إدموند هوسرل

إدموند هوسرل (Edmund Husserl، تلفظ ألماني: [ˈhʊsɐl]؛ 8 أبريل 1859 - 26 أبريل 1938) فيلسوف ألماني ومؤسس الظاهريات، ولد في موراويا في تشيكوسلوفاكيا في عام 1859 ودرس الرياضيات في لايبزغ (1876) وبرلين (1878) على كارل وايستراس ولئوبولد كرونكر. ثم ذهب إلى فيينا للدراسة تحت إشراف لئو كونيكس‌ بركر في العام 1881. كما درس الفلسفة على فرانتس برنتانو وكارل شتومف.

أثّر إدموند هوسرل على فلاسفة كثر من بينهم: ماكس شيلر، وجون بول سارتر، وألفرد شوتز وإيمانويل ليفيناس فضلا على أثره الواضح على تلميذه مارتين هايدغر. ولئن كان هوسرل متأثّرا في بداياته بالاتجاه النفساني في الفلسفة، فإنّه سرعان ما اتّجه نحو الاهتمام بالمعاني والماهيات الخالصة، وهو ما تجلّى في كتابه «البحوث المنطقية»؛ ففيه نفى أن تكون العلاقات المنطقية خاضعة للتأثيرات السيكولوجية، أو تابعة لعالم الأشياء، وأكّد في المقابل خصوصيّتها وارتباطها بعالم الماهيات المعقولة التي تمثّل حقائق ثابتة، وتكون موضع اتفاق بين الأفراد، ومنطلقا لأحكام موضوعيّة صالحة لكل زمان ومكان؛ فهي ليست نتاج الشعور، إنّما يتجه إليها الشعور أو يقصدها، وهو ما أكّده هوسرل مرارا وتوسّع فيه تحت مسمّى القصديّة، وهي فكرة محوريّة في فلسفته الظاهراتيّة، إذ لم يقصرها على مجال الأحكام المنطقية، بل عمّمها لتشمل مجالات الإدراك والعواطف والانفعالات والقيم، وهو يعرّفها «بأنّها خاصّيّة كلّ شعور أن يكون شعوراً بشيء» (بدوي، 1984، ج2، ص 541)، ممّا يتيح وصفه مباشرة. ووفق المنهج الظاهراتي حسب هوسرل يتوجب الكشف عن «الأحوال النموذجيّة للوجود المعطى، أو ظهور الموضوع: الموضوع كما يُدرك، والموضوع كما يُتخيّل، والموضوع كما يُراد، والموضوع كما يُحكم عليه» (الحاج، 2000، ص 640). ويوجز هوسرل منهجه الفكري بقوله: «إنّني أنا يتأمّل على طريقة ديكارت. وأسترشد بفكرة فلسفة، مفهومة على أنّها علم كلّي، مؤسّسة على نحو دقيق محكم جدّاً أقررت بإمكانه، من باب المحاولة والتجريب. وبعد أن قمت بالتأمّلات السابقة، تبيّن لي أنّ عليّ قبل كلّ شيء أن أنمّي ظاهريّات إيدوسيّة (تتعلّق بالإيدوس Eidos= الصورة)، وهذا هو الشكل الوحيد الذي عليه يتحقّق، أو يمكن أن يتحقّق علم فلسفي، الفلسفة الأولى. وعلى الرغم من أنّ اهتمامي يتعلّق هنا خصوصا بالردّ المتعالي، وبأناي المحض وتوضيح هذا الأنا التجريبي، فليس في وسعي تحليله على نحو علمي معا إلاّ بالرجوع إلى المبادئ الضروريّة اليقينيّة التي تنتسب إلى الأنا بوصفه أنا بوجه عام. ولا بدّ لي من الرجوع إلى الكلّيّات وإلى الضرورات الجوهريّة، التي بفضلها يمكن إرجاع الواقعة إلى أسس عقليّة لإمكانها المحض، وهو ما يمنحها المعقوليّة والطابع العلمي. وهكذا فإنّ علم الإمكانيّات المحضة يسبق في ذاته علم الوقائع، ويجعلها ممكنة من حيث هو علم» (بدوي، ج2، ص 543).

