نموذج فكري
النموذج أو المثال أو القِياس أو الباراديم (باللاتينية: Paradigma) ويستعمل غالباً مقروناً بالفكر مثل النموذج الفكري أو النموذج الإدراكي أو الإطار النظري. تدل كلمة النموذج - فى الكلام العادى - على مثال تقليدى أو نموذج يمكن تكراره أو اتباعه. ويمتد هذا المدلول إلى الاستخدام الفني للمصطلح الذى طوره فيلسوف ومؤرخ العلوم توماس كون، ومن ثم إلى العديد من مجالات العلوم.
وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة. وقد كانت الكلمة في أول الأمر قاصرة على قواعد اللغة، حيث كان تعريف قاموس ميريام ويبستر للكلمة من ناحية الاستخدام المتخصص لها في قواعد اللغة أو الكتابة الإنشائية كتشبيه أو حكاية. وفي علوم اللغة أيضاً استخدم فرديناند دو سوسور كلمة النموذج (باراديم) لتشير إلى طائفة من العناصر ذات الجوانب المتشابهة.
النموذج الفكري العلمي
أعطى الفيلسوف توماس كون لهذه الكلمة معناها المعاصر عندما استخدمها للإشارة إلى مجموعة الممارسات التي تحدد أي تخصص علمي خلال فترة معينة من الوقت، وقد كان كون نفسه يفضل مصطلحات مثل العلم المعتاد أو النظرية العلمية بالشكل المتعارف عليه، حيث لديها معان فلسفية أكثر تحديداً (في اللغة الإنجليزية)، ولكن في كتابه (بنية الثورات العلمية) قام كون بتعريف النموذج الفكري - البارادايم - على أنه:
- الموضوع الذي يمكن مراقبته ونقده
- الأسئلة التي من المفترض طرحها واستكشافها من أجل الحصول على إجابات فيما يتعلق بالموضوع
- كيف يمكن تحديد هيكل وبنية هذه الأسئلة
- كيف يمكن تفسير نتائج التحريات العلمية
أو بديلا عن ذلك، يعرف قاموس أكسفورد كلمة بارادايم على أنها: (طابع أو نموذج أو مثال) وهكذا فإن المكون الإضافي في تعريف كون لمفهوم البارادايم هو:
- كيف يمكن القيام بالتجربة وما هي الأدوات المتاحة للقيام بالتجربة
وهكذا فإنه في إطار العلم المعتاد، يكون النموذج الفكري هو مجموعة التجارب المتعارف عليها التي من المفترض أن يتم احتذاء حذوها. ويمثل النموذج الفكري السائد طريقة أكثر تحديدا في رؤية الواقع أو حدود ما يمكن تقبله من أبحاث في المستقبل، وذلك أكثر من مجرد المنهج العلمي العام.
أحد أمثلة النماذج الفكرية المقبولة حاليا هو النموذج المتعارف عليه للفيزياء أو علم الطبيعة. قد يسمح المنهج العلمي بالتحريات العلمية التي تتبع القواعد في العديد من الظواهر المتعارضة مع النموذج المتعارف عليه، ولكن يصعب الحصول على تمويل لمثل هذه الأبحاث والتجارب (لعدم سيرها طبقا لما هو متعارف عليه)، وذلك تبعا لمدى بعدها عن نظريات النموذج المتعارف عليه. فعلى سبيل المثال إذا كان موضوع للتجربة اختبار كتلة النيوترينو أو تحلل البروتون (مما يبعد قليلا عن النموذج المتعارف عليه) فإن من المتوقع لها أن تحصل على تمويل أكثر مما إذا كان موضوعها البحث في مخالفة قانون بقاء الطاقة أو ابتكار وسائل للسفر عبر الزمن عكسيا.
هناك مصطلحات مثل التفكير العام / الجماعي Groupthinking أو العقلية Mindset تحمل نفس المعاني وتنطبق على أمثلة أكبر أو أصغر فيما يتصل بالفكر المنظم.
