جون ديوي
جون ديوي (بالإنجليزية: John Dewey) (1859 - 1952م) هو وفيلسوف وعالم تربوي وعالم نفس أمريكي وناقد اجتماعي وزعيم من زعماء الفلسفة البراغماتية، ويعتبر من أوائل المؤسسين لها. ولد في 20 أكتوبر عام 1859 وتوفي عام 1952، أي أنه عاش عمراً يقترب من قرن كامل كان فيه واحداً من أبرز الفلاسفة فى أمريكا، كما كان صاحب الفضل فى تطوير وتدقيق الفلسفة البراغماتية. ويقال أنه هو من أطال عمر هذه الفلسفة واستطاع أن يستخدم بلياقة كلمتين قريبتين من الشعب الأمريكي هما "العلم" و"الديمقراطية".
كان أحد الفلاسفة الأوائل الذين تأثروا بعلم النفس وبنظرية التطور التي وضعها عالم الطبيعيات البريطاني تشارلز داروين. وكان ديوي أحد رواد الحركة المعروفة بالذرائعية، من بين الأمور الأخرى، اعتقد بأننا نستخدم الذكاء لنتغلب على صراع أو تحد وأن التجربة أمر حيوي من أجل الحياة.
وبعد أن رفض أغلب الفلسفة الماهيوية (الجوهرية) والأوربية الكلاسيكية، أكد على أهمية ربط النظريات بالمشاركة الفعالة فى الحالم، وبمنهجية حل المشكلات العملية (أى الذرائعية). ولقد كانت أعماله تجسيداً لمدخل حل المشكلات الأمريكى الشمالى والتى أصبحت ذات تأثير بالغ فى نظريات التعليم التقدمية. من ذلك مثلا تأكيد ديوى فى كتابه: الديموقراطية والتربية، الصادر عام 1916 على أهمية التعليم المتمركز حول الطفل، حيث تعد خبرات الأطفال ذات قيمة فائقة فى توصيف المشكلات وتحديدها، وأن الاستمرار المتأمل لتلك الخبرات يتيح للطفل أن يتحكم بدرجة متزايدة فى حياته.
يعتبر جون ديوي من أشهر أعلام التربية الحديثة على المستوى العالمي. ارتبط اسمه بفلسفة التربية لأنه خاض في تحديد الغرض من التعليم وأفاض في الحديث عن ربط النظريات بالواقع من غير الخضوع للنظام الواقع والتقاليد الموروثة مهما كانت عريقة. فهو الأب الروحي للتربية التقديمية أو التدريجية وهو من أوائل الذين أسسوا في أمريكا المدارس التجريبية بالاشتراك مع زوجته في جامعة شيكاغو 1896 – 1904, وهو فيلسوف قبل أن يكون عالما في مجال التربية والتعليم.
التعليم التقدمي أو التدريجي هي حركة نمت وتطورت من محاولات إصلاح التعليم الأمريكي بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، وتعود جذورها إلى فلاسفة عصر النهضة، وبالأخص الفيلسوف التربوي جان جاك روسو وكذلك يوهان بستالوزي وفريدريك فرويبل. وهذه الظاهرة قد احتضنت وشملت المجالات الزراعية والاجتماعية والتعليمية، وقد طالت هذه النظريات التعليمية التطور الصناعي الجديد أيضا، تؤكد نظرية التعليم التقدمي على استمرارية إعادة بناء الخبرة الحياتية وتضع تربية الطفل في مركز الاهتمام.
ديوي ذكر أن على المدرسة أن تعكس مستوى التطور الاجتماعي، وقد أحدثت هذه النظرية تأثيراً دائماً على المدارس الأمريكية. ومن الجدير بالذكر أنه ظهرت حركات تعليمية مشابهة في أوروبا ومتأثرة بأفكار ديوي كما وأنه قد تأثّر أيضا ببعض أساليب التربية الأوروبية مثل أسلوب الصف المفتوح (open classroom) وكذلك بنظريات الإصلاح التربوي الذي دعت أليه المربية والفيلسوفة الأيطالية ماريا مونتسوري والتي تأثرت بأفكارها دور الحضانة السويدية، ولا زال تأثيرها ساري المفعول إلى هذه اللحظة.
