إرفنغ غوفمان
إيرفينغ غوفمان (بالإنجليزية: Erving Goffman) (11 يونيو 1922-19 نوفمبر 1982) هو عالم اجتماع وعالم نفس اجتماعي وكاتب ولد في كندا، ويعتبره البعض «أكثر علماء الاجتماع الأمريكيين تأثيرًا في القرن العشرين». احتل في عام 2007 المرتبة السادسة في دليل التايمز للتعليم العالي بين مؤلفي الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بعد أنتوني غيدنز وبيير بورديو وميشال فوكو، وتقدم على يورغن هابرماس.
يعد إيرفينغ غوفمان أشهر علماء الاجتماع الذين اهتموا بدراسة الوحدات الاجتماعية الصغرى خلال الستينيات والسبعينيات، وكان جوفمان رائداً فى المنظور المسرحى فى علم الاجتماع. ولقد تأثرت أعماله بعوامل متعددة. فبعد أن نال درجته الجامعية الأولى فى جامعة تورنتو (كندا)، بداً دراساته العليا فى جامعة شيكاغو فى نهاية الأربعينيات. وهنا بدأ يتأثر بالتفاعليين الرمزيين، خاصة إيفريت هيوز وهربرت بلومر، وأتباع دوركايم الجدد، خاصة لويد وارنر وإدوارد شيكز، وإدوارد بانفيلد، وبالأنثروبولوجيا الاجتماعية. وبهذه الطريقة بدأ يلتفت إلى أهمية الرمز والشعيرة فى الحياة اليومية وإلى تقنيات الملاحظة المشاركة.
كان غوفمان الرئيس الثالث والسبعون للجمعية الأميركية لعلم الاجتماع. تعتبر دراسته عن نظرية التفاعل الرمزي أفضل إسهاماته في مجال النظريات الاجتماعية. اتخذت دراسته شكل تحليل اجتماعي، وبدأت بكتابه لعام 1956 «تصوير النفس في الحياة اليومية». تتضمن أعمال غوفمان الرئيسية الأخرى «ملاذات» في عام 1961، و«وصمة عار» في عام 1963، و«طقوس التفاعل» في عام 1967، و«تحليل الإطار» في عام 1974، و«أشكال الكلام» في عام 1981. تضمنت مجالات دراسته علم اجتماع الحياة اليومية والتفاعل الاجتماعي، وبناء النفس الاجتماعي، والتنظيم الاجتماعي للتجربة (التأطير)، وعوامل معينة من الحياة الاجتماعية مثل المؤسسات الكلية ووصمات العار.
حياته
وُلد غوفمان في 11 يونيو عام 1922 في مانفيل، ألبرتا، كندا، والده ماكس غوفمان، ووالدته آن غوفمان، آفيربا قبل زواجها. ينتمي إلى عائلة أوكرانية يهودية هاجرت إلى كندا في أواخر القرن العشرين. كان لديه أخت أكبر منه تدعى فرانسيز بي أصبحت ممثلة. انتقلت العائلة إلى دوفين، مانيتوبا، حيث كان والده خياطًا ناجحًا.
قصد غوفمان مدرسة القديس جون الثانوية التقنية منذ عام 1937 في وينيبيغ حيث انتقلت عائلته في العام نفسه. قصد جامعة مانيتوبا في عام 1939 ليختص في الكيمياء. أوقف دراسته وانتقل إلى أوتاوا ليعمل في مجال صناعة الأفلام لصالح المجلس الوطني الكندي للأفلام الذي أسسه جون غريرسون. واهتم لاحقًا بعلم الاجتماع، وأثناء ذلك الوقت، التقى بعالم الاجتماع الشهير من شمال أميركا دينيس رونغ. حفز لقاؤهما غوفمان على ترك جامعة مانيتوبا والتسجيل في جامعة تورنتو حيث درس تحت إشراف تشارلز وليام ميرتون هارت وراي بيردويستل، وتخرج في عام 1945 بدرجة بكالوريوس في علم الاجتماع وعلم الإنسان. انتقل لاحقًا إلى جامعة شيكاغو حيث حصل على شهادة الماجستير عام 1949 والدكتوراه عام 1953 في علم الاجتماع. ولينهي أطروحة الدكتوراه عاش وجمع بيانات تخص الأعراق البشرية على جزيرة أونست التابعة لجزر شتلاند بين شهري ديسمبر من عام 1949 ومايو عام 1951.