أحد التشبيهات البسيطة الشائعة
هناك تشبيه بسيط للنموذج الفكري - الباراديم بصندوق، وذلك في العبارة الشائعة (التفكير خارج الصندوق)، حيث يماثل التفكير داخل الصندوق العلم المعتاد، حيث يتضمن الصندوق تفكير هذا العلم وبالتالي فإن النموذج الفكري هو الصندوق.
تحليل كون
يلعب مفهوم النموذج دوراً رئيسياً فى تحليل كون للممارسة التى يطلق عليها تعبير "العلم القياسي". ففى الفترات "القياسية" (أى اللاثورية) فى العلم، يسود المجتمع العلمى المعنى كله إجماع حول القواعد النظرية والمنهجية التى يجب أتباعها، والأدوات التى ينبغى استخدامها، والمشكلات الجديرة بالبحث، والمعايير التى يتعين استخدامها فى الحكم على البحوث. وينبع هذا الإجماع من تبنى المجتمع العلمى لإنجازات علمية سابقة كنموذج له. وينطوى التدريب العلمى فى مجال التخصص على زرع الألفة بالنموذج أو عرضه فى الكتب الدراسية. ولكى يكتسب إنجاز علمى مكانة النموذج فلابد له أن يقدم حلولا مقنعة بشكل كاف لمشكلات متفق عليها مسبقا، لكى يجذب انتباه عدد كاف من المتخصصين الذين يشكلون قلب الإجماع الجديد. كما يتعين عليه أيضاً أن يثير عدداً من المشكلات التى لم تتوفر حلول لها بعد، والتى تمثل معينا لطرح مزيد من المشكلات على الممارسة البحثية اللاحقة فى إطار التقاليد البحثية التى نبع منها.
ولقد أحدث هذا المفهوم ثورة فى التفكير فى فلسفة العلوم. فحتى منتصف القرن العشرين، على الأقل فى العالم المتحدث بالإنجليزية، كانت فلسفة العلوم تتم بشكل مجرد بمعزل عن التاريخ أو الحقائق الاجتماعية للممارسة العلمية. وبصفة عامة، فقد خضع النموذج المثالى للعلم (كما يتبدى أحيانا فى عمل السير كارل بوبر، وكان نموذجه ينصب فى الأساس على ما ينبغى أن يكون للتحليل الفلسفى)، والذى تطلبت ملامحه الأساسية معاييرا مميزة تفصل بين العلم وكل من: العلم الزائف، والإيمان الدينى، والميتافيزيقا التصورية وغيرها من الأنشطة التى قد يتصورها البعض أقل مدعاة للاحترام. و لقد كان مؤلف كون الرئيسى "بنية الثورات العلمية" (الصادر خلال السنوات من ١٩٦٢ حتى ١٩٧٠) واحدا من أول المحاولات الناجحة التى طرحت أسئلة فلسفية حول طبيعة المعرفة العلمية من خلال الصياغة المفاهيمية الصارمة لتاريخ العلوم.
ولقد كان تحليل كون بمثابة تحد للادعاءات الذائعة الانتشار حول التقدم العلمى باعتباره تراكما تدريجيا للمعرفة، والرشد العلمى، باعتباره عملية شكلية للملاءمة بين البحث والشواهد. وتتمثل رؤيته البديلة فى القول بعدم استمرارية التاريخ، حيث تقطع حقب الإجماع العلمى القياسى فترات تتسم بالأزمة والثورات الفكرية، التى يشكك بعضها فى أكثر الادعاءات الإبستمولوجية للعلم جذرية. فعلى العكس من التقدم التراكمى التدريجى، تتطوى التغيرات الثورية فى العلم على هجر الكثير من المعارف التى سبق قبولها، والتقدم من خلال التحولات النوعية المفاجئة فى المنظور. وفى مقابل ذلك، يتسم العلم القياسى بعدد محدود من هذه الملامح مثل: الأسلوب الظنى الجرئ، والاستعداد لهجر الادعاءات استنادا إلى الأدلة، وما إلى ذلك من المواقف التى تعزى إلى العلماء المتأثرين ببوبر والفلسفات الإمبيريقية للعلم. ويصف كون الغالبية الغالبة من الأنشطة البحثية فى الفترات غير الثورية من تاريخ العلم بأنها تقدم حلولا روتينية للمشكلات فى ضوء المعايير التى يقدمها النموذج السائد والمتفق عليه.