حياته ومسيرته المهنية

شبابه ودراسته

ولد هوسرل في 8 أبريل عام 1859 في بروستيوف Prossnitz، وهي بلدة في مرغريفية، مورافيا، التي كانت آنذاك ضمن مناطق الإمبراطورية النمساوية، وهي اليوم بروستيوف في جمهورية التشيك. ولد لعائلة يهودية، وهو الطفل الثاني بين أربعة أطفال. كان والده صانعًا للقبعات النسائية. قضى طفولته في بروستيوف حيث درس في المدرسة الابتدائية العلمانية. ثم سافر هوسرل إلى فيينا للدراسة الثانوية، ثم المدرسة الثانوية الحكومية في أولوموتس.

في جامعة لايبزيغ بين عامي 1876 و 1878، درس هوسرل الرياضيات والفيزياء والفلك. في لايبزغ، شكلت محاضرات الفلسفة التي ألقاها فيلهلم وندت -أحد مؤسسي علم النفس الحديث- مصدر إلهام. انتقل إلى جامعة فريدريك وليم في برلين (جامعة هامبولت الحالية في برلين) عام 1878 حيث واصل دراسته في الرياضيات على يد ليوبولد كرونيكر والرياضي الألماني المعروف كارل فايرشتراس Weierstrass. في برلين، أسس مرشدًا يدعى توماس ماساريك، الذي أصبح في ما بعد طالبًا سابقًا في الفلسفة في فرانز برينتانو، ولاحقًا أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا. حضر هوسرل أيضًا محاضرات الفلسفة التي ألقاها فريدريك بولسن. في عام 1881، غادر إلى جامعة فيينا لاستكمال دراسته في الرياضيات تحت إشراف ليو كونيغسبرغ (طالب سابق في فايرشتراس)، حيث وقع تحت تأثير فرانتس برنتانو، الذي وجهه إلى دراسة الفلسفة. في فيينا عام 1883، حصل على على درجة الدكتوراه لمساهمته في حساب المتغيرات.

من الواضح أنه نتيجةً لاطلاعه على العهد الجديد خلال العشرينات من عمره، طلب هوسرل تعميده في الكنيسة اللوثرية عام 1886. توفي والد هوسرل، أدولف، عام 1884. كتب هربرت سبيغلبرغ «في حين لم تدخل الممارسات الدينية الخارجية حياته قط أبدًا أكثر مما دخل بها معظم العلماء الأكاديميين في ذلك الوقت، إلا أن عقله بقي منفتحًا على الظاهرة الدينية، مثلها مثل أي تجربة حقيقية أخرى». في بعض الأحيان، رأى هوسرل أن هدفه هو «التجديد» الأخلاقي. على الرغم من كونه داعمًا صامدًا للاستقلال الراديكالي والعقلاني في كل شيء، إلا أن هوسرل كان أيضًا يتحدث «عن عمله ومهمته تحت إرادة الرب لفتح دروب جديدة أمام الفلسفة والعلم» كما وصف سبيغلبرغ.

بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الرياضيات، عاد هوسرل إلى برلين ليعمل مساعدًا لكارل ويرستراس. شعر هوسرل حينها برغبة في إكمال دراسته للفلسفة. ثم أصبح البروفيسور ويستراس مريضًا جدًا. أصبح هوسرل حرًا في العودة إلى فيينا، حيث كرس اهتمامه للفلسفة بعد خدمة عسكرية قصيرة. في عام 1884 في جامعة فيينا، حضر محاضرات فرانز برينتانو عن الفلسفة وعلم النفس الفلسفي. عرّفه برينتانو إلى كتابات برنارد بولزانو، وهيرمان لوتزي، وجي. ستوارت ميل، وديفيد هوم. تأثر هوسرل كثيرًا ببرينتانو حتى إنه قرر تكريس حياته للفلسفة؛ كثيرًا ما يرجع الفضل إلى فرانز برينتانو لكونه الملهم الأهم له، فيما يتعلق بالنية. بناء على نصيحة أكاديمية، لحق هوسرل بعد عامين في 1886 كارل ستوملف -وهو طالب سابق في جامعة برينتانو- إلى جامعة هاله، للحصول على شهادة تؤهله للتدريس في المستوى الجامعي. هناك، كتب في عام 1887 تحت إشراف ستومف «حول مفهوم العدد»، الذي سيكون لاحقا الأساس لعمله الهام الأول «فلسفة الحساب (1891)».

