أمبادوقليس
أمبادوقليس (باليونانية القديمة ΈμπεδοΚλής) (من 490 ق.م إلى 430 ق.م) كان فيلسوفاً يونانياً في فترة ما قبل سقراط، مواطن بمدينة آغريغنتوم، وهي مدينة يونانية بـصقلية، وفلسفة أمبادوقليس كانت المنشأ لنظرية العناصر الأربعة، كما اقترح وجود قوى أطلق عليها الحب والبغض كسبب لتمازج العناصر أو انفصالها عن بعضها، ونتيجة لتأثره بالفلسفة الفيثاغورثية، آمن أمبادوقليس بتناسخ الأرواح، ويُعتبر آخر فيلسوف اغريقي يدوّن أفكاره وفلسفته كأبيات شعرية، توفي عندما ألقى بنفسه في فوهة بركان، كانت مادة ثرية للأساطير والكثير من المعالجات الأدبية.
حياته
لا نعرف تاريخ ميلاده، لكن نعلم بأنه زار توريي توريي Thurii بعد تأسيسها بقليل وهذه المدينة تأسست في سنة 444-443. قبل الميلاد.
يرجع المؤرخون مولده إلى مدينة آغريغينتوم (آكراغاس) عام 490 ق.م لعائلة عريقة، ويبدو أن والده ميتو كان له دوراً في اقصاء طاغية آغريغينتوم عن الحكم، الذي يُعتقد أنه كان ثراسيدايوس في عام 470 ق.م، وقد سار أمبادوقليس على النهج الديموقراطي لعائلته وأشترك في السياسة وكان زعييماً للحزب الديمقراطي في مدينة آغريغينتوم حيث ساعد في اقصاء الحكومة الأوليغاركية التي تلتْ، ويُقال أنه كان مساعداً عظيماً للفقراء، ومتشدداً في مقاومته للأريستوقراطية، حتى أنه حين عُرض عليه أن يحكم مدينته، رفض.
علمه الواسع، وفصاحته وخبرته بشفاء الأمراض ومنع الأوبئة، نسجتْ الكثير من الأساطير حوله، وقيل أنه كان ساحراً له قدرة التحكم في الريح، وهو نفسه في قصيدته الشهيرة تطهيرات ادّعى امتلاكه القوى الخارقة، مثل القدرة على تدمير الشر، واطالة العمر، والتحكم بالريح والمطر. وقيل أنه قام بعدد من الرحلات، منها رحلته إلى بلاد الفرس، وفقاً لأرسطو فقد مات في الستين من عمره، ويقال أنه ألقى بنفسه في لهيب بركان إتنا.
ويروى الكثير من الأخبار عن قيامه بأعمال السحر والمعجزات. من ذلك ما رواه ذيوجانس اللائرسي من أنه حدث يوماً أن هبت الرياح الأتيزية هبوباً شديداً جداً لدرجة انها انتزعت الثمار من الأشجار. فجاء أمبادقليس بحمير وسلخ جلودها ونشرها على الروابي وقمم الجبال لوقف هبوب الرياح. فتوقفت الرياح فعلاً، ولهذا سمي «واقف الرياح»
وينقل ذيوجانس (ج ٢ص ١٤٤) بأن طيماوس (في «اخباره» المقالة التاسعة) يذكر أن أمبادقليس كان من تلاميذ فوثاغور، وأنه أدين بسرقة الخطب، فمنعه أصحاب فوثاغورس من المشاركة في أحاديث هذه الفرقة، وهوأمرقد وقع أيضاً لأفلاطون. ويقول نيانشع20عل انه الى عهد فيلولاوس وأمبادقليس كان الفوثاغوريون يجرون أحاديثهم في الهواء الطلق، أمام عامة الناس، لكن لا أشاع أمبادقليس آراءهم شعراً وضعوا قاعدة صارمة هي الا يلقنوا اراءهم لشاعر.
ويقول تيوقراسطس انه كان قوي الاتصال ببرمنيذس وأنه حاكي أشعار هذا الأخير. وبرمنيذس، كما نعلم، كتب كتابه «في الطبيعة» شعراً، ولأمبادقليس قصيدة طويلة في الطبيعة. لكن هرميفوس ينكر صحة القول بأن أمبادقليس كان تلميذاً لبرمنيذس، ويقول انه كان تلميذاً لأكسينوفان، وحاول محاكاة قصائده الملحمية
وقد ألف مسرحيات مأساوية (تراجيديات) بلغ عددها في بعض الروايات ثلاثاً وأربعين على الأقل.