ولقد ضمن الاهتمام الذى أولاه كون لدور المجتمع العلمى، ومعاييره المشتركة، ودوره فى إنهاء فترات الأزمة الثورية، وتنظيم الاتصالات العلمية، والتعليم، فضلا عن إقرار كون بدور المضغوط فوق المعلمية فى إحداث الثورات العلمية، ضمنت جميعها لعمله أن يتجاوز تأثير ه دوائر الفلاسفة ومؤرخى العلوم ليشمل العلماء الاجتماعيين أيضا. وبالنسبة لعلم الاجتماع، كان عمله ذا أهمية كبرى فى تمكين علم اجتماع المعرفة من أن يوسع من نطاقه ليشمل العلوم الطبيعية. كما كان له أهميته فى المناقشات المتعلقة بتاريخ وطبيعة علم الاجتماع ذاته، ودلالة الافتقار الدائم للإجماع على نموذج واحد فى علم الاجتماع، بسل وكذلك فى العلوم الاجتماعية الأخرى. فهل كان العداء المستمر بين المنظورات المختلفة دليلاً على أن علم الاجتماع ما يزال يمر بمرحلة "ما قبل النموذج" (أى أنه ما يزال فى مرحلة ما قبل العلم)، أم أنه يشير - بالأحرى - إلى أن نموذج الإجماع العلمى غير قابل للتحقيق أبداً، أو أنه غير ملائم لعلم الاجتماع؟ ويلاحظ أنه على الرغم من أن كون يتخذ موقفا مضاداً للنزعة النسبية، فإن الكثير مما ذهب إليه يشير إلى ميل للنزعة النسبية، كما استخدم عمله هذا أولئك الذين كان هدفهم الأساسى الحط من وجهة النظر التى ترى فى العلم شكلاً خاصاً من المعرفة المتسلطة. ولقد ذهب جورج ريتزر إلى القول بان علم الاجتماع علم "متعدد النماذج" (وذلك فى كتابه علم الاجتماع، الصادر عام ١٩٧٥) ودعا بقوة إلى مزيد من التكامل بين النماذج فى إطار علم الاجتماع، وذلك فى كتابه نحو نموذج سوسيولوجى متكامل، المنشور عام ١٩٨١.
قصص مختلفة عن النموذج الفكري
بين دولتين عربيتين توجد ضرائب مرتفعة على أغلب البضائع ففكر أحد الأشخاص ببضاعة ليس عليها ضريبة وهي البرسيم فبدأ يحمل كل يوم برسيم على دباب وينقله للدولة الأخرى. وكان يمر من خلال نقطة الجمارك دون أدنى شك فيه واستمر الأمر لمدة طويلة وبعد التحقيق اكتشف أنه كان يهرب كل يوم دباب. هذا الشخص خرج عن حدود الباردايم لرجال الجمارك فلم يتمكنوا من كشفه.
مثال 2: دُعي أحد الدكاترة لإلقاء محاضرة في مركز للمدمنين عن أضرار الخمر فأحضر معه حوضان زجاجيان الأول فيه ماء والثاني فيه خمر ووضع دودة في الماء فسبحت ثم وضعها في الخمر فتحللت وذابت. حينها نظر الدكتور إلى المدمنين سائلا هل وصلت الرسالة؟ فكان الجواب نعم. اللي في بطنه دود يشرب خمر عشان يطيب !! هذا الدكتور نظر إلى التجربة من خلال باردايمه ولم يحاول الخروج إلى الباردايم الخاص بالمدمنين.
