اللغة والمنطق

اللغة والمنطق (بالإنجليزية: Language and Logic) هما موضوعان شائعان في الفلسفة. يتعلق المنطق بالتفكير والاستنتاج، بينما تتعلق اللغة بالتواصل والتفاهم. يمكن أن يساعد فهم اللغة والمنطق في تحسين التواصل والفهم بين الأشخاص، ويمكن أيضًا استخدامهما لتحليل الأفكار والحجج.

من أكثر مجالات الدراسة في العلوم الإنسانية نشاطاً في هذه الأعوام الأخيرة علم اللسان العام خصوصاً Linguistique générale بفضل النزعة التركيبية، التي وإن بدأت في الثلاثينات، فإنها لم تأخذ تمام نضوجها إلا في الستينات من هذا القرن.

ثم إن العلاقة بين اللغة والمنطق كانت موضوع دراسة موسعة بفضل جورج إدوارد مور وبرتراند رسل ومن سار في أثرهما، وعلى رأسهم لودفيغ فيتغنشتاين ودائرة فيبنا بعامة، ونخص منها بالذكر رودلف كرنب الذي توفي في شهر أكتوبر سنة 1970.

جورج إدوارد مور

أكد جورج إدوارد مور أهمية تحليل اللغة من أجل إيضاح المشاكل الفلسفية وإطراح الزائف منها في ظنه، وبالغ في هذا الاتجاه حتى قال: «يبدو لي أن الصعوبات والخلافات التي يزخر بها علم الأخلاق وسائر الدراسات الفلسفية ترجع في الغالب إلى سبب بسيط جداً ألا وهو: محاولة الإجابة عن الأسئلة الموضوعية دون أن يكتشف بالدقة ما هو السؤال الذي يراد الجواب عنه. ذلك أنه يصدر في تفكيره عن هذا الفهم للفلسفة، وهو أن غايتها ليست اكتشاف حقائق لم نكن نعرفها من قبل، بل إيضاح ما نعرفه من قبل. ومن أهم وسائل هذا الإيضاح: تحليل اللغة. على أنه - والحق يقال - لم يصل إلى درجة إنكار أية مهمة أخرى للفلسفة، كما سيفعل رجال الوضعية المنطقية في مبالغاتهم الفجة، كما لم يدع أن تحليل الغة كافٍ للجواب عن المشاكل الفلسفية كما يزعم الوضعيون المنطقيون أيضاً، وإنما هو يرمي إلى الكشف عما يريده الفيلسوف حين يقرر قضية أو مبدأ، وما هي الأسباب التي تدعونا إلى افتراض أن ما قرره صحيح أو فاسد. ومن أجل هذا يبين الأنماط المختلفة للقضايا، أو مختلف مسائل موضوع البحث، وما هي أنواع الأسباب التي تفيد في تأييد، أو تفنيد، قضية ما، ومعياره في تحديد ذلك هو ما يسميه باسم «الإحساس العام»، ومعيار الإحساس العام بدوره هو «إجماع الرأي». وهو يقدم ثبتاً موقتاً لما يقرره الإحساس العام بيقين، مثل: إننا نعرف بيقين أنه «يوجد أعداد هائلة من الأشياء المادية»، وأنه «يوجد أعداد هائلة من أفعال العقل أو أفعال الشعور»، أو أن التفكير والإحساس يتوقفان على أبداننا، أو أن الأشياء توجد في زمان ومكان، أو أن الأشياء توجد ولو لم نعلم أو نشعر بوجودها. ويسوق مثلاً على ما فيه خلاف في الحس العام، فيقول: «كثير من الناس اعتقدوا ولا يزالون يعتقدون أن ثم إلهاً، ومن الممكن أن نعد هذه القضية اعتقاداً من اعتقادات الإحساس العام. ومن ناحية أخرى نجد كثيراً من الناس يعتقدون الآن أنه حتى لو وجد إله، فإننا لا نعلم علم اليقين أنه واحد، وهذا أيضاً يمكن أن يعد معتقداً للإحساس العام. وبالجملة، أحسب أن الأولى أن يقال أن الإحساس العام ليس له رأي فيما يتعلق بمعرفة هل يوجد إله أو لا يوجد، أعني أنه لا يؤكد ذلك، ولا ينفيه، ولهذا فإن لإحساس العام ليس له رأي في الكون بوصفه كلاً».

ومن السهل الرد على مور في دعواه هذه بأن يقال أنه لا يوجد إجماع على شيء وبأنه حتى لو بدا إجماع في الظاهر على قضية ما، فلربما كان - بل هذا هو الواقع - ذلك الإجماع عن تفاوت في فهم مدلول القضية. فمثلاً القول التالي: «الأرض وجدت منذ سنوات عديدة خلت» - يتوقف الأمر في تصديقه أو تكذيبه على المفهوم من الألفاظ: أرض - وجدت - سنوات: إن قصدت كذا وكذا، فرأيي هو كذا أو كذا. لكن مور ينكر الأشكال ويقول: «يبدو لي أن هذا الرأي خطأ أشد ما يكون الخطأ ذلك أن هذا التعبير: «الأرض وجدت منذ سنوات عديدة خلت» - هو النموذج الأصدق للقول المحدد، ونحن نفهمه جميعاً على سواء.