تزوج غوفمان من أنجيليكا تشوت في عام 1952، وولد ابنه توماس عام 1953. عانت أنجيليكا من مرض ذهني وماتت منتحرة عام 1964. بعيدًا عن مهنته الأكاديمية، عرف غوفمان باهتمامه ونجاحه النسبي في سوق الأسهم وفي المقامرة. وفي مرحلة ما، سعيًا وراء اهتماماته والدراسات الإثنوغرافية أصبح مديرًا لملهى ليلي في أحد ملاهي لاس فيغاس.
تزوج غوفمان من عالمة اللسانيات الاجتماعية جيليان سانكوف في عام 1981. بعد ذلك بعام ولدت ابنتهما أليس. عام 1982، مات غوفمان في فيلادلفيا، بنسلفانيا في التاسع عشر من نوفمبر بسبب سرطان المعدة. ابنته أليس غوفمان عالمة اجتماعية أيضًا.
حياته المهنية
ألهم غوفمان البحث الذي أجراه في أونست ليكتب عمله الرئيسي الأول وهو «تصوير النفس في الحياة اليومية» في عام 1956. بعد تخرجه من جامعة شيكاغو عام 1954-1957 عمل كمساعد للمدير الرياضي في المعهد الوطني للصحة العقلية في بيثيسدا، ماري لاند. دفعته ملاحظة المشاركين لكتابة مقالة عن الصحة العقلية، وساهمت مجموعة من المؤسسات في تشكيل كتابه الثاني «ملاذات: مقالات عن الوضع الاجتماعي للمرضى العقليين وغيرهم من النزلاء».
في عام 1958 أصبح غوفمان عضوًا في الهيئة التدريسية في قسم علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، بركلي أولًا كبروفيسور زائر، ثم بروفيسور بدوام كامل بدءًا من عام 1962. انتقل إلى جامعة بنسلفانيا في عام 1968، وتلقى كرسي بنجامين فرانكلين في علم الاجتماع وعلم الإنسان ويعود الفضل في ذلك بشكل كبير إلى جهود ديل هايمز، وهو بروفيسور سابق في بركلي. في عام 1969، أصبح زميلًا في الأكاديمية الأميركية للعلوم والفنون. عام 1970، أصبح غوفمان أحد مؤسسي الجمعية الأميركية لإبطال الاستشفاء العقلي اللاإرادي وشارك في تأليف بيان المنبر. في عام 1971، نشر «علاقات علنية» ربط فيه العديد من أفكاره عن الحياة اليومية من منظور اجتماعي منطقي. نشر كتابًا آخر مهمًا له وهو «تحليل الإطار» عام 1974. حصل على زمالة غوغنهايم لعامي 1977 و1978. في عام 1979، حصد غوفمان جائزة «كولي ميد» للمنح الدراسية المميزة من قسم علم الاجتماع النفسي التابع للجمعية الأميركية لعلم الاجتماع. انتخب لمنصب الرئيس الثالث والسبعين للجمعية الأميركية لعلم الاجتماع بين عامي 1981 و1982، وعلى أي حال، كان غير قادر على إلقاء الخطاب الرئاسي شخصيًا بسبب تفاقم حالته الصحية.
أعماله
قام جوفمان بإجراء أول دراسة ميدانية مهمة فى إحدى جزر شتلاند باسكتلندا (حيث كان يقيم فى أدنبره). وأثمرت ملاحظاته للحياة اليومية فى هذا المجتمع المحلى الصغير دراسته التى أصبحت مؤثرة فيما بعد، والتى ظهرت بعنوان: تصور الذات فى الحياة اليومية (فى عام 1959) والتى حدد فيها معالم منحاه المسرحى ٠ ولقد حلل جوفمان فى أعماله المبكرة الحياة الاجتماعية من خلال استعارة الحياة على خشبة المسرح، واهتم بالطريقة التى يلعب بها الأفراد الأدوار، ويتحكمون فى الانطباعات التى يتركونها على بعضهم البعض فى المواقف المختلفة . كما كشف عن الاهتمام الذى التزم به بنسق التفاعل - أى بما يفعله الناس فى حضور الآخرين.
ولقد اتصل فى كتابيه التاليين اهتمامه بالمسرح، ولكنه طبق هذا الإطار على مجال الانحراف. فقدم فى كتابه: الوصمة (الذى صدر 1964) تحليلا صورياً لهؤلاء الذين يمرون بتجربة الوصمة، أما كتابه: الماوي (عام 1961) فقدم فيه تقريرا ميداتيا من مستشفى للأمراض العقلية وتتبع المسلك المهنى للمريض العقلى. وطور جوفمان من دراسة الحالة تلك تفسيراً أكثر عمومية لطريقة عمل المؤسسات الشاملة. ولقد أثرت كلا الدراستان تأثيراً بعيداً فى تطور نظرية الوصم، وأفادت هذه النظرية فى نقد التشكل النظامى، وربما تكون قد تركت تأثيرا على تشجيع عملية التخليص من الحجز.