ويقول عنه ساتيروس في «تراجمه» انه كان طبيباً بارعاً وخطيباً جيداً. وقد تتلمذ عليه جورجياس، السوفسطائي الكبير. وقد روى جورجياس عن نفسه أنه كان يتردد على امبادقليس حين كان يمارس السحر، أما عن اشتغاله فعلا بالسحر، فيدل عليه قوله في احدى قصائده ٠
«كل الأشربة التي بها تتقي الشيخوخة والأمراض
ستعلمها، لأني سأنبئك، أنت وحدك، بنبئها
وستهدئ غضب الرياح الهائجة التي لا تكل.
والتي، بهبوبها، تدمر الحقول
وفي مقابل ذلك ستقدر على بعث الرياح النافعة كما تشاء
وتتبع الأمطار المظلمة بالجو الصحو
وتعطي الناس، بدلاً من الصيف القائظ،
الأمطار المفيدة التي تهطل في الصيف وترجع الميت من العالم الآخر لترد اليه قواه» .
أما عن موته فهناك حكايات طريفة غريبة، من أشهرها أنه ألقى بنفسه في فوهة بركان أتنا Etna ليظن الناس انه مضى الى السماء فيعبدوه بوصفه إلهاً. لكن لسوء حظه ترك احدى نعليه على حافة الفوهة ولما كان قد اعتاد لبس نعال من البرونز، فقد أمكن التعرف على فردة نعله بسهولة. وهرميفوس يروي الحادث هكذا: «عالج أمبادقليس امرأة تدعى بنثايا Pantheia كان الاطباء قد يئسوا من علاجها، فشفيت وأقامت لهذا مأدبة ودعت ثمانين شخصاً. ويروي هيبوبوت Hippobote أنه نهض من عند المائدة ومضى في اتجاء (بركان) اتنا Etna ، وفيما يبدو، حين وصل الى هنالك القى بنفسه في فوهة البركان وسط النار، واختفى، وقد شاء بهذا أن يؤيد ما اشتهر بأنه إله. وقد عرف الأمر فيما بعد، لأن احدى نعليه قذفها البركان، وكان من عادته ان يلبس نعالأ من البرونز. غير أن بوسنياس Pausanias انكر صحة هذه الرواية إنكاراً شديداً» (ذيوجانس، ج٢ص ١٤٨ - ١٤٩) كذلك أنكرها طيماوس في «تراجمه» واكد ان أمبادقليس ارتحل الى اقليم البلوبونيز (في جنوب بلاد اليونان) ولم يعد من رحلته هذه أبداً الى وطنه في صقلية .
أعماله
يُعتبر آخر فيلسوف إغريقي يكتب أفكاره كأبيات شعرية، وما نجا من أعماله إلى الآن قصيدتان: تطهيرات، وعن الطبيعة. أطلق عليه أرسطو لقب (أبو الخطابة)، كما وصفه بأن موهبته الشعرية تنافس هومر نفسه، كما تحدث عنه لوكريتيوس واصفاً اياه بأنه مثله الأعلى، كلا قصيدتي أمبادوقليس تطهيرات وعن الطبيعة تؤلفا معاً 5000 سطر، و550 سطراً فقط من شعره نجا إلى الآن، ويعتقد بعض الباحثين الآن أنهما في الحقيقة قصيدة واحدة فقط، نظراً للالتباس الذي حدث لأن العلماء القدامى لم يهتموا بذكر مصادر اقتباساتهم بدقة، هكذا فإنه يُعتقد أن تطهيرات هي المقدمة لقصيدة عن الطبيعة.
تطهيرات
نملك 100 سطر فقط من تطهيرات أمبادوقليس، ويبدو أنها تصف العالم بشكل خرافي، وفقاً لرؤية أمبادوقليس الفلسفية، ومطلع القصيدة تم حفظه بواسطة ديوجين لائيرتيوس:
وكلما جئت بمدينة شهيرة أشاد بي الرجال والنساء، وتبعني الآلاف ليرتووا بإلهامي. بعضهم يطلب مني نبوءة وآخرون يتضرعون لأجل الشفاء من كل مرض.
