بليز باسكال

بليز باسكال (بالإنجليزية: Blaise Pascal)؛ (19 يونيو 1623 - 19 أغسطس 1662فيزيائي ورياضي وفيلسوف ومفكر فرنسي اشتهر بتجاربه على السوائل في مجال الفيزياء، وبأعماله الخاصة بنظرية الاحتمالات في الرياضيات هو من اخترع الآلة الحاسبة. استطاع باسكال أن يسهم في إيجاد أسلوب جديد في النثر الفرنسي بمجموعته الرسائل الريفية.

أدَّت أعمال باسكال المهمة في مجال ضغط السوائل إلى إيجاد المبدأ المسمى قانون باسكال، الذي ظهر خلال الخمسينيات من القرن السابع عشر الميلادي. وينص هذا المبدأ على أن السوائل الموجودة في الأوعية المغلقة تنقل الضغوط الواقعة عليها من جهة معينة بشكل متساوي في كافة الجهات، كما يوضح العمليات التي تقوم بها ضاغطات الهواء، والمضخات الفراغية، والرافعات الهيدروليكية، ورافعات السيارات، والمضاغط. ساعدت تجارب باسكال على إثبات أن للهواء وزناً، وأن ضغط الهواء يمكن أن ينتج فراغًا، وبذلك أزال شكوك العلماء في ذلك الوقت في إمكان وجود الفراغ.

وخلال الخمسينيات من القرن السابع عشر الميلادي قدّم باسكال، وعالم الرياضيات الفرنسي بيير دي فيرمات نظرية الاحتمالات، وناقشا بعض تطبيقاتها. وصمّم باسكال عام 1654م تنظيمًا ثلاثيًا من الأرقام يكون فيه كل رقم مساويًا لمجموع الرقمين المجاورين له من جهة اليمين، وعلى جانبه الأيسر في الصف الذي يكون أعلاه مباشرة. ويمكن استخدام هذا التنظيم الذي سمِّي مثلث باسكال في حساب الاحتمالات. انظر: التباديل والتوافيق. واخترع باسكال أيضًا آلة حاسبة تؤدي عمليات الجمع والضرب.

حياته

وُلد باسكال في 19 يونيو سنة 1623 في مدينة كلير مون ـ فيراند Clermon-Ferrand في إقليم الأوفرن بقلبفرنسا. كا أبوه رئيساً لمحكمة الضراب cour des aides في كليرمون. تلقى باسكال العلم أولاً على يدي أبيه هذا الذي أنتقل إلى باريس في سنة 1631، ومنذ نعومة أظفاره كشف عن عبقرية مبكرة جداً ونبوغاً في الرياضيات حتى قيل أنه اكتشف الهندسة وهو صبي قبل أن يقراً كتاباً في الهندسة! وعلمه أبوه اليونانية واللاتينية، و أظهر اهتمامه خاصةً بالرياضيات والفيزياء منذ صباه، وفي سنة 1639 ألف رسالة عن القطاعات المخروطية طبعت في سنة 1640، واخترع آلة لعمليات الجمع في الحساب أراد بها أن يساعد أباه في عمليات جمع الضرائب حين كان يشغل وظيفة في محكمة الضرائب في روان Rouen، وبعد ذلك قام بإجراء عدة تجارب مشهورة على قمة جبل بوي دي دوم للبحث عن صحة نظرية توريشلي في الضغط الجوي والخلاء، وأدت هذه التجارب إلى اكتشافه لعدة نظريات في علم الهيدروستاتيكا (توازن السوائل). وواصل اكتشافاته الرياضية، فاكتشف حساب الاحتمالات، وفي سنة 1654 حدثت له أزمة روحية عميقة سجلها فيما يسمى باسم «المذكرة» Memorial بدأها بالعبارات التالية:

«رب ابراهيم واسحق ويعقوب

لا رب الفلاسفة

يقين، يقين، شعور، سرور، سلام إله يسوع المسيح

«إلهك سيكون إلهي»

نسيان العالم ونسيان كل شيء إلآ الله

إنه لا يوجد إلآ بالطرق التي دل عليها الانجيل

أيها الإله العادل، إن العالم لم يعرفك، لكني عرفتك.