وتبعاً لهذه النزعة يرى مور أن اللغة العادية تفيدنا في تحديد ما يعتقده ويؤيده الإحساس العام، ومن هنا نراه يتخذ منها معياراً لمعنى القضايا. ويصل من هذا - فيما يحسب - إلى بيان أن كثيراً من المشاكل التي حيرت الفلاسفة ترتد بعد التحليل إلى مشاكل خاوية من كل معنى، ذلك أننا في صياغتنا لهذه المسائل ألفنا بين عبارات تتنافى مع استعمالاتها في اللغة العادية، مع أنها لا معنى لها إلا بفضل هذه التعبيرات. فلما هوجم رأيه هذا على أساس أن اللغة العادية حافلة بالتعبيرات المشتركة، وأنها عاطفية، انفعالية، ولا تعبر بدقة عن الفكر المنطقي، وأن نموها وتطورها لم يخضع لاعتبارات عقلية منطقية، بل لاعتبارات لاواعية على مدى التاريخ اللغوي للغة ما - راح يعدل من رأيه ويقول: «حينما تحدثت عن تحليل شيء ما، فإن ما قصدت تحليله هو تصور أو قضية، وليس التعبير اللفظى عنها» . ويقر صراحة بأن اللغة العادية في كثير من الأحوال تخطيء في التعبير، «فاللغة لا تعطينا وسيلة للإشارة إلى موضوعات مثل «أزرق»، و«أخضر»، و«حلو» - إلا بأن تطلق عليها اسم «إحساسات» . وهذا هو ما يضللنا حينما نحاول أن نفكر في العلاقات بين الشعور وبين موضوعات الشعور. ويؤكد أنه «من الغريب جداً أن اللغة قد نمت وكأنها وضعت صراحة من أجل تضليل الفلاسفة، ولا أدري لماذا كان عليها أن تفعل ذلك. ولكن يبدو لي أنه لا شك في أنها في كثير من الأحوال قد فعلت ذلك».

وهكذا انتهى مور إلى الإقرار بفساد المبدأ الذي دعا إليه، وهو استخلاص الحقائق من اللغة العادية بوصفها مستودع آراء الإحساس العام.

برتراند رسل

بدأ رسل فقد بدأ باتخاذ موقف مور، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه «مبادئء الرياضيات» (سنة 1903)، بأن أطرح مذهب برادلي Bradley - ممثل الهيجلية الجديدة في إنجلترا - الذي رأى أن كل ما يعتقده الإحساس العام هو مجرد ظاهر لا حقيقة له، وذهب، كما ذهب مور، إلى أن كل ما يرى الإحساس العام - غير متأثر بالفلسفة أو اللاهوت - إنه واقعي فهو واقعي. غير أنه ما لبث أن عدل في هذا الموقف بعدما تبين له سذاجته، واستقر به الرأي إلى أن ما يقول به الإحساس العام هو شكل فج من المعرفة العلمية خال من كل نقد، ورأى رسل أن مهمة الفلسفة هي التحليل الذي يفحص - بصبر واستدال تفصيلي - عن الأفكار ويوضحها. غير أنه وإن دعا إلى التجريبية Empiricism فإنه عارض في التجريبية المحض التي تدعو إليها الوضعية المنطقية. ويقرر: «أننا نؤمن إيماناً راسخاً أننا نعرف أشياء تنكرها التجريبية المحض. ولهذا ينبغي علينا أن نبحث عن نظرية في المعرفة غير التجريبية المحض». وفي مقال له مشهور نشره في مجلة «الميتافيزيقا والأخلاق» المشهورة في فرنسا يقول: «ينبغي أن يلاحظ أن المعرفة الرياضية تحتاج إلى مقدمات لا تقوم على الوقائع المحسوس. وهذا يخالف نظريات التجريبيين. إن كل قضية عامة تتجاوز حدود المعرفة الحسية، إذ هذه مقصورة على ما هو جزئي فحسب . . . وهكذا نجد أن المنطق والرياضيات يرغماننا على الإقرار بنوع من الواقعية بالمعنى الاسكلائي[١]، أعني أن ثمة عالماً من الكليات والحقائق. فعالم الكليات هذا لا بد من الإبقاء عله)) . وبهذه المناسبة ينبغي أن نقرر هاهنا أن رسل لم يول أهمية فلسفية للمنطق الرياضي إلا في أوليائه. فهو يقول بكل وضوح: «إن المنطق الرياضي، حتى في أحدث أشكاله، ليست له أهمية فلسفية مباشرة، اللهم إلا في أولياته لكن بعد هذه الأوليات فإنه ينتسب إلى الرياضيات أحرى منه إلى الفلسفة» («معرفتنا بالعالم الخارجي» ص. ه Our Knowledge of the External .(World وقد اهتم رسل اهتماماً بالغاً بمسألة اللغة والعلاقة بينها وبين المنطق. وقد بدأ بأن أكد أن «تأثير اللغة في الفلسفة كان عميقاً ولم يول الانتباه الكافي. فإن كان علينا ألا ننخدع بهذا التأثير فمن الضروري أن نكون على وعي به، وأن نسائل أنفسنا إلى أي مدى هذا التأثر .(Logical Atomism, p. 367) «مشروع لكنه نبذ ما ذهب إليه مور من أن اللغة العادية تصلح أن تكون معياراً لمعنى القضايا. فقال: «ينبغي في محاولتنا التفكير الجاد، ألا نقنع باللغة العادية، بما فيها من اشتراك في المعاني وما لها من نظم syntax مروع. Russel B.: «The Limits of Empiricism», in Proceedings of (١) the Aristotelian Society, 1936. Russell B.: «L’importance Philosophique de la logistique» in (٢) Revue de Métaphysique et de Morale 1911, 289-290. (٣) وأنا مقتنع تماماً بأن التشبث العنيد باللغة العادية في أفكارنا الخاصة هو واحد من المصاعب الأساسية في سبيل التقدم في الفلسفة. وأن كثيراً من النظريات الحالية لا يمكن أن يعبر عنه بأية لغة دقيقة. وأحسب أن هذا هو السبب في عدم شيوع مثل هذه اللغة» نقد رسل إذن اللغة العادية بوصفها غير قادرة على التعبير بدقة عن الفكر العلمي، فرأى أن اللغة تضللنا سواء بألفاظها وتراكيبها، ولهذا ينبغي علينا أن نأخذ حذرنا منها. ولا بد أولاً أن نميز بين الشكل النظمي syntactical form للجملة من ناحية، وبين شكلها المنطقي، لأن الأول لايناظردائماً الثاني وأكثرمن هذا، كثيراً ما يضلنا الأول عن الثاني ويولد ألواناً من التشويش الفكري والخلط المنطقي . يقول رسل : "إن تأثير الألفاظ ينحو نحو نوع من التكثر الأفلاطوني" للأشياء والأفكار. أما تأثير النظم (أو تركيب الجملة) فهو - فيما يتعلق باللغات الهندية الأوروبية - مختلف تماماً. ويكاد يكون من الممكن وضع كل جملة على شكل مؤلف من موضوع ومحمول بينهما رابطة تربط بينهما. ومن الطبيعي أن نستنتج أن كل واقعة يناظرها شكل ويقوم على امتلاك شيء لصفة» ) ويرى رسل أن رد كل قضية إلى هذه الصور: موضوع + رابطة + محمول -قدأدى إلىكثير من المشاكل الزائفة وألوان من الخلط في الفلسفة، وأنه إذا أطرح هذا القول لأدى إلى زعزعة أساس كثير من المذاهب الفلسفية ، مثل مذهب ليبنتس، وهيجل، وبرادلي صحيح أنه لا يذهب إلى أن كل الأفكار الفلسفية قائمة على هذا الخلط بين الشكل النحوي والشكل المنطقي للقضية، لكنه يرى أن كثيراً من الأفكار الفلسفية يقوم عليه، كما لاحظ ماكسويل شارلز ورث بحق( >٠ وأمر آخر، وهو أنه يمكن أن يستخلص من هذا التمييز بين الشكل النحوي والشكل المنطقي أنه Russell B.: «Reply to Criticism» in the Philosophy of Ber- (٤) trand Russell, p. 694. Ed. by P.A. Schilpp, New York, 1944. (٥) أيعلىنحوما يجعلأفلاطونمن المثل (أو الصور) ماهياتعديدة متكثرة. Russell B.: Logical Atomism, p. 368. (٦) Maxwell John Charlesworth: Philosophy and Linguistic (٧) Analysis, p. 54, Louvain, 1961. وقد أفدنا كثيراً من هذا الكتاب في القسم الأول من هذا البحث,

