شكوكية

(بالتحويل من شكوكية علمية)

الشكوكية (بالإنجليزية: Skepticism) بشكل عام هي أي إتجاه شكّي أو ارتياب بخصوص شيء أو أكثر من المعتقدات أو المعارف المفترضة. تتجه الشكوكية غالبا نحو اختصاصات مثل ما وراء الطبيعة أو علم الأخلاق (الشكوكية الأخلاقية) أو الدين (الشكوكية حول وجود الله) أو المعرفة (الشكوكية حول إمكانية المعرفة أو اليقين). صوريا، تأتي الشكوكية كموضوع في سياق الفلسفة –خاصة نظرية المعرفة- على الرغم من أنه يمكن تطبيقها على أي موضوع مثل السياسة أو الدين أو العلم الزائف.

تأتي الشكوكية الفلسفية في صور متعددة. تنكر الصور المتطرفة من الشكوكية أن المعرفة أو المعتقدات المنطقية ممكنة وتحثنا على تعليق الأحكام بخصوص كثير أو كل الأشياء. تدعي الصور الأكثر توسطا من الشكوكية أنه لا يمكن معرفة أي شيء بيقين، أو أنه يمكننا معرفة القليل أو لا شيء على الإطلاق عن "الأسئلة الكبيرة" في الحياة. الشكوكية الدينية هي "الشك بخصوص المبادئ الدينية الأساسية (مثل الخلود والعناية الإلهية والوحي). تهتم الشكوكية العلمية باختبار المعتقدات من أجل الاعتماد عليها، من خلال تعريض هذه المعتقدات إلى أبحاث نظامية باستخدام المنهج العلمي لاكتشاف أدلة تجريبية بخصوصها.

تعريفات

تعرّف الشكوكية بشكل عام على أنها نزعة تدفع صاحبها إلى التردد بين الإثبات والنفي، وتحمله على التوقف عن الحكم. أما بوجه خاص فهي مذهب فلسفي يزعم أنه لا سبيل إلى إدراك الحقائق ولا إلى معرفة يقينية. وقد عرف في مراحل التاريخ عند فلاسفة اليونان الشكاكين قديماً، وعند ديفيد هيوم حديثاً بدرجة أدنى.

هناك فرق واضح بين الشكوكية (أو الارتيابية) وبين الشك المنهجي الذي يؤدي إلى اليقين، مثل شك ديكارت.

المفهوم

يقوم هذا المذهب على نظرية فحواها أننا وإن كنا نعرف ظواهر الأشياء، فلا نستطيع أن نعرف حقيقتها الباطنية. ولما كان الشيء الواحد يظهر بمظاهر مختلفة لعدد من الأشخاص، فإنه من المتعذر أن نعرف الصواب في وجهات النظر. ولما كنا لا نستطيع التأكد من طبيعة الشيء، ولا إصدار الحكم الصائب عليه، فإن الأمر يقتضي الوقف والامتناع عن أي عمل، ومن ثم على المرء أن يعيش في هدوء وطمأنينة، متحررا من كل وهم أو ضلال، ويمتنع عن الرغبات حتى يتحرر من الشقاء.

وفي هذا ما ينبئ بأن هذا المذهب قد يدعو إلى السلبية والهروب وعدم الاكتراث ولا يعنيه في شيء أن يسبر غور الطبيعة للتعرف على أسرارها. وقد يكون مذهب الشك هذا مرآة تعكس حالة القلق وعدم الاستقرار التي عرفها شعبا الإغريق والرومان، في ظل الفتوحات والنزاع على السلطة الذي ساد ما بعد الإسكندر، وفي أيام الإمبراطورية الرومانية التي عانت ظروفا مماثلة.

في الاستخدام العادي، تفهم الشكية على أنها:

  • أ) سلوك شكي أو إلى عدم التصديق سواء أكان الأمر عام أو بخصوص موضوع معين.
  • ب) المذهب الذي يقول بأن المعرفة التامة أو المعرفة في تخصص معين هي معرفة غير أكيدة.
  • ج) منهج تأجيل الحكم (بالإنجليزية: suspended judgment) ، الشك المنظم (بالإنجليزية: systematic doubt) ، أو النقد هي من صفات الشكي.

في الفلسفة، تطلق الشكية على الأخص على عدد من الفرضيات، مثل:

في الفلسفة الكلاسيكية ، الشكية تعود إلى تعاليم والسمات الشخصية ل "سكيبتكوي" (بالإنجليزية: Skeptikoi) ، وهي مدرسة فلسفية، قيل عن مؤسسيها أنهم "لم يؤكدو شيئا، ولكنهم ارتأوا". بهذا المعنى، الفلسفة الشكية هي الفلسفة التي تقول بأن معتنقها يجب عليه أن يرجئ إطلاق أحكامه أثناء دراسة أو تقصي أمر معين"

في الدين ، تعني الشكية "الشك في المعتقدات أو الأركان الأساسية في ذلك الدين" (قاموس ويبستر الأمريكي)

فلسفة الشكية

في الفلسفة الشكية، البيرونية (pyrrhonism) (التي تعني مذهب الشك المطلق) هي معتقد يحجم عن اعتناق زعم يدعي الحقيقة. الفيلسوف الشكي لا يدعي بأن الحقيقة مستحيلة (الأمر الذي يساوي الزعم بالحقيقة). الإمبيريقية تتصل بالشكية بشكل وطيد، ولكن لا تطابقاها. الإمبيريقيون ينظرون إلى مذهبهم على أنه يتوسط بشكل براغماتي بين الفلسفة الشكية والعلم التشريعي (بالإنجليزية: nomothetic science) ، من أجل ذلك، تسمى الشكية أحيانا "الإمبيريقية الراديكالية ".

نشأت الفلسفة الشكية في الفلسفة اليونانية القديمة. السفسطائيون اليونانيون في القرن الخامس قبل اليلاد كانوا في الأغلب شكيون. البيروونية كانت مدرسة من مدارس الشكية، أسسها أنيسيديموس في القرن الأول قبل الميلاد وسجلها سيكستوس إمبيريكوس في أواخر القرن الثاني أو أوائل الثالث الميلادي. كان أول مناصريها هو بيروو الإيلي ، الذي سافر وكان مهتما بالعلم، الأمر الذي أوصله إلى الهند ، وقد تبنى مذهب الشكية "العملية". على إثر ذلك، طور كل من أرسيسيلاوس (315-241 ق.م) وكارنيدس (213-129 ق.م)، طورا في "الأكاديمية الجديدة" منظورات تقتضي بأن الصح والخطأ المطلقان لا بد من دحضهما على أساس اللايقين. كارنيدس انتقد آراء الدوغماتيين، خصوصا الرواقيين، مؤكدا أن التأكد المطلق من معرفة يعد أمر مستحيل.

الشكيون الإغريق انتقدوا الرواقيين ، وذلك باتهامهم بالدوغماتية.

في الفلسفة الإسلامية، كان الغزالي (1058-1111)، هو من أوجد مذهب الشكية، كجزء من المدرسة الأشعرية. هناك من يجادل بأن أفكار الفيلسوف ديكارت في عمله " حديث الطريقة " من المحتمل أن يكون قد تأثر بعمل الغزالي الذي يشابه ديكارت في منهجه.

ينسب لديكارت فضل تطوير شكية عالمية كطريقة في التفكير، في محاولته لإيجاد حتمية مطلقة يبني عليها فلسفته. كما يعد الفيلسوف البريطاني، ديفيد هيوم، أيضا شكيا عالمي. على أن ديكارت نفسه لم يكن شكيا، بل طور نظريته في اليقين المطلق بهدف دحض نظريات شكيين آخرين حاججوا بأنه ليس ثمة يقين.

