جان بول سارتر

(بالتحويل من جون بول سارتر)

جان-بول شارل ايمارد سارتر (بالفرنسية: Jean-Paul Sartre) (21 يونيو 1905 باريس - 15 أبريل 1980 باريس) هو فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي وكاتب سيناريو وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي ينتسب إلى المذهب الوجودي. عبَّر عن أرائه في العديد من الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة والأعمال النظرية.

ولد سارتر بباريس حيث درس بالمدرسة النظامية العليا. وبدأ حياته العملية أستاذاً. درس الفلسفة في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م) وقاتل ضمن القوات الفرنسية. حين احتلت ألمانيا النازية فرنسا، إنخرط سارتر في صفوف المقاومة الفرنسية السرية. وأسّس المجلة النقدية الشهرية الأزمنة الحديثة سنة (1945م). وعمل رئيسًا للتحرير.

عرف سارتر واشتهر لكونه كاتب غزير الإنتاج، ولأعماله الأدبية وفلسفته المسماة بالوجودية، ويأتي في المقام الثاني التحاقه السياسي باليسار المتطرف. حاول تطوير نقد إنسانى للأسس الفلسفية للماركسية.

كان سارتر رفيق دائم للفيلسوفة والأديبة سيمون دي بوفوار، التي أطلق عليها أعدائها السياسيون «السارترية الكبيرة». برغم أن فلسفتهم قريبة إلا أنه لا يجب الخلط بينهما. لقد تأثر الكاتبان ببعضهما البعض.

أعمال سارتر الأدبية هي أعمال غنية بالموضوعات والنصوص الفلسفية بأحجام غير متساوية مثل الوجود والعدم (1943)، والكتاب المختصر الوجودية مذهب إنساني (1945) أو نقد العقل الجدلي (1960)، وأيضا النصوص الأدبية في مجموعة القصص القصيرة مثل الحائط، أو رواياته مثل الغثيان (1938)، وثلاثية طرق الحرية (1945) وهي سلسلة من الروايات تشمل عمر المنطق (1945م)؛ وتأجيل تنفيذ الحكم (1945م)؛ والنوم المزعج (1949م). ومن أكثر أعماله المتاحة ذات الصلة بالعلوم الاجتماعية كتابه: مشكلة المنهج، الصادر عام 1957.

كتب سارتر أيضا في المسرح مسرحيات مثل الذباب (1943) ولا مخرج (1944م) والغرفة المغلقة (1944) والعاهرة الفاضلة (1946) والأيدي القذرة (1948م) والشيطان والله الصالح (1951) ومساجين ألتونا (1959) وكانت هذه الأعمال جزءا كبيرا من إنتاجه الأدبي. في فترة متأخرة من عمره في عام 1964 تحديدا، أصدر سارتر كتابا يتناول السنوات الإحدى عشر الأولى من عمره بعنوان الكلمات بالإضافة إلى دراسة كبيرة على جوستاف فلوبير في كتاب بعنوان أحمق العائلة (1971-1972). لقد أصدر أيضا دراسات عن سير العديد من الكتاب مثل تينتوريتو ومالارميه وشارل بودلير وجان جينيه. كان سارتر يرفض دائما التكريم بسبب عنده وإخلاصه لنفسه ولأفكاره ومن الجدير بالذكر أنه مُنح في 1964م جائزة نوبل في الأدب إلا أنه رفض تسلمها. ولكنه قبل لقب دكتور honoris causa من الجامعة العبرية عام 1976. وقد زار بعض دول الشرق الأوسط. وكان له موقف مؤيد لإسرائيل.

حياته

«أنا لا أحاول الحفاظ على حياتي من خلال فلسفتي فهذا شئ حقير، ولا أحاول إخضاع حياتي لفلسفتي فهذا شئ متحذلق، لكن في الحقيقة الحياة والفلسفة شيء واحد» من كتاب دفاتر طرائف الحرب.

مقدمة

لقد ترك جان بول سارتر بوصفه كاتبا غزير الإنتاج أعمالا أدبية ضخمة على شكل روايات ومقالات ومسرحيات وكتابات فلسفية وسير ذاتية. أثرت فلسفته في فترة ما بعد الحرب وقد بقي مع ألبير كامو رمزا للمثقف الذي يأخذ إتجاها في كتاباته. منذ التحاقه بالمقاومة في 1941 (تم التشكيك في هذا الالتحاق بسبب موقفه الملتبس أثناء الاستعمار ) وحتى وفاته في 1980، لم يكف سارتر عن تغطية الأحداث التي تدور من حوله. فكان في الحقيقة يخوض جميع المعارك متخذا موقفا واضحا ومتبنيا بحماسة جميع القضايا التي كانت تبدو له عادلة. مثل فولتير القرن العشرين، ناضل سارتر دون كلل حتى نهاية حياته. بعد الحرب أصبح رائد مجموعة من المثقفين في فرنسا. وقد أثرت فلسفته الوجودية، التي نالت شعبية واسعة، على معظم أدباء تلك الفترة. منح جائزة نوبل للآداب عام 1964. تميزت شخصياته بالانفصال عنه وبدت وكأنها موضوعات جدال وحوار أكثر منها مخلوقات بشرية، غير أنه تميز بوضع أبطاله في عالم من ابتكاره.

لم يكن سارتر مؤلفاً مسرحياً محترفاً، وبالتالي فقد كانت علاقته بالمسرح عفوية طبيعية. وكان بوصفه مؤلفاً مسرحياً، يفتقر أيضاً إلى تلك القدرة التي يتمتع بها المحترف بالربط بين أبطاله وبين مبدعيهم. كما كان يفتقر إلى قوة التعبير الشاعري بالمعنى الذي يجعل المشاهد يلاحق العمق الدرامي في روح البطل الدرامي.

تميزت موضوعات سارتر الدرامية بالتركيز على حالة أقرب إلى المأزق أو الورطة. ومسرحياته «الذباب» و«اللا مخرج» و«المنتصرون» تدور في غرف التـعذيب أو في غرفة في جهنم أو تحكي عن طاعون مصدره الذباب. وتدور معظمها حول الجهد الذي يبذله المرء ليختار حياته وأسلوبها كما يرغب والصراع الذي ينتج من القوى التقليدية في العالم التقليدي الذي يوقع البطل في مأزق ويحاول محاصرته والإيقاع به وتشويشه وتشويهه.

وإذا كان إدراك الحرية ووعيها هي الخطوة الأولى في الأخلاقية السارترية فإن اسـتخدامه لهذه الحرية وتصرفه بها -التزامه- هو الخطوة الثانية. فالإنسان قبل أن يعي حريته ويستثمر هذه الحرية هو عدم أو هو مجرد «مشـيئ» أي أنه أقرب إلى الأشـياء منه إلى الكائن الحي. إلا أنه بعد أن يعي حريته يمسي مشـروعاً له قيمته المميزة.

في مسرحيتيه الأخيرتين «نكيرازوف» (1956) و«سجناء التونا» (1959) يطرح سارتر مسائل سياسية بالغة الأهمية. غير أن مسرحياته تتضمن مسائل أخرى تجعلها أقرب إلى الميتافيزيقيا منها إلى السياسة. فهو يتناول مواضيع مثل: شرعية اسـتخدام العنف، نتائج الفعل، العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والتاريخ. من مسرحياته أيضاً: «الشيطان واللورد» و«رجال بلا ظلال».

وقد ساهم أيضا في إعطاء الجزائر استقلالها ووقف أمام حركة بلاده الاستعمارية وكان قوله المشهور السلام هو الحرية

الشباب والتوجه

طفولته

ولد جون بول سارتر في الحادي والعشرين من شهر يونيو عام 1905 في عائلة بسيطة برجوازية. كان والده جان باتيست سارتر يعمل بالجيش ضابطاً في البحرية الفرنسية. نشأت والدته آن ماري شوايتزر في عائلة من المفكرين والمدرسين، وكانت ابنة عم المفكر ورجل السياسة والعالم اللاهوتي الشهير الدكتور ألبرت شوايتزر الحاصل على جائزة نوبل للسلام في سنة 1952.

لم يتعرف سارتر إلى والده الذي مات بعد خمسة عشر شهراً من ولادته ومع ذلك فقد كان حاضراً من خلال جده، وهو رجل ذو شخصية قوية والذي قام بتربيته حتى التحق بالمدرسة العامة وهو في العاشرة من عمره.

عاش «بولو» الصغير، كما أطلق عليه، عشر سنوات من عام 1907 إلى 1917 مع والدته وعائلتها في سعادة وحب وهناء في ميدون (ضاحية من ضواحي باريس الجنوبية) ثم في باريس في شارع لوجوف Le Geoff. والتحق بالصف الخامس في ليسيه هنري الرابع سنة 1916، حيث تعرف بزميله بول نيزان Paul Nizan .

