتطوير مفهوم المادية الجدلية الذي حدد فيما بعد معالم الفلسفة الماركسية ومنهجها.
تاريخ
تُقال «المادية» في مقابل «المثالية» idéalisme. وتوصف بها اتجاهات ونزعات قلسفية عديدة تشترك في القول بأن الأصل في الموجودات هو المادة، لا الروح أو العقل او الشعور، ويمكن بيان المذاهب المادية بحسب العصور على النحو التالي:
العصر المحوري
تطورت المادية، ربما بشكل مستقل، في العديد من المناطق الجغرافية المنفصلة من أورآسيا خلال ما يسميه كارل ياسبرس العصر المحوري (ما بين 800 – 200 قبل الميلاد).
تطورت المادية في الفلسفة الهندية القديمة قرب العام 600 قبل الميلاد، وذلك بجهود أجيتا كيساكامبالي، باياسي، كانادا، ومؤيدو مدرسة شارفاكا للفلسفة. أصبح كانادا واحدا من أوائل مؤيدي الذرية. وقد طورت مدرسة نايا – فايسيسيكا واحدا من أول أشكال مفهوم الذرية، إلا أن براهينهم عن الإله، وافتراضهم أن الوعي ليس ماديا، يعيق تصنيفهم كماديين. وقد تمسكت كل من البوذية الذرية والمدرسة الجاينية بالفلسفة الذرية.
يسبق الذريون من قدماء الإغريق كليوكيبوس، ديمقريطس، وإبيقور ولوكريتوس الماديين اللاحقين. ويقررون أن الموجود ينحل إلى أجزاء لا تتجزأ هي الذرات، والذرات تنتقل في الخلاء. كذلك يرون أن كل موجود يخضع لقوانين ضرورية، والإنسان يندرج في هذا الوضع. ويهدف هذا المذهب إلى الصراع ضد الخرافات وضد الخوف من الموت. فالقصيدة اللاتينية «في طبيعة الأشياء» (99 – 55 قبل الميلاد) تعكس الفلسفة الميكانيكية لديموقريطوس وإبيقور. وفقا لهذه النظرة، فإن كل ما هو موجود مادة وفراغ، وكل الظواهر تنشأ عن حركات مختلفة وتجمعات لجسيمات أساسية مادية تسمى «الذرات» (حرفيا: التي لا تقبل التجزئة). تقدم القصيدة تفسيرات ميكانيكية لظواهر مثل التآكل، التبخر، الرياح، والصوت. والمبدأ الشهير القائل بأن الجسم لا يلامسه إلا جسم ظهر لأول مرة في أعمال ليوكريتوس. لكن رغم ذلك، لم يتمسك ديموقريطوس وإبيقور بأنطولوجيا وحدوية، حيث تبنى كل منهما انفصالا أنطولوجيا للمادة والفضاء، أي أنهما اعتبرا الفضاء من جنس آخر، مما يوضح أن مفهوم المادية أكبر مما تصفه هذه المقالة.
الحقبة العامة
كان وانغ تشونغ (27 – 100م) مفكرا صينيا في بداية الحقبة العامة، ويقال أنه فيلسوف مادي.
لاحقا، فند الفيلسوف المادي الهندي جياراسي باتا (القرن السادس) في مؤلفه «المزعج من جميع المبادئ» أبستمولوجيا نيايا سوترا. يبدو أن الفلسفة المادية لمدرسة شارفاكا اندثرت في وقت ما بعد العام 1400. فعندما ألف مادهافشاريا «خلاصة جميع الفلسفات» في القرن الرابع عشر، لم يجد أي نصوص ليقتبسها عن شارفاكا أو لوكاياتا أو ليشير إليها.
في مطلع القرن الثاني عشر بالأندلس، كتب الفيسلوف العربي ابن طفيل محاورات عن المادية في روايته الفلسفية «حي بن يقظان»، وأنذر بشكل مبهم بفكرة المادية التاريخية.
الفلسفة الحديثة
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، نجد المادية تتخذ اتجاهاً ملحداً واضحاً. وتقوم على التعارض بين المادة والجوهر المفكر. وفي نظرية المعرفة ترد المعرفة إلى الحواس وحدها. ومن أبرز ممثليها في فرنسا في القرن الثامن عشر لامتري، وهولباك وهلفسيوس. وهى تتصور الكون على أنه كل مؤلف من أجسام مادية، فيه تجري أحداث الطبيعة وفقاً لقوانين موضوعية ضرورية. والزمان والمكان والحركة تعد أحوالاً للمادة. وكل ظواهر الوعي (الفكر) تتوقف على التركيب الجسماني للانسان.