عين مدرساً مساعداً Privatdozent فى جامعة هله Halle في سنة 1887. ثم صار استاذاً في جامعة جيتنجن (Gottingen) في سنة 1901. وابتداء من سنة 1916 صار استاذاً في جامعة فرابورج-ان-برايسجاو، حتى سنة 1928.

توفي هوسرل في 27 أبريل سنة 1938 في مدينة فرايبورج-ان-برايسجاو Freiburg-in-Breisgau (في جنوب غربي ألمانيا).

وقد خلف بعد وفاته قدراً هائلاً من الضفحات المخطوطة التي لم ينشرها إبان حياته، بلغت أكثر من 45,000 صفحة، والكثير منها معد للنشر، والباقى غير مكتمل تماماً. ويجري العمل عل نشر ما يمكن نشره منها في مدينة لاهاي في هولنده عند الناشر Nijmhof. وهذه المخطوطات محفوظة في لوفان في Husserl-Archiv، وقد أنشىء مركز محفوظات آخر في كولونيا بألمانيا منذ سنة 1951 في مكتبة جامعة كولونيا Köln.

فلسفته

كان هوسرل تلميذاً لفرانتس برنتانو، وعنه أخذ فكرة أن الفلسفة علم دقيق. وتأثر به في التحول من الموضوع إلى الفعل النفسي. وكثير من أفكار برنتانو كانت نقطة انطلاق هوسرل في تفلسفه.

لكنه في مرحلة لاحقة أخذ يتأثر بكنت. ويمكن القول بأن هوسرل قد اختلف مع أستاذه الأول برنتانو في أربعة أمور:

  1. الأول هو أن هوسرل سعى إلى التغلب على ما في مذهب برنتانومن نزعة نفسانية Psychologismusi؛
  2. والثاني أن هوسرل سعى إلى بيان أن التصورات الكلية توجد حقاً وفعلاً، وليست كما زعم برنتانو مجرد اصطلاحات لغوية؛ ولهذا ينبغي القول بوجود منطقي-مثالي؛
  3. والثالث أنه أراغ إلى اتمام تحليل الأفعال النفسية عند برنتانو، بواسطة مزيد من التمييزات الدقيقة، لأن نتائج تحليلات برنتانو كانت تحفل بالاشتباهات؛
  4. والرابع أنه أمن للفلسفة منهجاً خصباً هو «رؤ ية الماهية» Wesenschau,

المنطق المحض

وكانت نقطة انطلاقه في الكفاح ضد النزعة النفسانية هي وضع فكرة عن منطق محض بوصفه علماً نظرياً. وكانت النزعة النفسانية تنظر إلى المنطق على أنه فن التفكير الصحيح، وأن القوانين المنطقية هي القوانين الواقعية المكتسبة عن طريق التحليل التجريبي النفسي، وأن الحق هو ما يتفق مع قوانين الفكر هذه. ولو كانت هذه القوانين من طبيعة أخرى - ويمكن من حيث المبدأ أن تكون كذلك - لكانت فكرة الحقيقة مختلفة تماماً.