حياته
ولد جون ديوي بمدينة برلنجتون Berlington بولاية فيرمونت في الولايات المتحدة الأمريكية في 20 أكتوبر سنة 1859.
تلقى تعليمه في عدة جامعات عديدة، حيث التحق بجامعة فيرمونت Vermont في سنة 1875، وعلى الرغم من اهتمامه بالفلسفة أثناء دراسته في تلك الجامعة، فإنه كان متردداً غير مستقر الاتجاه في الدراسة، وبعد تخرجه صار مدرساً للكلاسيكيات والعلوم والجبر في مدرسة ثانوية في Oil City (ببنسلفانيا) من سنة 1879 الى سنة 1881، بعدها عاد إلى Berlington حيث واصل التدريس. ثم التحق بالدراسات العليا بجامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins حيث تعلم على يدي تشارلز سوندرز بيرس C. S. Pierce أستاذ المنطق في تلك الجامعة، وهل G. S. Hall اول أمريكي عني بالتجريب في علم النفس. لكن تأثره الأساسي في الفلسفة كان بمورس G. S. Morris الذي كان متأثراً بهيجل وينزع منزعاً مثالياً، ولهذا نجد ديوي قد مر بفترة هيجلية مثالية كان أبانها شديد الحماسة للاصلاح الاجتماعي.
وبعد أن حصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1884 من جامعة جونز هوبكنز برسالة عن "علم النفس عند كنت"، عمل مع مورس Morris في جامعة ميشيغان في سنة 1884، حيث بقى فيها طوال عشر سنوات. وفي أثناء عمله أستاذاً في جامعة ميشيغان تغيرت نظرته وضاق ذرعاً بالمثالية، واتجه بفلسفته اتجاهاً عملياً، ورأى أن مهمة الفلسفة ينبغي أن تتناول شؤون الانسان العملية.
وفي سنة 1894 انتقل إلى جامعة شيكاجو التي تأسست وقتئذ وعين فيها رئيساً لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وهناك أنشأ ما يعرف باسم "معمل ديوي"، وذلك للقيام بتجارب في علم النفس والتربية لتحقيق فروضه. ثم ترك جامعة شيكاغو إلى جامعة كولومبيا في سنة 1904، حيث بقي حتى تقاعده في سنة 1930. وبين سنة 1919 وسنة 1921 ألقى محاضرات في طوكيو وبكين ونانكين (في الصين).
ألف كتباً عديدة في الفلسفة والتربية. وظل نشيطاً وافر الإنتاج حتى وفاته في الأول من يونيو سنة 1952.
فلسفته
نحو المجتمع
كان ديوي يطمح لبناء مجتمع ديمقراطي وفلسفة علمية لوضع توازن بين قيمة الفرد مع قيمة الجماعة والمجتمع. ويرى ديوي ان النظام الصحيح هو الذي يحقق المرونة في علاقة الفرد بالمجتمع الذي ينتمي اليه ويعيش فيه، وقد تجلت عبقرية جون ديوي بربط واع بين التربية والمجتمع والحياة. كما أكد على العلاقة الوثيقة بين التقدم العلمي والنظام الديمقراطي ولقد استفادت أمريكا من افكاره في موضوع التربية وجذب العقول واستقطاب كل علماء الأرض، ويعتبر الفلسفة هي سلطة تشريعية مهمتها نقض القيم الحاضرة واقتراح قيم جديدة تواكب التغيرات الحاصلة في الحياة. ومن مهمة الفلسفة أيضا تفسير نتائج العلم الاختصاصي.