اسة ليس من الضروري أن تكون القضية إما صادقة أو كاذبة، بل يمكن أيضاً أن تكون خالية من المعنى . والقضية الخالية من المعنى هي تلك التي فيها خلط بن الأنماط المنطقية في تعابيرها المؤلفة لها، مثل القضية : سقراط هو هو ولهذا ينبغي أن نقول بنوع ثالث من القضايا هو: القضية الخالية من المعنى، إلى جانب القضية الصادقة، والقضية الكاذبة. واللغة العادية تخلط بين الشكل النحوي والشكل المنطقي، ومن هنا كانت مصدراً مستمراً لخلط الأمور فابتغاء التحرر من هذا الخلط ينبغي على الفلسفة أن تضع لنفسها لغة سليمة، ستكون هي اللغة المثالية التي يتطابق فيها الشكل النحوي مع الشكل المنطقي. لكن رسل يتنصل من دعوى قيام لغة مثالية ٠ إذ يقول في رده على بلاك Black الذي فترض أن رسل يدعو إلى مثل هذه اللغة: «لم أقصد أبداً إلى القول بأنه ينبغي ابتكار مثل هذه اللغة، إلا في بعض الميادين ومن أجل بعض المسائل» هذه اللغة المثالية لا فائدة منها في الحياة اليومية، وإنما الغرض منها مزدوج؟ أولا التنبيه إلى منع الاستنتاج من طبيعة اللغة للاستدال على طبيعة العالم، لأن مثل هذا الاستنتاج زائف، لأنه يقوم على نقائض منطقية في اللغة، وثانياً أن ندل، يبحثنا عما يحتاج إليه المنطق من اللغة، على أي نوع من التركيب يمكننا أن نفترض أن العالم يملكه ٠ ويقسم رسل الفلاسفة إلى ثلاثة أنماط، فيما يتصل بالعلاقات بين لألفاظ وبين الوقائع غير اللفظية: أ - فلاسفة يستنتجون خواص العالم من خواص اللغة، ويؤلفون نخبة ممتازة، ويندرج تحتهم: برمنيدس، وأفلاطون، وسينوزا، وهيجل، وبرادلي ب - فلاسفة يقررون أن ثم معرفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ ولكنهم يستعملون ألفاظاً ليخبرونا عن ماهية هذه المعرفة. ومن هؤلاءم برجسون وفتجنشتين، وبعض جوانب من هيجل وبرادلي - Black M.: «Russell’s Philosophy of Language», in The Phi, (١) losophy of Bertrand Rusell, pp. 229-255. Rusell.: Repley to Ctiticism, in The Philosophy of Bertrand (٢) Russell, p. 693. ج- ٠ فلاسفة يقررون أن المعرفة هي فقط معرفة بألفاظ. ويرى رسل أن النوع الثاني يمكن استبعاده، لأنه متناقض مع نفسه. والنوع الثالث يصطدم بهذه الحقيقة وهي أننا نعرف أي ألفاظ ترد في جملة، وهذه الحقيقة ليست لفظية، وإن كانت لا غنى عنها بالنسبة إلى اللفظيين. وعلى هذا لم يبق من ين الأنواع الثلاثة إلا النوع الأول، فهو وحدم الجدير بالاعتبار . ومعنى هذا أننا نستطيع أن نستنتج بعض خواص العالم من خواص اللغة، لكن خطأ المثاليين هو أنهم استنتجوا حقائق عن العالم من حقائق عن لغة غير سليمة. فإذا عرفنا الشكل الحقيقي للتعاير، استطعنا أن نستنتج ما هي الحقائق الجديرة بأن تكون تعبيراً عن مثل هذه الأشكال المنطقية لكن يلاحظ شارلز ررث بحق أننا لا نستطيع أن نكتشف الشكل المنطقي لقضية قبل أن ندرك معناها ونشير إلى الوقائع، فلا معنى إذن للتحدث عن استنتاج تركيب الوقانع من تركيب اللغة الليمة أو من السكل المنطقي . وقد أدت هذه النظرة برسل إلى وضع نظريتين: الأولى تظرية الأنماط، والثانية نظرية الأوصاف المحددة. وخلاصة نظرية الأنماط أنه لا توجد علاقة معنى واحدة بين الكلمات وبين ما تدل عليه، بل توجد من علاقات المعاني بقدر ما هنالك من أنماط منطقية قائمة بين الأشياء التي تدل عليها الكلمات. وينتهي من ذلك إلى القول بأعداد كبيرة من الإضافات بين الموضوع والمحمول وبما يعرف في المنطق الرمزي الآن بالخواص الصورية للإضافات إضافة التماثل (علي زوج فاطمة -فاطمة زوج علي)، إضافة التعدي (٥>٧، ٧> ١٠ ..٥ك ٠ ١ ) ، إضافة الواحد والواحد أو الواحد والكثير أو الكثير والواحد (أدائن ل بي، علي أبو الحسين، ه أكبربواحد من ٤)، وهكذا أما الوصف المحدد فهو تعبير شكله النحوي هوم «كذا - وكذا» ، مثلاً «مؤلف اللزوميات« ، «أطول Rusell B.: My Mental Development, p. 341. (٣) Charlesworth M.G.: Philosophy and Linguistic Analysis, p. (٤) 71. Louvain 1961. اللغة