فيبدأ هوسرل ويبين أن كل فن ينبغي أن ينظر إليه على أنه حالة خاصة من علم معياري؛ لأنه لكي يمكن البحث عما يجب على الإنسان فعله ابتغاء تحقيق هدف (هو التفكير الصحيح)، كما يريد الفن، فلابد من تحديد المعايير الأساسية التي بموجبها يحكم على الأهداف. فمثلاً إذا وضعنا أن المحافظة على اللذة وزيادتها هما الخير، أي المعيار، فينبغي أن نتساءل في أية ظروف يمكن أن تكتسب الموضوعات أكبر قدر من اللذة. بيد أن العلوم المعيارية تتأسس من جديد في العلوم النظرية التي لا يقال فيها ما يجب، بل ما هو قائم فعلاً. ذلك أن العلاقة بين المعيار وما يطبق عليه المعيار هي مشابهة للعلاقة بين الشرط والمشروط. وهكذا فإن القضية المعيارية «أ يجب أن تكون ب» تفترض مقدماً القضية النظرية: » فقط الـ "أ" التي هي ب لها الصفة جـ». وعلى العكس: لو صحت القضية من الشكل الأخير وقدمت جـ ايجابياً، فإنه ينجم عن هذا القضية المعيارية: «فقط الـ "أ" التى هي ب هي الخير»، وهى هى نفس القضية المذكورة آنفاً: «الـ "أ" يجب أن تكون ب». فلو كانت لدي مثلاً القضية النظرية: «الأحكام المقولة عن بينة هي وحدها المعارف»، فإنه ينشأ في الحال، لأن المعرفة تبدو ذات قيمة منطقية، القضية المعيارية: «ينبغي أن تكون الأحكام بينة». وحيئذ فقط يمكن القاء نظرة بمقتضى الفن على المفترضات السابقة النفسية التي ينبغي تحقيقها، كيما يمكن قيام أحكام بينة einsichtige Urteile.

ونفس الأمر يصدق على المنطق بوجه عام. فيجب أولاً أن تكتسب القضايا القبلية المؤسسة للمعاني: «حقيقة»، «حكم»، «تعريف» الخ، أقول يجب اكتساب هذه القضايا في علم نظري، كي يمكن بعد ذلك استنباط مبادئ، منطقية معيارية منها، واستخراج قواعد فنية عملية فيما بعد. ومجموع نظام تلك القضايا القبلية النظرية يسميها هسرل باسم: «المنطق المحض».

أما النزعة النفسانية فلا تجد داعياً للاقرار بمثل هذا العلم، لأنها تقرر أن الفكر والمعرفة حادثان نفسيان، وأن المنطق — تبعاً لذلك — عليه أن يستند إلى توافقات قانونية نفسانية. لكن هوسرل يفند النزعة النفسانية على ثلاثة أنحاء: إذ يشير أولاً إلى النتانج الباطلة لهذا الرأي، ويبين انتهاءه إلى شك جذري ثانياً، ويكشف عن الأحكام السابقة الموجودة في النزعة النفسانية ثالثاً.

ذلك أن علم النفس هو علم وقائع، والقوانين التي تضعها علوم الوقائع هي مجرد أقوال عن اطرادات، ولا تدعي أبداً اليقين والعصمة، بينما المنطق والمبادئ المنطقية وقواعد القياس الخ يقينية مطلقة الدقة، وهو أمر لا يمكن بلوغه عن طريق التجربة. ولهذا لا نستطيع أن تتكلم في علم النفس إلا عن احتمالات.

والنزعة النفسانية هي شكل خاص من النزعة النسبية.

ومن طبيعة الواقعة أن تتحدد فردياً وزمانياً، بينما قواعد المنطق كلية ضرورية عامة لا تخضع لتحديد في الزمان أو المكان.