سرور، سرور، سرور، دموع سرور لقد انفصلت عنه

«يا إلهي! هل تتخل عني؟

يا ليتي لا أنفصل عنه أبدا»

لقد أفضت به هذه المحنة الروحية إلى الانقطاع إلى الله والارتماء في أحضان المسيح والامتلاء بالمشاعر الدينية العميقة.

وكانت أخته جاكلين قد صارت راهبة في جماعة بورويال (بالقرب من فرساي) التي كانت ترئسها الام أنجليك Angelique. وبعد محنة سنة 1654 عقد باسكال علاقات وثيقة مع جماعة بورويال الذين كانوا من أنصار كورنليوس جنسنيوس Jansenius أسقف أبير Ypres ومؤلف كتاب Augustinus، واشتغل في الحركة الدينية المسماة الجانسينية، ، وفي أواخر عام 1654م دخل ديرًا من أديرة هذه الجماعة في مدينة بورت ـ رويال.

وقد أدان الديوان المقدس (البابا) في مايو سنة 1653 بعض العبارات الواردة في هذا الكتاب باعتبارها مخالفة للعقيدة الكاثوليكية. وأدى ذلك إلى نزاع سافر بين البابا وجماعة بور رويال وعلى رأسها أنطوني آرنولد Arnauld، ولعب اليسوعيون بدسائسهم المعهودة وخبثهم دوراً شيطانياً في إثارة الباب والملك لويس الرابع عشر ضد هذه الجماعة المتينة الإيمان، إلى أن أنتهى الأمر بلويس الرابع عشر أن أمر بتدمير ديرهم وتشتيت جماعتهم! وشارك باسكال في هذه المعركة ووردًا على هذا الاتهام قام فورًا بنشر 18 كتيبًا ساخرًا سميت الرسائل الريفية Les Provinciales، وقد لاقت شعبية عظيمة في عامي 1656 و1657م. وفيها كشف عن خبث اليسوعيين، ودافع عن اصحابه من جماعة بورويال، وفضحخصوصافسادالأخلاق التي يدعو إليها اليسوعيون، خصوصاً في باب «الفتاوى» Casuistique الذي يكشف فيه اليسوعيون عن انحلال في مبادى ء الأخلاق، وانتهازية في تطبيق مبادىء الأخلاق الدينية، ومداراة ومغالطة في تبرير الذنوب، استرضاء لأهواء ذوي الجاه والسلطان ممن يعمل المعرفون اليسوعيون في خدمتهم، كيما يحققون لديهم وبواسطتهم مآربهم الدنيوية في السيطرة على النفوس وابتزاز الأموال وتقلد المناصب الرفيعة. ولو استعرنا عنوان كتاب الغزالي في الرد على الباطنية، لكان لنا أن نعنون كتاب باسكال بعنوان: «فضائح اليسوعيين».

ظل باسكال يدافع منذ عام 1658م وحتى وفاته عن عقيدته. ومنذ أن تحول بسكال إلى التقوى الدينية، فكر في وضع كتاب للدفاع عن المسيحية والدعوة إليها، ابتغاء تحويل المفكرين الأحرار إلى الدين واليقين. لكن هذا المشروع لم ينجز، وإنما بقيت منه صفحات عديدة تحتوي على «أفكار» هي مخطط هذا الكتاب. وقد وجدت بعد وفاته وجمعت تحت عنوان «أفكار» Pensées. ويعبر هذا العمل عن إيمان باسكال بأن هناك حدودًا للحقائق التي يمكن أن يدركها العقل، وأن الإيمان من القلب بالرسالة المسيحية هو المرشد الرئيسي إلى الحقائق.