هذه هي القصيدة الوحيدة التي تتضمن قصة تناسخ الأرواح، حيث، كما يفترض أمبادوقليس، تنتقل الروح من جسد لآخر، قد تحل في جسد نبات، حيوان أو إنسان، وخلال هذه التنقلات تمرّ الروح بعمليات تطهير، حتى تصل إلى المثال من جديد، أو حالتها العليا.
عن الطبيعة
تتكون القصيدة في الأصل من 2000 سطر، بقى منها 450، وكانت موجّهة إلى بواسانياس الصقلي، وفي هذه القصيدة وصف كامل لمنظومة أمبادوقليس الفلسفية، حيث يشرح بها تاريخ الكون، متضمنة نظرية العناصر الأربعة، ويشرح كذلك نظرياته عن السببية، والفهم، والفكر، والظاهرة الأرضية والعمليات الحيوية.
فلسفته
أمبادوقليس لم ينتم لأي مدرسة محددة، بل كان تفكيره مزيجاً من أفكار بارمنيدس، فيثاغورث، والمدارس الأيونية. كان مؤمناً بالعقائد السرّانية الأورفية، وكذلك كان متبعاً للتفكير العلمي ومنتهجاً للعلوم الفيزيائية، وقد ربط أرسطو بينه وبين علماء المدرسة الأيونية، والعلماء الذريين الإغريق وكذلك آناكساغوراس.
حاول أمبادوقليس ايجاد الأساس لكل تغيير يحدث بالطبيعة، ولم يعتبر الصيرورة، والحركة، هي الوجود، والسكون أو الرقود هو اللا-وجود، عكس هيرقليطس الذي كان يعتقد بهذا، لكن أمبادوقليس مثله مثل العلماء الأيونيين والذريين الإغريق يعتقد أنه لا يمكن أن يتحول الوجود إلى لا-وجود، والعكس، حيث يفترض أن الموت التام أو الفناء هو أمر غير ممكن، وأن ما ندعوه صيرورة وموت هو مجرد مزج وعزل لما تم مزجه.
العناصر الأربعة
أمبادوقليس هو مؤسس نظرية العناصر الأربعة الشهيرة، حيث يتكون العالم كله من أربعة عناصر ممزوجة معاً، بنسب مختلفة، هي النار، الهواء، الماء، والتراب، وقد أطلق على هؤلاء «الجذور»، وقد ربط كل عنصر من هؤلاء باسم شخصية ميثولوجية، على الترتيب: زوس، حيرا، بيرسيفونة، وآيدونيوس، ولم يستخدم أمبادوقليس مصطلح «عنصر» قط، (باليونانية: στοιχεῖον) (ستويخيون)، ويبدو أن هذه الكلمة استخدمها أفلاطون للمرة الأولى، وقد عزى أمبادوقليس النمو، والزيادة أو النقصان في الطبيعة إلى درجات تمازج هذه العناصر الأربعة معاً، في رأيه لا شيء جديد يأتي للطبيعة -لا يوجد صيرورة- وأي تغيير يطرأ انما هو التغيير في تمازج أو تناسب عنصر مع آخر، وقد أصبحت هذه النظرية عقيدة علمية راسخة خلال الألفي عام التاليين.
الحب والبغض
ولأن العناصر الأربعة ذات طبيعة بسيطة، دائمة وغير قابلة للتغيير، وأن أي تغيّر في الطبيعة هو نتيجة مباشرة لتمازجها وانفصالها، فقد اقترح أمبادوقليس وجود نوع من القوى المحركة، التي تقوم بعملية المزج والعزل، وهي الحب والبغض، الحب (باليونانية: φιλία) يفسّر تمازج أشكال مختلفة من المواد، والبغض (باليونانية: νεῖκος) السبب في انعزالها.
كرة أمبادوقليس
في الحالة الأولى والأسمى، كانت تلك العناصر النقية والقوّتان المحركتان في حالة من السكون داخل شكل كروي، ويرى أن تلك العناصر تواجدت معاً ولكن في حالة نقية دون أن تمتزج ببعضها، وكذلك دون أن تكون معزولة، وكانت قوة الحب الأساس والحاكم داخل الكرة، بينما تحرس قوة البغض حواف الكرة لحفظ شكلها، ولهذا فقد انحرفت قوة البغض وانحلّت الرابطة التي كانت تمسك بالعناصر الأربعة داخل الكرة، وصارت العناصر العالم الظاهري الذي نراه الآن، مليئاً بالتناقضات والأضداد، وبسبب هذه النظرية، فقد تخيل أمبادوقليس أن الكون دائري، حيث تعود العناصر مجدداً لتشكيل الكرة في مرحلة تالية من الكون.