ولقد أدت كثير من دراسات جوفمان الأخرى والتى تتضمن كتابه مواقف (المنشور عام 1961)، والسلوك فى الأماكن العامة المنشور (1963)، العلاقات فى الأماكن العامة (المنشور عام 1971) إلى دفع موضوعات التحليل المسرحى للحياة الاجتماعية، وقدمت قاموسا لمفهومات سوسيولوجية جديدة والتى ساعدت على فهم التفاصيل الدقيقة للتفاعل المباشر (فى علاقات الوجه للوجه) وهى مفهومات تعالج تفاصيل الحياة الدقيقة كما أطلق عليها أحد المعلقين. و أثرت هذه المفهومات على جيل برمته من الدارسين المهتمين بدراسة الحياة اليومية. ولقد أثارت أعمال جوفمان في نهاية الستينيات اهتماماً متزايداً بالفينومينولوجيا واللغات الاجتماعية. وفى هذاالسياق ظهر كتابه بعنوان تحليل الإطار ( عام 1974)، والذى قدم فيه محاولة لتشريح المبناء التنظيمى للوعى، كما أصبحت اللغويات مجال اهتمام رئيسى فى كتابه صور الكلام (عام 1981).
التأثير والإرث
تأثر غوفمان بهربرت بلامر، وإميل دوركايم، وسيغموند فرويد، وإيرفيت هيوز، وألفريد رادكليف-براون، وتالكوت بارسونز، وألفريد شوتز، وجورج سيمل، ووليام لويد وارنر. كان هيوز «الأكثر تأثيرًا بين معلميه»، وفقًا لتوم بارنز. صرح غاري آلان وفيليب مانينغ بأن غوفمان لم يدخل في حوار جاد مع المنظرين الآخرين. ورغم ذلك أثرت أعماله وناقشها العديد من علماء الاجتماع المعاصرين، بمن فيهم أنتوني غيدنز، ويورغن هابرماس، وبيير بورديو. على الرغم من ارتباط غوفمان غالبًا بمدرسة التفاعل الرمزي للفكر الاجتماعي، لكنه لم ير نفسه كممثل لها، ولذلك خلص فاين ومانينغ إلى أنه «لا يتلاءم بسهولة مع مدرسة معينة من مدارس الفكر الاجتماعي»، وأفكاره أيضًا «يصعب اختزالها إلى عدد من الأفكار الرئيسية»؛ يمكن وصف أعماله بصورة عامة بأنها تطوير «علم اجتماع مقارن ونوعي يهدف إلى إنتاج تعميمات للسلوك البشري».
حقق غوفمان تقدما كبيرًا في دراسة التفاعل المباشر وجهًا لوجه، ووضع «النموذج المسرحي» للتفاعل الإنساني، وطور العديد من المفاهيم التي كان لها تأثير هائل بشكل خاص في مجال علم الاجتماع الجزئي للحياة اليومية. اهتمت العديد من أعماله بتنظيم السلوك اليومي، وهو مفهوم أطلق عليه اسم «ترتيب التفاعل». ساهم أيضًا في المفهوم الاجتماعي للتأطير (تحليل الإطار)، وفي نظرية الألعاب (مفهوم التفاعل الاستراتيجي)، وفي دراسة التفاعلات واللسانيات. وقال في ما يتعلق بالنقطة الأخيرة إنه يجب النظر إلى فعل التحدث كفعل اجتماعي وليس بناءً لغويًا. استخدم غوفمان من المنظور المنهجي في الغالب مقاربات نوعية، على وجه التحديد الإثنوغرافية، واشتهرت بذلك دراسته للجوانب الاجتماعية للاضطراب النفسي، وبشكل خاص عمل المؤسسات المتكاملة. بشكل عام، تأخذ مساهماته قيمتها لكونها محاولة لإنشاء نظرية تشكل جسرًا يربط بين الوكالة والبناء - لتعميم البناء الاجتماعي، والتفاعل الرمزي، وتحليل المحادثة، والدراسات الإثنوغرافية ودراسة أهمية التفاعلات الفردية. امتد تأثيره إلى ما هو أبعد من علم الاجتماع: على سبيل المثال، قدم عمله افتراضات الكثير من الأبحاث الحالية عن اللغة والتفاعل الاجتماعي في مجال التواصل.