نحو التربية
شهرة ديوي عالماً بالتربية أكبر من شهرته فيلسوفاً. وقد عرض آراءه في التربية في مؤلفات عديدة، وربما كان أحراها بالذكر كتبه التالية «عقيدتي التربوية» My Pedagogic creed (سنة 1897)، «المدرسة والمجتمع» (شيكاغو سنة 1900)، «الطفل والبرنامج» ( سنة 1902)، ولكن أهمها هو: «الديمقراطية والتربية»(نيويورك، سنة 1916).
في آرائه التربوية هاجم ديوي على السواء: التصور السائد في المدارس الاميركية في أواخر القرن التاسع عشر واوائل هذا القرن، القائل بأن الطفل كائن سلبي، ومهمة التربية والتعليم هي فرض المعارف على ذهنه. كما هاجم النظرة الجديدة في أوروبا والمضادة لهذه، والقائمة على التمجيد العاطفي للطفل، فكانت تدعو إلى ترك الطفل يلتقط ويختار بنفسه ما يهوى من معلومات ودراسات. ورأى ديوي أن كلتا النظرتين قائمة على علم نغس فاسد خاطىء: فالنظرة الأولى أفرطت في الاستهانة بذكاء الطفل الفطري، والثانية غفلت عن أن الطفل لا يزال في دور غير ناضج. ومن ثم رأى ديوي ان التربية ينبغي أن تتولى الانتقال بالطفل والبالغ من تجربة غير ناضجة إلى تجربة أنضج قائمة على ذكاء الطفل أو البالغ ومهاراته. ووضع ديوي شعاراً لمذهبه التربوي العبارة التالية: «تعلم بأن تعمل» Learn by doing. بيد أنه لم يقصد بهذا صرف التربية والتعليم عن التزويد بالعلوم والمعارف، بل لفت الانتباه إلى هذه الواقعة وهي أن الطفل مخلوق مولع بالنشاط، محب للاستطلاع والاستكشاف. والطفل ليس قابلاً للتشكيل كما يشاء المربي، وليست استعداداته ومواهبه ثابتة ومحددة كذلك . بل، كما قال أرسطو قبله، وظيفة التربية هي تشجيع العادات ولاعدادات التي تكون الذكاء.
بالنسبة له، تطورت الحياة وأصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا صناعيا، ويجب أن تكون المدرسة مجتمعا صغيرا تدب فيها الحياة. فلقد دعى ديوي إلى التربية المستمرة التي لا تتوقف عند سن معين. فهي من المهد إلى اللحد وليست جرعة تعطى مرة واحدة وإلى الأبد بل هي بحاجة إلى الاستمرار لأن العلم لديه دائما شيء جديد يوافينا به. ونظرته نحو التربية ترتكز على التعلم من خلال العمل والعمل اليدوي وحل المشاكل بطريقة سيكولوجية دون جرح مشاعر الطلاب وأن المدرسة هي مختبر وليست قاعة محاضرة. ويرفض ديوي نظرية جون لوك التي ترى بأن "الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء خالية من الكتابة". فالعلاقة الصحيحة، برأي ديوي، قائمة على التفاعل وهذا يعني أن طريقة التدريس الملائمة هي التي تعتمد على الحوار وحل المشكلات والتعلم الذاتي. والفكر الحقيقي يبدأ من موقف اشكالي و من عقدة أو عقبة تعترض مجرى التفكير فالطبيعة تتغير باستمرار وتغتني وتزداد ثراء وتغير الفكر معها وهكذا فان العملية مستمرة فلا حقائق مطلقة ولا المعرفة ثابتة فكل شيء يعتريه التغير.
نحو حل المشاكل
ولقد وضع ديوي كتابا سماه "كيف نفكر وكيف نحل المشاكل" ووضع خمس مراحل لحل أي مشكلة وهي:
- الشعور بالمشكلة
- تعريف المشكلة وتحديدها
- وضع الفرضيات واقتراح الحلول
- التحقق من التجربة أي اختبار الفرضيات
- الوصول إلى النظرية والتعميم.