توفي باسكال في 19 أغسطس سنة 1662

الهندسة الرياضية عند باسكال

فيما عدا الهندسة المتناهية الصغر عالج باسكال الهندسة الإسقاطية كما تناول المخروطيات، وبعدها القطاعات المخروطية. بدأ الاهتمام بالهندسة من عمر الثانية عشرة عندما قرأ كتاب العناصر لأقليدس. وأكمل اهتمامه بشكل رصين منذ السنة 1639 بالنسبة للدائرة والمخروط والكرة والأمكنة الهندسية لنقطة متغيرة. لكن الهندسة التحليلية التي عالجها ديكارت لم يهتم بها باسكال مطلقا.

لكن عمل باسكال الهندسة لم ينل إعجابا في عصره، فقد بقي حتى القرن التاسع عشر حين جاء بننسيليه Poncelet فأظهر أهمية باسكال.

إنجازاته

التحليل المتناهي الصغر

كانت له إنجازات عظيمة في هذا المجال، وقد نشر باسكال أعماله في هذا المجال بين سنة 1650 و 1660 أي في آخر فترة حياته، اعتمد قليلاً على ستيفن ورينيه ديكارت وروبرفال وتورتشللي وغيرهم. لكنه سبق نيوتن، ولايبنتز، الذين أخذوا عنه أشياء كثيرة، كما تناول مفهوم الحدود، ومرائل التكامل ومفهوم المثلث المميز المعروف باسمه مثلث باسكال.

قام باسكال بتطبيق كل هذه الأساليب في مسائل عديدة في الرياضيات حينا وفي الفيزياء والميكانيك حينا آخر.

في الحساب

اهتم بخصائص السلاسل العددية الصحيحة وبالترتيب العددي والأعداد الطبيعية والأعداد المثلثية، ومثلث باسكال وتطبيقاته العديدة.

في الاحتمالات

يمكننا عن حق القول بأن باسكال هو الذي أسس حساب الاحتمالات. كان هناك احتمالات الألعاب وبعض أنواع التجارة وما شابه إنما لم يكن هناك علم بالمعنى الصحيح يرتكز إلى أصول الرياضيات. ولباسكال برهان طريف يستخدم فيه حساب الإحتمالات ويوضح من خلاله أن عاقبة الإيمان أفضل من عاقبة الكفر.

الآلة الحاسبة

تعتبر هذه الآلة إحدى أوجه تقدم العلوم التطبيقية. إنها فعلا اكتشاف جدير بالاهتمام، فهو الذي أوصل الإنسانية إلى الحاسبات الحديثة وما يمكن أن تصل إليه في المستقبل. فقد وضع تصميمها ونفذ أول نموذج منها في روان سنة 1642 واستمر بعد ذلك لتسع سنوات في تطوير آلته، وهي آلة تقوم بإجراء عملية الجمع بشكل مباشر، أما الطرح فتتم بطريقة جمع المكمل العددي، إلا أن مرضه وعدم عثوره على مصمم ساعات كفء لم يمكنه من تنفيذ تصميم آليات الضرب والقسمة لآلته، لذلك كانت عمليات الضرب تتم بطريقة الجمع المتكرر، أما القسمة فتتم بطريقة الطرح المتكرر.

الضغط الجوي

أراد باسكال إجابة سؤال كان يحير الفيزيائيين في زمانه. وهو لماذا يشير بارومتر تورشيلي الزئبقي دائما إلى 76 سم؟ وإذا استبدلنا الزئبق بالماء فإنه يشير إلى 10 متر؟!! وما هو السر خلف هذه الأرقام الثابتة التي لا تتغير. وقام باسكال بإعطاء قريب له وكان متسلق جبال بارومتر زئبقي وطلب منه أن يخبره ماذا سوف تكون قرائته عند قمة الجبل. ووجد متسلق الجبال أن البارومتر لا يشير إلى 76 سم بل إلى 66 سم. وهنا أدرك باسكال أن الأرقام ليست ثابتة ولكنها تعتمد على ضغط الغلاف الجوي. وكلما صعدنا إلى أعلى فكلما قلَّ الضغط حتى ينعدم.