مثل كل من توماس هوبز (1588 – 1679) وبيير جاسندي (1592 – 1665) الفلسفة المادية في وجه محاولات رينيه ديكارت تقديم العلوم الطبيعية على أسس ثنائية. وتبعهم بعد ذلك المادي والملحد جان ميسلير (1664 – 1729)، المادي الفرنسي جولين أوفراي، الألماني الفرنسي بارون دي هولباخ (1723 – 1789)، دينس ديديروت (1713 – 1784)، وغيرهم من المفكرين التنويريين الفرنسيين. وفي إنجلترا، أصر الفيلسوف جون ستيورت (1747 – 1882) على رؤية المادة التي وهبها بعدا أخلاقيا على أن لها تأثيرا كبيرا على فلسفة ويليام وردزورث (1770 – 1850).
وفي الفلسفة الحديثة المتأخرة، لوح المادي الجدلي الألماني والأثروبولوجي الملحد لودفيغ فيورباخ بتحول جديد في المادية في كتابه «جوهر المسيحية» (1841)، فقد قدم حسابا إنسانوياً للدين بوصفه إسقاط خارجي لطبيعة الإنسان الداخلية. كان لمادية فيورباخ تأثير كبير على كارل ماركس، والذي بدوره فصل مفهوم المادية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما كان أساسا للاشتراكية العلمية لدى ماركس وإنغلز.
في القرن التاسع عشر نما نوعان من المادية:
أ - المادية العلمية، ويمثلها كارل فوغت Vogt ويعقوب موليشوت Moleschott ولودفيغ بوشنر في ألمانيا، وكابانيس في فرنسا، وقد بلغت أوجها عند ارنست هكل Haekel في مذهبه الواحدي Monisnus.
ب - المادية التاريخية وهي التي قعّد قواعدها كارل ماركس وفريدرش إنجلز. ولا تعتمد هذه المادية على علوم الطبيعة، بل تسعى إلى تحويل المجتمع وعلوم المجتمع. وموقفها يقوم في ارجاع الدولة إلى «المجتمع المدني»، أو ارجاع أشكال الشعور إلى البنية الأساسية الاجتماعية social infrastructure، كما أرجع الماديون في القرن الثامن عشر الفكر إلى المادة. والمادة التاريخية تقوم إذن، في المرحلة الأولى، على قلب روابط السببية، واستناداً إلى هذ القلب أنشأ أصحابها علماً تاريخياً يفسر أحداث التاريخ على أساس العوامل المادية وحدها؛ وهي ترجع أساساً إلى عوامل اقتصادية، إن المادية التاريخية تطبق مبادىء المادية على التاريخ، وعلى المجتمع.
وماركس وانجلز في تصورهما للتاريخ وللمجتمع ينظران إليهما على أنهما مسارح لعمليات Prozessen تجري وفقا لنهج الديالكتيك، أي التحول من الموضوع إلى نقيض هذه الموضوع ليتألف منهما في مرحلة ثالثة مركب موضوع Synthese. إن التاريخ عملية حركة وتغير من النقيض إلى النقيض ثم إلى المركب من النقيضين. يقول ماركس وأنجلز «إن التصور المادي للتاريخ وتطبيقه الخاص على صراع الطبقات في العصر الحديث بين البروليتاريا والبورجوازية ليسا ممكنين إلا بفضل الديالكتيك».
وتزعم المادية التاريخية أنها هي وحدها الكفيلة بوضع نظرية في المجتمع وتطوره لا تقوم على التأملات النظرية والتقويمات الذاتية، بل الأحوال الفعلية الملموسة والطبيعية للحياة الانسانية. وترتكز على أهمية عملية الانتاج والتوالد المادين وتطورهما.
كذلك يزعمون أن المادية التاريخية تحيل إلى الأهمية الاجتماعية للنشاط العملي النقدي والنشاط الثوري الانساني، وتوجه كل عمل اجتماعي إلى تشكيل التاريخ والمجتمع في اتجاه الصراع الطبقي لطبقة العمال وتحويل المجتمع في اتجاه شيوعي .
وعند المادية التاريخية ليس المجتمع هو مجموع الأفراد الذين منهم يتالف المجتمع، بل هو جماع العلاقات الاجتماعية القائمة على طريقة الانتاج كما تحررت عينياً وتاريخياً. ووجود الطبقات والصراع بينها لا يتوقف على أمافي الناس ورغباتهم، بل هو مرتبط بأحوال الانتاج كل الارتباط، وهي بدورها تتوقف على قوى الإنتاج.
فصل كارل ماركس مفهوم المادية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما كان أساسا للاشتراكية العلمية لدى ماركس وإنغلز:
في وقت لاحق، أوجز فلاديمير لينين الفلسفة المادية في كتابه «المادية والنقد التجريبي»، وربط بين المفاهيم السياسية لخصومه والفلسفات الضد-مادية. وقد حاول لينين في كتابه أن يجيب على أسئلة تتعلق بالمادة، التجربة، الحس، الفضاء والزمان، السببية، والحرية.