الوعي والمعرفة
أول من وضع نظرية في الضوء والرؤية، حيث رأى أننا نرى الأجسام لأن ضوءاً يخرج من أعيننا ويلمسها، وقد تأسست على هذه النظرية الكثير من الأفكار الفيزيائية اليونانية اللاحقة، كما فسّر المعرفة بأن العناصر التي تحويها الأشياء التي خارجنا يتم تلقّيها أو التجاوب معها بواسطة العناصر المشابهة الموجودة داخلنا، كما أشار أمبادوقليس إلى حدود الوعي البشري، حيث يرى الإنسان جزء فقط من الشيء، بينما يظن أنه قد أدرك الشيء كله.
موته
يقال أن أمبادوقليس ألقى بنفسه في فوهة بركان إتنا، ليثبت لتلامذته أنه خالد، فحين يختفي جسده تماماً بفعل النيران يكون قد صار إلى الحالة الأسمى، لكن البركان لفظ فردة حذاءه. وفي عام 2006، أُطلق على بركان هائل تحت مياه البحر يقابل شواطيء صقلية اسم أمبادوقليس.
فلسفته
وكما قلنا،عبر أمبادقليس عن فلسفته في قصائد، شأنه شأن برمنيذس، وقد بقيت لنا منها شذرات نشرها ديلز في كتابه العظيم : «شذرات السابقين على سقراط» .
كان برمنيذس قد قال بالوجود الثابت، وأنكر التغيير والتعدد، وكان هرقليطس - على العكس من ذلك - قد قال بالتغير الدائم والكثرة المطلقة، فجاء أمبادقليس وجمع بين كلا المذهبين المتعارضين، فجمع بين وجود ثابت يصفه بما يصف به برمنيذس وجوده، وبين فكرة أو مبدأ من شأنه انيجع التغيرمكناً.
جاء أمبادقليس فقال ان الوجود لا يقبل التغير، كما قال برمنيذس، لأن التغير هو اما الى فساد وأما الى كون. ولما كان الوجود واحداً ، فلا يمكن أن يكون هناك كون، لأنه لا يمكن تصور أن يضاف شيء الى الوجود، اذ الوجود هو الكل، وليس ثمة إلا الوجود. كما أنه لا يمكن أن يتصور وجود الفساد بالنسبة الى الوجود، اذ يقوم السؤال: الى اين سيذهب هذا الجم الفاسد، أو هذا الجزء الذي سيطر عليه الفساد؟ ونتيجة هذا يجب أن نقر بأن الوجود ازلي ابدي . لكن كان عليه بعد ذلك ان يفسر التغير، فقال: إن مبادىء الوجود ليست واحدة، وإنما مبادىء الوجود كثيرة، وذلك ليستطيع ان يفسر كيف يتم التغير ومن هنا كان مبدأ امبادقليس مبداً كثرة، لا مبدأ وحدة. فقال بمبادىء للوجود عديدة، هي العناصر الأربعة المعروفة.
ولا شك في أن امبادوقليس هو أول من قال بهذا المذهب، وهذا يظهر ليس فقط من الروايات التي تحدثنا عن ذلك كما فعل أرسطو، بل وايضاً من ملاحظتنا لجميع المذاهب السالفة، فإن واحدا من هذه المذاهب لا يستطيع القول جهذه المبادئ كلهاوإنما قال البعض إمابمبدأواحدكمافعل طاليس وأنكسمانس، وإما بمبدأين كما فعل انكسمندريس حين قال بمبدأالحاروالبارد، وإمابثلاثة مبادئ كيافعلهرقليطس، وإما بخمة مبادئ كما فعل فيلولاوس. أما القول بمبادئ أربعة هى النار والهواء والماء والتراب، فأول من قال به هو أمبادوقليس. وهنا يلاحظ ايضاً أن الكلمة اليونانية التى تدل على عناصر وهي ^استويخيون، (اسطقس) لم يكن امبادوقليس أول من قال بها، بل إن أفلاطون هو أول من أدخلها في المصطلح العلمي، كما يظهر من محاورة «تيتاتوس».