آراء باسكال الفلسفية

منهج العقل الهندسي، والعقل اللطيف

يسخربسكال من ديكارت وينعته بانه «لا فائدة منه، وهو غير متيقن inutile 1 incertain ع٣1ا:ن؟02(نشرةبرنشفج ص ٣٦١، باريس ١٩١٤ ). ذلك لأنه رأى أن منهج ديكارت هومنهج الهندسة، بينما يرى بسكال أن ثمت منهجين هما منهج الهندسة ومنهج اللطافة.

يقول سكال : «ثم نوعان من العقول أحدهما ينفذ بحدة وعمق إلى نتائج المبادى، ، وهذا هو عقل الدقة، والثاني يفه. عددا كبيرا من المبادىء دون أن يخلط بينها، وذلك هو العقل لهندسي. الأول قوة للعقل واستقامة، والثاني اتساعللعقل، وأحدهما يمكن أن يوجد بدون الآخر: فيكون العقل قويا وضيقا ويكون واسعا وضعيفا. »

ولبيان الفارق بين العقل الهندسي والعقل اللطيف ع55ع0 عل esprit يقول سكال: «في أحدهما (الهندسي) المبادىء ملموسة، لكنها بعيدة عن الاستعمال العادي، حتى أنه من الصعب أن يلتفت الرأس إلى تلك الناحية، لعدم تعوده، لكن متى التفت رأى المبادىء واضحة كاملة، ولا بد أن يكون العقل زائغاً إذا كان لا يقدر على البرهنة إبتداء من المبادىء الكبيرة إلىحد أنه من المستحيل أن يغفلها I

أما في العقل اللطيف فإن المبادىء موجودة في الاستعمال العادي ومائلة أمام أعين جميع الناس. ولي المرء في حاجة إلى أن يلتفت برأسه أويتعب تفسه. كل ما يحتاج إليه هوأن يكون جيد النظر، نعم لا بد أن يكون جيد النظر، لأن المبادىء هي من الدقة وكثرة العدد بحيث يستحيل عدم إفلات البعض منها . لكن إغفال مبدأ هو أمر من شأنه أن يؤدي إلى الخطأ، ولهذا يجب أن يكون جلياًحاداً بحيث يستطيع أن يرى كل المبادىء ، وأن يكون بعد ذلك مستقيم العقل حتى لا يبرهن برهنة زائفة إبتداء من المبادى المعلومة» (٣١٧) .

القلب والعقل

كذلك يضع بسكال ما يسميه «القلب» le coeur في مقابل «العقل» raison ويقصد بالقلب: العيان، والوجدان intuition. يقول يكال : «نحن نعرف الحقيقة لي فقط بواسطة العقل، بل وأيضا بواسطة القلب Cceur : فبالقلب نعرف ال مبادىء الأولى، وعبثا يحاول التعقل raisonnement، وهو لا نصيب له في ذلك الأمر، ان يحاريها. ان الفورونية (أي الشكاك) يعملون في هذا السبيل عبثا، ولا هدف لهم إلآ هذا، ونحن نعلم أننا لا نحلم . وعجزنا عناثبات ذلك يالعقل لا يدل إلا على ضعف عقلنا لا على عدم يقين كل معارفنا كما يزعمون. لأن معرفة المبادى الأولى، مثل أنه يوجد مكان، وزمان، وحركة وأعداد هي معرفة راسخة رسوخ أية معرفة نستمدها من البراهين، ويجبعلى القلب أن يستند إلى هذه المعارف المدركة بالقلب والغريزة وأن يقيم كل قوله ٠ إن القلب يشعر بأن هناك ثلاثة أبعاد في المكان وأن الاعداد لا متناهية، ثم يأتي العقل بعد ذلك فيبرهن على أنه لا يوجد عددان مربعان أحدهما ضعف الأخر إن امبادى تستشعر، أما القضايا فتستنتج، وكلاهما يدرك بيقين، رغم أن ذلك يتم بطرق مختلفة. ومن غير امفيد ومن المضحك أيضا أن يطالب العقل القلب ببراهين على مبادئه الأولى، ابتغاء أن يصدقها؛ كما سيكون من المضحك أن يطلب القلب من العقل أن يشعر كل القفايا لتي يبرهن عليها ابتغاء أن يقبلها.