مثال 3: كان أحد السائقين يقود سيارته بهدوء في أحد الطرق المزدوجة والمنحنية وفجأة ظهرت أمامه سيارة في مساره واستطاع أن يتفادها بصعوبة لكن حينما حاذه صاحب السيارة الذي دخل في مساره فتح زجاج السيارة وصرخ بأعلى صوته خنزير! غضب الرجل من هذه الكلمة ونعت ذلك الرجل بأقبح الصفات وبعد أن تجاوز المنحنى تفاجأ بخنزير ميت في الطريق واصطدم به. باردايم هذا الشخص فسر كلمة خنزير أنه شتيمة، بينما كان الشخص الآخر يقصد بذلك تنبيه الرجل ولكنه، لم يستوعب هذه الصورة فكانت النتيجة أنه شتم ذلك الرجل وصطدم بذلك الخنزير.
مثال 4: كان هناك شخص اسمه هاري متخصص في فتح الأقفال والخزانات وجاءه موظف من أحد البنوك الإنجليزية وتحداه أن يفتح خزانته خلال ساعتين، ضحك هاري وقال سأفتحها خلال خمس دقائق .. وبدأ هاري في محاولة فتح الخزانة واستغرق ساعتين ولم يفتحها بعد ذلك يئس من فتح الخزانة واستند على باب الخزانة فانفتح الباب .. لأن الباب كان مفتوحاً بالأصل، لم يكن في باردايم هاري احتمال أن الخزانة مفتوحة وهذه نقطة تسمى في علم البارادايم (العودة إلى الصفر) حيث أن مهارة هاري تساوت مع مهارة أي طفل في فتح الخزانات المفتوحة فلا تتمحور حول باردايم ضيق.
نقلات النماذج الفكرية
تميل النقلات في النماذج الفكرية إلى أن تتخذ طابعا مأساويا في العلوم التي تبدو راسخة وناضجة، كما هو الحال في الفيزياء مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت تبدو الفيزياء في ذلك الوقت تخصصا علميا يقوم بملء آخر التفاصيل في منظومة هائلة، وفي عام 1900 قال اللورد كلفن عبارة مشهورة وهي: (لم يعد هناك المزيد لاكتشافه في الفيزياء الآن، ليس هناك إلا المزيد والمزيد من الدقة في القياسات)، وبعد ذلك بخمسة أعوام، أصدر ألبرت أينشتين بحثه حول نظرية النسبية الخاصة، والتي قامت بتحدي أبسط القواعد التي خطتها الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن، والتي جرى استخدامها لوصف القوى والحركة على مدى أكثر من ثلاثمائة عام، وفي هذه الحالة، قام النموذج الفكري الجديد بتقليص النموذج القديم ليناسب حالة خاصة (وبالنسبة لميكانيكا نيوتن فقد كانت مناسبة فقط للوصف التقريبي عند سرعات بطيئة مقارنة بسرعة الضوء).
وفي كتابه (بنية الثورات العلمية)، كتب كون: (التحول المتتالي من أحد النماذج الفكرية إلى نموذج آخر من خلال الثورة هو طابع التطور المعتاد للعلم الناضج) ص 12. وكانت فكرة كون نفسها ثورية في وقته، فقد تسببت في تغير كبير في الطريقة التي يتحدث بها الأكاديميون عن العلم، وهكذا فقد كانت في حد ذاتها نقلة في تاريخ وسوسيولوجية العلم.
وقد تقبل فلاسفة ومؤرخو العلوم في نهاية المطاف بما فيهم كون نفسه نسخة معدلة من نموذج كون، مما يخلق نظرة جديدة لنموذج متدرج يسبقها، وحاليا ينظر إلى نموذج كون على أنها قاصر جدا.