الشكوكية الفلسفية

طالع أيضاً: شكوكية فلسفية

كحركة أو مدرسة فلسفية، بدأت الشكوكية في اليونان القديمة. كان لبعض السفسطائيين آراء شكوكية. جادل غورغياس –على سبيل المثال- أكثر من مرة أنه لا يوجد شيء، وحتى إن كان هناك شيء ما فلن يمكننا معرفته، وأنه حتى إن عرفنا فلن نستطيع التواصل معه. رفض كراتيلوس السفسطائي الآخر مناقشة أي شيء وكان يلوي فقط إصبعه، مدعيا أن التواصل مستحيل لأن المعاني تتغير باستمرار. كان لناقد السفسطائيين الرئيسي سقراط أيضا ميولا شكوكية، حيث ادعى أنه لا يعرف شيئا، أو على الأقل لا يعرف شيئا له قيمة.

كان هناك مدرستان رئيسيتان للشكوكية في العالم اليوناني والروماني القديم. الأولى كانت البيرونية والتي أسسها الفيلسوف بيرو (360 – 270 ق.م) . الأخرى هي الشكوكية الأكاديمية والتي تُسمى ذلك لأن مدافعيها الرئيسيين أركسيلاوس (315 – 240 ق.م) وكارنياديس (217 – 128 ق.م) كانا رؤساء أكاديمية أفلاطون. أنكرت مدرستا الشكوكية أن المعرفة ممكنة ودعوا إلى تعليق الحكم من أجل السكينة العقلية. كان الفرق الرئيسي بين المدرستين يمكن في أن الشكوكية الأكاديمية ادعت أن بعض الاعتقادات أكثر عقلانية أو احتمالية من الأخرى، بينما جادلت الشكوكية البيرونية أن الجدالات المفروضة بالتساوي يمكن تقديمها لصالح أو ضد أن رأي عليه خلاف. فُقدت تقريبا كل الكتابات عن الشكوكية القديمة. يأتي معظم ما نعرفه عن الشكوكية القديمة من سيكستوس إمبيريكوس، وهو من فلاسفة الشكوكية البيرونية والذي عاش في القرن الثاني أو الثالث الميلادي. احتوى عمله الأهم "خلاصة البيرونية" على ملخص واضح لمخزون كبير من الجدالات الشكوكية.

تلاشت الشكوكية القديمة أثناء أواخر الإمبراطورية الرومانية، خاصة بعد أن هاجم أوغسطين (354 – 430 ق.م) الشكوكيين في عمله "ضد الأكاديمية" (386 ق.م). كان هناك علم قليل واهتمام قليل بالشكوكية القديمة في أوروبا المسيحية أثناء العصور الوسطى. عاد الاهتمام من جديد أثناء عصر النهضة والإصلاح، خاصة بعد ترجمة الكتابات الكاملة لسيكستوس إمبيريكوس إلى اللاتينية في 1569. نشر العديد من الكتّاب الكاثوليك أمثال فرانشيسكو سانشيز (1550 – 1623) وميغيل دي مونتاني (1533 – 1592) وبيير غاسيندي (1592 – 1655) ومارين ميرسن (1588 – 1648) الجدالات الشكوكية القديمة للدفاع عن الأشكال المتوسطة من الشكوكية ولكي يجادلوا أن الإيمان –بدلا من المنطق- يجب أن يكون المرشد الرئيسي نحو الحقيقة. قدم المفكر البروتستانتي بيير بايل عروضا مماثلة لاحقا في عمله المؤثر القاموس التاريخي النقدي (1697 – 1702).

أدت الشعبية المتزايدة للآراء الشكوكية إلى ظهور أزمة فكرية في أوروبا في القرن السابع عشر. أتى أحد الردود الرئيسية من الفيلسوف الفرنسي وعالم الرياضيات رينيه ديكارت (1596 – 1650). في عمله الكلاسيكي تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى (1641)، سعى ديكارت إلى دحض الشكوكية ولكن فقط بعد أن جعل قضية الشكوكية أقوى ما أمكنه. جادل ديكارت أنه بغض النظر عن كل الاحتمالات الشكوكية المتطرفة التي يمكننا تخيلها، إلا أنه لا يزال هناك حقائق معينة (مثل أن التفكير يحدث أو أنني موجود) والتي تُتعبر مؤكدة قطعا. وبالتالي، كان الشكوكيون القدماء مخطئين في ادعاء أن المعرفة مستحيلة. حاول ديكارت أيضا نقض الارتياب الشكوكي بخصوص إمكانية الاعتماد على حواسنا وذاكرتنا وملكاتنا الإدراكية. ليفعل ذلك، حاول ديكارت إثبات وجود الله وأن الله لن يسمح بخداعنا نظاميا بخصوص طبيعة الواقع. يشكك العديد من الفلاسفة المعاصرين في نجاح الجزء الثاني من نقد ديكارت للشكوكية.

في القرن الثامن عشر، ظهرت قضية جديدة قوية للشكوكية والتي قدمها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم (1711 – 1776). كان هيوم فيلسوفا تجريبيا، حيث ادعى أن كل الأفكار الأصلية يمكن تتبعها للخلف إلى انطباع أصلي للحس أو الوعي المتجه. جادل هيوم بقوة أنه على الأرضية التجريبية ليس هناك أسباب عقلانية للإيمان بالله، أو النفس الخالدة والروح، أو العالم الخارجي، أو الحتمية السببية، أو الأخلاقية الموضوعية، أو التبرير الاستقرائي. في وجهة نظر هيوم، الأساس الفعلي لإيمان البشر ليس المنطق وإنما العادات والهواية. بهذه الطريقة، مدح هيوم ما أسماه الشكوكية "المخففة"، بينما رفض الشكوكية البيرونية "الشديدة" والتي اعتبرها غير عملية ومستحيلة نفسيا.

أثارت شكوكية هيوم عددا من الردود الهامة. تحدى معاصر هيوم الإسكتلندي توماس ريد (1710 – 1796) تجريبية هيوم الصارمة وجادل أنه من المنطقي أن نقبل معتقدات "الفطرة السليمة" مثل صحة الاعتماد على حواسنا ومنطقنا وذكرياتنا ومنطقنا الاستقرائي، على الرغم من أنه لا يمكن إثبات أيا من هذه الأشياء. في وجهة نظر ريد، مثل هذه المعتقدات الخاصة بالفطرة السليمة هي معتقدات أساسية ولا تتطلب أدلة حتى يمكن تبريرها عقلانيا. بعد فترة ليست طويلة من وفاة هيوم، جادل الفيلسوف الألماني الكبير إمانويل كانط (1724 – 1804) أن الوعي الأخلاقي البشري ليس له معنى إلا إذا رفضنا استنتاجات هيوم الشكوكية حول وجود الله والروح وحرية الإرادة والحياة الآخرة. طبقا لكانط، في حين كان لهيوم الحق في ادعاء أنه لا يمكننا بصرامة معرفة أيا من هذه الأشياء، إلا أن تجاربنا الأخلاقية تسمح لنا في أن نؤمن بها.

اليوم، تستمر الشكوكية في كونها موضوع نقاش حي بين الفلاسفة.

الشكوكية العلمية

طالع أيضاً: شكوكية علمية

الشكوكية العلمية أو الشكوكية التجريبية هي الشكوكية التي تشك في المعتقدات على أساس الفهم العلمي، لتحديد ما هو علم وما هو علم زائف. قد تنفي الشكوكية العلمية المعتقدات المتعلقة بالظواهر المزعومة وغير المعرضة للملاحظة المعتمدة وبالتالي ليست نظامية أو قابلة للاختبار التجريبي. يختبر معظم العلماء –لكونهم شكوكيين علميين- إمكانية الاعتماد على بعض أنواع الادعاءات عن طريق تعريض هذه الادعاءات لاستقصاء نظامي باستخدام بعض أنواع المنهج العلمي. كنتيجة لذلك، تُعتبر بعض الادعاءات علما زائفا، إذا اكتشفنا أنه لا يمكن تطبيقها بشكل مناسب أو انها تتجاهل جوانب أساسية من المنهج العلمي.