تعرف إدارة الانطباع بمحاولة شخص ما إظهار صورة مقبولة لمن حوله بشكل لفظي أو غير لفظي. يعتمد هذا التعريف على فكرة غوفمان أن الفرد يرى نفسه كما يراه الآخرون، لذلك يحاول في داخله أن يرى نفسه كمراقب خارجي. يكرس غوفمان هذا العمل أيضًا ليكتشف الطرق الماكرة التي يقدم بها البشر صورًا مقبولة عن طريق إخفاء المعلومات التي قد تتعارض مع صور مواقف معينة مثل إخفاء الوشوم عند التقديم على عمل يكون فيها الوشم أمرًا غير لائق، أو إخفاء هوس غريب مثل جمع أو التفاعل مع الدمى الذي قد يراه المجتمع برمته أمرًا غير طبيعي.
ويتمثل الإسهام الرئيسى لجوفمان فى توضيح طبيعة النسيج الذى تنتظم به المجتمعات عبر تراكيب من التفاعلات الإنسانية. ولقد طور عدداً من المفهومات التى تساعدنا على أن نرى ذلك، كما أن كتاباته تحدت جفاف علم الاجتماع الذى يعتمد على المناهج الدقيقة والذى يفتقر إلى المادة العيانية. حيث حاول أن يوضح دون كلل أن نظام التفاعل هو الجسر بين الاهتمامات الماكرو والاهتمامات الميكروفى الحياة الاجتماعية وفى علم الاجتماع. وقدمت مقالته الأخيرة بعنوان "نظام التفاعل" (والتى نشرت فى المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع عام 1983 ملخصاً لأفكاره الرئيسية. ولعله من السابق لأوانه أن نقرر ما إذا كانت جل أعماله، التى كانت قوية التأثير فى أثناء حياته، سوف تظل مؤثرة على علم الاجتماع فى المستقبل. أنظر كتاب جيسون دايتون بعنوان: نظرة جوفمان الصادر عام 1980)
الانتقادات
وبالرغم من أن جوفمان كان له أتباع عديدون، إلا أنه ظل متفرداً فى تاريخ علم الاجتماع. فقد كسر كل قواعد المنهجية التقليدية تقريباً: إذ كانت مصادره غير واضحة؛ كما أن عمله الميدانى ظل عند حدوده الدنيا، وكان أكثر احتفاء بالروايات وسير الحياة أكثر من اهتمامه بالملاحظة العلمية، ولم يكن أسلوبه يقوم على كتابة تقرير علمي بل كان أقرب إلى كتابة المقال الصحفي؛ كما أن كتاباته لم تكن متسقة اتساقاً منهجياً. كما أن من الصعب تصنيفه فى موقع معين فى النظرية الاجتماعية. فأحياناً ينظر إليه على أنه يطور مدرسة متميزة للتفاعلية الرمزية، وأحياناً أخرى على أنه صوري Formalist ينسج على منوال جورج زيمل، وأحياناً ثالثة كوظيفى يهتم بالنظام على المستوى المحدود النطاق، وذلك بسبب اهتمامه بوظائف الشعائر (خاصةً الكلام) فى الحياة اليومية. ويبدو أنه كان يمتلك مزاجاً حاداً يصعب التعامل معه، مما أضاف إلى صورته العامة صورة المثقف ذى المزاج الخاص.
ولقد تعرض جوفمان لأكثر مما يستحق من نقد. فبصرف النظر عن صور اللبس المثارة فيما سبق، فقد اتهم بأنه اهمل فى كتاباته الاهتمامات السوسيولوجية الأوسع نطاقا على المستوى الكبير (انظر مادة: الماكرو سوسيولوجيا) والمتعلقة بالبناء الاجتماعى، والطبقة والاقتصاد -وهى تهمة قبلها مؤكداً على أن تلك لم تدخل فى نطاق اهتماماته، وهى أكثر أهمية من اهتماماته. و اتهمه البعض الآخر بالميل نحو النزعة المحافظة، وذلك لتأكيده على أهمية الشعيرة، و النظام، وفى أعماله الأخيرة على هوية النوع، للمحافظة على عناصر المنظام القائم. وصوره ألفن جولدنر فى كتابه "الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربى" على أنه مدافع عن الرأسمالية، وواضح التشاؤم، ومفرط فى اهتمامه بالأشياء التافهة. ومع ذلك فإن البعض قد وجد أعماله تحمل فى طياتها اتجاها راديكالياً، فبما أنها توضح الطابع الهش لروتين الحياة تبدو قريبة للنزعة الفوضوية أو منهجية الجماعة.