وقد أضاف أمبادوقليس إلى هذه العناصر الأربعة كل الصفات التي أضافها برمنيدس إلى الوجود من حيث الأزلية والأبدية ومن حيث عدم التغير من ناحية الكيف. والنقطة الرئيسية هناهي أن هذه المبادىء لا تتغيرعن طريق الكيف، وإنما تفر الحركة والتغير تفسيراً كمياً آلياً، لأن التغير نتيجة للاجتماع أو الانفصال، وكل عنصر من هذه العناصر مكون من جزيئات صغيرة، وبين كل جزيءوجزيء توجد مسام. ويتم الاتحاد، سواء اكان هذا الاتحاد كيمائياً ام اليا، بأن تأقي الذرات المتشابهة في العنصر الواحد فتدخل المسام الموجودة بين الذرات أو الجزيئات الموجودة في العنصر الآخر، وتكون درجة الاتحاد تابعة لتلاؤم المسام الموجودة في العنصر مع الذرات المنبعثة من العنصر الآخر فهناك إذاً مسام، وهناك سيال مستمر يجري بين الجزيئة المختلفة في العنصر الواحد والجزيئات الأخرى في العنصر الآخر وعن هذا الطريق يمكن أن يفسر التغير، فهو اجتماع جزيئات العنضر الواحد بجزيئات العنصر الآخر أو انفصالها؛ وهنا يلاحظ دائماً أنه ليس هناك تغير في الكيف بل كل تغير هو تغير في الكم فحسب، كما يلاحظ أيضاً ان التغيرعند أمبادوقليس لا يمكن ان يكون موجوداً في الوجود ككل، ولكنه يوجد في الحوادث الجزئية فحب، أي في داخل الكل الأكبر بينما نحن نجد عند برمنيذس أن التغير لا يتم سواء في العالم ككل، وفي أجزاء الوجود.
والآن، كيف يتم هذا التجمع أوهذا الانفصال ؟ لا يريد امبادوقليس أن يقول بأن في المادة نفسها مبدءاً للحركة والتغير، فلم تكن نظرته إلى المادة تلك النظرة التي كات سائدة في المدرسة الأيونية من حيث إن المادة تحتوي الحياة وفيها مبدأ الحركة وإنما قال أمبادوقليس لأول مرة في تاريخ الفكر اليونافي بوجود مبدأ مخالف للمادة، هذا المبدأ هوا لذي يحدث الانفصال أو الاتحاد. ولما كان التغيرعلى نوعين : تغيراتحاد وتغير انفصال، فقد رأى انه لا بد من القول بمبدأين : مبدأ خاص بالاتحاد ومبدأ خاص بالانفصال، فصبدأ الانفصال سماه بالكراهية. ومبدأ المحبة هوالذي يجمع بين الأشياء، بينمامبدأ الكراهية هوالذي يفرق بينها. وهنا تعترضنا مشكلة مهمة، وهي: هل هذان المبدآن مبدان مجردان عقليان، يمكن أن يتصورا على أساس تصور هرقليطس لبدأ اللوغوس، أو هذان المبدان هما مبدان ماديان مكونان من مواد ؟ الواقع أن الروايات في هذا الصدد متضاربة أشد التضارب وأرسطوفي مواضع كثيرة يشيرإلى أن هذين المبدأين هما في الآن نفسه علتان فاعليتان وعلتان ماديتان، كما هوظاهرمن الفصل العاشر في لمقالة الثانيةعشرة من كتاب ,ما بعد الطبيعة»، ويعني بذلك أن مبدأ المحبة ومبدأ الكراهية ليسا علة فاعلية عقلية، أوعلة صورية، بل يتصورهما امبادوقليس على اغهما مكونان من مواد.
وعلى كل حال فسيظهر أن رأي أرسطو هذا أرجح الآرا، خصوصاً إذا لاحظنا أن درجة التجريد لم تكن فد ارتفعت كثيراً عند المفكرين اليونانيين بدرجة تسمح لهم أن يجعلوا هذين المبدأين اللذين هما مبدأ الحركة والتغيرفي الوجود، مبدأين عقليين او مبدأين عاليين على المادة. ولهذ ا فإنه يدخل في هذين المبدأين الكثيرمن التصورات الأسطورية لأن أمبادوقليس كان متأثراً بالميثولوجيا اليونانية في قوله بهذين المبدأين؛ كما تدخل أيضاً تصورات مادية كالتصورات التي سادت امدرسة الأيونية والفلاسفة اليونانيين السابقين له، من ناحية أخرى.