طالب في الفصل" ، فهذا الوصف لا يمكن أن ينطبق إلا على شخص واحد : أبو العلاء المعري في قولنا : «مؤلف اللزوميات» ، والطالب المعين فلان في القول الثاني وخاصية هذا النوع أنه بتعلق بالصفة، لا بالشيء ٠ ومور ورسل يفضيان بنا إلى فتجنشتين (١٨٨٩ -١٩٥١) الذي أعلن صراحة أنه يدين لأعمال فريجة العظيمة وكتابات رسل بانعاش أفكاره( ) وإثارتها ٠ ومن الأخطاء الفاحشة - الشائعة مع ذلك - أن يقال إنه من أنصار الوضعية المنطقية، أو أنه من مؤسسي دائرة فينا : فلقد طالما أعلن براءته من الوضعية المنطقية، كما أنه من الثابت تاريخياً أنه لم ينضم إلى دائرة فينا التي كان مؤسسوها هم مورتس اشلك، وفايسمان Waismann وكرنب Carnap، كما بين ذلك بكل يقين تلميذه المخلص انسكومب ، وكذلك فكتور كرافت في كتابه عن تاريخ اثرة فينا() يرى فتجنشتين أن كثيراً من المشاكل الفلسفية هي زائفة، لأنها إنما تقوم على سوء فهم لمنطق اللغة . وسوء الفهم هذا إنما ينشأ , في نظرم - عن الخلط بين الشكل المنطقي الظاهري للقضايا وبين الشكل الحقيقي أو الواقعي. وهذا بعينه ما بينه رسل من قبل حين ميز بين الشكل النحوي والشكل المنطقي . يقول فتجنشتين : «كثيراً ما يحدث في اللغة اليومية أن نفس الكلمة تعبر بطريقتين مختلفتين - وبالتالي ترجع إلى رموز مختلفة ٠ أو أن كلمتين تدلان بطريقة مختلفة - تستعمل في الظاهر بنفس لاستعمال في القضية فمثلاً الفعل: «يكون» يظهر في الرابطة على أنه علامة المساواة، وأنه تعبير عن الوجود، «فيكون» (تبدو) كأنها فعل لازم مثل: «يذهب» ٠ ٠ . ومن هذا ينشأ معظم الخلط لأساسي الذي تحفل به الفلسفة»( >ل ويقصد فتجنشتين من هذا إلى القول بأن بعض التعابير صارت تستعمل في الجمل أو القضايا دون أن Ludwing Wittegenstein: Tractatus Logico-Philosophicus, p. (١) إدو١ London لأح Anscombe G. E., in Tablet (London), April 17, 1964, p. 373. (٢) .Kraft V. Der Wiener Kreis: Der Ursprung des Neopositi- (٣) vismus, Wien, 1950. Tractatus,،. 0031. (٤) تدل على المعنى المقصود منها، وهذا يضللنا أحياناً فنستمر على اعتقاد أنها لا تزال تدل على ذلك المعنى. فمثلاً فعل الكينونة في اللغات الثلاثية (أي التي يظهر فيها بصراحة فعل الكينونة: ist, est, is الخ، أما اللغة العربية فثنائية إذ تكتفي بالمبتدأ والخبر دون ذكر لفعل الكينونة: محمد رسول، بدا من محمد (يكون) رسولا. واللغة الفارسية تستعمل الوضعين: فهي عادة ثلاثية، فتستعمل فعل الكينونة : أست، أو تستعيض عنه بياء إضافة : فتقول في الحالة الأولى: زيد دبير است، وفي الحالة الثانية: زيد دبير ( = زيد كاتب) - نقول أن فعل الكينونة في اللغات الثلاثية (موضوع + فعل كينونة + محمول) هو في ا لأصل يدل على الوجود، ولكننا صرنا نستعمله في هذه اللغات أحياناً بما يتنافى مع معنى الوجود، فنقول مثلاً: الدائرة المربعة تكون ليست موجودة un cercle carré .n’est pas ولهذا يميز بين التصورات الحقيقية والتصورات الشكلية: فالتصور الحقيقي هو التصور الذي يمكن أن يستدبل بالمتغير في دالة قضائية مثل : زس يوجد). ومن أمثلة التصورات الحقيقية: إنسان، تنين، فرس، الخ. أما التصور الشكلي فهو مثل: مركب، دالة، عدد. ويرى فتجنشتين أن الخلط بين التصورات الحقيقية والتصورات الشكلية هو مصدر الكثير من الأخطاء، ويشيع في كل المنطق القديم، وهو الأساس في القضايا الزائفة الخالية من المعنى في الميتافيزيقا( ) . كنه مع ذلك لا يرى العدول عن اللغة اليومية : إذ يقول : «حين أتحدث عن اللغة، يجب علي أن أتكلم اللغة اليومية . هل هذه اللغة غليظة جاسية للتعبير عما نريد أن نقوله؟ إذن فكيف نبني لغة أخرى؟ وما اغرب أن تكون قادرين على فعل شيء بمعونة اللغة التي نملكها! إنني حين أسوق إيضاحات فإن علي أن أستعمل اللغة بكاملها (لا أن أستخدمها استخداماً تمهيدياً مؤقتا) وهذا وحده يدل على أنني لا أستطيع أن أستنتج غير وقائع خارجية عن اللغة . لكن كيف يمكن هذه الإيضاحات بعد ذلك أن ترضينا؟ - نعم، إن أسئلتكم نفسها مصوغة في هذه اللغة نفسها: ولا بد من التعبير عنها بهذه (للغة، إذا Wittgenstein: Tractatus, 4.126, 4.127.