الفلسفة المعاصرة
الفلسفة القارية
حاول الفيلسوف القاري المعاصر جيل دولوز أن يدعم ويعيد صياغة الأفكار المادية الكلاسيكية.
وقد تم تصنيف المنظرين المعاصرين، مثل مانويل ديلاندا، الذين يعملون وفق هذه المادية المعاد تنشيطها، كماديين جدد في معتقدهم. أصبحت المادية الجديدة الآن فرعا مستقلا من المعرفة، ولها مساقات تدرس في كبرى الجامعات، ويعقد لها الكثير من المؤتمرات، وتؤلف فيها الكتب والدراسات. في كتابه «المادة النابضة بالحياة»، كان لجين بينيت دور فعال في جلب نظريات الأنطولوجيا الوحدوية والمذهب الحيوي إلى المذهب النظري المحكوم بنظريات البعد بنيويين عن اللغة والتواصل. لكن أكاديميين مثل ميل شين وزكية إيمان جاكسون انتقدوا بنية المادية الجديدة هذه لتجاهلها مادية العرق والجنس على وجه الخصوص. وتساءل أكاديميون مثل هيلين فوسترس حول ما إذا كان هناك أي «جديد» بخصوص ما يسمى «المادية الجديدة»، فقد نادى أنطولوجيون آخرون سابقون بما يمكن أن يسمى «حيوية المادة» طوال قرون.
الفلسفة التحليلية
يعمل الفلاسفة التحليليون المعاصرون –كدانيل دانيت، ويلارد فان أورمان كواين، دونلاد ديفيدسون، وجيري فودور– وفق إطار فيزيائي ومادي علمي عريض، وقدموا تفسيرات منافسة حول الطريقة المثلى للتوافق مع العقل، بما في ذلك الوظائفية، الأحادية الشاذة، ونظرية الهوية، وغيرها.
المادية في العلوم الاجتماعية
فى علم الاجتماع والعلوم ذات العلاقة به، تكتسب كلمة مادية ثلاثة معانى متميزة تماماً، بيد أنها مرتبطة ييعضها البعض إلى حد ما، وعلدة ما يتم الخلط بينهام ويشتق المعنى الأول قدمت التطورات المعاصرة فى علم أصبحت أكثر شيوعاً، ومن ثم تم من الخلاف الأخلاقى والسياسى الشائع، الذى تشير المادية وفقا له إلى النمط المسائد للرغبة فى الاستمتاع الحسى الخالص، والاستحواذ المادى أو إلى الراحة القيزيقية على حساب أية قيم أو اعتبارات ومثل عليا أخلاقية أو روحية. ويعد هذا الاستخدام فى العادة بمثابة حكم سلبى ينتقص من قدر المصطلح.
أما المعنى الثانى فيشير إلى عدد من المواقف الميتافيزيقية (وجهات نظر فلسفية حول الطبيعة الأساسية للواقع). وعلى الرغم من الإقرار بأن المواقف المادية الميتافيزيقية قد تم التعبير عنها والدعوة إليها منذ القرن الخامس قبل الميلاد فى اليونان، إلا أن انتشار النزعة المادية كرؤية حديثة للعالم يرجع إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر ميلادية فى أوربا. فحيث كانت المادية فى العصور الكلاسيكية تعارض النزعة الشكلية، فإن الشكل الأكثر شيوعاً للتعارض فى العالم الحديث كان مابين المادة والروح أو العقل. فلقد اختزلت ميتافيزيقا ديكارت مجمل الوجود إلى جوهرين أساسيين: المادة، وتتسم بالامتداد وهى جوهر الوجود المادى، والعقل، الذى لا يتموضع مكانياً ويتسم بالفكر. وقد قدمت التطورات المعاصرة في علم الميكانيكا الأساس للتفسيرات الفلسفية المبكرة للمادة، وبدت كما لو أنها قد امتلكت أيضاً القدرة على تفسير كافة الظواهر فى ضوء مصطلحات الميكانيكا. وتقف الفصول الأولى من مؤلف توماس هوبز "التنين" شاهداً صارخاً على مثل هذه المحاولات المادية - المعارضة لديكارت -المبكرة لتفسير العمليات المعقلية الإنسانية، مثل الإدراك والتذكر، والإرادة، والانفعالات، والاستبصار، والاستدلال وهلم جرا، فى ضوء مفاهيم علم الميكانيكا.