كذلك تحفل النزعة النفسانية بأحكام سابقة زائفة:

  1. وأول هذه الأحكام السابقة الزعم أن كل القواعد الخاصة بضبط الفكر يجب أن تؤسس نفسانياً. وزيف هذه الدعوى هو أن القوانين المنطقية لا تتعلق بما يجري بالفعل أثناء التفكير، بل ما ينبغي مثالياً أن يكون عليه التفكير.
  2. وحكم سابق زائف ثان هو الزعم أننا في المنطق إنما نشتغل بامتثالات وأحكام واستنتاجات وما شابه ذلك وهي كلها - زعموا - ظواهو نفسية فحسب. ويدل على فساد هذا الزعم ما بين المنطق والرياضيات من شبه دقيق. صحيح أن العد واستخراج حاصل الضرب، وعمليات التفاضل والتكامل الخ هي ناتج نشاطات نفسية: الجمع، الضرب، الطرح، القسمة، التكميل، الخ. لكن لن يقولن أحد إن الرياضيات تابعة لعلم النفس لهذا السبب، وذلك لأن علم النفس بوصفه علم وقائع يبحث في أفعال نفسية خاضعة للزمان، بينما الرياضيات تبحث في وحدات مثالية.
  3. والحكم السابق الزائف الثالث هو الزعم أن الحقيقة القائمة في الحكم لا يمكن أن تعرف إلا في حالة البينة Evidenz، والبينة شعور باطني فريد، شعور بالضرورة، فالمنطق - في زعمهم - إذن هو علم نفس البينة. والرد على هذا الزعم أن نقول إن القضايا المنطقية لا تصل إلى البينة إلا بإجراء تحويل. فمبدأ الثالث المرفوع يقول إنه بين نقيضين لا يوجد وسط. وبالتحويل فقط نصل إلى المبدأ القائل بأن البينة لا تتجلى إلا في واحد من الحكمين المتقابلين. وهكذا نرى أن البينة ليست شعوراً كسائر المشاعر، بل هي تجربة حية فيها يدرك الحاكم صحة حكمه. والحقيقة نفسها هي الفكرة التي تصبح تجربة حية في الحكم البين.

وبهذا أبطل هوسرل دعاوى أصحاب النزعة النفسانية الذين زعموا أن المنطق ليس إلا فرعاً من علم النفس يدرس فرعاً من الظواهر النفسية هي الخاصة بالتفكير؛ وانتهى إلى تقرير أن المنطق علم محض، أي لا يقوم على التجربة وليس علم وقائع نفسية، بل موضوعه المبادئ والقواعد المعيارية للتفكير كما يجب أن يكون، لا كما هو واقع.

ظاهريات الشعور

وبعد ذلك يبحث هوسرل في بنية الشعور، فيميز بين الأنا المتعالي، أي الموجود في طبيعة العقل، وبين الأنا النفسي. وفي سبيل ذلك يستخدم عملية ستلعب دوراً بارزاً في ظاهريات هوسرل وهي عملية «الأبوخيه» أي تعليق الحكم. يقول هوسرل: «بواسطة الأبوخيه الظاهرياتية أردّ أنا ي الانساني الطبيعة والحياة النفسية - وهما ميدان التجربة النفسانية الباطنة - إلي أنا ي المتعالي الظاهرياتي. والعالم الموضوعي الذي يوجد بالنسبة إلى، والذي وجد أو سيوجد بالنسبة إلي، هذا العالم الموضوعي بكل موضوعاته يستقي من ذاتي، كنا قلت انفاً - كل المعنى وكل القيمة الوجودية التي له بالنسبة إليّ، إنه يستقيها من أنا ي المتعالي الذي تكشف عنه الأبوخيه الظاهرياتيه المتعالية» («التأملات الديكارتية»، التأمل الأول).

وبعد أن رد الأنا هذا الرد، استخلص التراكيب الأساسية الخاصة بالأنا.

وهنا وجد أن التركيب الموحد في الأنا هو الاحالة المتبادلة، أو القصدية Intentionalität (التي هي وحدة بين من يفكر وما يفكر فيه).