وهذا العجز يجب ألا يستخدم إلا في قدعالعقل، الذي يريد أن يحكم على كل شي، لا في محاربة يقيننا، كما لوكان العقل هو وحده القادر على إفادتنا بالعلم. ويا ليت الله لم يحوجنا إلى العقل، ويجعلنا نعرف كل شي ء بالغريزة والعاطفة! لكن لطبيعة حرمتنا من هذه النعمة، ولم تمنحنا إلا القليل من المعرفة التي من هذا النوع، وباقي المعارف كلها لا يمكن أن يحصل إلا بالبرهنة العقلية» (هالأفكار، ص ٤٦٠)

وجود الله

لكنبسكال لا يستطيع أن يدرك وجود اللة بالعقل، ولا بالقلب بل فقط بواسطة الوحي أو الدين. فهو يقول أولا: «نحن نعرف وجود المتناهي وطبيعته، لأننا متناهون وممتدون مثله . ونعرف وجود اللامتناهي ونجهل طبيعته، لأنه ذوامتداد مثلنا، لكن ليس له حدود على خلاف أمرنا. لكننا لا نعرف وجود الله ولا طبيعته، لأنه لا امتداد له ولا حدود، لكننا بالايمان نعرف وجوده، وبالمجد (أي بنور المجد) سنعرف طبيعته» (ص ٤٣٦) ثم يقول: «لنتكلم الآن بسبب نورنا الطبيعي، إذا كان يوجد إله، فإنه لا يمكن إدراكه لأنه بسبب كونه لا أجزاء له ولا حدود، فإنه لا علاقة لهبنا، ولهذا فنحن عاجزون عن معرفة ما هو وهل هوموجود» ( الموضع نفسه) وواضح من عبارته ها هنا أنه يؤكد أننا عاجزرن بالعقل الطبيعي أن نعرف وجود الته، وإنما الايمان وحده هو الذي أخبرنا بوجوده.

أما البراهين الميتافيزيقية التي يسوقها اللاهوتيون والفلاسفة لاثبات وجود الله، فإنها «بعيدة عن تفكيرالانسان وهي من التعقيد إلى درجة أن تأثيرها ضئيل. وحتى لوصلحت لبعض الناس، فإن ذلك يحدث خلال اللحظة التي يشاهد فيها هؤلاء الناس هذه البراهين، وبعد ذلك بساعة يخشون أن يكونوا قد خدعوا» (ص ٥٧٠).

والبرهان القائم على ما في الكون من مخلوقات عجيبة وتدبير محكم قد يغير في لفت نظر المؤمنين إلى عجائب صنعة الخالق، لكنه لا يقنع الملحدين.

والبرهان القائم على الحركة إذا استخدمه اللاهوتيون لاقناع الملحدين، فإنه يعطي هؤلاء الاخرين «الحق في ان يعتقدوا أن البراهين التي يسوقها ديننا واهية جدا، وقد شاهدت بالعقل وبالتجربة أن هذا هو أدعى الأمور لاثارة استهزائهم بديننا» (ص٤٤٦).

وهكذا نجديسكال يرفض كل البراهين العقلية لاثبات وجود الله . ذلك أن بسكال لا يريد إله الفلاسفة، بل إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، الإله الذي تأنس (صارإنسانا) في يسوع الذي توسط من أجل النجاة.

الإنسان

ولا يمل بسكال من الالحاح في توكيد «شقاء الانسان بدون الله» -ذلك لأن الطبيعة الانسانية فاسدة. ويتساءل: ما الانسان؟ ويجيب الانسان هولا شيء إذا ما قورن باللامتناهي، وهوكل شيء بالنسبة إلى العدم: إنه وسط بين العدم وبين كل شيء. . . إنه عاجز عن رؤية العدم الذي عنه صدر، واللامتناهي الذي يحيط به» (ص ٣٥٠).