اسة كان ثم مجال للسؤال . وينتهي إلى القوا يأن الفلسفة لا يحق لها أن تتدخل في الاستعمال الجاري للغة، وكل ما تستطيعه هو أن تصفه، لأنها لا تستطيع أن تبين الأساس فيه . وتبعاً لذلك يرى أنه لا محل للتحدث عن «لغات مثالثة» ، كما ذهب إلى ذلك رسل، وإن كنا رأيناه قد عدل بعد ذلك عن دعواه هذه، لأن فتجنشتين يرى أن اللغات المثالية إن هي إلا لغات صناعية، واللغات الصناعية أوهام أو مواضعات لا قيمة لها إلا في إيضاح اللغة اليومية، ولا يمكن أن تقوم مقامها. إذن ما معنى دعاوى مور ورسل وفتجنشتين؟ إنها تنتهي كلها إلى الرجوع إلى اللغة العادية؛ بكل ما فيها من غموض واشتراك في المعنى ولبس ناجم عن ذلك الاشتراك. وكل ما في الأمر أنهم دعوا إلى تحايل وتعمق تحليل التراكيب اللغوية لبيان انطباقها أو عدم انطباقها على المدلولات المنطقية له، ثم التعبير بعد ذلك عن العمليات برموز على أن لفتجنشتين نظرية في المعنى تستحق الوقوف عندها قليلاً، فهو في «المباحث الفلسفية» يهتم بتفسير المعنى : ماذا يقصد به؛ فيلاحظ أولاً أن معنى كلمة ما هو الشيء الذي تعبر عنه الكلمة أو تشير إليه أو ترمز إليه . لكن هذا التعريف غير كاف : لأنه إن صح بالنسبة إلى كلمات مثل: قلم، كتاب، فرس، نظارة، فهو لا يصلح لكلمات مثل: «اثنان«، «لهذا»، «لا» «ليس» الخ. ومن الخطأ أن نسأل: ما معنى هذه الكلمات الأخيرة، وإنما السؤال الذي ينبغي علينا أن نضعه هو: كيف تستكمل هذه الكلمات، أما المقابل أو ما يشير أو يرمز إلى فهو نوع من المعاني، أو طريقة من الطرق التي بها تستعمل الكلمات. ومن هنا انتهى فتجنشتين إلى أن المعنى ليس شيئاً وراء سلوكنا اللغوي، بل هو عملية سلوك لغوي، وإذن فالمعنى هو الاستعمال. ولهذا ينبغي علينا -بدلاً من أن نسأل: ما معنى س؟ - أن نسأل: كيف يستعمل س؟ في أي عبارات يستعمل س؟ فاستعمال الكلمات يتوقف على أشكال الحياة، وثم من الاستعمالات بقدر ما هنالك Wittgenstein: Philosophical invenstigations, p. 48. من أشكال للسلوك في الحياة «فكر في الأدوات الموجودة في صندوق أدوات: أن فيه مطرقة، وكماشة، ومنشاراً، وبريما، ومسطرة، وغراء، وقدر غراء، ومسامير وقلاووظ - ووظائف الكلمات تختلف كما تختلف وظائف هذه الأدوات»( > . كذلك تختلف صور الجمل ٠ فالمناطقة جروا على تقسيم الجملة إلى ثلاثة أنواع : تقرير، واستفهام، وأمر وقالوا إن التقرير هو الأصل لأن كلا النوعين الآخرين يمكن أن يرد إليه. فمثلاًإذا قلنا: هل أتىعلى الإنسانحين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا؟ - يمكن أن نعدل صورة هذا لاستفهام فنحيله إلى تقرير ونقول : لست أدري هل أتى على الإنسان الخ. لكن فتجنشتين يعارض في هذا التحويل أو المناب، لأن الإنسان يستعمل كل شكل من هذه الأشكال الثلاثة في سياق خاص ولغرض خاص : فيستعمل الاستفهام حين يريد أن يستعلم عن شيء ما، ويستعمل الأمر لطلب تنفيذ شيء ، ويستعمل التقرير ليعطي معلومات. وعلى هذا فكل نوع منها مستقل قائم بذاته لا يمكن تحويله إلى الآخر. ونظرية فتجنشتين في المعنى هي التي تماها واحتفل لها من يسمون باسم «فلاسفة أكسفورد» ، وأبرزهم جلبرت رايل Gilbert Ryle (ولد سنة ١٩٠٠) وجون أوستن (ولد سنة ١٩١١)، ومعهم نجد هارت .H S.وهمشير P. F. Strawson واستروسن L. A. Hart S. Eوتوملين ٠ R. M. Hare وهير Hampshire وقد P. Nowell-Smith ونوول اسمث Toumlin عقدوا ندوة فى Royaumont بالقرب من باريس جمعت أعماله بعنوان: «الفلسفة التحليلية»( ) دار البحث كله فيها حول أهمية تحليل اللغة، بوصف ذلك المهمة التي أخذها هؤلاء على عاتقهم. ويقول أرمسون G. Urinson في وصف اتجاههم هذا: «إن فلاسفة أكسفورد يقبلون على الفلسفة - كلهم تقريباً بدون استثناء - بعد دراسة عميقة جداً للإنسانيات الكلاسيكية. وهم لهذا يهتمون تلقائياً بالكلمات، والنظم Syntax والعبارات الخاصة بكل لغة لغة. وهم لا يشاؤون أن يستعملوا التحليل Philosophical Investigations, p.6. (٢) La Philosophie analytique, Paris, Editions de Minuit, 1962. (٣) (Cahiers de Royaumont, Philosophie, No. IV). اللغة ٢٥٧ اللغوي من أجل حل مسائل الفسلفة فقط، وإنما يهمهم الفحص عن اللغة بما هي لغة. ولهذا فإن هؤلاء الفلاسفة ربما كانوا أكثر استعداداً وميلاً من معظم الفلاسفة فيما يتعلق بالتمييزات اللغوية . وعندهم أن اللغات الطبيعية، التي اعتاد الفلاسفة أن يدمغوها بأنها عاجزة عن التعبير عن الفكر، إنما هي في الواقع تحتوي على ثروة من التصورات والتمييزات البالغة الدقة، وتؤدي العديد من الوظائف التي يظل الفلاسفة في العادة عاجزين عن إدراكها. وفضلاً عن ذلك، فإنه ما دامت هذه اللغات نمت وتطورت من أجل إشباع حاجات أولنك الذين يستخدمونها، فإنهم يرون من المحتمل أنهم لا يستمسكون إلا بالتصورات المفيدة والتمييزات المجزئة، وإن هذه اللغات دقيقة حيثما احتيج إلى الدقة، وغامضة حيثما لا يحتاج إلى التدقيق. وكل أولثك الذين يحسنون لغة من اللغات لهم من غير شك سيطرة ضمنية على هذه التصورات وتلك التدقيقات , ولكن الفلاسفة - في نظر مدرسة أكسفورد - الذين يسعون إلى وصف هذه التصورات وتلك التدقيقات : أما أنهم يسينون فهمها أو يبسطونها إلى أقصى درجة. وعل، كل حال، فإنهم لم يفحصوها إا فحصاً سطحياً . والثروات الحقيقة التي تنطوي عليها اللغات تبقى مدفونة. «ولهذا فإن مدرسة أكسفورد كرست نفسها لدراسات في غاية الاستقصاء والتعمق والتدقيق للغة المعتادة، وهي تأمل من وراء هذه الدراسات أن تكتشف الثروات الدفينة وأن تلقي الضوء على تمييزات ليست لدينا عنها غير معرفة غامضة، وذلك بوصف الوظائف العديدة لكل أنواع التعبيرات اللغوية. ومن الصعب وصف هذا المنهج بعبارات عامة. وفي أغلب الأحيان يدرس تعبيران أو ثلاثة، تبدو في الظاهر مترادفة، ثم يبرهن على أنه لا يمكن استخدامها بدون تفرقة، فيفحص عن سياقات الاستعمال، ويسعى إلى إيضاح المبدأ الذي يهيمن على الاختيار، . صحيح أن الفلاسفة طالما وجهوا انتباههم إلى تعريف المعاني بدقة، لكن «فلاسفة أكسفورد» يعتقدون أن الفلاسفة السابقين لم يولوا هذا الأمر عناية كافية، ولم يتعمقوا في فهم