الشكوكية الدينية

الشكوكية الدينية أو التشكيك الديني هي الشكوكية المتعلقة بالمواضيع الدينية مثل طرح التساؤلات حول وجود الإله والمعجزات، وهي أحد أنواع الشكية، ولا يجب الخلط بينها وبين الإلحاد. فالشكيون الدينيون يسائلون السلطة الدينية وليسوا بالضرورة معادين للدين ولكنهم أولئك الشاكين في بعض أو كل المعتقدات أو الممارسات الدينية، حتى أن بعضهم قد يكون فقيها دينيا. وأول شكيا ديني كان سقراط، الذي تساءل حول شرعية المعتقدات السائدة في زمنه في ظل وجود أكثر من إله.

الشكوكية المهنية

الشكوكية المهنية هي مفهوم هام في التدقيق وفحص الحسابات. تتطلب الشكوكية المهنية مدققا يقوم "بالتدقيق والشك في العقل" من أجل تحقيق تقدير نقدي للأدلة، ومن أجل أخذ كفاءة الأدلة في عين الاعتبار.

انظر أيضاً

الشك والشكاك

كلمة «شكاك»ب٥7710 في اليونانية تطلق على «من ينظر بإمعان، من يفحص باهتمام» قبل ان يصدر حكماً على شيء أو قبل أن يتخذ أي قرار.

ولهذا نجد سكستوس أمبريكوس يضع «الشكاك» ا10*6ين الفرق الفلسفية بوصفهم «الذين يواصلون البحث والتحزي»، في مقال «الدوجماتيقيين» الذين هم مثل أرسطو والابيقوريين والرواقيين يعتقدون أنهم اكتشفوا

الحقيقة، وفي مقابل رجال الاكاديمية الافلاطونية في عصرها الأوسط الذين يقررون أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة.

وأول مذهب فلسفي بني على الشك التام في امكان المعرفة الانسانيةهومذهبفورون(٣٦٥ -ه٢٧ق. م)ع01٤ Pyrrhon وتلاميذه : نوسيفانع510120ل4لا ستا ذاب يفور، وتيمون الفليونتي 1100 dePhilionte، ومينقلس25اع14 - وان كان منغير المعلوم بيقين ما ادلى به هؤ لاء من حجج ضد امكان المعرفة، ولا نستطيع ان ننسب اليهم ما سنراه فيما بعد عند انسيداموس، وسكستوس من حجج.

وخير وسيلة لعرض آراء الشكاك اليونايين دون تحديد تاريخي دقيق لنصيب كل منهم في صياغتها - ان نعرض هذه الحجج بحسب ما ذكره سكستوس امبريكوس في كتابيه:

(١) «ا لجمل لفورونية» Hypotyposes

(٢) «ضد المعلمين،0211005ع14211 2]0011

لم يختلف الشكاك في شيء، فييما يتصل بالغاية، عن الرواقيين والأبيقوريين، فكل هذه المدارس تتفق في غاية واحدة هي أن يجعل الانسان قصده من الفلسفة أن تكون مؤدية إلى أن يحيا المرء حياة سعيدة. فكما أن الرواقيين والأبيقوريين قد اتجهوا في فلسفتهم إلى الأخلاق وإلى الناحية العملية منها ، كذلك اتجه الشكاك إلى الناحية العملية من الفلسفة، فطالبوها بما طالبها به الرواقيون والأبيقوريون سواء بسواء ؛ وكل ما هنالك منخلافبين الطرفين، اوبين كل هذه الأطراف جميعاً، هو في الوسيلة المؤدية إلى تحقيق هذه العادة المنشودة من الأخلاق والفلسفة جميعها: فالرواقيون والأبيقوريون قد ظنوا أن تحصيل هذه السعادة يكون بالايمان اليقيني ببعض المبادىء الميتافيزيقية الطبيعية الأصلية، أي بتوكيد إمكان المعرفة وبناء الأخلاق على اساس ما يعتقده المرء بما تزكده له معرفته، بينما نجد الشكاك يقولون : إنه لكي يصل الانان إلى الحياة السعيدة، يجب عليه أن يرفض كل إمكان للمعرفة، ومهذا يصل إلى حالة الطمأنينة السلبية التي ينشدها. ولهذا نجد الشكاك ينتسبون إلى نفس العصر الذي ينتسب إليه الرواقيون والأبيقوريون، لأن هؤلاء وأولئك قد وضعوا غاية واحدة، واتجهوا إتجاهاً واحداً ، ولم يكن موقف الشكاك غيرنتيجة ضرورية للموقف الذي وقفته المدرسة الرواقية، والمدرسة الأبيقورية. بل ولي الشكاك في مدهبهم غير تطور منطقي لما أدت إليه الفلسفة اليونانية من قبل منذ عصر أفلاطون وأرسطو. فإنا نجد اولا أن المدرسة الميغاريةقدعنيت

الاذوالثكاذ

بالجدل وبرفض تكوين التصورات على النحوالسقراطي، وحللت وبحثت كثيراً لدرجة تؤدي إلى سبيل الشك، إن لم يكن إلى الشك فعلا. والفلسفة الأفلاطونية والأرسطية قد أدت هي الأخرى إلى نوعمن الشك، لأن المشاكل التي ثارتها هذه الفلسفة لم تجد حلا شافياً عند تفكير افلاطون وأرسطو، بل تركت كثيرا من المشاكل معلقة، لا تدعوإلى الثقة واليقين. ثم جاء الرواقيون والأبيقوريون فزادوا الموقف حرجاً على حرج، بأن رفضوا الفلسفة التصورية الأفلاطونية وشكوا في قيمة الكليات واتجهوا إلى الحس، مع أن الحس قد رفض عند افلاطون وارسطوعلى أساس انه لا يؤدي إلى العلم اليقيني، فكأن نظرية المعرفة عند الأبيقوريين والرواقيين كانت استمرارا شكياً لما بدأه الميغاريون، مزوداً بالمشاكل التي اثارها افلاطون خصوصاً في «تيتاتوس» وأرسطوفي نظريته العامة في المعرفة. ولهذا لم يكن غريباً ان ينشا تيار جديد يكون في الواقع مركب موضوع للموقفين المتعارضين : موقف الأبيقوريين، وموقف الرواقيين. فإن التعارض الذي قام بين هاتين المدرستين قد تبين أنه تعارض لا يمكن ان نجد منفذا فيه للتوفيق : فكيف نوفق بين النظرة الذرية والنظرية الكلية الكونية؛ وكيف نوفق بين العلو وبين وحدة الوجود، وكيف نوفق بين الضرورة لموجودة فيا لطبيعة عند الرواقيين وبين الحرية وجانب الاتفاق الكبير عند الأبيقوريين؟ كل هذا كان من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة واحدة هي ان المعرفة ليست مكنة، وبالتالي يجب على الانسان ان يشك وأن يرتب حياته العملية على أساس هذا الشك، فقامت في هذا العصر مدرستان رئيسيتان تقومان على الشك : الأولى مدرسة فورون، والثانية مدرسة الأكاديمية الجديدة.

مدرسةفورون: فورونمن مدينة إيليس، وقد رحل مع ا لاسكندر في إحدى رحلاته إلى الهند، واعجب بالفقراء الهنود. ولكننا لا نستطيع ان نقول: إنه قد اخذ شكه عن المذاهب الهندية : أولا لأن منطق الفلسفة اليونانية يقتضى أن يكون هذا الشك محلياً عند اليونان، كما أننا لا نعلم على وجم التدقيق هل عرف فورون شيثاً عن المذاهب الشكية عند الهنود. ولما عاد إلى بلاد اليونان، كون مدرسة أو شبه مدرسة لم تستمر طويلا ولا يستحق أن يذكر من بين أعضائها غير شخص واحد، هو تيمون.

لم يكتب فورون شيئاً ، ولذا لا نعلم في الواقع عن مذهبه شيئاً يقينياً، كما ان الأرجح أن ينظر إليه من ناحية كونه شخصية، قبل عده مفكراً بمعنى الكلمة . فهو في طريقة اخذه

للحياة قد مثل الشك أصدق ما ورد لنا من أقواله خاصاً بهذا الشك، وعلى كل حال فما ورد قد ورد إلينا عن طريق تيمون، ولن نستطيع ان نفرق بين ما يقوله تيمون وبين ما قاله فورون. يقول تيمون في عرضه لآراء المدرسة الفورونية إن الفلسفة الشكية تدور حول مسائل ثلاث : المسالة الأولى : مسالة طبيعة الأشياء في ذاتها من حيث إمكان معرفتها، والمسالة الثانية مسألة الموقف الذي يجب أن يقفه الحكيم بآزاء طبيعة امعرفة التي لدينا عن طبائع الأشياء، والمألة الثالثة: الموقف العملي الذي يستخلصه الانسان من هذا الموقف الفكري .