اكتشف سارتر القراءة في مكتبة البيت الكبيرة وفضلها عن مصادقة الأطفال في سنه. انتهت هذه الفترة السعيدة عام 1917 عندما تزوجت والدته بجوزيف مانسي المهندس في البحرية والذي كان سارتر يبغضه كثيرا. كان يبلغ سارتر الثانية عشر من عمره عندما انتقل مغ أمه وزوجها للعيش في ميناء «لاروشل» (غربي فرنسا) وظل بها حتى سنة 190 حيث بلغ الخامسة عشر من عمره. كانت هذه السنوات الثلاث سنوات تعيسة ففد ترك سارتر مناخ الأسرة السعيدة ليصطدم بحقيقة زملائه الطلاب الذين مثلوا له العنف. أدى مرض سارتر عام 1920 إلى عودته إلى باريس كما أدى خوف والدته على أن تفسد أخلاقه بسبب زملائه الفاسدين بالمدرسة إلى أن تجعله يبقى معها بباريس.

دراسته

التحق سارتر وهو في السادسة عشر من عمره بالثانوية في ليسيه «هنري الرابع»، وهناك تعرف إلى بول نيزان كاتب مبتدئ ونشأت بينهم صداقه استمرت حتى وفاته في عام 1940. ساهمت هذه الصداقة في تكوين شخصية سارتر. برع سارتر في مجال الفكاهة. استعد سارتر بصحبة صديقه نيزان، للمسابقة الخاصة بالتحاق المدرسة التقليدية العليا «بمدرسة لويس لو جران». وقام في هذه المدرسة بكتابة أول أعماله الأدبية، وخاصة قصتين قصيرتين يحكى فيهما حكايتين مأساويتين لمدرسين في القرية. يظهر في هتين القصتين بوضوح أسلوب سارتر الساخر، والمليء بالنفور من الحياة الاجتماعية المصطنعة. ويستكمل سارتر في الوقت نفسه كفكاهي مع صديقه نيزان، يمثلان المشاهد القصيرة ويلقيان النكات بين الحصص المدرسية. وبعد عامين من التحاقهما بـ«لويس لو جراند» أصبحا هو ونيزان مشتركان في المسابقة. تمييز سارتر، بعد فترة وجيزة في «المدرسة المدعوة بالتقليدية والعليا» كما أطلق عليها نيزان.

ظل سارتر المحرك الأساسي لكل أعمال الشغب التي وصلت إلى اشتراكه بالتمثيل بمسرحية ضد الحكم العسكري في العرض الاحتفالي «بالمدرسة التقليدية العليا» مع زملائه وذلك عام 1927. عقب هذا الحدث استقالة جوستاف لانسون مدير المدرسة، والذي قام في نفس العام بالتوقيع هو وزملائه من دفعته على عريضة (تم إعلانها في 15 أبريل في مجلد «أوروبا») ضد قانون المنظمة العامة للأمة لوقت الحرب، والذي يلغى حرية الفكر والرأي. كان سارتر يميل إلى معارضة السلطة، كما كان له مكانة كبيرة لدى أساتذته الذين كانوا يستضيفونه في المطعم الخاص بهم. كان سارتر مجتهد حيث أنه كان يقرأ أكثر من 300 كتاب في العام، ويكتب الأغاني والأشعار والقصص القصيرة والروايات. كون سارتر علاقات صداقة مع من أصبحوا فيما بعد مشهورين مثل ريمون آرون وموريس ميرلو-بونتي وعالم النفس لاجاش La gache. وبالرغم من هذا لم يكن سارتر يهتم بالسياسة طوال الأربعة أعوام التي قضاها بالمدرسة التقليدية العليا. لم يكن يشترك بأي مظاهرة ولا يتملكه ولع بأي قضية.

أثار رسوبه في مسابقة شهادة الأستاذية في الفلسفة عام 1928 استغراب محبيه، مما جعلهم يشكون في صحة تقييم الحكام. وفاز في هذه المسابقة ريمون أرون بالمركز الأول (الذي، كما صرح سارتر نفسه، بأنه قدم شيء متميز للغاية). عمل سارتر بجهد كبير من أجل التحضير للمسابقة التالية التي تعرف فيها إلى سيمون دى بوفوار عن طريق صديق مشترك رينيه ماهو، والذي كان يطلق عليها اسم «قندس» نسبة للإنجليزية «بيفر» (والتي تعنى قندس: فمن جهة هذا الحيوان يمثل العمل والحماس، ومن جهة أخرى إيقاع الكلمة قريب من الاسم «بوفوار»). أطلق سارتر عليها هذا الاسم أيضاً. وكان لقاؤهما لأول مرة في يوليو سنة 1929 وقد روت هذا اللقاء وبداية علاقتهما - التي ستستمر حتى موت سارتر - في مذكراتها بعنوان: «مذكرات فتاة عاقلة». حصل سارتر على المركز الأول في المحاولة الثانية في المسابقة في سنة 1929، وحصلت سيمون دي بوفوار على المركز الثاني. وكان السبب في رسوبه في المرة الأولى استقلال آرائه التي أبداها في الامتحان التحريري.

طلب سارتر، بعد تأدية الخدمة العسكرية، أن يتم نقله إلى اليابان حيث أنها لطالما أثارت اهتمامه. ولكن لم يتحقق هذا الحلم حيث أن تم إرساله إلى «هارف» الثانوية، والتي يطلق عليها «فرنسوا الأول» منذ 1931. كان هذا اختبارًا حقيقيًا لسارتر، الذي طالما أخافته الحياة المنظمة والذي نقد دائما في كتاباته حياة الريفية المملة.

معلم في لو هافر

عين سارتر مدرساً في ليسيه لوهافر Le Havre سنة 1931 حيث أمضى عامين، قام في أثنائهما برحلات إلى أسبانيا وايطاليا وإنجلترا. وعني بقراءة مؤلفات جويس Joyce وسلين Céline.توغل سارتر ببساطة في الحياة الحقيقية والعمل والحياة اليومية، حيث كان يصدم الأهالي والمعلمون بأساليبه (دخول الفصل دون ربطة عنق) لكنه أبهر خمسة أجيال من الطلاب الذين يعتبرونه مدرسا رائعًا، ومرحًا وفاضلًا بل وصديقا لهم. من هنا نشأ حنينه وارتباطه بالمراهقة حتى نهاية حياته.

وفي سنة 1934، كان عضو بعثة في المعهد الفرنسي ببرلين. وبدأ يقرأ لهسرل وكافكا وفولكنر Faulkner . وهناك يكمل ما استهله ريمون آرون عن ظاهراتية هوسرل.

وعاد في نفس السنة - سنة 1934، إلى عمله مدرساً في ليسيه لوهافر حيث أمضى عامين آخرين (1934- 1936). قضت السنوات التي قضاها سارتر في الهافر على اعتقاده بالحصول على شهرة ومجد منذ الصغر، بسبب رفض الناشرين لكتباته. في إبان هذه السنوات كتب الصورة الأولى من روايته الأولى «الغثيان»، وهي رواية فلسفية (ظاهراتية) وسيرة ذاتية، تحكي آلام أنطوان روكيتان العازب المؤرخ صاحب الخامسة والثلاثسن عاماً. لكن لازمه سوء الحظ، حيث رفض الناشر أن ينشرها، مع أنه سينشرها بعد ذلك في سنة 1938 ويبيع منها حتى نهاية سنة 1978 مليوناً وستمائة ألف نسخة!

ثم انتقل سارتر مدرساً في ليسيه مدينة لاون Laon ببيكاردي (في شمال فرنسا) سنة 1937. كان الخبر السعيد بالنسبة له هو نقله في أكتوبر 1937 إلى ليسيه الراعي في نويي-سور-سين. لقد بدأت هذه الفترة بمرحلة من سوء سمعة مع نشر كتابه الأول «الغثيان»، الذي كان قريبا جدا من الفوز بجائزة غونكور ونشر مجموعته القصصية «الحائط». وقد انتهت هذه المرحلة بقيام الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939، والتي نقل خلالها إلى نانسي.

الحرب وموقفه الغامض منها

لم يكن سارتر يملك الوعي السياسي قبل الحرب، لكنه شارك فيها دون تردد رغم أنه كان مسالما وضد العسكرية. لقد غيرته الحرب والحياة داخل المجتمع تغيرا كليا. أثناء الحرب الزائفة، جند كجندي في علم الطقس ولحق بفرقته في نانسي، وسمحت له هذه الوظيفة بإيجاد وقت فراغ كبير كان يستغله في الكتابة (بمتوسط 12 ساعة في اليوم خلال تسعة أشهر، أي 2000 صفحة، وقد نشر جزء صغير منهم تحت اسم «دفاتر الحرب الزائفة»). كان يكتب في البداية لتجنب أي تعامل مع زملائه لأنه كان يضيق بالمعاملات الجادة والهرمية للجيش.