لكن بسكال ما يلبث أن يرى الوجه الآخر في الانسان، أعني عظمة الانسان، فيقول: ان عظمة الانسان هي من الوضوح بحيث تستخلص من شقاء نفسه، لأن ماهو طبيعة في الحيوان نحن نسميه شقاء الانسان، وبهذا نحن نقر بأنه لما كانت طبيعته اليوم تماثلطبيعة الحيوان، فإنه سقط من طبيعة أفضل كانت خاصة به فيما مضى.

فمن ذا الذي يشعر بأنه شقي لأنه ليس ملكا إلا ذلك الذي كان ملكا من قبل؟ وهل وجد بول أميل Pau-Emile شقيا لأنه لم يعد بعد قنصلا؟ بالعكس، لقد وجده الناس سعيدا بأنه كان ذات يوم قنصلا، لأن هذه الوظيفة ليست وظيفة دائمة. لكنهم وجدوا برسيوس (كان بول إميل قد نتصر على برسيوس ملك مقدونيا في سنة ١٦٧ق. م) شقيا لأنه لم يعد ملكا، ذلك أن من شأن وظيفته أن تكون دائمة، إلى درجة أنهم تعجبوا منه كيف يحتمل الحياة بعد ذلك. ومن ذا الذي يشعر بأنه يشقى لأن له فماً واحداً؟ من ذا الذي لا يشقى لأن له عيناً واحدة! ربما لم يحزن أحد على أن ليست له ثلاث أعين، لكن من ليس له عين يبصر بها هو امرؤ شقي شقاء لا عزاء عنه! » (ص ٥١٢).

فيم إذن تقوم عظمة الانسان؟

«ما الانسان إلا قصبة، والقصبة أضعف ما في الطبيعة، لكنه قصبة مفكرة. ولا ينبغي أن يتسلح الكون كله لسحقه: فبخار، أوقطرةماء تكفي لقتله. لكنه لوسحقه الكون، فإنه سيكون أعظم نبلا ممن يقتله، لأنه يعرف أنه يموت ويعرف ما

يمتاز به الكون عليه. أما الكون فلا يعرف شيئا من ذلك ٠

كل كرامتنا إذن هي في الفكر ومن ثم (أي من الفكر) علينا أن ننهض، لا من المكان أو الزمان اللذين لا نستطيع أن نملأهما. فلنعمل إذن على التفكير جيدا: ذلك هو مبدأ الاخلاق» (ص ٤٨٨).

عظمة الانسان هي في الفكر أماالأملاك والأراضي في المكان فلا تهب عظمة، لأن الكون يشملها ويشملني «ويبتلعني كأنفي نقطة، اما بالفكر فأنا احيط بالكون».

رهان بسكال

وفي كتاب «الأفكار» نجد الحجة المشهورة باسم رهان بسكال، والتي أراد بها أن يبين أن من الافضل الايمان بالآخرة والعقاب والثواب في الآخرة، فهذا أفضل من عدم الايمان بها. وهوفي الوقت نفسه نوع من البرهان على وجود الله. وعصب هذا البرهان يقوم في أننا ملزمون بالاختيار بين أمرين: أما أن الله موجود، وأما أن الله غيرموجود. وبسكال يوجهالبرهان إلى لشكاك والملحدين فيقول: «لننظر في هذين الأمرين: لو كسبتم، كسبتم كل شيء، وإذا خسرتم، فلن تخسروا شيئا، فراهنوا إذن على أن الله موجود، دون تردد.

- هذا رائع، نعم، لا بد أن نراهن، لكن ربما اراهن بأكثر ما ينبغي.