أما فيما يتصل بمسألة طبائع الأشياء من حيث إمكان معرفتها، فإنا نجد فورون ومدرسته ينكرون أن يكون للمعرفة الحسية أو للمعرفة العقلية ادفى قيمة في إيصاكنا لمعرفة حقائق أو حقيقة الأشياء. فسواء النظرالعقليوالادراك الحسي لايتطيع احدهما إلا أن يخدعنا دائما، فنحن لا ندرك من الأشياء في الواقع إلا ما يبدو» لنا، وكأن كل شيء في الخارج هوبالنسبة إلى الذات المدركة مظهر فحسب، أما طبيعة الشيء في ذاته فلا سبيل إلى الوصول إلى معرفةكنهها. وإذا كانت المعرفة لنظرية او النظر العقلي يقوم على الحس فما ينطبق على الحس ينطبق بدوره على المعرفة العقلية إن لم يكن بالأحرى والأولى، لأن النظر العقلي سيكون غيرمباشر، وكلما تعددت الواسطة، بعد الانسان عن الأصل، فما ينطبق على الحس منحيث أنه ا يستطيع ان يتأدى بنا إلى فهم ماهيات الأشياء، ينطبق كذلك بطريقة اولى على النظر العقلي. ولم يفصل فورون ولا مدرسه القول في هذا الشك، فلم يقيموا حججا دقيقة تبين استحالة المعرفة الحقيقية لطبائع الأشياء، ولم يكشفوا شيناً فيما يتصل بطبيعة الاحتمال وشروط المعرفة الحقيقية واستحالة وجود هذه الشروط بالنسبة إلى الانسان، وإنا الحجج المشهورة، وخصوصا الحجج العشر المعروفة التي تمثل اعلى صورة بلغها الشك في العصر القديم، إنما ترجع لأول مرة إلى انسيداموس. ولهذا، وعلى الرغم من آثاراً من هذه الحجج العشر لعله أن يكون قد قال بها فورون ومدرسته، لهذا كله لا نستطيع أن نقول إن فورون أو مدرسته قد وضحت المسالة أكثر من هذا.

وعلى أساس النتيجة الي انتهينا إليها فيما يتصل بهذه امألة الأولى يجبعليناأن نقف فيما يتعلق بالمألة الثانية؛ لأنه إذا كانكل شىءظاهرياً فحسب، وكنالا ندرك من الأشياءإلا مظهرها الخارجي دون ان نعلم شيئاً عن طبيعتها وحقيقتها الخاصة، لم يكن امامنا غير الاحتمال، او بتعبير ادق، الظن

الثن والثكاك

الذاقي، لأن كل شيء سينحل بعد ذلك إلى ان يقول الانسان : هكذا يبدولي شيء من لأشياء». وهذا القول يدل أولا على ان كل شيء ظاهري ولا نستطيع ان نعرف حقائق الأشياء، ويدل ثانية على أن المسالة مسألة حالة ذاتية يكون فيها الشخص بإزاء هذه الظواهر الخارجية. فكأن اليقين - إن كان ثمت مجال للتحدث عن اليقين - !نما يقوم على الاعتقاد الذاي بان شيئاً ما هوكذا او ليس كذا - ويهذا، ولكي يكون الانسان آمنا من تضارب الآراء مما من شأنه ان يحدث قلقا في النفس - والغاية من الفلسفة عند هؤلاء ان يظل المرء مطمئن النفس - لا يمكن إذن إلا أن يرجع الانسان على نفسه وينحصر في داخلها، وإذا طلب إليه ان يحكم، او إذا طلب إلى نفسم أن يحكم على حقيقة شيء من الأشياء، فليس عليه حينثذ إلا ان يتوقف فلا يحكم بشيء، لأنه لن يستطيع التيقن من شيء وهذا ما يسمى باسم تعليق الحكم» او التوقف٤070لأن الانسان إذا ما حكم على شيء، فإنه يستطيع في نفس الآن أن يحكم على الشيء نفسه بضد ما حكم به عليه أولا، وإذا كان لكل راي ما يعارضه، وبنفس الدرجة من الاحتمال، فلكي يخرج الانسان من هذا التناقض المستمر الذي لا بد أن يجد فيه نفسه، إذا ما رأى أنه مضطر إلى الحكم او حينما يحكم أتاً ما كان هذا الحكم، لم يكن أمام الحكيم من سبيل إلا ان يتوقف عن كل حكم، وهذا هو تعليق الحكم. وتعليق الحكم معناه في هذه الحالة كذلك أن ينصرف الانسان عن أي كلام هوحكم من حيث أنه معبر عنه في الخارج، ولهذا فالوسيلة النهائية التي يجب أن يلجا إليها الانسان هي أن يصوم عن الكلام فيصبح في حالة صمت طلق، مما يسميه الثكاكما*ه00نهفما النتيجة العملية لتي يستخلصها الانسان بالنسبة لسلوكه بإزاء هذا الموقف الفكري؟ كل ما على المرء في هذه الحالة هوأن ينشد ما نشده من قبل الرواقيون والأبيقوريون من ان يظل الانسان في حالة طمأنينة سلبية باستمرار، فالغاية إذن من الناحية الأخلاقية هي الوصول إلى حالة ا لأتركيا ولكن، هل يستطيع

الانسان أنيظلعلى هذه الحالةلاينطق ولايفعل؟ هنا نجدان فورون واتباعمدرسته يميلون إلى نوعمن «الفعلية» (برجماتزم) ما سيظهر بوضوح فيما بعد في الأكاديمية الجديدة عند ارسيزيلاس. فهم يقولون إنه لا حاجة للحكيم من اجل أن يفعل إلى المعلومات اليقينية، بل يستطيع أن يكتفي، من اجل الحاجة العسلية، بالأقوال المحتملة والظنيات، فكأغهم لا يريدون إذن ان بنكروا كل معرفة، بل يضطرون من الناحية العملية إلى التول بالظنيات، عما من شأنه أن يؤدي إلى إمكان

ولن نستطيع ان نضيف شيثا غير هذا إلى فورون ومدرسته. فقد كانت مدرسة قصيرة العمر ولم يكن مؤسسوها من ذوي العقول الفلسفية المفكرة، وإنما كانوا أقرب ما يكونون الى الحكماء الذين يحيون وبواسطة حياتهم يعبرون عناتجاههم الكري.