انتهت الحرب الزائفة في مايو 1940 وتحولت من حرب زائفة إلى حرب حقيقية. في 21 يونيو، أُخذ سارتر أسيراً في بادو في فوج في أعقاب هزيمة فرنسا، ثم أودع في معسكر اعتقال بألمانيا مع 25,000 معتقل. أثرت تجربة السجن في سارتر بشكل كبير: تعلم من خلاله التضامن مع الآخرين؛ لقد شارك الحياة المجتمعية المرحة دون الإحساس بالقهر والخوف، وكان يروى القصص والنكات لأصحابه في العنبر، ويلعب مباريات الملاكمة معهم. كما كتب أيضا مسرحية قصيرة لسهرة عيد الميلاد وأطلق عليها «باركوبا» ولكنها لم تنشر. كانت هذه الحياة مع المعتقلين مهمة لأنها كانت نقطة تحول في حياته: فلم يعد فردي الثلاثينيات لكنه رأى وجوب الانخراط داخل المجتمع.

في مارس 1941، أطلق سراح سارتر بسبب شهادة طبية خاطئة ولكن حسب أقوال الأخوة جيل وجون روبرت راجاش، أنه قد تم إطلاق سراحه بتدخل من بيير دريو لا روشيل: <<في خريف 1940, قام دريو بكتابة قائمة بالكتاب المعتقلون وكان من بينهم سارتر ومكتوب أمام هذه القائمة «المطالبة بإطلاق سراح الكتاب»>>.

أخذته رغبته الجديدة في الالتحاق منذ عودته من باريس لإنشاء حركة مقاومة ضد الألمان مع بعض من زملاءه مثل سيمون دى بوفوار وموريس ميرلو بونتي Merleau-Ponty تحت اسم حركة «الاشتراكية والحرية». التحق بها حوالي خمسون عضوا في يونيو 1941. كان سارتر معارضا متواضعا لكن صادق. أخذ عليه فلاديمير جانكليفيتش اهتمامه بالتقدم في عمله أكثر من التنديد ومعارضة المحتل. في صيف 1941، قام سارتر بعبور الولاية بالدراجة لتوسيع عدد أعضاء الحركة من المثقفين مثل جيد ومالرو لكن دون جدوى. حلت حركة «الاشتراكية والحرية» في نهاية عام 1941 بعد القبض على عضوين من أصدقائه. في أكتوبر 1941، تولى سارتر منصب المدرس في ليسيه كوندورسيه في الkhâgne وهي فصول إعدادية متخصصة في الأدب بدلاً من فيرديناند آلكييه. كان المعلم هنرب دريفوس لوفوايي أول من شغل هذا المنصب وحتى 1940 لكن أطيح به لكونه يدين باليهودية. كشف جان دانيال هذه الواقعة في أكتوبر 1997 في افتتاحية جريدة Nouvel observateur وقد ألقى باللوم على سارتر. تسائل إنجليد جالستر عن موقف سارتر الغير واضح ثم قال "إذا كان سارتر يريد ذلك أو لم يرد فهو استفاد من القوانين العنصرية لحكومة فيشي" وقد نشر في هذا الوقت العديد من المقالات في المجلة المتعاونة مع العدو «كويميديا» التي قام بإنشائها رينيه ديلانج في 21 يونيو 1941 تحت إدارة Propaganda-Staffel.

بالرغم من حل حركة «الاشتراكية والحرية»، لم يتنازل سارتر عن دوره في المقاومة الذي استكمله عن طريق الكتابة. في سنة 1942 بدأت فترة الكتابة في المقاهى في حى سان جرمان في الشاطىء الأيسر في باريس، خصوصاً في مقهى الفلور Café de Flore ومقهى Les deux-magots.

في 1943، قام سارتر بكتابة وإخراج مسرحية «الذباب» والتي تتخذ أسطورة اليكترا كنداء رمزي لمقاومة المعتدي، وقد تعرف على ألبير كامو خلال أول عرض لها. في هذه الفترة من الاحتلال، لم تحصل المسرحية على الدوى المتوقع لها: كانت القاعات فارغة وتوقف العروض مبكرا جدا عن الوقت المتوقع لها. كان هذا العرض غامض بالنسبة لجان أمادو: <<في 1943، في السنة الأكثر قبحا للاستعمار، كان يعرض «الذباب» في باريس. هذا يعني أنه فعل ما فعله ساشا جيتري الذي كان يقدم عروضه امام جمهور من العمال الألمان وانتهى به الحال إلى أن قبض عليه بينما حول سارتر للجنة التنقية التي كانت تحكم الجواز للكتاب بالنشر أم الوقف والحظر. أندريه مالرو نفسه الذي كان يخاطر بحياته في المقاومة لم يكن عضوا في هذه اللجنة>>. اعتبر ميشيل وينوك أن <<مكر سارتر هو الذي حول الفشل المسرحي إلى مكسب سياسي>>.

في نفس العام، نشر سارتر «الوجود والعدم» التي أظهرت تأثر سارتر بهايدغر، فقد تعمق في القواعد النظرية لمنظومة فكره. وفي سنة 1944 تعرف إلى كامي Camus وجان جينيه، وأسس مجلة «الأزمنة الحديثة». ومن 17 يناير إلى 10 أبريل 1944، بعث ب 12 برنامج مسجل لراديو فيشى.

ثم كتب مسرحية تسمى «الآخرون» وقد تغير اسمها إلى الغرفة المغلقة، والتي عرضت في مايو 1944 وقد لاقت نجاحا واضحا. نحو نهاية الحرب، جند كامو سارتر في شبكة المقاومة «قتال» وأصبح كاتب في جريدة تحمل نفس الاسم «قتال» وقد وصف في صفحاتها الأولى تحرير باريس. وبدأت من هنا شهرته العالمية. بعث سارتر في يناير 1945 إلى الولايات المتحدة لكتابة مجموعة مقالات في جريدة لو فيجارو وقد استقبل استقبال أبطال المقاومة. إذن، فالحرب قسمت حياة سارتر إلى جزئين: منذ بدايته وحتى «الوجود والعدم»، كان فيلسوفا للوعي الفردي ثم تحول إلى مثقف وصاحب موقف سياسي باهتمامه بقضايا العالم. تحول من مدرس معروف في العالم الفردي إلى نجم عالمي بعد الحرب.

وفي الولايات المتحدة الأميركية، ألقى محاضرة كان لها شهرة ودوي، لأنه بسط فيها المذهب الوجودي، وعنواها: «الوجودية نزعة إنسانية».

سنوات المجد

الجنون الوجودي

في 1945، قطن سارتر في 42 شارع بونابرت وظل هناك حتى 1962. بعد التحرير، نجح سارتر نجاحا كبيرا؛ فقد ظل لأكثر من 10 سنوات يقود الآداب الفرنسية. انتشرت أفكاره الوجودية من خلال المجلة التي أنشأها في 1945 تحت اسم "Les Temps modernes". كتب سارتر في هذه المجلة بجانب سيمون دي بوفوار وموريس ميرلو بونتي وريمون آرون وآخرون. في الافتتاح الطويل لعددها الأول، طرح سارتر تساؤلا عن مبدأ مسئولية الفرد وعن الأدب الموجه أي الذي يأخذ اتجاها واضحا. بالنسبة لسارتر، الكاتب هو شخص صاحب موقف في عهده حتى أن تظاهر بالموضوعية. طغت هذه الرؤية على جميع النقاشات الثقافية في النصف الثاني من القرن العشرين. اعتبرت هذه المجلة كإحدى المجلات الفرنسية الأكثر شهرة على المستوى العالمي. بذلك أنهى سارتر التقليد الفلسفي الذي يقضي بأن الكاتب دائما على الحياد كما قيل كثيرا في فرنسا الفيشية وألمانيا النازية. كانت ندوة أكتوبر 1945 الشهيرة رمز الهيمنة الثقافية للتيار الوجودي عندما حاول جمهور ضخم للدخول للقاعة الضيقة المحجوزة والمخصصة للندوة. تزاحم الناس وغادرت أفواج منهم وأصيب النساء بالإغماء وفقدان الوعي. عرض سارتر في هذه الندوة نبذة مكثفة عن فلسفته الوجودية التي تناولها بالتفصيل في كتابه «الوجودية مذهب إنساني». أراد سارتر التقرب في هذا الوقت من الماركسيين الذين يرفضون فكرة الحرية الجذرية: في نص الندوة، قام سارتر بعرض الفكرة المهيمنة على الوجودية وهي أن الإنسان لا يستطيع رفض الحرية، الحرية تميل إلى المستقبل، كل فعل حر هو مشروع، تنفيذ المشروع الفردي يعدل تنفيذ المشروعات الفردية الأخرى، الحرية هي أساس كل القيم الإنسانية، إتخاذ المواقف في اختيار الشركات تجعل الإنسان إنسانا.