والرد الظاهرياتي هو الشعور الأساسي الي بواسطته تفتح الذاتية المتعالية ميدان الأصول المطلقة لكل موجود، وتبعاً لذلك تجعل الموقف الظاهرياتي ممكناً. والرد يتجلى أولاً على أنه تعديل جذري فيما يسمى «الموقف الطبيعي». ولا يقصد بـ «الموقف الطبيعي»، الموقف العادي اليومي للإنسان تجاه الشمول الوجودي أو شمول العالم، كما لا يقصد به حال مهمة ومعينة وجودياً لوجود الانسان، ولا نظرة في العالم، أو «صورة للعالم»، ولا تركيب ما يسمى باسم «التصور الطبيعي للعالم». وإنما المقصود «بالموقف الطبيعي»: الموقف الجوهري الخاص بطبيعة الإنسان، الموقف المتقدم لوجود الإنسان نفسه، وجوده الموجود من حيث هو موجود في كل العالم، أو الوجود الطبيعي للإنسان في العالم وفقاً لكل أحوال الإنسان: أولاً تجاه الأشياء المعينة، ثم تجاه الأشياء بوجه عام، أي تجاه تركيب أساسي لتجربة الإنسان في العالم. إنه الحياة التجريبية بكل أشكالها: يدرك، يفعل، يضع نظريته، يشتاق، يحب، يكره، يهتم الخ.

والتحليل الظاهرياتي يتصف بالصفات التالية:

  1. كل تحليل ظاهرياتي هو في جوهره مؤقت؛
  2. كل تحليل ظاهرياتي هو في جوهره زماني؛
  3. كل تحليل ظاهرياتي يقتضي جوهرياً دليلاً هاديا.

ويقصد بالصفة الأولى، أعني أنه مؤقت، أن القبلي الظاهرياتي يحال إلى طابعه الخاص؛ وهو أنه صورة اجمالية على المستوى الارتدادي الذي توقف عنده.

وحين نقول إنه زماني فالمقصود أنه كشف عن تاريخ مترسب.

وأما الصفة الثالثة فتقوم على موقف الرد.

القصدية

والقصدية Intentionalität من المعاني الرئيسية التى عني بها فرانتس برنتانو متأثراً بالاسكلأيين (فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا). وكانت الكلمة intentio تستعمل بمعنيين مختلفين: الأول بمعنى القصد أو المقصود وما ينوي المرء عمله؛ والثاني بمعنى تصور الماهية الذي يعطيه التعريف. والأول يتفق مع الأصل اللغوي اللاتيني للكلمة intentio؛ أما اgثاني فقد أخذ عن الترجمة اللاتينية لكتب الفلسفة العربية في ترجمتها لكلمة «معنى».

أما هوسرل، وقد أدرك اشتراك المعنى هذا، فإنه يطبق كلمة Intentionalität على «الأفعال المتعددة الدالة على قصد نظري أو عملي حر ومفهوم عامة» ( هوسرل: «مباحث منطقية» ص٣٧٨).

وهو يرى أن القصدية هي الفكرة الأساسية في الظاهريات. ويعرفها بأنها خاصية كل شعور «أن يكون شعوراً بشيء» Bewusstsein von Etwas، وبهذه المثابة يمكن وصفه مباشرةً، والشعور بشيء هو التضايف المتواصل بين أفعال القصد بالمعنى الأوسع وبين الموضوع المقصود.

والقصدية تقول:

  1. إن من الواجب أن نميز في حياة الشعور بين المضمونات الواقعية reellen وبين المضمونات القصدية (غير الواقعية). والمضمونات الواقعية هي أفعال القصد الجارية في زمان. ويستعمل هوسرل التعبير Noesis للدلالة على المضمونات الواقعية، بينما يستعمل اللفظه Noema للدلالة على المضمونات غير الواقعية الموجودة في الشعور . فالقصدية إذن مزيج من النوثيسيس ( التعقل ) والنوئيما ( المعقول).
  2. والنوثيما (الموضوع المعقول) هو ناتج تركيب متعدد لدرجات، فيه تبلغ التعقلات المتعددة وحدة الشعور بالموضوع.
  3. ويحيط بالموضوع المعقول أفق من المقصودات الجانبية المقترنة.
  4. والقصدية، أخيراً، تعني اتجاه الشعور نحو إعطاء الذات أو اكتساب ذات الموضوع المقصود.