الأكاديمية الجديدة : وإنما قام الشك على اس فلسفية، وغا وتطور من الناحية النظرية بفضل الاتجاه الجديد الذي اخذته الأكاديمية ابتداءمنلقرن الثالث قبل الميلاد. فقد بدأت الأكاديية منذذلك الحين تتجه إتجاهاًعلمياً، واصبحت ابعد ما تكون عن الأفكار التوجيهية الرثيسية عند أفلاطون واسبوسيبوسوإكسينوقراط، كما أن الطابع العلمي قد بدأ يغزو تفكير الأجيال التالية لاكسينوقراط، فأصبحوا لا يفترقون في شيء ، من حيث الهدف الأصلي الذي ترمي إليه الفلسفة، عن الأبيقوريةو١لرو١ب٠ هذاإلىإنهموإنعنواعنايةكبيرة بالناحية العلمية، فإغهم لم يتجهوا بهذه الناحية العلمية الاتجاه القديم القائم على التيقن، وإنما اتجهوا بها إتجاهاً اميل إلى الشك، فأصبحوا يشكون في الأس الرئيسية القي تقوم عليها المعرفة الانسانية. وزاد هذا الاتجاه وتوطد طوال القرن الثالث حتى اصبحت الغاية الي يتجه إليها أتباع الأكاديمية ان يحاربوا كل التيارات اليقينية، سواء أكانت طه التيارات ممثلة في شخصية الأقدمين، ام كانت مثلة في شخصية معاصرين، خصوصاً فيا يتصل بهؤلاء الأخيرين، فإن الأكاديمية فيهذا الدورقد وجهت عنايةكبرىالىمعارضة الرواقية، علىالأخصفينظريةالمعرفة. أما فيمايتصلبالناحيةالعلميةأوالأخلاق،فلافارقفيالواقعفيال اتجاه وفي الأهداف، ولهذا، نستطيع ان نجزم بأنه كان للرواقية نصيب ضخم في نشأة هذا التيار الجديد، ولوان هذا النصيب كان نتيجة للمعارضة لا للأخذ والتأثر، فمهماقيلاذنفيما يتصل بالاتصال المياشريينزيضناضو١ةيوينمؤسالأكاديميةالثاتيةأوالأكاديمية ا لجديدة وهوأرسيزيلاس، فإنهمنغيرالمشكوك فيه أن الرواقيين قد أض وا تأثيراًكييراً في نشاً ة هذا ١ لا تجاه الجديد، حق لترى ١ ن ما بقي لتا من عرض لمذهب ارسيزيلاس يكادينحلفي النهاية الى نقد لنظرية المعرفة عندهم (أي عند الرواقيين). ويظهرأثرهذا التعارض المستمروالنقدا لدا ئممنجانبال أكاديمية ضدالرواقية-كماسيظهر فيم ابعد-فيالطورالثالث للأكاديميةأي يالأكاديميةالثالثة،وهو الطور الذي يتزعمه كرنيادس، حتى إن كرنيادس يقول: إنه لولا كريسيفوس لما كان كرنيادس.

بداً ارسيزيلاس بأن بين ان كل المذاهب السابقة إنما

الشك والشكاك

اتجهت دائما إلى عدم التيقن، بعكس الرواقية. وهوهنا يهيب ببرمنيدس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، فضلا عن كثير من الطبيعيين ا لأقدمين، فهزلاء جميعاً ينظر إليهم ارسيزيلاس بحسبانهم ميالين إلى عدم التيقن من شي، ! وإلى عدم التوكيد فيما يتصل بأية مسألة من المسائل الرئيسية، وهو لهذا يجاول دائما أن ينقد كل المذاهب التيقنية والتوكيدية الابقة والمعاصرة. ويعنى خصوصاً بنظرية المعرفة عند الرواقيين، فيقول إن هذه النظرية عملوءة بالتناقض وذلك لأن الرواقيين يفرقون أولا بين نوعين من المعرفة : بين العلم، وبين الظن. أما العلم فيضيفونه إلى الحكيم، وليست للحكيم وسيلة من وسائل المعرفة غير العلم، أما الظن فيضيفونه إلى الجاهل. وهناك نوع ثالث وسط بين الاثنين، هو الادراك الحسي أو التصور، وهذا يقولون عنه إنه من شان الحكيم والجاهل، فأق أرسيزيلاس فأنكر عليهم هذا القول وقال : إنكم تقولون إن الحكيم لا يتصف إلا بصفة الظن، فكيف تقولون بعد ذلك إنهما يشتركان معاً فيما يتصل بالادراك الحسي او التصور؟ فإما أن يكون الادراك الحسى علما فيضاف إلى الحكيم، وإما ان يكون ظنا او جهلا فيضاف إلى الجاهل؛ فلا مجال إذن للتحدث عن موقف وسط بين العلم والظن، هذا إلى أن تعريف الرواقيين للادراك الحسي تعريف غير صحيح أو متناقض، لأنهم يقولون عن الادراك الحسي إنه الاقتناع بتصور ما، ولكنهم يقولون من ناحية أخرى إن الاقتناع هو الاعتقاد بقول من الأفوال، أعني أن الادراك الحسي سيرجع في النهاية إذن إلى الأقوال، وهذه الأقوال قد شك فيها الرواقيون وأنكروا إمكانها من حيث أنها تعبر حقيقة عن طبائع الأشياء، فعلى هذا لا يستطيع الرواقي إا أن يتناقض مع نفسه حين يقرل إن الادراك الحسي ممكن بحسبانه مؤدياً إلى المعرفة الصحيحة. ولهذا ينكر أرسيزيلاس الإدراك الحسي تمام الانكاركماينكرالتصور الذي ينشأ عن الادراك الحسي، أي الصورة التي تنطبع في الذهن صادرة عن الأشياء الخارجية. وهو هنا يورد تلك الحجج التقليدية التي نجدها ستستمر في نقد الادراك الحسي والصور الحسية، حتى «التأملات الأولى» لديكارت، وهي حجج عرضها بوضوح شيشرون ثم القديس أوغسطين، وتقوم كلها على أساس أن لاحاسات تصور لنا الأشياء أحياناً كثيرة بخلاف الواقع، كما يحدث في الأشباح التي تتراءى أمام الانسان في انظلام

ولا وجود لها في الواقع. وكذلك ما يراه الانسان في الأحلام والالهامات والتنبؤات القائمة على السحراو العرافة. فكل هذا يدل على أن الحس خداع وأن الادراك الحسي لا يقوم على صورة حقيقية موجودة في الخارج. ثم يضيف أرسيزيلاس إلى هذا النقد أنواعاً اخرى من الحجج، تبين طاع الديالكتيلف الذي كان واضحاً جداً في الأكاديمية في هذا الدور. والحجج، التي تذكر لنا عنه- وهو لم يترك شيئاً من المؤلفات، لأنه لم يكتب شيئاً- تدلنا عل أنه اتبع كل قواعد الديالكتيك في نقده لدرواقيين أو للتوكيديين بوجه عام. وينسب إليه كثير من هذه الحجج الجدلية الشائعة المعروفة، خصوصا ما يتصل بما هو معروف في المنطق باسم «القياس المركب مفصول النتائج»-مثل القياس المركب مفصول النتائج المشهور لمعروف باسم «كومة القمح» أو «تعريف الأصلع» ،- ففي هذه الأحوال كلها نرى أن أرسيزيلاس يقصد من وراء هذه الحجج أن يبين عن طريق الجدل استحالة التعريفات والحدود، واستحالة المعرفة من هذه الناحية.

وهكذا رمى أرسيزيلاس من وراء هذا إلى بيان استحالة نوع المعرفة الوحيد الذي قال به الرواقيون. وهنا يختلف المؤرخون فيما يتصل بالغاية من هذا النقد. هل يقصد ارسيزيلاس من ورائه أن يبين أن المعرفة الحسية وهمية فيجب بالتالي الالتجاء إلى المعرفة النظرية فحسب، ويهذا يكون مؤيداً لمؤسس الأكاديمية الأول افلاطون؟ أو هل يقصد من وراء هذا النقد للادراك الحسي أن يكون ذلك في الآن نفه نقداً لكل معرفة؟ الواقع ان النصوص تدل، والاتجاه العام لكل أقوال أرسيزيلاس يؤذن، بانه لم يقصد مطلقاً إلى الامر الأول، وإنما قال إن نوع المعرفة الوحيد الممكن هو الادراك الحسي الذي قال به الرواقيون، ثم وجه نقده من بعد هذا إلى النظر العقلي، فإذا كان النظر العقلي يقوم على الادراك الحسي، فا يصيب الاساس يصيب البناء . وهكذا يكون أرسيزيلاس فد قصد من وراء نقده للادراك الحسي ان ينقد في الأن نفسه ما يقوم عليه الادراك الحسي، وهو النظر العقلي، وتبعاً لهذا كله نستطيع ان نفول إنه قصد من وراء هذا إلى إنكار كل معرفة، سواء الحسية منها والعقلية. ولما كان قد رأى استحالة المعرفة الحسية، فقد رأى نفسه مستغنيا عن أن ينقد المعرفة النظربة على حدة، ولهذا لم يبق لنا شيء يذكر عن نقده للعلم أو المعرفة النظرية .