المعاني بحسب مواضعها من السياق. أما هم، أي فلاسفة أكسفورد، فإنهم يكرسون مؤلفات أو مقاات مسهبة قائمة برأسها لأمور كان الفلاسفة السابقون يجهزون عليها في بضعة أسطر. ومن أهم ما انتهوا إليه نظريتهم في المعنى، وهي مستمدة كما قلنا من فتجنشتين، وخلاصتها أن الكلمات ذوات طرق مختلفة في المعنى، وإن معنى أية كلمة يتوقف دائماً على السياق الذي تستعمل فيه. ولهذا نتائج : أولها أن كل نوع من القضايا له ضرب خاص من المعنى ومن التحقيق، وثانيها: أنه لا بد من تعديل التمييز بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، وثالثها: تعديل تصور دور التحليل الفلسفي وطبيعته. ولهذا ينبغي علينا أن نقر بأن ثمة عدداً من الوظائف اللغوية المتميزة، وأن التعابير لا معنى لها إا في سياق . فلا ننظر إلى «الشيء الذي يشير إليه التعبير، بل إلى «المناسبة» التى تعطى لاستعمال التعبير معنى , وبدلاً من أن نسأل: م معنى كلمة س؟ علينا أن نسأل سؤالين: الأول هو: لأي غرض تستعمل الكلمة س؟ والثاني : ما هي الشروط التي بها يكون استعمال الكلمة س صحيحا؟ والنتيجة لهذا أنه لا توجد أصناف أو طوائف من الوظائف اللغوية المحددة الثابتة، بل يتوقف الأمر على السياق وظروف الاستعمال. وهنا يضع جون أوستن John Austin تفرقة بين ما يسميه ب «الأقوال الإنجازية» Perfonnatory utterances وبين «الأقوال الشاهدة» فحين أقول: «س صادقة» فإني أستطيع الاستعاضة عنها بقولي: «أنا أؤكد س>، وهذه العبارة الثانية هي إنجاز لغوي، إذ الكلمة: «أؤكد] لا تصف بل تنجز مهمة التوكيد. ومثل هذه الجمل لا يقال عنها حقاً إنها صادقة أو كاذبة. ولكنها مع ذلك ذوات معنى. ولهذا فإن بين «صادقة/ كاذبة» من ناحية وبين «خالية من المعنى يوجد نوع ثالث( >ا أما فيما يتعلق بالتمييز التقليدي بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، وهو الذي وضعه كنت Kant ويقوم على أساس أن ثم قضايا لا يحتوي محمولها إلا على مضمون موضوعها، وتسمى قضايا تحليلية، مثل الجسم ممتد، إذ «الامتداد» متضمن في (١) الكتاب المذكور،ص١٩ وما يتلرها. <٢) John Austin: Other Minds. ٢٥٨ اسة «الجسم» ، وقضايا تركيبية، وهي التي يضيف فيها المحمول إلى ماهية الموضوع صفات أو أحكاماً جديدة، مثل ٥+٧= ١٢ ، مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، الخ فإن العدد ٢ ١ فيه إضافة إلى معنى ه ومعنى ٧ ، وكون زوايا المثلث تساوي قائمتين هو معنى أكثر مما في تعريف «المثلث» . لكن إذا قلنا - هكذا يرى أوستن وأصحابه من أساتذة أكسفورد - أن معنى التعبير يتوقف على السياق الذي يستعمل فيه، فإنه لا محل للتحدث عن قضايا تحليلية. فمثلاً إذا قلنا: «الأمانة محمودة» فإن هذه القضية تعد في نظرهم تحليلية، على أساس أن الأمانة والثناء عليها يسيران معاً، بحيث أننا لو قلنا: «الأمانة ليت محمودة» فإنه يبدو على هذه القضية طابع التناقض . فأساس الوصف ب «تحليلية» لقضية ما هو ما سار عليه الوضع في الاستعمال اللغوي المعتاد ويشيد «فلاسفة أكسفورد» هؤلاء باللغة المعتادة، ويزعمون أن معاني الكلمات في هذه اللغة المعتادة لا يشوبها غموض، ولا حاجة بالعاديين من الناس إلى الفلاسفة ليحددوا لهم معاني الكلمات بدقة! ولا أساس لدعوى الفلسفة أنها صاحبة الحق في تحديد الاستعمال الصحيح للكلمات ٠ وهكذا ذهب هؤلاء بالنسبة إلى اللغة العادية إلى ما ذهب إليه جورج مور بالنسبة إلى الإحساس العام، كما بينا من قبل. لكن، إذا صح هذا فهل لا يوجد أخطاء مصدر ها اللغة؟ يجيب هؤلاء بالإيجاب، ولكنهم يرجعون الخطأ إلى الخلط بين الأشكال المنطقية للتعبيرات المتعارضة. ويقصدون بالنمط المنطقي الذي ينتسب إليه معنى أنه مجموعة الطرق التي يحق لنا بها أن نستعملم استعمالاً منطقياً مشروعاً . ومع ذلك اضطر هؤاء إلى الإقرار بما وجه إلى اللغة من نقد فيما يتعلق بالدقة، ولهذا تراجعوا عن إشادتهم المبالغ فيها هذه باللغة العادية وبالنتائج المستمدة من تحليلها. ومن هنا نجد رايل Ryle - وكان (١) راجعكتابنا: "المنعلت الصرري والرياضي،ص١٣٤ ، ١٣٥. القاهرة، من أشدهم حماسة للغة المعتادة - يضطر إلى وضع تقرقة بين ما يسميه ال ordinary use وال Ordinary usage، ويكن أن نترجم الأول ب: «الاستعمال المعتاد» ، والثاني ب «العرف الجاري» بيد أنه لا يوضح لنا تماماً ما معنى هذه التفرقة بالنسبة إلى المسائل الرئيسية وهي: ما قيمة تحليل اللغة المعتادة في إيضاح حقائق المشكلات(٣)؟ وهكذا نرى أنه حتى «فلاسفة أكسفورد» هؤاء لم يأتو بشيء ذي بال في تحليلاتهم الفلسفية للغة ٠ ماذا أقول! بل هم يمثلون خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى ما فعله أسلافهم : مور ورسل وفتجنشتين ■ النزعة البنيا وية: ولندع هؤلاء الآن جانبا، ولنشرح نزعة أخرى أقرب إلى الدراسات اللغوية منها إلى الدراسات الفلسفية، وهي النزعة البنياوية structuralisme. ويرجع الفضل في استعمال معنى بنية structure في الدراسات اللسانية إلى عالم اللغويات السويسري الشهير فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure (١٨٥٧ -١٩١٣) وذلك في المحاضرات التي ألقاها في جامعة جنيف، ثم نشرت بعد وفاته سنة ١٩١٦ تحت عنوان: «محاضرات في اللغويات العامة» ، صحيح أنه لم يستعمل كلمة Structure، ولكنه قصد معناها، وذلك حين وضع مبدأ له في دراسة اللغة قوله: «اللغة نظام Système لا يعرف غير نسقه الخاص به» (ص٤٣)، ويقرر مرة أخرى أن «اللغة نظام ينبغي بل يجب أن تعتبر كل أجزائه من حيث تضامنها المتواقت» (ص ١٢٤ ، ويتضح معنى فكرة البنية في قوله: «إنه لوهم كبير أن نعد اللفظ مجرد جمع بين صوت معين وتصور معين. فمثل هذا التعريف من شأنه أن يعزل اللفظ عن النظام الذي يؤلف اللفظ جزءاً منه، وأن يوهمنا بأن من الممكن أن نبدأ من لألفاظ لتأليف النظام وذلك بإجراء عملية جمع Ryle G.: The Concept of Mind, p.8. (٢) Ryle G.: «Ordinary Language», in The Philosophical Re- (٣) view, 1953, P. 117. Cours de linguistique générale, 3me éd. Paris, Payot éd.; 40 (٤) éd. Paris, 1949. ط٣سة ١٩٦- ونحن نحيل إلى هذه الطبعة الرابعة . اسة