أما الشعور Bewusstsein فيميز فيه هسرل ثلاثة معان:

  1. إذ يفهم منه أولاً الالتحام التجريبي للتجارب الحية النفسية من أجل وحدة تيار الشعور؛
  2. أو الإدراك الباطن للتجارب الحية الذاتية (الاستبطان)؛
  3. وثالثاً يدل الشعور على كل الأفعال النفسية أو التجارب الحية القصدية.

لكن هوسرل يقتصر في أبحاثه على استخدام «الشعور» بالمعنى الثالث فقط. وعنده، كما عند برنتانو، أن ماهية القصد تقوم في أن فيه «يقصد» موضوع، دون أن يكون لموضوع أو شيء يناظره قائماً في الشعور نفسه؛ إذ ما هو موجود في الشعور كتجربة حية هو فقط فعل القصد نفسه. وفي هذا يقوم التمييز بين «المعنى» و«الموضوع»: إن الأفعال هي تجارب حية للمعنى المقصود، أما الموضوع القصدي فإنه عالٍ على التجربة الحية.

وإنما الفارق بين هوسرل وبرنتانو هو في أن هوسرل يفترض أيضاً انطباعات واقعية غير قصدية؛ إن الانطباعات يُشعر بها، لكنها لا تظهر أنها موضوعات، أي لا تدرك. فمثلاً إذا رأيت قلماً أحمر، فإن لدي انطباعاً بالحمرة، لكنني لا أرى انطباعي هذا، بل أرى ذلك الشيء الأحمر القائم خارجاً عن شعوري.

رؤية الماهية

توجد ماهيات. لكن كيف نصل إلى إدراكها؟ إن ذلك يتم - في نظر هوسرل - عن طريق منهج الرد الظاهرياتي (الفينومينولوجي).

ويقوم هذا المنهج على أساس أن نبدأ بأن «نضع بين أقواس» العالم الطبيعي الخارجي الممتد في المكان والمتوالي في الزمان. لكن لا يقصد بهذا «الوضع بين أقواس» ما قصده ديكارت في شكله المنهجي من الشك في حقيقة العالم الخارجي كله، بل يقصد فقط عدم استعمال الاعتقاد الطبيعي في العالم، إن معناه أن نطرح جانباً هذ الاعتقاد، أو نصرف النظر عنه، أو نجعله يكف عن العمل.

وهذا «الوضع بين أقواس» Einklammerung يتألف من عناصر عدة:

إذ يقوم اولاً في «الوضع التاريخي بين أقواس»، وفيه نطرح جانباً ما هنالك من نظريات وآراء صادرة عن الحياة اليومية، أو عن العلم، أو عن ميدان العقيدة الدينية. وينبغي ألا يتكلم إلا الشيء المعطى مباشرة.

ويقوم ثانياً في «الوضع الوجودي بين أقواس»، أي الامتناع من كل الأحكام الوجودية وحتى من تلك التي تتجلى فيها البينة المطلقة مثل وجود الأنا. وبينما العنصر الأول يؤدي إلى التخلص المطلق من كل الأحكام السابقة، فإن هذا العنصر الثاني يقوم على أساس أن المعرفة الفلسفية يجب أن تكون معرفة بالماهيات، لكنها لا يعنيها الوجود الواقعي للموضوعات المتأمل فيها.

لكن هذين العنصرين لا يكفيان لرؤية الماهية، لأن الجزئيات لا تزال تتجلى جزئيات.

ولهذا ينبغي أن ينضاف عنصران آخران «للوضع بين أقواس»، عنصران يتوقف عليهما - في نظر هوسرل - فعالية المنهج الظاهرياتي.

إن التمييز بين «الواقعة» Tatsache وبين الماهية Wesen (Eidos) يناظره الرد الماهوي eidetische Reduktion الذي به يتم تحويل ما هو واقعي إلى ماهية، مثلاً: من أنواع الأحمر المختلفة نصير إلى ماهية الأحمر، من أفراد بني الانسان كما هم في الزمان والمكان نصير إلى ماهية الإنسان.