الأفكار أدوات
ديوي يؤكد أن المعرفة مستمدة كلها من التجربة. والتفكير ليس من طراز يختلف عن الادراك الحسّي. والأفكار استباقات للأدراكات الحسية. والأشياء هي كما تدركها الحواس فقط. وتوجد كما تدرك في التجربة. ووظيفة التفكير الأولى ليست بناء أفكار وصور عامة من ادراكات نتذكرها أو استنباط مواقف عامة بطريقة عامة. والأفكار تولدها الظروف.
ولهذا يرى أن الفلسفة لم تنشأ عن مادة عقلية، أي عن مجرد التفكير النظري في مشاكل الوجود والكون والإنسان، بل كانت محاولة للتوفيق بين المعتقدات المنقولة والشائعة وبين التبرير العقلي لها. «ولو بدأ المرء، دون تحفظات عقلية، في دراسة تاريخ الفلسفة، لا على أنه شيء مستقل منعزل، بل على أنه فصل من فصول تطور ونمو الحضارة، ولو ربط بين تاريخ الفلسفة ودراسة الانثروبولوجيا والحياة البدائية وتاريخ الدين والأدب والنظم الاجتماعية - فمن المؤكد أنه سيصل الى حكم مستقل على قيمة ما قلناه. ولو نظر إلى تاريخ الفلسفة على هذا النحو لاتخذ معنى جديداً . . . وبدلاً من منازعات المتنافسين حول طبيعة الحياة الواقعية، يكون لدينا منظر التصادم الإنساني من الهدف الاجتماعي والمطامح. وبدلاً من المحاولة المستحيلة لتجاوز التجربة، يكون لدينا تسجيل مفيد لمحاولات الانسان التعبير عن أمور التجربة التى ترتبط بها ارتباطاً وجدانياً عميقاً. وبدلاً من المحاولات النظرية البحتة غير ذات الشخصية للتأمل كشاهدين بعيدين، في طبيعة الأشياء، في ذاتها المطلقة، ستكون لدينا صورة حية لاختيار الإنسان المفكر - عما يرى أن تكون عليه الحياة، وأية غايات ينبغي على الناس أن يستهدفوها لتشكيل نشاطهم العقلي.» إن علينا أن نفهم أن «الفلسفة، تحت قناع أنها تبحث في الحقيقة المطلقة، إنما كانت فعلاً تهتم بدراسة القيم السابقة الراقدة في النقول الاجتماعية Social Traditions، وHنها نشأت من الصراع والتصادم بين الغايات الاجتماعية ومن تنازع المؤسسات الموروثة مع الميول المعاصرة - نقول: إذا تبين كل هذا، فهنالك سيتبين أن مهمة الفلسفة في المستقبل هي أن توضح أفكار الإنسان عن النزاعات الاجتماعية والأخلاقية في زمانهم. وهدفها أن تكون - قدر الطاقة الإنسانية - أداة لمعالجة هذه النزاعات» ( من محاضرة بعنوان: «إعادة البناء في الفلسفة») .
وهذه النظرة إلى مهمة الفلسفة مستمدة من نظرية ديوي في المعرفة، ومفادها أن الانسان بدأ يفكر ابتغاء أن يعيش ويبقى في قيد الحياة ويحسن أحواله المعيشية. يقول: «إن التفكير يتبع الكفاح، والفعل يتبع التفكير». ذلك لأن الانسان لا يفكر إلا اذا كانت لديه مشكلة يحاول التغلب عليها. ولو لم تكن لديه مشاكل، لكانت حياته عارية عن التفكير.
و بالجملة يلاحظ:
أ) أن التفكير لا يبدأ إلا حيث توجد مشكلة، أو اختلاط أو شك، ويراد حلها. فالتفكير ليس مجرد عملية احتراق تلقائي: إنه لا يوجد إلا حيث تكون هناك حاجة ومناسبة تدعو اليه.