كل الناس كانت تريد أن <<تكون>> وجودية و<<تعيش>> وجودية. أصبح حي Saint-Germain-des-Prés الذي يقيم به سارتر معقل الوجودية كما هو مكان للحياة الثقافية والليلية: كان يحتفل الناس بالعيد في الكهوف المدخنة ويستمعون لموسيقى الجاز ويذهبون إلى مقهى المسرح. كان الفكر الفلسفي لسارتر ظاهرة نادرة لتاريخ الفكر الفرنسي فقد لاقى صدى غير معهود من جمهور واسع للغاية. يمكن تعليل ذلك بعاملين أساسيين: أولا، أعمال سارتر متعددة الأشكال وتسمح لكل شخص إيجاد مستوى القراءة الذي يناسبه، ثانيا، الوجودية التي تنادي بالحرية الكاملة بالإضافة إلى المسؤولية الكاملة لأفعال الإنسان أمام الآخرين وأمام نفسه. أصبحت الوجودية إذن ظاهرة حقيقية مخلصة إلى حد ما لافكار سارتر ومن خلالها يعتبر الكاتب الوجودي قديما بعض الشيء.

وفي سنة 1946 اختلف مع كامي، وقام برحلات إلى سويسرا وإيطاليا وهولندا والسويد.

الائتلاف الديموقراطي الثوري

في هذا الوقت، أكد سارتر انتمائه وموقفه من خلال مقالاته في مجلته "Les Temps modernes": تمسك سارتر كباقي مثقفي عصره بقضية الثورة الماركسية على أوامر وتعليمات الاتحاد السوفيتي التي لم تلبِّ مطلب الحرية. استكمل سارتر وسيمون دى بوفوار وزملائهم البحث عن طريق آخر وهو الرفض الثنائي للرأسمالية والستالينية. لقد ساند سارتر الكاتب الأمريكي ريتشارد رايت وهو كاتب أسود البشرة وعضو في الحزب الشيوعي الأمريكي وقد نفي إلى فرنسا منذ 1947.

في مجلته "Les temps modernes"، أخذ سارتر موقفا معادياً للحرب الهندوصينية وهاجم الجولية وانتقد الإمبريالية الأمريكية. كان سارتر جريئاً في استخدام الكلمات في مجلته حتى أنه وصف «كل معارض للشيوعية بالكلب».

ترجم سارتر فكره إلى موقف سياسي في سنة 1948 بإنشائه لحزب سياسي جديد تحت اسم «الائتلاف الديموقراطي الثوري» (RDR). وفي نفس السنة وضع الفاتيكان مؤلفات سارتر كلها على القائمة السوداء Index! بالرغم من بعض المظاهرات الناجحة، لم يتوصل الحزب إلى أن يكون ذات فعالية كافية ليكون حزبا حقيقياً، واختلف سارتر مع «الحزب» الذي أسسه وقدم استقالته في أكتوبر 1949.

وفي سنة 1949، ووقع في سجال لاذع مع الكاتب الفرنسي الكبير فرانسوا موريا ك François Mauriac.

الإغواء الشيوعي

دفعت حرب كوريا وقمع مظاهرة ضد العسكر للحزب الشيوعي الفرنسي لاختيار الفريق الذي سينتمي إليه: رأى سارتر في الشيوعية الحل لمشاكل البروليتاريا. هذا ما جعله يقول «إذا أرادت الطبقة العمالية الانشقاق عن الحزب الشيوعي الفرنسي، فلا يوجد أمامها إلا حل واحد وهو الانهدام».

أصبح سارتر صديقا للحزب الشيوعي بين 1952 و1956. وفي هذه الفترة، شارك في الحركة وترأس منظمة فرنسا-الاتحاد السوفييتي. أعلن سارتر أن «في الاتحاد السوفييتي، حرية النقد كاملة» وأصبح عضوا بالمجلس العالمي للسلام. وفي سنة 1954 سافر إلى برلين، والاتحاد السوفييي - وكان قد بدأ يتقرب إلى الماركسية والشيوعية - وتشيكوسلوفاكيا، وصار نائب رئيس جمعية الصداقة الفرنسية الروسية، وفي السنة التالية زار الصين.

في هذه الفترة وقعت القطيعة التامة بينه وبين كامي. وفيها التقى مع هيدجر. فصل الفكر المقرب من الشيوعية سارتر عن ألبير كامو المقربين جدا في السابق. بالنسبة لكامو، لا يجب أن تنتصر الإيديولوجية الشيوعية على الجرائم الستالينية. بالنسبة لسارتر، لا يمكن استخدام هذه التصرفات كتبرير للتخلي عن الميول الثورية.

ظل هذا الإخلاص للحزب الشيوعي الفرنسي حتى خريف 1956، وهو تاريخ دهس الدبابات السوفيتية لانتفاضة بودابست. وبدأت علاقته مع الشيوعية تتوتر، وترك جمعية الصداقة الفرنسية الروسية. وبعد إمضائه لعريضة مثقفي اليسار والشيوعيين المحتجين، أعطى سارتر لقاء طويل لجريدة "l'Express" لإعلان استقالته الجذرية عن الحزب.

وفي سنة 1957 احتج ضد عمليات التعذيب التي كانت تقوم بها الشرطة والجيش الفرنسيان ضد المجاهدين الجزائريين. وفي سنة 1958 تظاهر ضد ديجول الذي كان قد تولى السلطة في فرنسا في مايو سنة 1958 بفضل القادة العسكريين وإذعان البرلمان الفرنسي.

البنيوية وفلوبير وجائزة نوبل

بعد ذلك، هبطت سرعة نجاح الوجودية: في ستينيات القرن العشرين، انخفض تأثير سارتر على الآداب الفرنسية والأيدلوجية الثقافية خاصة أمام البنويون مثل عالم الأجناس ليفي ستروس والفيلسوف فوكو وعالم النفس جاك لاكان. تعتبر البنيوية عدواً للوجودية: لا يوجد في البنيوية إلا مساحة ضئيلة من الحرية الإنسانية، كل شخص هو متداخل مع الهياكل التي تتعداه. في الحقيقة، سارتر كمدافع عن أولوية الوعي على اللا وعي وأولوية الحرية على الهياكل الاجتماعية لم يكلف نفسه عناء مناقشة هذا التيار الجديد: لكنه فضّل تكريس جهده لتحليل القرن التاسع عشر والإنتاج الأدبي وخاصة دراسة كاتب طالما أبهره وهو جوستاف فلوبير. في ستينيات القرن العشرون، تدهورت صحة سارتر بسرعة. أحرق سارتر نفسه من خلال نشاطه الأدبي والسياسي الزائد ومن خلال استهلاكه للتبغ والكحول بكميات كبيرة. كان يوم 10 ديسمبر 1964 هو اليوم الأكثر دويا في العالم عندما رفض سارتر جائزة نوبل في الأدب، وكان مقدارها 25,000 كررون سويدي، فأعيد المبلغ إلى مؤسسة جائزة نوبل. وبرر هذا الرفض على أساسين: شخصى، وموضوعى. فقال: «إن رفضي (لاستلام الجائزة) ليس فعلاً مرتجلاً، وإنما بسبب أنني رفضت دائماً التشريفات الرسمية . . . وهذه الفكرة تنبع من تصوري لمهمة الكاتب . . . ذلك أن كل ألوان التمييزات التى يمكن أن يقبلها الكاتب تعرض قراءه لضغط أراه غير مرغوب فيه». أما عن الأسباب الموضوعية لهذا الرفض، فقد قال: «إن المعركة الممكنة الوحيدة الآن في جبهة الثقافة هي معركة التعايش السلمي بين ثقافتين: إحداهما ثقافة الشرق، والأخرى ثقافة الغرب. والمواجهة . . . يجب أن تتم بين الناس والثقافات، دون تدخل للنظم والمؤسسات . . . وأنا أعلم تمام العلم أن جائزة نوبل ليست جائزة أدبية يمنحها الغرب، لكنها تكون بحسب ما يصنع بها المرء . . . لكنها في الموقف الراهن تبدو موضوعياً كأنها امتياز يخص به الكتاب الغربيون والمتمردون في الشرق» (والمقصود بالغرب: العالم الغربي - أوروبا الغربية، وأميركا؛ والمقصود بالشرق: روسيا والدول التابعة لها).

لقد رفض أيضا وسام جوقة الشرف في 1945 وندوة في كوليج دو فرانس. كانت هذه التكريمات بالنسبة لسارتر تقييدا لحريته لأنها تجعل من الكاتب مؤسسة. ظل هذا الموقف شهيرا لأنه يوضح مزاج المثقف الذي يريد أن يكون مستقلا عن السلطة السياسية.