بينها، بينما الواجب هو الابتداء من الكل المتضامن ابتغاء أن نصل بالتحليل إلى العناصر التي يتألف منها هذا الكل» (ص٥٧ ١ ) وإذن فقد كان دي سوسير يستخدم كلمة : «نظام» بدل كلمة «بنية» التي يستخدم ها اليوم أصحاب النزعة البنياوية . لكن المقصود من حيث المعنى واحد تماماً. وعلى أثر دي سوسير صرح مييم Meillet «بأن كل لغةلها نظام متسق تمام الاتساق، محكم التأليف»(')، وأشاد جرامون Grammont بما ذهب إليه دي سوسير من أن «كل لغة تؤلف نظاماً متماسكاً محكماً، تشد فيه الوقائع والظواهر بعضها بعضاً، ولا يمكن عزلها ولا أن تتناقض فيما بينها» ولكن النزعة البنياوية، بالمعنى الحالي لها، إنما نشأت بفضل بحث قدمه ثلاثة لغويين روسيون إلى المؤتمر الدولي(٣) الأول لعلماء اللسان الذي انعقد في لاهاي بهولندا في سنة ١٩٢٨، وهم: ر. ياكبسون .R ون S. Karcevsky وس كارشفسكي Jacobson ثم أصدروا بياناً بعد ذلك N. Troubetzkoy تروبتسكوى أعلنوه في المؤتمر الأول للغويين السلاف المنعقد في براغ سنة ١٩٢٩، وبه بدأ نشاط دائرة براغ اللغوية. وفي هذا البيان ظهرت لأول مرة كلمة structure بالمعنى المستعمل اليوم، إذ هم دعوا إلى استعمال «منهج صالح للتمكين من اكتشاف قوانين بنية النظم اللغوية وتطورها»(٤) . فالبنية معناها الترابط المحكم I لقائم بين أجزاء اللغة الواحدة بحيث ينتظم كل أشكال هذه اللغة وصورها: سواء في تركيب الأصوات، وتركيب الجمل. فلا يمكن مثلاً دراسة لفظ في نظام معجمي إلا بعد دراسة بنية اللغة التي ينتسب إليها هذا النظام المعجمي، «والنظام الصوتي للغة ما ليس هو المجموع الآلي للعناصر الصوتية phonèmes المنعزلة، بل هو كل عضوي، أعضاؤه هي العناصر الصوتية وبنيته خاضعة Meillet A.: Linguistique historique et linguistique générale, ( ١ ) h. 158. Paris, 1936. Grammont: Traité de phonétique. (٢) (٣) راجع أعمالهذا المؤتمرص٣٦ - ٣٩ Actes du 1er Congres international de linguistes. Travaux du cercle linguistique de Prague, I, Prague, 1929, (٤) لقوانين» (المرجع نفسه، ص٢٤٥). وثم قسمات مشتركة بين النظم اللغوية المختلفة، إلى جانب الخصائص المستقلة التي لكل نظام نظام منها. فبعض الارتباطات اللغوية موجودة مشتركة بين عدة لغات، وبعضها الآخر تنفرد به لغة عن سائر اللغات، أو مجموعة لغوية عن سائر المجاميع. فالنظر إلى اللغة على أنها نظام عضوي، والعمل على الكشف عن هذا النظام — هذا هو ما تدعو إليه النزعة البنيا وية structuralisme. وفي سنة ١٩٣٩ صدرت في كوبنهاجن مجلة بعنوان: «المجلة الدولية للغويات البنياوية» في تقديمها بين فجو يروندال Viggo Brondal ما لفكرة البنية structure من أهمية بالغة في علم اللسان، وأشار إلى التعريف الذى يورده لالاند Lalande فى معجمه للاصطلاح، بنية، وهو أنه يدل على: «كل مؤلف من عناصر صوتية متضامنة - في مقابل مجرد الجمع بين عناصر-بحيث يتوقف كل واحد منها على الباقي ولا يمكن أن يكون ما هو إلا في، وبواسطة علاقته مع الباقي». كما بين المشابهة بين نظرية الجشتالت في علم النفس، وبين فكرة البنية في علم اللسان. «فإن نظرية الجشتالت تقوم على النظر إلى الظواهر لاعلى أنها مجموعة من العناصر التي يراد عزا وتحليلها، وتشريحها، بل على أنها مجاميع مترابطة Zusammenhänge تؤلف وحدات مستقلة وتكشف عن تضامن باطن، ولها قوانينها الخاصة. وينتج عن هذا أن حال كل عنصر يتوقف على بنية المجموع المترابط والقوانين التي تحكمه»( >. وعلى هذا فإن النزعة البنياوية في الدراسات اللغوية تهدف إلى بيان أن اللغة نظام محكم مترابط الأجزاء، له تركيب خاص ابتداء منه تفهم أشكال اللغة وتحواتها. ركل لغة هي - أساساً - وحدة مستقلة «تتوقف أجزاؤها بعضها على بعض باطنا»، وهذا الاعتماد الذاتي الباطني هو ما يسمى باسم: البنية. وكما يشرحها اميل بنفينيست: «أن المبدأ الأساسي (في هذه النزعة) هو أن B. Brondal V.: Acta linguistica, I (1939) P.1O.