الثك والسكان

ثم نرى بعد ذلك ان ارسيزيلاس لا ينكر من ناحية العمل كل معرفة، بل يقول إن على الانسان في هذه الحالة أن يلجأ إلى الظن كما قال فورون منقبل. وأن يتبع ي هذه الحالة ما هر تقليدي او متبع. ثم يقيم هذا الرأي على أساس فلسفي فيقول إن القدماء كانوا يظنون دائما أن المعرفة متصلة بالعمل، وأنه لا عمل، أو لا إرادة، إلا إذا سبقت ذلك معرفة وعلم. أما أرسيزيلاس فينكر عليهم هذا القول، ويقول بل لعل العكس أن يكون داثما الصحيح، فنحن نعمل اولا، ثم نبحث بعد فيما يبرر هذا العمل. والفعل الخير هو هذا الذي يفعله الانسان أولا، ويرى من بعد ان هذا العمل معقول، فالفكرة بنت الحركة، والعلم ابن العمل؛ فلا حاجة بنا إذن فيما يتصل بالناحية العملية الى ان نكون عالمين، سواء اكان هذا العلم يقيناً أم كان ظنا.

كرنيادس: ولا بد لنا أن نعبر فترة طويلة حتى نستطيع ان نصل إلى ممثل رثيسي للشك في داخل الأكاديمية، وهذا الممثليعد اهم شخصية أوجدتها الأكاديمية في ميدان الشك، ومن اهم الشخصيات التي ظهرت في الشك القديم، ونعي به كرنيادس الذي ظهر في القرن الثاني قبل الميلاد. وفي هذا القرن وفي القرن السابق عليه مباشرة، أي في الفترة بين أرسيزيلاس وبين كرنياس، قد حدثت احداث ضخمة من الناحية السياسية اثرت تأثيراً كبيراً في الحياة اليونانية عموماً، وأثرت كذلك في تطور الفلسفة وانطباعها بطابع خاص، لأن السيادة الرومانية قد بدات في القرن الثاني، وانتهت تقريباً بأن بسطت سلطانها على بلاد اليونان سنة ١٤٦ق. م، وقد صادفت الأكاديمية في هذا الدور انتعاشاً على يد كرنيادس، الذي لا نعرف على وجه التدقيق إلا تاريخ وفاته سنة ١٢٩ . !لا ان كرنيادس لم يكتب شيئا! وكل ما نعرفه عن مذهبه، إنما نعرفه بواسطة تلميذه كليتوماخوس الذي رأس الأكاديمية بعده، وكذلك لم يبق لنا كلام كليتوماخوس نفسه، وإنما بقيت لنا شذرات قليلة وعرض معتمد على كليتوماخوس لمذهب استاذه كرنيادس، وذلك في كلام سكستوس أمبريكوس، وفي كلام شيشرون خصوصاً في كتابه المسمى «الأكاديميات: الأولى والثانية». بل إن العرض الكامل الذي وضعه شيثرون في الأكاديميات الثانية لمذهب كرنيادس، قد فقد هو الآخر، ولم يبق لنا إلا عرض ناقص في خلال كتاب شيثرون هذا. وعلى كل حال فإن

كرنيادس يعد بحق المؤسس الفلسفي الحقيقي للشك في الكاديمية.

ونجد منذ اللحظة الأولى ان هناك اختلافاً كبيراً في طريقة عرض مذهب كرنيادس الشكي: فالبعض من الأقدمين، وهم هنا يقولون إنهم يعتمدون مباشرة على كليتوماخوس، يذكرون ان كرنيادس قد ظل غلصاً لبدأ أرسيزيلاس من حيث تعليق الحكم، وإنما هوتوسع فقط في شرح هذه النظرية، ولم يكن من شان هذا التوسع ان يغيركثيراً في المبداً الأصلي، وهوتعليق الحكم، ولكنا نجد على العكس من ذلك بعضاً من الأقدمين يذكرون عن كرنيادس أنه قد تخلى عن مبدأ تعليق الحكم لما رأى فيه من شدة وغلو، وحاول أن يحل مشكلة المعرفة على طريقة احتمالية مخففة، ولهذا عنى عناية كبيرة بنظرية «الاحتمال» وبدرجات المعرفة، لكي لا يرفض نهائياً ان مجكم على شيء. وأغلب المؤرخين المعاصرين على ان هذا الاتجاه الثاني لم يكن الاتجاه الصحيح الذي اتخذه كرنيادس، وإنما يميلون إلى القول بان كرنيادس ظل مع ذلك غلصاً لبدا تعليق الحكم، ويسوقون للدلالة على هذ سبباً تاريخياً هو أن الأكاديمية بعد كليتوماخوس قد تغيرت وأخذت اتجاهاً قريباًمن الاتجاه التوكيدي عندالرواقيين. فلم يكن غريباً إذن، وهم يعرضون مذهب كرنيادس، أن يقربوا هذا المذهب من اتجاههم الجديد، أي أن يشوهوا الاتجاه الأصلي الحقيقي عند كرنيادس، فلا يجعلونه خلصاً لبدأ أريزيلاس.

وايا ما كان الأمر فإن ابحاث كرنيادس في المعرفة تتجه كلها إلى نقد نظرية الأبيقوريين في المعرفة: ذلك أن كرنيادس ينكر أولا الادراك الحسي، كما ينكر النظر العقلي، ويستخدم هنا البراهين التقليدية الخاصة بخداع الحواس، وبأن المعرفة النظرية تقوم على الحواس، فما يجري على الحواس يجري بالتالي على المعرفة التقليدية. وهكذا نرى أنه في هذا كله لم يأت كرنيادس بشيء جديد، وإنما الجديد عنده أنه جاء بالناحية الايجابية فيما يسمى باسم معيار الحقيقة، فهذا المعيار يحاول أن يضعه على أساس إيجابي فيقول: إن المشكلة الحقيقية في الواقع ليست مشكلة الصلة بين الامتثال وبين الموضوع الخارجي، وإنما هي مشكلة الصلة بين التصور وبين الذات المدركة. ذلك لأننا لو بحثنا في التصورات من حيث صلتها

الثك والثعان

بالموضوعات الخارجية لما امكننا ان نجد شيئاً يشهد لنا إن بالاتفاق أوبالاختلاف، اعنى أن الامتثال بوصفه إمتثالاً لي في طبيعته ضمان لكونه منطبقاً على الموضوع الخارجي، فإن المقارنة لا يمكن ان تتم لأن احد طرفي المقارنة غير موجود وهو حقيقة الموضوع الخارجي في ذاته، ومن هنا لا نستطيع ان نقول أهناك اتفاق أم اختلاف، أي صحة او بطلان، فيما يتصل بتعبير الامتثال عن الموضوع الخارجي . وإنما نستطيع ان نتبين هذه الصلة فيما يتعلق بالامتثال والذات المدركة، فلدينا الطرفان هنا حاضران، لاننا نجد من ناحية اثراً يأقي إلينا من الخارج صادراً عن موضوع ما، ونجد من ناحية اخرى ذاتاً تهب هذا الأثر صفة الرفض أو الموافقة والتيقن، وبدرجة ما تكون هذه الموافقة أو الاقتناع او التيقن يكون بالنسبة إلى الانسان مقدار الصواب في الشيء الخارجي. فكأن المسألة ترجع في نهاية الأمر إلى الذات المدركة لأنها وحدها التي تقرر ما إذا كانت الأشياء قابلة للموافقة (التيقن) أوارفض. ولكننا نجد من ناحية اخرى ان الذات تكون قبل ان تعلم شيئا— جاهلة بهذا الشيء والانسان الجاهل لا يستطيع أن يحكم على شيء حكما ما، فإن الشخص الذي يريد أن يعلم شيثاً محكم عليه لأن التيقن ليس شيئاً آخرغيرالحكم، او الحكمكماقلنا من قبل، هو التيقن- نقول إن التيقن سيقوم على الجهل، أي أننا لا يمكن ان نصل إلى معرفة صحيحة، ليس فقط بحقيقة الأشياء، بلماتبدوعليه بالنسبة إلينا في الخارج، وهكذا نجد أن المعرفة غير مكنة.