وفي سنة 1965 تبنى فتاة تدعى ارلت القيم Arlette El Kaim وكان قد التقى بها في سنة 1956 وهي طالبة آنذاك.

سنوات الالتحاق والمواقف

بالرغم من ابتعاد سارتر عن الحزب الشيوعي إلا أنه استكمل اتخاذ المواقف تجاه القضايا المختلفة. فكان أحد أهداف منظمة من أجل الحرية والثقافة وهي منظمة ثقافية مناهضة للشيوعية وأسست في 1950.

الحرب الهندوصينية

في 1950، تفجرت قضية هنري مارتن وهو بحار وناشط في الحزب الشيوعي الفرنسي، قبض عليه لتوزيعه منشورات ضد الحرب الهندوصينية، على الساحة العسكرية وعلى ترسانة أسلحة تولون. وقد اتهم أيضا بالتخريب لصالح الـالفيت مين والتي برئته منها محكمة تولون. دافع سارتر عن هنري مارتن بنشر كتاب «قضية هنري مارتن»، الذي يلخص أسباب هذا الدفاع. وأصبح الكتاب دليلا على النطاق الواسع لهذه القضية، شارك مثقفو اليسار المعروفون في كتاية هذا الكتاب وهم: ميشيل ليريس وهيرفي بازين وبريفير وفيركورس. ظل سارتر يقظا حتى نهاية هذه الحرب وقد خصص عددا خاصا لهذه القضية في مجلة «الأزمنة الحديثة Temps Modernes» (فيت مين، أكتوبر 1953).

حرب الجزائر

منذ 1956، اتخذ سارتر ومجلته "Les Temps modernes" موقفا معاديا لفكرة الجزائر فرنسية وقد تبنى رغبة الشعب الجزائري في الاستقلال. احتج سارتر على التعذيب ، وطالب بحرية الشعوب بتقرير مصائرهم وقد صور العنف على أنه غرغرينا ونتيجة للاستعمار

في 1960 وخلال محاكمة شيكات التبني لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، أعلن سارتر أنه <<حامل حقيبة>> لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.

دفع سارتر ثمن هذا الموقف فقد قصفت منظمة الجيش السري منزله مرتين واستولت على مجلة "Les Temps modernes" خمس مرات.

كوبا

تبنى سارتر الثورة الكوبية منذ 1960 كما تبناها العديد من المثقفون الفقراء.

في يونيو 1960، كتب سارتر 16 مقالا في جريدة "France Soir" تحت اسم <<إعصار على السكر لكنه قطع علاقته مع فيدل كاسترو بعد قضية «باديلا» عندما سجن الشاعر الكوبي هربرتو باديلا بعدما انتقد نظام كاسترو.

مايو 1968

بعدما نشر الجزء الأول من «نقد المنطق الجدلي» في 1960 وبدأ تحضير الجزء الثاني من نفس الكتاب، شارك سارتر بقوة في أحداث مايو 1968. في 1967، صعد سارتر إلى رأس المشهد عندما رأس محكمة راسل مع بيرتراند راسل وهي محكمة معلنة وجمعية عالمية للمثقفين والنشطاء والشهود المكلفين بالحكم على الحروب أو إدانتها وبالأخص حرب الأمريكان في فيتنام.

إن لم يكن ملهم أحداث مايو 1968, قام سارتر بصنع أصداء الثورة في الشارع وعلى المنابر وفي الجرائد وعلى أبواب المصانع المضربة. لقد قام بتسجيل حوار مع دانيال كوهن-بندت في جريدة "Le Nouvel Observateur" وقد أعطاه الفرصة للتعبير عما يريد خلال أسبوع كامل. في سن الـ63 عاما، ذهب إلى جامعة سوربون ليتحاور مع الطلاب. ثم ندد <<بالانتخابات التي وضعت الفخاخ للأغبياء>> حسب وصفه لانتخابات ديغول.

على الصعيد الدولي، أدان غزو الاتحاد السوفيتي وحلفائها لتشيكوسلوفاكيا إثر ما عرف ب «ربيع براغ» سنة 1968 أي حركة التحرر التي قام بها دوبتشك في تشيكوسلوفاكيا.

وفي سنة 1969 توفيت أمه. وهاجم «قانون التوجيه الجامعي» الذي أصدره أدجار فور وكان كارثة على التعليم الجامعي في فرنسا.

رجل اليسار

بالرغم من تدهور صحته أكثر فأكثر، استمر سارتر في المقاومة «اليسارية» متبنيا حركة الماوية ضد القمع. في 1971, قرر سارتر أن يشغل منصب رئيس الجريدة الثورية «قضية الشعب» المهددة بالمصادرة بضغط من السلطات البومبيدية فنزل الشارع مع مشاهير مثل سيمون دي بوفوار وغيرها لبيع الجريدة وقد فعل كذلك مع جريدتين ماويتين «الكل» و«أنا أتهم». في 1973, أسس سارتر جريدة «التحرير» مع سيرج جولي وفيليب جافي وبرنار لالمون وجان كلود فيرنيي وظهرت الجريدة ربيع هذا العام. بعد مرضه بالخرف الوعائي، قدم سارتر استقالته من رئاسة الجريدة في 24 مايو 1974. لقد ارتبط خلال كل هذه الفترة بالحركات اليسارية والنسائية مع إعطاءها اسمه بإرادته لمساعدتها.

الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

بعدما وصل لآخر سنوات حياته، اهتم سارتر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كان يندد بالأحوال المعيشية التي لا يحسد عليها الفلسطينيون التي تبرر اللجوء للإرهاب معترفا بشرعية دولة إسرائيل.

في 1976، قبل سارتر تكريماً وحيداً في حياته وهو الدكتوراه الفخرية من جامعة اورشاليم العبرية وقد تلقاها من سفارة إسرائيل بباريس بواسطة الفيلسوف إيمانويل ليفيناس. لقد فبل هذه الجائزة فقط لأسباب سياسية <<لخلق رابط بين الشعب الفلسطيني الذي أتبناه وإسرائيل صديقتي.>>

نقده لمعاداة السامية

  • 《اليهودي إنسان، ينظر إليه الناس الآخرون باعتباره يهوديا... إن المعادي للسامية هو الذي يصنع اليهودي》

وفاته

بعدما وصل سارتر لسن ال66 في 21 يونيو 1971، أصيب سارتر بأزمة قلبية وعائية في 16 مايو 1971.

في مارس 1980, نشرت جريدة "Nouvel Observateur" على ثلاثة أعداد مجموعة من الحوارات مع بيني ليفي تحت اسم «الأمل الآن».

وفي 20 مارس سنة 1980 دخل المستشفى بعد إصابته بوذمة الرئة. وتوفي فيه في الساعة التاسعة من مساء يوم 15 أبريل سنة 1980 عن عمر يناهز 75 عاماً في مستشفى بروسية بباريس، ودفن في مقبرة مونبرناس وأحرقت جثته تنفيذاً لما أوصى به.

في العالم كله، أثار خبر وفاته ضجة كبيرة. في 19 أبريل 1980، هرع 50 ألف شخصا إلى شوارع باريس للسير في موكب الدفن ولإعطائه التكريم المناسب لشخصه. كان هذا الجمع المهيب دون أي خدمة تنظيم من أجل الرجل الذي أسر ثلاثة أجيال من الفرنسيين بأدبه. كان من بينهم تلاميذه القدامى من سنوات الهافر وزملائه في التحرير وشيوعيون الخمسينيات والنشطاء القدامى للسلام في الجزائر وأخيرا شباب الماوية.

دُفن سارتر في مقبرة مونبارناس بباريس (الحي 14). في 14 أبريل 1986، ودفنت سيمون دى بوفوار لاحقًا معه في نفس القبر، وكُتب عليه «جان بول سارتر (1905-1980) وسيمون دي بوفوار (1908-1986)».

أفكاره

كانت مسألة الوجود المجرد للأشياء، خاصة وجوده هو شخصيًا، مصدر قلقه وإعجابه مما دفعه للبحث. فقد بدا له أنه لا مبرر لوجود أي شيء.

وفي روايته الأولى الغثيان (1938م) وصف الرعب والغموض اللَّذَين يواجههما الإنسان عندما يفكر في حقيقة وجود الأشياء؛ تلك الحقيقة التي لا يمكن تغييرها.

في عمله الفلسفي الرئيسيالوجود والعدم (1943م) قام سارتر بالتحري في طبيعة وأشكال الوجود والعدم. قال سارتر إن الوجود البشري الذي سماهالوجود لذاته يختلف اختلافًا جذريًا عن وجود الجمادات مثل الطاولات والذي سماه الوجود في ذاته.