- لننظر ما دام هناك مثل هذه المخاطرة في الكسب أو الخارة فإذا لم يكن أمامكم إلاأن تكسبواحياتين بدلامن حياة واحدة، فانكم تستطيعون أيضا أن تكونوا كاسبين، لكن ان كان هناك ثلاث (حيوات) لتكسب فلا بد من المراهنة ٠ انكم مضطرون إلى المراهنة، وإذا أرغمتم على المراهنة فسيكون من عدم الفطنة أن تقامروا بحياتكم من أجل كسب ثلاث حيوات، في رهان فيه هذا القدر من المخاطرة بالمكسب أو الخارة. لكن هناك «سرمدية» من الحياة والسعادة. وما دام الأمر كذلك، فإنه إذا كان اك ما لا باية له ص المخاطرات التي ستكون إحداها لك، فسيكون لك الحق في كسب واحدة لتحصل على إثنين وسيكون فعلك في الاتجاه الم، ، مادمت مضطرا إلى المخاطرة، لورفضت ان تقامربحياة واحدة في مقابل ثلاث حيوات في مقامرة، سيكون لك منها واحدة من بين الاف المقامرات (الصدف) إذا كانت هناك ما لاغهاية من الحياة الامتناهية السعادة ستكسبها، لكنهاهنا ما لا نهاية له من الحياة الامتناهية السعادة يمكن كسبها، مقامرة بالكسب ضد عددمتناه منصدف لخسارة، وما تقامر به متناه.وهذاينتزعكل اختيار أينما وجد اللامتناهي ٠ حيث لا يوجد ما لا نهاية له من الصدف للخسارة في مقابل صدفة واحدة للكسب، فإنه لا ينبغي التردد، بل يجب إعطاء كل شيء وهكذا إذا اضطر الانسان إلى المقامرة فيجب التخلي عن العقل بتغاء المحافظة على الحياة، أولى من المقامرة .ها من أجل الكسب اللامتناهي، المستعد للمجيء مثل ضياع العدم .

إذ لا يفيد شيئا أن نقول انه من غير المتيقن أنناسنكسب، ولكن من المتيقن أنا نقامر، وان المسافة اللانهائية القائمة بين اليقين بما يتعرض له الانسان (من المقامرة) وعدم اليقين بما سيكسب، يسوي بين المتناهي الذي يقامر به يقيناً وبين اللامتناهي غير المتيقن به. لكن الأمر ليس هكذا : فإن كل مقامر يقامر بيقين من أجل أن يكسب عن غير يقين، ومع ذلك فإنه يقامر يقينا بامتناهي من أجل أن يكسب - دون يقين - ما هو متناه، دون أن يحظى .هذا في حق العقل. ولا توجد ما لا غهاية له من المسافة بين هذا اليقين بالتعرض (بالمقامرة) وبين عدم اليقين بالكسب: فهذا خطأ. والحق أن هناك ما لا هاية بين اليقين بالكسب وبين اليقين بالخسارة، لكن عدم اليقين يتناسب مع اليقين بما يخاطر يه تبعا لصدف الربح والخسارة. ومن هنا فإنه إذا كان ثمة من المخاطرات في ناحية بقدرما في الناحية الأخرى، فإن الرهان متكافى ء وحينئذ يكون اليقين بما يتعرض له مساوياً لعدم اليقين بالكب. وهيهات أن يكونا متباعدين بمسافة لا نهاية لها. وهكذا فإن اقتراحنا لهقوة لا نهاية لها، إذا كان ما نقامر به هو المتناهي في مقامرة فيها أمثال هذه الصدف لاحتمال الربح أو الخسارة، وكان ما يكسب هو اللامتناهي. وهذا امر قد تبرهن (ببرهان صحيح)، وإذا كان الناس قادرين على بلوغ حقيقة ما، فإغها هذه».

فإذا اعترض معترض قائلا: أوكك الذين يؤملون في النجاة هم سعداء بهذا، لكن يقابل ذلك خوفهم من الجحيم! يجيببسكال : «من هوالأكثر دواعي للخوف من الجحيم : من يجهل هل يوجد جحيم ويوقن بالعذاب ان وجد جحيم - أومن هو مقتنع نوعا من الاقتناع بوجود جحيم ويؤمل في النجاة إذا كانت موجودة؟ ! » .

انظر أيضًا

الأدب الفرنسي