لكن يلاحظ مع ذلك اننا هنا بعيدون عن ذلك التعارض الشديد الذي وضعه أرسيزيلاس والشكاك المتقدمون بين اليقين المطلق والجهل المطلق، لأن المسألة هنا ليست على هذا النحو من التطرف، إذ يفرق كرنيادس بين درجات مختلفة من اليقين، وبالتالي لا ينظر إلى المعرفة على أغها تقوم على فطبين متعارضين بينهما هوة، هما اليقين المطلق والجهل المطلق. فالمهم إذن فيما أقى به كرنيادس في مذهبه الجديد فوله بتدرج الحقائق، وبأن الانتقال من اليقين إلى الجهل ومن الجهل إلى اليقين يتم بطريقة تدريجية قد لا يمكن الشعور بها، أعي أنه لا يمكن التفرقة بدقة بين الخطأ والصواب.

ثم نراه يستخدم، من اجل هذا، تلك الحجج التقليدية التي استخدمها أرسيزيلاس فيما يتصل ببراهين

الكومة او حجة الكذاب، وبواسطة هذه الحجج وامثالها يبين أن الحدود بين الخطأ والصواب حدود قلقة عائمة، وبالتالي لا وجه في الواقع للوصول إلى اليقين المطلق، وإنما كل ما يجب على الانسان ان يفعله هو ان يأخذ ببعض الآراء المحتملة لكي يستخدمها من بعد في العمل. ثم يذكرون بعد ذلك عن كرنيادس أنه حاول أن يقيم فلفة طبيعية مشابهة تماماً لفلسفة هرقليطس. والصلة بين طابع فلسفة هرقليطس في التغير الدائم وبين نظرية الاحتمال كما عرضناها هنا واضحة، ولكن يعنينا خصوصا فيما يتصل بالطبيعيات نقد كرنيادس للنظريات الرئيسية للرواقيين في الطبيعيات خصوصا فيما يتصل باللاهوت، ولذا سنعنى بأن نذكر نقد كرنيادس لفكرة الله عند الرواقيين.

يقول الرواقيون إن اله يتصف بالحياة وبالفضيلة، فيقول كرنيادس اعتماداً على مبادىء الرواقيين أنفسهم إن هذا يؤدي إلى تناقض. لنبحث في هذا التعريف لله، فنجد أولا أن اله يتصف بالحياة، وما هو متصف بالحياة يتصف قطعا بالاحساس، لأن كل حي حساس، ويكون لله من الاحساسات ماللانسان على الأقل، اعني أن لله مثلا حس الذوق فهو يشعر تبعا لهذا بالمر والعذب، وشعوره بالمر والعذب من شأنه أن يحدث تغيراً فيه، إذ يجدث العذب اثراً هو اللذة والمر يحدث الألم , فمن هذا يتبين أن الله، ما دام متصفاً بالحياة، فهو متصف بالتغير من حيث أنه خاضع للتأثر، وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية أنواع الحس. هذا إلى اننا إذا نظرنا إلى الحس من حيث طبيعته وجدنا انه عبارة عن تغير استحالة يحدث في الذات الحاسة، أي ان كل إحساس يتضمن من هذه الناحية كذلك تغيراً، فإذا كان الله متصفاً بالحياة فهو قابل للتغير، ولكن ما يتغير لا يمكن ان يكون أزلياً ابدياً، ولهذا فإن فكرة الحياة تتناقض مع طبيعة الله الأولى وجوهره الأصلي وهو انه أزلي أبدي . والنتيجة عينها نصل اليها إذا ما نظرنا إلى الصفة الثانية التى يتصف بها الله وهى صفة الفضيلة، فنجد ان الته إذا ما اتصف بالفضيلة- وتبعاً لبدأ الرواقيين الذي سبق أن ذكرناه من ان الفضيلة واحدة، والحاصل على فضيلة حاصل على كل الفضائل- نقول تبعاً لهذا لا بد أن يكون لله حاصلا على جميع الفضائل، ومن بين هذه الفضائل لا بد أن يكون متصفاً بفضيلة العفة اي مقاومة الشر، ولا يمكن هذه الفضيلة أن توجد إلا إذا كان الانسان خاضعاً للتأئر بالشر، ولا يكون الشيء قابلا لهذ

الثك والشكاك

إلا إذا كان قابلا للتغيرأي للتكيف بأحوال مختلفة من خير وشر، أعني أن الله سيكون إذن قابلا للتغير وإذا كان قالا للتغير فلن يكون حينثذ ازلياً ابدياً، وهذا يتنافى مع جوهر اته. وكذلك الحال بالنسبة ألى كيرمن الصفات التي ننسبها إلى اله، فمثلا لا يمكن أن ننسب إلى الله صفة اللاتناهى ولا صفة التناهى، فلا يمكن أن يكون لا متناهياً، لانه إذا كان كذلك فلن يكون ذا روح، وإذا كان متناهياً فسيكون هناك شيء يحتويه اكبر منه يخضع له، أي لن يكون إلها.كما لا يمكن أن يكون متصفاً بأنه لا جسمى، كما لا يمكن أن يتصف بأنه جسمى . إذ لا يمكن ان يكون لا جسمياً، لأن اللاجسمي تبعاً لبادى، الرواقيين أنفسهم أو اللاجسمي عند الرواقيين هو الذي لا يفعل مثل الزمان والمكان (كما رأينا من قبل)، فهو إذن لن يفعل، وهذا يتنافى مع صفة أولى من صفات الله وهي الفعل. كما أنه لا يمكن أن يكون جسما لأن الجسم فان، والله غيرقابل للفناء كما لا يمكن كذلك أن تضاف إليه صفة الكلام ولا عدم الكلام: فلا يمكن أن تضاف إليه صفة عدم الكلام لأن الناس يشهدون جميعا بالوحي، كما لا يمكن أن يكون الله متصفاً بصفة الكلام لأن كل كلام يستدعى استحالة وتغيراً في الذات المتكلمة، أعنى أنه لا بد في هذه الحالة من أن نفترض في الله تغيراً، وهذا يتنافى مع الأزلية والأبدية. وهكذا نجد كرنيادس قد عفي ببيان التناقض الذي يقع فيه الانسان إذا ما حاول أن يصف اله بصفات إيجاية كالحياة والعلم والكلام، إلا إذا فهمنا هذه الصفات بأنها ليست كصفات البثر، فكأنه كان مبشراً إذن، عن طريق هذا النقد، بمنهج اللاهوت السلبي الذي سيأقي فيما بعد سواء في المسيحية وفي الاسلام، وهو منهج إضافة صفات كلها سلوب، إلى اته.

وكذلك نجد كرنيادس قد وجه كثيراً من النقد إلى بعض المذاهب الأخرى الرواقية خصوصا مذهبهم في العرافة، وقد كان للعرافة أثر كبير جداً عند الرواقيين، وكانوا يؤمنون بها اشد الايمان. فنجد كرنيادس يرد عليهم فيقول: إن الحادث المستقبل إما ان يكون اتفاقيا فلا يمكن تحديده ومعرفته ابتداءاً، وإما ان يكون ض وريا فنستطيع أن نعرفه عن طريق العلم، ولا حاجة بنا في هذه الحالة إلى العرافة والمفاءلة.. لخ.

ثم ينقدهم مرة اخرى فيما يتصل بفكرة المصير

والحرية أو الجبر والحرية، فإن كريسيفوس قد حاول أن يبين أن ليس ثمت تناف بين الحرية وبين المصير أو الجبر، فقال كرنيادس بأنه إذا كان ثمت قدر ومصير فلا يمكن التحدث عن الحرية. كما أنه نقد نظريتهم فيما يتصل بالصلة بين المصير وبين العلية، فإن الرواقيين يقولون إن العلية المطلقة تؤذن بالمصير لمطلق، فإنا إذا نظرنا إلى الحوادث بحسبانها متسلسلة تسلسلا دقيقا عليا كانت الأشياء كلها مرتبة معينة بطريقة لا تقبل شيئا من الاتفاق. ولكن كرنيادس يقول لهم : قد يكون هناك مصيرولا تكون هناك علية مطلقة على هذا النحو، إذ هناك أنواع من العلل قد تأقي من خارج فتدخل فضولية على سلسلة العلل وتحدث الأثر المطلوب. أي أنه، بعكس ما يقوله الرواقيون من الترابط التام الدقيق بين العلل بعضها وبعض، يقول هو إن الطبيعة لا تخضع لهذه العلية المطلقة، بل تخضع كذلك لنوع من التدخل الخارجي والانفصال بين الأشياء عليا.