ب) أن التفكير ليس أمراً عشوائياً وبلا هدف. فالتأمل لا ينمو فقط من مجرد الحاجة أو الاشكال، بل يميل دائماً إلى الاشكال والحاجة. والحاجة إلى حل مشكلة هي العامل المرشد دائماً في عملية التفكير. وما يساعدنا على التفكير ليس هو الهدوء والسكون، بل التحرك نحو هدف. وتركيز العقل على موضوع يشبه التحكم في السفينة كي تتخذ طريقاً معيناً. وهذا يقتضي تغييراً مستمراً للوضع مع وحدة التوجيه.
ج) والوظيفة الأولى للتفكير هي حل المشكلة التي نواجهها، وإيضاح الغموض والاختلاف، والإجابة عن السؤال الماثل في ذهننا، ونحن نتوقف عن التفكير إذا ما حلت هذه المشكلة. ولن نفكر بعد أو نستأنف التفكير إلا إذا عرضت مشكلة جديدة، أو ظهر موقف محير جديد.
وما دام الأمر كذلك، فإن الأفكار هي أدوات instruments تنجز بها بعض النتائج المرغوب فيها. إنها تساعدنا على أن نعمل شيئاً، أو نفعل على وجه افضل، أو أكثر ذكاء، او أقرب إلى النجاح - خيراً بما لو كنا نعتمد على الغريزة أو الاندفاع وحدهما . يقول: «إن الأفكار ليست تكون أفكاراً حقيقية إلا إذا كات أدوات نستعينها في حل المشاكل. والفكرة -من الناحية المنطقية - ليست إدراكاً شاحباً لشىء ما، وليست مركباً من عدد من الاحساسات. إن الرجل المتوحش قد يكون قادراً على تكوين صورة عن الأعمدة والأسلاك، ولكن إذا لم يعرف شيئاً عن التلغراف، فلن تكون لديه فكرة أو على الأقل فكرة صحيحة، عن الأعمدة والأسلاك. ذلك أن الفكرة لا يمكن، عقلياً، أن تنحدر بتركيبها، وأنما تتحدد فقط بوظيفتها وفائدتها. وفي المواقف المريبة أو غير المحددة، ما يساعدنا على تكوين الحكم وعلى الاستنتاج بواسطة استباق حل ممكن - هو فكرة، وليس شيئاً آخر. إنها فكرة بفضل ما تفعله من إيضاح شكل أو التنسيق بين ما هو متناثر شذرات، لا بفضل تركيب طبيعي»(«كيف نفكر»ص 101-102، نيويورك سنة 1933).
وليست مهمة الأفكار الانهماك في التعميمات بل الاستجابة للمواقف الناشئة عن مشاكل: وبقدر ما تكشف عن أنها فعالة، وأدوات ناجحة في علاج هذه المشاكل، فإنها تكون أوفر حظاً من الحقيقة أو الصحة.
والفكرة إذا تلعثمت في معالجة موقف أو مشكلة، توصف بأنها فرض hypothesis. إنها تتردد بين «إذا» و«ربما» . إنها مجرد اقتراح وحزر conjecture لكهنا تتحون إلى «حقيقة واقعية» fact إذا توقفت عن التردد والترجح وصارت فعالة.
نسبية المعرفة وسيلان الحقيقة
وتبعاً لهذا كله، فإن الأفكار تدور مع المشاكل والمواقف والظروف الاجتماعية. ولهذا فإن معايير المعقولية تتوقف على الأحوال الاجتماعية للعصر الذي تقال فيه الأفكار، إذ هي تمثل أنجح التجارب في التفكير إبان عصر أو فترة، ولقد تطورت الأفكار وتغيرت لأنها عملت وفعلت، وسلطانها هو في قابليتها وقدرتها على أن تكون أدوات تساعد على حل المشاكل الطارئة، في ذلك العصر. وربما لو تغيرت الظروف والمواقف لصارت عديمة الجدوى أو قليلة الفعالية. وما علينا حينئذ إلا اطراحها .