يقول سارتر إن الكائن البشري وحده هو الذي يعي وجود نفسه كما يعي وجود الأشياء الأخرى. ويتمسك سارتر برأيه في أن الجمادات ببساطة هي أشياء جامدة، غير أن بني البشر ليسوا كذلك، لأن لهم الخيار في أن يصبحوا الشيء الذي يختارونه هم بأنفسهم. ويقول سارتر: إن الإنسان ليس جبانًا، ومثال ذلك أن الطاولة هي طاولة فقط ولا شيء غير ذلك، بينما الإنسان بعكس الطاولة يصبح جبانًا باختياره هو. ويستطرد سارتر قائلا: إن الإنسان، على عكس الطاولة، لا يملك سمة مميزة أو جوهرًا ثابتًا محددًا أو مخصصًا له. ومبدئيًا فإن الناس يوجدون كمخلوقات عليهم أن يختاروا طبائعهم وسماتهم بأنفسهم. وهكذا فإنه في مقالةالوجودية والإنسانية (1946م) وصف الوجودية بأنها مبدأ ينطبق على البشرية التي يسبق فيه وجودُها سماتها المميزة.

يعتقد سارتر أن الناس أحرار تمامًا، إلا أنهم يخشون الاعتراف بهذه الحرية وتحمّل المسؤولية الكاملة تجاه سلوكهم المنطوي على هذه الحرية. ولذلك فإن الناس يميلون إلى خداع أنفسهم عن موقفهم الحقيقي. قام سارتر باختيار وتحليل الأشكال المختلفة والدقيقة عن الخداع النفسي في جميع أعماله الفلسفية والأدبية. وقد انتقد سارتر نظرية سيجموند فرويد في التحليل النفسي للسلوك البشري، ووضع نظريته الخاصة في التحليل النفسي والوجودي. ويقول سارتر إن الدافع الأساسي للسلوك البشري هو الرغبة في تحقيق إرضاء الذات بصورة كاملة، وذلك بمحاولة أن يصبح الإنسان السبب في وجود نفسه. وقال سارتر إن هذا الهدف مناقض لنفسه، ومن المحال تحقيقه. ولذلك فهو يعد النشاط البشري كله لا طائل من ورائه. كما قال سارتر أيضًا إن الإنسان عاطفة لا فائدة منها. ويُعرِّف فكرة الكائنات ذات القناعة الذاتية التامة والتي هي السبب في وجود أنفسها بأنها الفكرة التقليدية عن الإله. وحسب مايقول سارتر ـ حاشا لله وتعالى عن الزعم ـ فإن كل فرد منا يريد أن يصبح الله وأن الله لا يمكن أن يكون موجودًا.

وفي نقد المنطق الجدلي (1964م) قدّم سارتر نظرياته السياسية والاجتماعية، واعتبرها شكلاً من أشكال الماركسية.

وقد طبّق سارتر نظرياته في التحليل النفسي في كتاباته عن السيرة الذاتية لبودلير عام (1947م)، والقديس جنيت (1953م)، أما الكلمات (1963م)، فهي سيرته الذاتية أثناء فترة الشباب.

تطور فلسفته

يمكن تقسيم تطور سارتر الفلسفي إلى ثلاث مراحل:

أ) المرحلة النفسانية.

ب) المرحلة الأنطولوجية.

ج) المرحلة الديالكتيكية.

المرحلة النفسانية

وتمثلها

١) مقالة في مجلة «الأبحاث الفلسفية» سنة 1936 بعنوان: «علو الأنا» .

٢) كتاب «التخيل» L’Imagination (سنة 1936).

٣) كتاب: «الخيالي» L’Imaginaire (سنة 1940).

في المقالة الأولى يناقش سارتر المعاني الأساسية في ظاهريات هسرل: الرد الظاهرياتي، وضع العالم بين أقواس، الشعور المحض. وينتهي إلى تقرير أن هسرل لم يدفع بالرد الظاهرياتي إلى مدى كاف، وأنه بقوله بالهوية بين الأنا وبين الئعور المحض إنما وصل إلى خليط من العناصر المتباينة تبايناً أصلياً. ذلك أن الذات ليست كالشعور المحض الذي يستنفد نفسه في العيان المباشر، بل هى تعلو على الشعور وتكون جزءاً من العالم ذلك أن سارتر، في الوقت الذي كان فيه متأثراً كل التأثر بهسرل، كان أيضاً خاضعاً لتأثير هيدجر. ومن هنا نجده في مقال له بتاريخ سنة 1939 («مواقف» جـ 1 ص 29 - 32) يكمّل قصدية هسرل بالوجود - في العالم عند هيدجر. فبعد أن يورد عبارة هسرل المشهورة: «كل شعور هو شعور بشيء ما» يقول إن «فلسفة العلو تلقي بنا على قارعة الطريق، وسط التهديدات تحت ضوء يعمي الأبصار، أن يوجد، هكذا يقول هيدجر، هو أن يوجد - في العالم: وعليك أن تفهم هذا «الوجود -في . . .» بمعنى الحركة. أن يوجد هو أن ينفجر éclater في العالم، هو أن يبدـ من عدم عالم وشعور ابتغاء أن ينفجر شعوراً - في العالم أن الشعور متى ما حاول أن يستجمع نفسه وأن يتطابق في النهاية مع نفسه. . . فإنه يعدم نفسه . وهذه الضرورة للشعور أن ينفجر كشعور بشيء آخر غير ذاته، هوما يسميه هسرل باسم «القصدية» («مواقف» جـ 1 ص 31).

٢) وفي كتاب «التخيل» يأخذ سارتر على النزعة الوضعية في علم النفس الخلط بين الادراك (التصور) وبين التخيل، وهو خلط يرجع إلى رفضها أن تعزو إلى التخيل ملكة تنظيم وتركيب تجربتنا. ونتيجة لهذا الخلط تقرر هذه النزعة أن الأدراك والتخيل إنما يقومان كلاهما بإيجاد شبح للأشياء أو صور شبحية أمام العقل، ولا فارق بينهما إلا في درجة وضوح هذه الأشباح: فهي أوضح في الأدراك منها في التخيل. فجاء سارتر وقرر أن للتخيل نشاطاً وفعالية ذاتية يقوم بها الشعور - الشعور المتخيل - وهذا النشاط ليس موضوعه مجرد أمر نفسي، بل موضوعه هو الشيء الذي تخيله هو بذاته وشخصه، وبعبارة أخرى: التخيل هو نوع آخر من الشعور يتوجه إلى نفس الموضوعات التي يتوجه إليها الأدراك الحسي، لكنه بوصف هذه الموضوعات غير موجودة، على الأقل في وقت تخيلها، فإن التخيل يقيم، إلى جانب موضوعات الإدراك الحسي، موضوعات أخرى غير موجودة. وهكذا نجد أن للشعور بعداً ثانياً، هو بعد الأشياء غير الموجودة، الأشياء اللاواقعية. وهذا البعد هو وليد الحرية والدليل القاطع عليها، إذ يدل على أن الشعور ليس مقسوراً أو ملزماً بالتعلق بما هو كائن، بل في وسعه أن يتعلق بما ليس بكائن. إن في استطاعته أن يتحرر من معطيات الواقع، من تسلسل من هذا إلى ذاك، وأن يفلت من دائرة الأشياء الواقعية. ومعنى هذا أن الشعور غير خاضع للضرورة الزمانية - المكانية التي تفرض نفسها على الأشياء. وهكذا نرى سارتر مرة أخرى ينتقل من بحث نفساني ظاهرياتي إلى آخر انطولوجي وجودي.

٣) وهذا يتجلى على نحو أبين في كتابه «الخيالي» (سنة 1940) الذي يؤكد فيه معنى الحرية ابتداء من فكرة ما هو خيالي. وفيه يأتي بمثال صار مشهوراً مفاده أن كوني وأنا في هذا المقهى، أشاهد غياب بطرس الذي أنا على موعد معه في هذا المقهى في ساعة معلومة، أشاهده على خلفية الحاضرين في المقهى - هذا في الوقت نفسه اكتشاف للحرية الأساسية التي للأنسان في أن يشاهد غياب (-عدم وجود) كائن غائب وكأنه واقعة مشاهدة.

والمبدأ الرئيسي الذي يضعه سارتر للوجودية هو القول بأن «الوجود يسبق الماهية». ويلاحظ أن هيدجر لم يستعمل هذه العبارة، وإن تضمنها مذهبه وكل مذهب وجودي. وقد كان السائد في الفلسفة المبدأ المضاد لهذا القول، وهو أن الماهية تسبق الوجود: فقبل أن يوجد العالم كانت صورته أو فكرته في عقل الله، وقبل أن يوجد شيء تسبق وجوده فكرة عند صانعه، ومن هنا كان يقال إن ثمة طبيعة للإنسان، «وهذه الطبيعة الإنسانية، وهي التصور الإنساني، توجد عند جميع الناس، أي أن كل فرد من الناس هو مثال جزئي لتصور كلي هو الإنسان» («الوجودية نزعة إنسانية» ص 20). أما الوجودية فترفض هذا الرأي وتقول: إن الوجود يسبق الماهية، أي فيما يتصل بالإنسان مثلاً: الإنسان يوجد أولاً، ويصادف، وينبثق في العالم، ثم يتحدد من بعد. فالإنسان في أول وجوده ليس شيئاً ولا يمكن أن نجده بحد؛ وعلى ذلك فليس ثم طبيعة إنسانية، بل الإنسان كما يتصور نفسه وكما يريد نفسه وكما يدرك نفسه بعد أن يوجد، و كما يشاء هو بعد هذه الوثبة نحو الوجود (الإنسان صانع نفسه).