ويتقاطع مع هذا التمييز تمييز آخر بين «الواقعي» و«غير الواقعي». ويناظره الرد المتعالي transzendentale Reduktion، وهو الذي به تصير المعطيات في الشعور الساذج إلى ظواهر متعالية في «الشعور المحض». وبهذا الاتجاه الجديد يبتعد هوسرل عن أستاذه برنتانو ليسير في اتجاه مذهب كنت والمثالية المتعالية، ذلك لأن الوضع الظاهرياتي بين أقواس لا يبقي إلا على الشعور المحض، وهو مطلق بمعنى أنه لا يحتاج في قوامه إلى أي شيء واقعي. لكن استقلال وجود الأنا المتعالي هو جانب سلبي من النظرة المثالية المتعالية التي وصل هوسرل إليها. أما الجانب الإيجابي فيقوم في القول بأن كل موجود هو نسبي إلى الشعور المحض الذي وإن كان غير واقعي فإنه في نفس الوقت ضروري من حيث المبدأ، وبهذ يمثل علواً من نوع خاص في بطون تيار التجارب الحية.

وليس على الفيلسوف أن يخرج من «أنا» ابتغاء اكتشاف التراكيب الكلية المنتسبة إلى كل «أنا» Ego. بل يعمل «الأنا» في ذاته بالتأمل كيما يكتشف التنوعات الكفيلة بأن تكشف له عن صورة «الأنا»، وبهذا تصبح الذات المتفلسفة هي الواهبة الأخيرة للمعاني. إنها ليست شبيهة بشاهد أجنبي عليه أن يلحظ مقياس هذا المعطى المعتم، بل هي في نفس الوقت محل أصل المعطى والعين التي تبصر كل ماهية.

ويلخص هوسرل موقفه ها هنا هكذا: «إنني أنا يتأمل على طريقة ديكارت، وأسترشد بفكرة فلسفة، مفهومة على أنها علم كلي، مؤسسة على نحو دقيق محكم جداً أقررت بإمكانه، من باب المحاولة والتجريب. وبعد أن قمت بالتأملات السابقة، تبين لي أن علي قبل كل شيء أن أنمي ظاهريات أيدوسية ( تتعلق بالايدوس Eidos = الصورة)، وهذا هو الشكل الوحيد الذي عليه يتحقق، أو يمكن أن يتحقق، علم فلسفي، الفلسفة الأولى. وعلى الرغم من أن اهتمامي يتعلق هنا خصوصاً بالرد المتعالي، وبأناي المحض وتوضيح هذا الأنا التجريبي، فليس في وسعي تحليله على نحو علمي معاً إلا بالرجوع إلى المبادئ الضرورية اليقينية التي تنتسب إلى الأنا بوصفه أنا بوجه عام. ولا بد لي من الرجوع إلى الكليات وإلى الضرورات الجوهرية التي بفضلها يمكن ارجاع الواقعة إلى أسس عقلية لإمكانها المحض، وهو ما يمنحها المعقولية والطابع العلمي. وهكذا فإن علم الامكانيات المحضة يسبق في ذاته علم الوقائع ويجعلها ممكنة من حيث هو علم».

مؤلفاته

  • «فلسفة علم الحساب» (1891).
  • «بحوث منطقية» (1900-1901).
  • «الفلسفة علماً دقيقاً» (1911).
  • «أفكار: مقدمة عامة لفلسفة ظاهرية خالصة» (1913).
  • «محاضرات في ظاهريات الشعور الباطن بالزمان» (1928).
  • «المنطق الصوري والمتعالي» (1929).
  • «تأملات ديكارتية» (1932).
  • «أزمة العلوم الأوروبيّة والظاهريّات المتعالية» (1936).
  • «التجربة والحكم» (1939).
  • «مجموع مؤلفاته» (1950).