أما فيما يتصل بنشأة العالم، فيلاحظ أن أمبادوقليس قال بأن هذين المبدأين أزليان أبديان، يتناوبان اليادة في الكون: فتارة تكون السيادة للمحبة وتارة تكون السيادة للكراهية، وطوراً تأتي حالة بين بين، يك ن فيها هذان المبدآن سائدين معاً أو متنازعين - ولو أن أمبادوقليس يميل إلى جعا مبدأ المحبة في هذين الدورين الأخيرين متغلباً على مبداً الكراهية . وعلى هذا الأساس توجد في العالم دورات. وكل دورة من هذه الدورات منقسمة إلى أربعة أقسام : ففي القسم الأون تكم ن ثمت سيادة مطلقة لبدأ المحبة، وفي القسم الثاني يكون هناك إنتقال من سيادة مبدأ المحبة إلى سيادة مبدأ الكراهية، ويأتي بعد هذا القسم الثالث وفيه تكون السيادة المطلقة لبدأ الكراهية، ويلي ذلك القسم الرابع والأخير وفيه يكون الانتقال من سيادة مبدأ الكراهية إلى سيادة مبداً المحبة من جديد، وهكذا تبدأ دورة جديدة بسيادة مبدأ المحبة مرة أخرى من جديد: وتتوالى الأقسام على هذا النحوباستمرار. وكذا تتوالى الدورات.
وهنا نلاحظ أن امبادوقليس لم يحدد لنا مدة كل دورة من هذه ادورات، والذين قالوا إن هذا يتم عن طريق الاحتراق العام، لم يفعلوا أكثر من أنهم أضافوا إلى أمبادوقليس قول هرقليطس من قبل. كما يلاحظ أن الوجود الحقيقي لا يوجد في جميع هذه الدورات، بل يوجد في الدورين الثاني والرابع فحسب، وهما دورا الانتقال أولاً من المحبة إلى الكراهية، وئاياً من الكراهية إلى المحبة من جديد . أما القسمان الآخران، وهما لمحبة المطلقة والكراهية المطلقة، فليس فيهما وجود بالمعفى الحقيقي - والأصل في الوجود أنه كان مختلطا تسوده المحبة وفي هذه الحالة كان يسمى باسم الخليط (مجمامم!1٧لم!).
وأمبادوقليس يسمي هذا لخليط تارة باسم الواحد، ويضيف إليه صفات الوجود التى قال بها برمنيدس، وتارة يسميه باسم الآهة، دون أن يجعل من هذ الخلبط شيثاً عالياً على الوجود بوصفه إلهاً فوق الكون، وإنما هويميه بهذا الاسم فحسب، لأن مبدأ امحبة هو وحده الذي يسود فيه . كما أنه يصور لنا هذا الخليط في صورة الكرة، لأنه في الكرة لا يوجد تنازع، يل كلها استواء في استواء . وعن هذا الخليط الأول ينشأ الوجود، وذلك بدخول مبدأ الكراهية في هذا الخليط السائدة فيه المحبة وحدها؛ وذلك لأنه لكي يتم الوجود لا بد أن يأتي زمان ينتقل فيه السكون، الذي هو المحبة، إلى الحركة التي توجد فيها الكراهية أوتتمعن طريقها الكراهية . وأول ما يتم ذلك بأن يأتي مبدأ الكراهية ويدخل في هذا الخليط الأول ويحدث انفصالا تاماً بين جميع الجزئيات، ثم يأي جزء من مبدأ المحبة أو مبداً المحبة نفسه فيدخل جزء من الخليط لمشتت وبدخوله يحدث تجمعا بين الجزئيات المنفصلة، ويتم هذا التجمع على شكل دوامة؛ وبعد هذا ينشأ الوجود من هذه الدوامة الأولى.