الإنسان يوجد أولاً غير محدد بصفة، ثم يلقي بنفسه في المستقبل، ويشعر أنه يلقى بنفسه في المستقبل، وذلك بالأفعال التي يؤديها. ولهذا فإن الانسان هو أولاً مشروع وتصميم يحيا حياة ذاتية؛ ولا شيء يوجد قبل هذا المشروع، بل الإنسان هو الذي يصمم مستقبله ثم يحقق من هذا التصميم ما يستطيع.

وما دام الإنسان مشروعاً وتصميما يضعه لنفسه، فإنه بالضرورة مسؤول عما يكون عليه. وكل إنسان يحمل المسؤولية الكاملة عن وجوده. ولا تقتصر هذه المسؤولية عليه وحده بوصفه فرداً، بل تمتد إلى الناس جميعاً، لأن القرار الذي يتخذه لنفسه يمس سائر بني الإنسان، فالإنسان حينما يختار نفسه هو في الوقت نفسه يختار لسائر الناس؛ ذلك لأنه باختياره هذا يرسم الإنسان كما يرى أن يكون؛ إذ أن اختياره لهذا أو ذاك توكيد في الوقت نفسه لقيمة ما يختاره، لأننا لا نختار أبداً ما نؤمن أنه شر وإنما نختار دائماً ما نعتقد أنه خير، ولا شىء يمكن أن يكون خيراً لنا دون أن يكون أيضاً خيراً للآخرين. فبتشكيلنا لصورة أنفسنا نحن نشكل في الوقت عينه صورة الانسان. وهكذا نرى أن مسؤوليتنا أكبر بكثير جداً مما نظن، لأنها تلزم الإنسانية كلها وحتى الأفعال الشخصية، مثل الزواج، تلزم سائر الناس؛ فاختياري مثلاً أن أتزوج وأن أنجب أولاداً، حتى ولو كان الأمر عندي أمراً متعلقاً بحالتي الخاصة أو بملذاتي وشهواتي، فإن هذ الاختيار نفسه يمس الناس جميعاً. وعلى هذا فأنا مسؤول قبل نفسى وقبل الناس جميعاً في آن واحد معاً.

وهذه المسؤولية البالغة الهائلة، لأنها تمس الناس جميعأ، لا بد أن تثير في الإنسان القلق البالغ الهائل أيضاً. إذ كيف لا أكون مهموماً كل الهم والقرار الذي اتخذته وإن بدا في الظاهر أنه قرار شخصي - إنما هو قرار يمس جميع البشر؟! نعم! إن الإنسان يحاول الفرار من هذا القلق، بإسدال قناع عليه، ولكن هذا القناع لن يستر الحقيقة الرهيبة الكبرى، وهي أن المسؤولية هنا مسؤولية كلية.

وثم نتيجة ثانية للقول بأن الوجود يسبق الماهية، ألا وهي الحرية فما دام الإنسان في بدء وجوده ليس شيئاً، وما دام هو الذي سيصمم نفسه، فهو لا بد حر، بل هو الحرية نفسها، ونحن وحدنا مع هذه الحرية، ولا عذر معها ولا تبرير ولا فرار. وبهذه الحرية يخلق الإنسان نفسه بنفسه.

ولهذا كان تمجيد الفعل من المبادىء الرئيسية في هذا المذهب: إذ ليس ثم حقيقة واقعية إلا في الفعل، والإنسان لا يوجد إلا بقدر ما يحقق نفسه؛ إنه ليس شيئا آخر غير مجموع أفعاله، والعبقري نفسه ليس إلا ما عبر به عن نفسه فعلاً في أعماله الفنية أو العلمية، فعبقرية شكسبير هي مجموع مؤلفاته المسرحية والشعرية، وعدا هذا، فليس ثم شيء. ولماذا تنسب إليه أنه كان يمكنه كتابة مسرحيات أخرى، إذا كان هو لم يكتب غير الذي كتبه فعلاً؟ وبالجملة، فليس الإنسان شيئاً آخر غير حياته، وخارج حياته ليس هناك شيء.

وإذا كان الأمر كذلك فليست الوجودية فلسفة استسلام، بل بالعكس تماماً لأنها تعرف الإنسان بما يفعله وليست أيضاً فلسفة سشاؤمية، بل بالعكس تماماً، وليس ثم مذهب أكثر منها تفاؤلاً، لأن مصير الانسان بين يديه. وليست مذهباً يدعو إلى تثبيط الهمة، لأنها تدعو- بالعكس إلى الفعل وتقول إنه ليس ثم أمل إلا في الفعل، والأمر الوحيد الذي يسمح للانسان بالحياة هو الفعل. «والوجودية هى النظرة الوحيدة التى تعطى الإنسان الكرامة، لأنها لا تجعل منه وسيلة أو موضوعاً، بينما المادية مثلاً تعامل الإنسان على أنه موضوع، أي على أنه مجموعة من الاستجابات المعينة، لا يميزها شيء من مجموع الصفات والظواهر التي تميز المنضدة أو الكرسي أو الحجر. وليست الذاتية التي تقول بها الوجودية ذاتية فردية بالضرورة، لأن إدراك وجود الذات ينطوي في الوقت نفسه على إدراك وجود الغير؛ فالذي يكشف عن وجود نفسه، إنما يكشف في الوقت نفسه عن وجود غيره، بل أن وجود الغير شرط لوجوده الذاتي؛ وأنه ليس شيئاً إلا إذا اعترف له الآخرون بأنه شي،. فالغير ضروري لوجودي، كما أنه ضروري للمعرفة التي لدي عن نفسي. وعلى هذا فإن اكتشافي لذاتي يكشف لي في الوقت نفسه عن الغير، بوصفه حرية موضوعة في مواجهتى، ولا يفكر ولا يريد إلا من أجلى أو ضدي، وهكذا تكشف في التو عاماً نسميه ما بين الذوات inter - subjectivité، وفي هذا العالم يقرر الإنسان ماذا يكون هو وماذا يكون الآخرون» («الوجودية نزعة إنسانية» ص 67).

كذلك الأمر بالنسبة إلى الحرية؛ فإني بإرادتي للحرية اكتشف أيضاً أن حريتي تتوقف تماماً على حرية الغير، وحرية الغير تتوقف على حريتي. نعم إن الحرية بوصفها حداً وتعريفاً لماهية الإنسان، لا تتوقف على الغير؛ لكن بمجرد الانخراط في العمل engagement فأنا مضطر أن اختار الحرية للغير في نفس الوقت الذي فيه اختار الحرية لنفسي، ولا أستطيع أن أتخذ من حريتي غايتي إلا إذا اتخذت من حرية الآخرين غاية أيضاً.

***

تلك هي الأفكار العامة التي عرضها سارتر في «الوجودية نزعة إنسانية»، وأصله محاضرة ألقاها سارتر دفاعاً عن الوجودية ضد خصومها. ومن هنا كانت أقرب إلى الدفاع منها الى العرض المنظم، وخلت من التحليلات الفينومينولوجية الدقيقة، ومن الأفكار العميقة، بل من المذهب المحكم في الوجود. وإنما يجب البحث عن التحليل والعمق والمذهب الانطولوجي في كتابه الرئيسي: «الوجود والعدم».

المذهب الانطولوجي

المنهج الذي سار عليه هو منهج الظاهريات الذي أسسه هسرل وطبقه هيدجر. وفيه لا نفرق بين خارج وداخل في الموجود، أي بين مظهر يبدو عليه ونستطيع أن نلاحظه وبين طبيعة باطنة تستتر وراء هذا المظهر. فهذه الطبيعة لا وجود لها. بل وجود الموجود هو ما يظهر عليه. والمظهر إذن هو حقيقة الشىء الواقعية كلها. وهو نسبى مطلق معاً: نسبي إلى شخص يظهر له، ومطلق من حيث أنه لا يحيل إلى شيء آخر وراءه. فحقيقة الظاهرة حقيقة مطلقة تنكشف كما تظهر.