وفى الفترات التى ازداد فيها التلاحم بين السلطة الإدارية والقوة السياسية ، كان ينظر إلى مثل هذه المذاهب الفكرية على أنها راديكالية وأنها ذات آثار هدامة. ولقد ربط كل من مؤيدى ومعارضى المذاهب الاشتراكية والشيوعية فى القرن التاسع عشر على حد سواء بين هذه المذاهب والفلسفة المادية. ومع ذلك، وفى ضوء المتغيرات التى طرأت على العلوم، وبخاصة التطورات فى علوم الحياة، حدث تحول فى محتوى المذاهب المادية أيضاً. وقد نتج عن ذلك أن المقابلات العضوية (التى تم التمييز بينها وبين تلك الميكانيكية) أصبحت أكثر شيوعاً، ومن ثم تم استدماج العمليات التطورية والتاريخية فى إطار وجهة النظر الفلسفية عن العالم المادى. و لقد كانت هذه الملامح بالغة الوضوح بشكل خاص فى منتصف القرن التاسع عشر الذى شهد ثورة أصحاب النزعة المادية بقيادة فويرباخ وماركس وإنجلز ضد النزعة المثالية الألمانية التقليدية.
فلقد رفض هؤلاء المفكرون كلا من (النزعة) المثالية والأشكال الاختزالية المادية الأكثر ضيقا التى نهضت على علم الميكانيكا، والتى افتقدت القدرة على تقديم تفسير كامل للخبرات الحسية لنشوء الوعي والذوات الإنسانية الفاعلة. إن مثل هذه الظواهر، ينبغي مع ذلك ألا تفهم فى ضوء كونها نوعاً من التنازل لصالح المثالية، وإنما كنوع من استغلال التفسير الأكثر تعقيداً وإحكاماً للمادة ذاتها، الذى يتيحه التقدم المستمر فى المعرفة العلمية. ولقد قدم إنجلز الصياغة النظرية لمبادئ هذا الاتجاه الفلسفى تحت مسمى المادية الجدلية.
ويرتبط المعنى الثالث الشائع الاستخدام لمصطلح المادية فى علم الاجتماع، بكل من ماركس وإنجلز أيضاً. وتؤكد المادية بهذا المعنى على أسبقية التفاعل مع البيئة الطبيعية - بغرض إشباع الحاجات - على كل من فهم البنى الاجتماعية الإنسانية و أنماط الصراع، وأيضاً على التغيرات التاريخية الطويلة الأمد. وعلى الرغم من وجود ارتباط واضح بين هذا المذهب والممادية الميتافيزيقية، فإنهما مستقلان تماماً عن بعضها البعض من الوجهة المنطقية. وتحتوى الكتابات المتأخرة لكل من ماركس وإنجلز على محاولات لتعريف وتصنيف الأشكال الأساسية المختلفة للمجتمعات الإتسانية فى ضوءاللنظيم الاجتماعى للأنشطة المادية للإنتاج والتوزيع والاستهلاك. وهكذا، فإن أنماط الإنتاج التى تسم استخلاصها فى ضوء ذلك، يفترض أنها ذات أنماط مميزة للهيمنة الاجتماعية، والخضوع والصراع، فضلا عن إبرازها اتجاهات محددة نحو التغير الاجتماعى، واحتمالات المتحول لأشكال أخرى. كما افترض أن لكل من هذه الأنماط الإتتاجية المتميزة أشكالا ثقافية وطرائق تفكير ونظما سياسية مميزة له.
ويطلق على هذا الاتجاه فى التفسير الاجتماعى تعبير "المادية التاريخية"، وهو عادة ما ينتقد بسبب تأكيده المتضخم على الحياة الاقتصادية، على حساب العمليات السياسية أو الثقافية، على أنه يمكن القول، أن ماركس وإنجلز قد باعدا بينهما ويين الحتمية الاقتصادية أو التفسيرات الاختزالية لأعمالهما. ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم التلازم بين مفهومهما حول "نمط الإنتاج" من ناحية، ومجموعة الأنشطة التى عادة ما تصنف على أنها "قتصادية» من ناحية أخرى. وفضلا عن ذلك، فإنه حتى فى المجتمعات التى يوجد فيها فصل مؤسسى يين الممارسات الاقتصادية والسياسية والفنية وغيرها من الأنشطة، فإن المادية التاريخية تؤكد على أن مثل هذه الأنشطة غير الاقتصادية تتمتع باستقلالية نسبية فى إطار عدد من الاحتمالات القائمة التى تتحدد حدود اسثقلاليتها فى ضوء البناء الاقتصادى. على أن أحد أكثر المشاكل الملحة، التى كان على ماركسيى القرن العشرين أن يواجهوها، هى أن يطوروا تفسيرات أكثر صرامة وقابلية للدفاع عنها إمبيريقيا حول هذه العلاقات. ومن المحتمل أن المادية التاريخية بتأكيدها على التغاعل مع الطبيعة بغرض إشباع الحاجات، لم تكشف لنا بعد قرب نهاية القرن العشرين إلا عن النذر اليسير من امكاناتها المحتملة، حيث نجد أن علماء الاجتماع يلتفتون بصورة متزايدة للاهتمام بالمشكلات البيئية.