تلك هي النفط الرئيسية في مذهب أمبادوقليس في الطبيعة. ولا تعنينا بعد التفصيلات التى قال بها فيما يتصل بنشأة الكون وتكوين الكواكب، كما أنه لا يعنينا أيضاً كثيراً أن نتحدث عن نظ يته الخاصة بعلم الحياة، ولو أن لأمبادوقليس الفضل الأول في أنه وجه عناية كبرى إلى علم الحياة، بل قد ذهب بعض لمؤرخين مثل برنت إلى القول بأن أمبادوقليس قد اكتشف نظرية التطور عن طريق الحفريات التي رآها وظن أن هذه الحفريات هي أصل الحياة، وأن الأحياء قد تطورت عنها، وإنما يعنينا فقط في هذا الباب كلام أمبادوقليس عن المعرفة ,
يلاحظ أن أمبادوقليس قد حاول ان يفسر كل شيء عن طريق مبدئه !لأول وهو العناصر واختلاطها بعضها ببعض. لهذا نراه يقول إن المعرفة تتم باجتماععناصرمتآلفة تمام التالف في جم الإنسان؛ وهذا الاجتماع في أعلى صوره في الدم، والدم مركزه القلب ولذا جعل امبادوقليس لنقلب لأهمية الكبرى في المعرفة، وقال إنه مصدر المعرفة أوأداتها. وتبعا لما قاله من فبل من أن الاتحاد يكون أتم إذا كانت الذرات المنبعثة متفقة مع المسام التي ستتقبلها، نرى أمبادوقليس يقول إن المعرفة الصحيحة تتم بين الشبيه والشبيه، ولهذا يقول إن الإنسان يدرك كل عنصر من العناصر بعنصر خاص فيه، فهو لا يدرك عنصر التراب في الأشياء الخارجية إلا عن طريق عنصر التراب الموجود فيه، وهكذا بالنبة إلى جميع العناصر. وكما ثار برمنيدس وهرقليطس من قبلعلى المعرفة الحسية، نرى أمبادوقليسيثور من جديد على المعرفة الحسية، ويجعل المعرفة العقلية هي المعرفة الحقيقية ويحمل على التصورات الشعبية، ولوأن ذلك كله ليس من شأنه أن يجعل من أقوالأمبادوقليس في هذا الصدد مذهباً تاماً في المعرفة ٠ وتفسير المؤرخين لذهب امبادوقلبس مختلف كل الاختلاف بين المؤرخ الواحد والآخر، فبعضهم يحاول أن يجعل منه مذهب وحدة في الوجود، مثل كارستن الذي قال بأن المبادئ الستة كلها مبدأ واحد، وبأن الوجود جميعه ليس غيرهذا المبدأ، ولكن هذا الرأي قد عارضه اتسلر اشد المعارضة، وقال إن أمبادوقليس يفرق تفرقة واضحة بين العناصر المختلفة بعضها وبعض من ناحية، ومن ناحية أخرى بينها وبين مبدأي امحبة والكراهية ,
فإذا نظرنا الآن نظرة إجمالية عامة إلى مذهبأمبادوقليس وجدنا أن هذا المذهب يجمع بين الأقوال المختلفة التي قال بها الفلاسفة اليونانيون السابقون، محاولأ أن يستخلص من هذء الأقوال جميعاً مذهباً منطقياً فيه توفيق بينها جيمعاً ، فهو بلا شك قد تأثر ببرمنيدس، كما تأثر هرقليطس، ولو أن تأثره مذا الأخير كان أكثر من تأثره بالأول، لأن أمبادوقليس قد وجه عناية كبرى إلى تفير التغير والكثرة، وفي هذه العناية قد لعب تأثير هرقليطس دوراً كبيراً . وإلى جانب هذ نلاحظ أن أمبادوقليس قد تأثر بالفلسفة الأيونية، لكن بؤخذ عليه - كما لاحظ أرسطو -أنه اضطر إلى القول بمبدأين من أجل تفير الحركة،مع أنه م يكن ثمت ضرورة منطقية أو وجودية تحمله على هذه الثنائية، كما لاحظ أرسطو أن كل نفصال هو في الآن نفسه اتصال، فليس من الواجب إذن أن يجعل مبدأ الاثنين مبدأين، بل يجب أن يكون مبداً الانفصال والاتصال مبدأ واحدا من حيث إن عملية الانفصال هي من ناحية أخرى في نف الآن عملية اتصال. وعلى الرغم من هذه الملاحظة، فإن أهمية أمبادوقليس هي في أنه قال بأن المبادىء كلها مبادىء غيرمتغيرة بالكيف، وأنه فصل القول في العناصر الأربعة، وانه قال، أو اضطر إلى القول، بمبدأ خارج على المادة من أجل أن يفر حركة المادة.