وعلينا أن نهتم بالحاضر، ونطرح الماضي ظهرياً. ولا يملين الماضي علينا ما ينبغي أن نفعله في الحاضر. صحيح أن بعض الماضي لا يزال حياً، لكن ما لا يزال حياً من الماضي هو فقط ما يقبل التطبيق اليوم. وصلاح أمور في الماضي لا يبرر صلاحها في الوقت الحاضر. ومن حقنا وحدنا نحن أبناء اليوم أن نحكم على صلاحها بالنسبة إلينا. ويجب علينا ألا نتردد في نبذ كل ما نراه غير صالح لنا اليوم مما ورثناه عن الماضي.
وينبغي أن تكون الحقائق من المرونة بحيث تقبل التعديلات التي تقتضيها الظروف والمواقف الجديدة. وحذار من الحقائق الجامدة المتصلبة الثابتة. والنظريات والمعتقدات إذا ما تجمدت وتصلبت وامتنعت من التعديل والتلين، فإنها تصبح عقبة وخطراً على التقدم، كما يحدث للمعتقدات والنظريات التي تصير تقاليد وعقائد جامدة وتشريعات صلبة. ولهذا ينبغي علينا أن نعمل على تجديد النظريات والمعتقدات وجعلها متلائمة مع مطالب العصر، لتجديدها وصقلها وتنظيفها باستمرار لتصير نافعة وإلا كانت ويلا على أصحابها.
الاصلاح والأخلاق
ومن هنا نرى ديوي متحمساً للاصلاح، والتغيير، لانه يرى أن العالم مليء بالنفايات وما لا حاجة بعد بالانسان إليه.وفي كتابه «الطبيعة الإنسانية والسلوك» (سنة 1922) ينقد ديوي أخلاق الماضي لأنها كانت تقوم، بوجه عام، على قواعد تحكمية أولى من أن تقوم على فهم علمي للإنسان. ذلك أنها، في مجموعها، تريغ إلى التقييد والتحريم، مقصورة على ما ينبغي تجنبه دون أن تهتم بما ينبغي فعله. لهذا لم يؤمن بها إلا القليلون، والغالبية لم تطبقها أو اكتفت بالإشادة بها دون تنفيذها. ولجأت إلى نظريات تتجنب هذه الأخلاق، ومن تلك النظريات نظرية الرومنتيك في تمجيد الدوافع العاطفية وإهمال البراهين العقلية والمعرفة العلمية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى صدع في النظرة إلى العالم بين ماهو متخيل وما هو واقعي. ولذا يرى ديوي أنه لإصلاح هذه الحال لا بد من الاعتماد على المعرفة العلمية وحدها. إن الحياة الأخلاقية تجري في عالم هو طبيعة ومجتمع معاً. والطبيعة الانسانية متصلة بسائر الطبيعة، ونتيجة لهذا فإن علم الأخلاق وثيق الصلة بعلم الفيزياء وعلم الأحياء (البيولوجيا). ولما كان نشاط الفرد مرتبطاً بنشاط أفراد آخرين، فإن علم الأخلاق وثيق الصلة أيضاً بالعلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع، والقانون والاقتصاد. وأفعال الانسان مرتبطة بعاداته. والعادات في نظر ديوي هي بمثابة وظائف نفسية، إذ كلتاهما تحتاج إلى تعاون الجهاز العضوي والبيئة.
والرذائل والفضائل ليست ممتلكات خاصة بالشخص، بل هي ناتج التفاعل بين الطبيعة الإنسانية والبيئة. يقول ديوي: «كل الفضائل والرذائل عادات تتجسد قوى موضوعية».