فإذا بحثنا في الوجود على أساس هذا المنهج وجدناه ينقسم إلى منطقتين وجوديتين متمايزتين: منطقة الوجود في L’être en - soi، ومنطقة الوجود لذاته L’être pour - soi. والوجود في ذاته يتألف من مجموع الواقع ، أو الوجود المباشر. وليس فيه إحالة الى جوهر ثابت، بل هو سلسلة من الظواهر. إنه الوجود المليء، ولهذا هو معتم بالنسبة إلى ذاته، لأنه مليء بنفسه، ليس له داخل في مقابل خارج يكون بمثابة شعور أو حكم. إنه متكتل. ولهذا كل ما نستطيع ان نقوله عنه هو أنه هو. وليس في داخله أية ثغرة يمكن أن ينفذ منها العدم. («الوجود والعدم» ص 116).

وعلى العكس من ذلك نجد أن الوجود لذاته هو الوجود الذي ليس هو إياه، أعني الذي ليس هو ذاته؛ ومن هنا يبدأ دائما من السلب. ولهذا فإن الوجود لذاته «هو الأساس في كل سلب وفي كل إضافة، إنه الإضافة نفسها» (ص 492). وهو أيضاً الوعي او الشعور. إنه حضور - في - العالم بوصف أن فيه جانباً من لامكان؛ وهذا الامكان يجعل وجوده هناك في العالم وجوداً مجانياً. إنه مجرد واقعة بسيطة ساذجة، لأنه يمكن ألا يكون. ولهذا يمكن أن يقال عن الوجود لذاته إنه انحلال لتركيب الوجود في ذاته. وهو يتحدد بوجود ليس إياه.

ولهذا فإن الوجود لذاته وجود بلا سبب ولا تفسير، قذف به في العالم دون أن يعلم لماذا. نعم إنني مسؤول عن كل شيء، ولكنني غير مسؤول عن مسؤوليتي، لأني لست الأساس في وجودي. ومن هنا كات عبارة سارتر المشهورة في قصة: «الغثيان» La Nausée: «كل موجود يولد بلا سبب ويستطيل به العمر عن ضعف منه، ويموت بمحض المصادفة»؛ وكما قال أيضاً في «الوجود والعدم»: «إن الانسان حماسة لا فائدة فيها» une passion inutile (ص 708).

ولكن سارتر يعود فيمجد الإنسان. إذ الإنسان يوجد دائماً خارج ذاته، بأن يصمم ويحقق خارج نفسه إمكانيات وغايات. وليس ثم عالم غير العالم الإنساني، عالم الذاتية الإنسانية. وعلو الإنسان على نفسه بخروجه عن ذاته لتحقيق إمكانيات خارج نطاقها، هذا ما يسميه سارتر باسم النزعة الإنسانية الوجودية (راجع: «الوجودية نزعة إنسانية» ص 93). هي إنسانية لأنها تقول للإنسان أنه ليس ثم مشرع غير الإنسان، ولأنها تدعوه إلى أن يحقق نفسه خارج نفسه. ولا بد للإنسان أن يجد ذاته وأن يوقن بأنه ليس ثم شيء يمكن أن ينقذه من نفسه، بل عليه هو أن ينقذ نفسه بنفسه من الماضي - الحاضر الذي يوجد فيه؛ وإلا لتحجر وأصبح شيئاً, فعلى الإنسان إذن أن يكون «قدام نفسه» باستمرار. «فالحياة تتألف من المستقبل، كما أن الأجسام تتألف من الخلاء» («سن العقل» ص 212).

وهنا نقطة هامة في مذهب سارتر هى الصلة بين الذات وبين الغير. والغير هو أولا إنسان، وليس شيئاً؛ والإنسان كائن تنتظم حوله الأشياء التي في العالم. وهذا الإنسان الآخر ينظر إلي؛ ولهذا كانت الرابطة الأساسية بيني وبينه هي في إمكانه أن ينظر إلي باستمرار، أي في إمكان أن أكون بالنسبة إليه موضوعاً، فأصبح «موجوداً للغير» وبهذا تفضي نظرة الغير إليّ - إلى أن تجعلني أعلو على علوي، أي تستلب مني العالم الذي أنظمه. فكل ما أنا عليه يتحجر تحت نظرة الغير. فالغير بوصفه نظرة هو علو فوق علوي ومن هنا ينشأ جزعي وقلقي على نفسي، إذ أشعر تلقائياً ولفوري أن إمكانياي مهددة من جانب الغير - إنه بنظره إليّ يشلني، وأنا بدوري بنظري إليه أشله. ومن هنا قال سارتر في مسرحية «الجلسة السرية» Huis Clos «إن الجحيم هو الغير».

نقد العقل الديالكتيكي

في سنة 1960 أصدر سارتر كتاباً ضخماً في فلسفة التاريخ بعنوان: «نقد العقل الديالكتيكى» (الجزء الأول، وتوفي قبل أن يصدر جزءاً ثانياً منه). والفكرة الجوهرية فيه هي إنكار فكرة العقل الجماعي في كافة صورها، فمن رأيه أنه لا يوجد عقل جماعي يعلو على عقول أفراد المجتمع، ولا جهاز عضوي يعلو على الجهاز العضوي المؤلف من مختلف أفراد الجماعة. وبالتالي لا يوجد في التاريخ الانساني وحدة، إنما هو مؤلف من كثرة متعددة جداً من الأعمال اللامتجانسة والتطور، وإن كان قد صدر عن طائفة من الأنماط الأصلية: النبات، الحيوان، فله وحدة في الطبيعة نشاهدها. إنما الشاهد هو أن كل فرد، بل وكل نوع، بل والحياة بوجه عام هو ظهور عرضي ممكن Contingent، وانبثاق على شكل واقعة في حصن الوجود - في - ذاته الجماد. وإذا انتقلنا من الحياة بوجه عام إلى الإنسان، ومن التطور إلى التاريخ الإنساني، ومن الفطرة إلى الحضارة أو من التلقائية إلى التنظيم، فسنجد دائما إن الانسانية ليست شيئاً آخر غير الأفراد الذين تتألف منهم، ومهما قيل عن «الفعل الجماعي» أو «الممارسة الجماعية»، فسنجد دائماً في نهاية التحليل أن الأفراد وحدهم هم الموجودون، وهم الفاعلون وحدهم للتاريخ؛ إلى حد أن «الأساس الوحيد للديالكتيك التاريخي إنما هو التركيب الديالكتيكي للفعل الفردي» («نقد العقل الديالكتيكي» ط 1 ص 280، باريس، جاليمار، سنة 1960)، «وأن معقولية الممارسة praxis المشتركة لا تتجاوز (أو: لا تعلو على) معقولية الممارسة الفردية. بل الأمر على العكس تماماً: إن الممارسة المشتركة تظل دون الممارسة الفردية» (الكتاب نفسه ص 532).

وواضح من هذا أن مذهب سارتر في التاريخ يناقض كل المناقضة مذهب كارل ماركس وانجلز والماركسيين بعامة.

ومع ذلك نجد سارتر في هذا الكتاب بمثابة الفاهم الحقيقي للماركسية بينما أتباعها هم الذين حرفوها وأفسدوها، ويود هو أن يعيد الأمور إلى نصابها ويبين ما هي الماركسية الصحيحة، إذ نراه يقول عن نفسه أنه لا يرفض هذه الماركسية الصحيحة - كما يتصورها هو! - بل يرى فيها أنها الايديولوجية الوحيدة اللائقة بعصرنا الحالي! وينبغي - في نظره - على الوجودية أن تعيش في حضن الماركسية كأيديولوجية متواضعة!

ما الذي يأخذه سارتر على هذه «الماركسية غير الصحيحة» - وهى تلك التى تعتنقها موسكو والأحزاب الشيوعية المشايعة لموسكو، وخصوصاً الحزب الشيوعي الفرنسي؟ إنه يأخذ عليها الدور الذي يلعبه الحزب الشيوعي. ذلك أن الماركسية هي التعبير التاريخي عن العلم المستفاد من عالم العمل. لكن تنظيم حزب يعتبر نفسه الممثل الحقيقي الوحيد لـ «دكتاتورية البروليتاريا»، حول الماركسية - هذا العلم المستفاد من العمل - إلى دكتاتورية تستبد بالعمل؛ بحيث صارت دكتاتورية الحزب، ممثلة في المكتب السياسي واللجنة المركزية، تدعي لنفسها أنها وحدها صاحبة الحق في أن تفرض على الناس ما يجب أن يعملوا وما يجب أن يتصوروا ويعلموا ويفكروا فيه.

مؤلفاته

  • تعالي الأنا موجود. (1936)
  • التخيّل. (1936)
  • الغثيان. (1938)
  • تخطيط لنظرية الانفعالات. (1939)
  • الخيالي. (1940)
  • الوجود والعدم. (1943)
  • الوجودية مذهب إنساني. (1946)
  • نقد العقل الجدلي. (1960)
  • موتي بلا قبور
  • جلسة سريه
  • الشك
  • الذباب
  • دروب الحرية (سن الرشد، وقف التنفيذ، الحزن العميق)