قضية الإيديولوجيا المسيطرة

قضية الإيديولوجيا المسيطرة (بالإنجليزية: Dominant Ideology Thesis) يستخدم مصطلح الإيديولوجيا فى السياق الراهن كمرادف لمفاهيم أنساق المعتقدات المشتركة (العامة)، والقيم المطلقة، والثقافة الشائعة، ويرى دعاة قضية الإيديولوجيا المسيطرة أن الإيديولوجيا هى الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعى فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ويذهب هذا الرأى إلى أن الطبقة المسيطرة - فى المجتمعات المتراتبة طبقياً - هى التى تتحكم فى إنتاج الأفكار وفى الإنتاج المادى أيضا. وتعمل تلك الطبقة على المترويج لمجموعة متماسكة من المعتقدات التى تسيطر على أنساق المعنى التابعة، الأمر الذى يترتب عليه تشكيل وعى الطبقة العاملة لصالح الحفاظ على الوضع القائم. وتضطلع الطبقة المسيطرة بدور فعال ونشط فى نشر وعى زائف بين الجماهير، على نحو يجعلهم عاجزين عن الدفاع عن مصالحهم الطبقية . فالإيديولوجيا المسيطرة - بعبارة أخرى - تعمل على اندماج الطبقة العاملة فى المجتمع الرأسمالى، الأمر الذى يحافظ على التماسك الاجتماعى.

وعلى حين ارتبط تالكوت بارسونز وغيره من آصحاب الوظيفية المعيارية - منذ أمد بعيد - بالتحليلات الثقافية للتكامل الاجتماعى، نلاحظ أن الماركسيين المحدثين، مثل لوى ألتوسير، وأنطونيو جرامشى، ويورجن هابرماس، قد اعتمدوا هم الآخرين على نظريات الإيديولوجيا المسيطرة فى تحليلاتهم للمجتمعات الرأسمالية. بل إننا نلاحظ أيضا أنهم جميعا - ربما باستثناء جرامشى - قد قدموا تحليلا وظيفيا لدور تلك الإيديولوجيا المسيطرة فى محاولاتهم تفسير الاستقرار الاجتماعى. لهذا يقال إن الماركسيين المحدثين قد زاد اعتمادهم على مفهوم الإيديولوجيا فى تفسير غياب الوعى الثورى لدى الطبقة العاملة فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. حيث كان غياب النضال الثورى يفسر أساسا فى ضوء الإندماج الإيديولوجى للطبقة العاملة. من هنا أصبحت التفسيرات الوظيفية والماركسية لكيفية تحقق التماسك داخل المجتمعات قد ازدادت درجة التشابه بينها باضطراد خلال القرن العشرين. وهو امر مثيرللسخرية إلى حد ما، على أساس أنه لا دوركايم ولا ماركس قد أهمل دور القهر الاقتصادى والسياسى فى تحليلاتهم لكل من الاستقرار أو عدم الاستقرار الاجتماعى.

وهناك بعض المشكلات النظرية والإمبيريقية التى ترتبط بقضية الإيديولوجيا المسيطرة. فنادرا ما نعثرعلى تعريف واضح للمقصود بالإيديولوجيا المسيطرة، ولملامحها الأساسية. فالقضية توحى بأن الإيديولوجيا المسيطرة تملى على الطبقات الخاضعة الطريقة التى تنظر بها إلى المجتمع، ومع ذلك أخفق دعاة تلك النظرية دائما فى تفسير العمليات التى بمقتضاها تفرض تلك الطبقة المسيطرة هذه الإيديولوجيا على الجماهير. ولكنها تعرض بدلا من ذلك صورة تبعث على السخرية إلى حد ما للطبقة العاملة ذات الوعى الزائف، وهى الطبقة التى بتم إخضاعها بحيث تتقبل توزبعا غير متكافى للموارد المادية وللقوة السياسية. لذلك ليس مما يثير الدهشة أن نتبين أن مثل هذه القضية التى تتسم بكل هذا القدر من الغموض وعدم التحديد كان من الأمور شبه المستحيلة تعريفها إجرائيا ودعمها بالشواهد الإمبيريقية.

وهناك كثير من علماء الاجتماع الذين يرفضون الأهمية التى تنسب إلى الإيديولوجيا المسيطرة فى التحليلات الحديثة للنظام الاجتماعى. من هذا مثلا ما يذهب إليه نيكولاس أبركرومبى وزملاؤه (فى كتابهم المعنون: قضية الإيديولوجيا المسيطرة، الصادر عام 1980) من أن الإيديولوجيات المسيطرة نادرا ما تنتقل بشكل فعال خلال الأبنية الاجتماعية، وأن تأثيراتها الرئيسية تصيب الطبقات المسيطرة أكثر مما تؤثر فى الطبقات الخاضعة. وقد اضطلعت تلك الإيديولوجيات فى المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية المبكرة بوظيفة تمكين الطبقة المسيطرة من التحكم فى الثروة، واستمرار هذا التحكم، ولكن على مستوى جماعات الصفوة نفسها. كذلك اعتمدت العزبة الاقطاعية والمصنع المملوك لأسرة رأسمالية على الحقاظ على الثروة والحمل على تراكمها. وكانت الملكية الخاصة للأرض ولرأس المال تتطلب وجود نظام مستقر للزواج، يحوى قواعد واضحة لا لبس فيها تنظم عمليات انتقال الميراث، والشرعية، والزواج مرة أخرى (للأرمل أو المطلق). وكانت الإيديولوجيا المسيطرة تمثل مركبا من القيم القانونية، والأخلاقية، والدينية المتى تخدم كلها هدف الحفاظ على الثروة. وكنا نجد عند الطبقات المسيطرة الإقطاعية - مثلا - أن المذهب المكاثوليكى ونظام الشرف يقدمان الضمانات الإيديولوجية التى تضمن ولاء الأبناء لممتلكات العائلة. وبالمثل كانت جماعات الفلاحين (وكذلك قوة العمل المصناعية فى فجر الرأسمالية) يتم إدماجها من خلال المقتضيات الصريحة الظاهرة للعاملين فى البقاء على قيد الحياة - أى من خلال "المقهر الكئيب للعلاقات الاقتصادية". وحتى فى الممرحلة المتأخرة من الرأسمالية أصبح "القفص الحديدى" للحياة اليومية يقدم تفسيرا لهمود الطبقة العاملة وسكونها أكثر مما يفعل الإدماجوالاستيعاب الإيديولوجى. ولذلك أصبح من الممكن تقبل التعددية الأخلاقية والتنوع الكبير فى صور الانحراف السياسى والاجتماعى والثقافى، وذلك بسبب امتثال الطبقات الخاضعة بفعل القيود الاقتصاديسة، والقهر السياسى، والأليات البيروقراطية المتبعة فى كل من المدرسة، والأسرة، ومكان العمل، والسجن. كما أن استمرار. الصراعات فى المجتمعات الرأسمالية يشير إلى أن الإيديولوجيا المسيطرة لا تقوم بمهمة التأليف والدمج.

وهكذا يمكن القول باختصار أنه قد بولغ فى تقير آثار الإيديولوجيا المسيطرة على النظام الاجتماعى، كما أننا يمكن أن نلمس بعض مقومات و أسس التماسك الاجتماعى فى القهر والاعتماد المتبادل فى المجال الاقتصادى، والقهر القانونى والسياسى، والضغوط المفروضة على روتين الحياة اليومية، وربما كذلك فى القدرية.

انظر أيضاً