والعادات السيئة هي ميول للفعل تسيطر علينا، ولكننا اكتسبناها في الغالب دون وعي، وقصد واع. ولما كانت تأمر فإنها أرادة. ويريد ديوي بهذا أن يغير المفهوم التقليدي للأرادة وهو أنها ملكة مستقلة اذا مورست فإن صاحبها يمكن أن يفعل ما يريده. ذلك لأن الشخص الذي عنده عادة سيئة ليس هو الشخص الذي يخفق في عمل الشيء الصالح فقط، بل إنه شخص تكونت لديه عادة فعل الأمور السيئة. والعادات لا يمكن التخلص منها بمجرد مجهود من الأرادة، كما أن المطر لا يسقط بمجرد القيام بنوع معين من الرقص (كما يعتقد البدائيون). فكما أنه يجب على الإنسان أن يدرس الأحوال المؤدية إلى سقوط المطر، كذلك عليه أن يدرس الأحوال المؤدية إلى نشوء العادات واستمرارها. ولا يمكن فصل العقل ولا الإرادة عن العادة.
وقد ظن بعض الناس أن النظم الاجتماعية هي ناتج عادات فردية. لكن ديوي يرى عكس ذلك ويقرر أنها مصدر معلوماتنا عن العادات بمعنى أن الفرد ينبغي عليه أن يتخذ من العادات ما يتفق مع عادات المجتمع الذي يعيش فيه. وهذا هو ما يفسر معنى ألفاظ مثل: عقل الجماعة Group mind، عقل جماعي collective mind، عقل الجمهور crowd mind. إنها لا تعني أكثر من «عادة بلغت في نقطة ما درجة الوعي الصريح القوي، الانفعالي أو العقلي» .
وبالجملة فإن «الوقائع الأولية لعلم النفس الاجتماعي تتركز حول عادة أو عرف جماعي».
المنطق، نظرية البحث
ولديوي كتاب بعنوان: «المنطق، نظرية البحث» - وهو عنوان مضلل تماماً، إذ لن يجد فيه القارئ شيئاً من المباحث المألوفة في كتب المنطق. ولا نفهم ماذا حمله على استخدام اصطلاح معروف محدد مثل «المنطق» ليطلقه على ما يسوقه من أبحاث في هذا الكتاب!.
على كل حال، فإن ديوي إنما يقصد أن يبين الخطوات التي يخطوها من يقوم بالبحث بوجه عام. فيقرر أن عملية ما يسميه «البحث» تتضمن الخطوات التالية:
١ - قيام موقف غامض غير محدد، ووجود حالة اضطراب في التوازن بين جهاز وبين البينة امحيطة به،
٢ - قيام مشكلة، وتغير الموقف من الغموض إلى الاشكال، نتيجة لاهتمام الباحث،
٣- وضع فرض، واستباق نتائج بعض العمليات،
٤- استنباط نتائج الفرض،
٥ - انهاء البحث بأقرار نتيجة من شأنها أن تحدد الموقف.
و«البحث» في نظره هو«التحويل الموجه المرسل لموقف غير محدد إلى موقف محدد», والبحث ينبثق من مقدمات بيولوجية وظروف محيطة حضارية (أو فكرية) Cultural.
تأثيره
عجت حياة جون ديوي بالنشاط والحركة، حيث تعدى تأثيره الولايات المتحدة الأمريكية وامتد إلى بقية العالم فترجمت كتبه إلى لغات عديدة واستشارته الحكومة الروسية عقب ثورتها ليضع نظامها التعليمي على اسس تقدمية، وزار محاضرا كلا من اليابان والصين وتركيا والمكسيك. كانت لنظرياته وطرائقه أعمق الاثر في توجه التربية في سائر الأمم الناطقة باللغة الإنكليزية والمتأثرة بثقافتها.
وقد نقل متري قندلفت إحدى كتب ديوي إلى العربية باسم «مدرسة الغد».