وهذا كل ما يعنينا من مذهب كرنيادس. ومنه نرى أن كرنيادس كان دافعاً إلى تحديد صفات الله تحديداً دقيقا، وإلى فهم كثير منالمسائل الأصلية في العلم، كالعلية، على النحوالصحيح!. أما تلميذه كليتوماخوس، فلم يفعل شيئا أكثر من أنه عرض أقوال استاذه؛ ولم يأت بشيء جديد مطلقا، فلا داعي إلى الكلام عنه.

الشكاك المحدثون: أخذ الشك عند اليونان في القرن الكاني بعد الميلاد وجها جديداً يختلف كثيراً عن الوجه الذي كان عليه الشك القديم. فقد أصبح هذا الشك مدرسة قائمة بذاتها وأصبح اصحاب ه يلجأون إلى البرهنة الدقيقة والتفصيل للحجج التي يقوم عليها موقفهم هذ في نظرية المعرفة. وأشهر الشكاك الذين يمثلون هذا الشك الجديد أنسيداموس، ولحسن الحظ بقي لنا كتاب «الأقوال الفورونية». فقد أبقاه لنا فوتيوس البيزنطي في مجموعة كتبه، تحت رقم ٢١٢. وفي هذا الكتاب يحاول أنسيداموس أن يبين أن موقف فورون هو الموقف الوحيد الذي يؤدي إلى الحياة المطمئنة السعيدة التي ينثدها كل إنسان. والحجج المشهورة التي قيلت ضد إمكان المعرفة، تكاد ترجع إلى الحجج التي صاغها أنسيداموس. ونستطيع أن نقسم أنواع الحجج المختلفة التي قدمها في هذا الصدد إلى أنواع متعلقة بفكرة العلة، وأنواع اخرى متعلقة بنظرية

الفك والشكاك

المعرفة عموما. ففيما يتصل بفكرة العلة، نراه يوجه نقده في هذه الناحية خصوصا إلى الأبيقوريين، وهو يقول من أجل هذا، أولا: هل يمكن أن تتصور العلة بوصفها خفية؟ إذ كان الأمر على هذا النحو، فهل يمكن العلامات الظاهرة أن تكون دليلا على علل خفية؟ ثم إن العلامات يمكن أن تفسر تفسيرات مختلفة، قالعلامة الواحدة قد تدل، أو يفهم منها الانسان انواعا من الفهم عدة. فالأطباء مثلا، الذين يجسون نبض إنسان ما يؤولون هذا النبض تأويلات مختلفة، هذا إلى أن الأبيقوريين يضطرون فيما يتصل ببعض المسائل إلى الاقتصار على مصادرات يسلم بأغها هي العلل لشيء ما، كما اهم في أحيان أخرى يقولون بعلل لا يستخلصون منها كل ما تقتضيه، كما أنم لا يفرقون بين الآثار المختلفة التي تنشأ عن شيء واحد. ومن هذا كله يتبين أن فكرة العلية فكرة غير صحيحة.

ويضاف إلى هذه الحجج ضد العلية حجج أخرى ضد المعرفة بوجه عام، وهي الحجج العشر المعروفة ياسم «المواقف الشكية». فالحجة الأولى تقول أولا بأن الانسان يختلف عن الحيوان، فما ينطبق على الحس الحيواني لا ينطبق على الحس الانساني، وبالتالي يختلف الاحساس بالنسبة إلى كل من الانسان والحيوان. وهنا تجد أن سكستوس أمبريكوس في عرضه لهذه الحجة يضيف إلى ذلك أن الحيوان ارفع مقاما من الانسان!

والحجة الثانية هي أن الاحساسات تختلف باختلاف الأفراد، إن فيما يتعلق بالنفس أو بالبدن والحجة الثالثة أن الاحساسات في ادراكها لشيء ما تختلف فيما بينها وبين بعض في إدراكها لهذا الشيء، فهذا الحس يصوره على نحو غير الذي يصوره عليه الحس الآخر. والحجة الرابعة، هي أنه في داخل الحس الواحد تختلف الاحساسات التي من نوع واحد، بحسب اختلاف حالة الشخص أثناء الحس. والحجج الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة، تتعلق بالأحوال المختلفة التيها لا يكون الاحساس صحيحا في الواقع من حيث الاختلاف في الادراك الحسي بالنسبة إلى البعد، أو صلة شيء بشيء، أو مقداره. ٠ . الخ. ففي هذه الأشياء يلاحظ دائما أن هناك اختلافا بين الحواس بحسب هذه الاضافات أو النسب. والحجة العاشرة والأخيرة تتعلق بما هناك من اخطاء كثيرة في المعرفة التقليدية، التي يأخذها الخلف عن الف

إلا ان الصورة الكاملة الدقيقة للحجج التي قال بها الشكاك ضد إمكان المعرفة تتمثل على وجه الدقة، لا عند أنسيداموس بل عند اجربا وكل من أنسيداموس وأجربا قد عاشا معا تقريبا في حوالي القرن الأول قبل او بعد الميلاد. فقد صاغ أجربا الحجج الخمس المشهورة ضد إمكان المعرفة فقال: الحجة الأولى: إن كلقول يمكن أن نضع بإزائه قولا آخر مضاداً لم وفي نفس الدرجة من اليقين، وهذا ما يسمى باسم التعارض، أو التناقض. والحجة الثانية: أننا لو قلنا إن المبادىء يمكن أن تعرف، فلا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق المصادرات، أعفي ان كل قول يتصف بصفة «الافتراضية». والحجة الثالثة أنه لكي يبرهن على قول، فلا بد أن يتخدم قول أسبق منه، وهكذا باستمرار إلى غير غهاية، فكأننا سننتهي إلى تسلسل غير منقطع. والحجة الرابعة: أنه لكي يبرهن على شيء، لن يبرهن عليه إلا بنفس الشيء، وهذا ما يسمى باسم «الدور, . والحجة الخامسة والأخيرة، هي المعروفة باسم «حجة الدائرة المقفلة»، ومعناها ان كل إثبات لامكان المعرفة، ينطوي قطعاً على دور وذلك لأنني حينما أثبت إمكان المعرفة أو قدرة العقل على المعرفة لن استطيع أن أثبت ذلك إلا بالاعتماد على قدرة. لعقل، فكأنفي اثبت الشيء بنفسه، وهذا تحصيل حاصل.

وقد ظلت هذه الحجج الخمس الصورة النهائية للشك في العصر القديم، وأصبحت فيما بعد النموذج الأعلى لكل شك في نظرية المعرفة، وما أقى بعد هذا من شكاك في القرون التالية، خصوصا في القرن الثاني بعد الميلاد، لم يضيفوا شيئاً جديداً، وإنما عرضوا فقط ما قاله المحدثون والأقدمون. ومن أهم من يستحق الذكر من هؤلاء الشكاك المتأخرين سكستوس امبريكوس. ففي كتابه «ضد التوكيديين،، وكتابه اضد المعلمين، نجد سكستوس قد عرض مذهب الشكاك خصوصاً من خلال بيان التناقض الموجود بين المذاهب الفلسفية بعضها وبعض. وقد اصبحت هذه الحجة حجة بيان تناقضن المذاهب الفلسفية بعضها وبعض، من أهم الحجج التي يستخدمها الشكاك إبان ذلك الدور. ولهذا فإن أهمية سكستوس أمبريكوس ليست في أنه أق بشيء جديد، وإنما فيما خلفه لنا من عزض، إن لمذهب الشكاك القدماء والمحدثين سواء بسواء، أو لمذاهب فلاسفة قد ضاعت كتبهم.