اسة اللغة تكون نظاماً، كل أجزائه متحدة ب٠ اسطة رابطة تضامن وتوقف بعضها على بعض. وهذا النظام ينظم وحدات، هي علاقات مفصح بها، تتفاضل ويحدد بعضها بعضاً. والمذهب البنياوي يقول بسيطرة النظام على العناصر، ويهدف إلى استخلاص النظام من خلال العلاقات القائمة بين العناصر سواء في السلسلة المنطوق بها وفي النماذج الشكلية، ويبين الطابع العضوي للتغيرات التي تخضع لها اللغة» فإذا ما تركنا النزعة البنياوية جانباً الآن، والتفتنا إلى الوجودية لوجدنا هيدجر يعني باللغة وصلتها بفهم العالم عناية شديدة. ذلك أنه رأى في اللغة افصاحاً عن فهم العالم. إن الإنسان يسمع ويصغي ويسكت، وهذا يؤلف تركيباً أساسياً في وجوده ٠ وا لإنسان لا يسمع لأن له أذنين، بل إن له أذنين لأنه من حيث وجوده هو يسمع. فهو سامع بوجوده والسماع والاصغاء والسكوت كلها إمكانيات وجودية تنتسب إلى الإنسان بوصفه متكلماً. ولو لم يكن متكلماً لما كان ساكتاً، فالحجر مثلاً لا يتكلم، ولهذا هو لا يسكت، وا لإنيسان بحكم وجوده، يفصح عن نفسه، وهذا الافصاح عن النفس هو اللغة. واللغة سبيل الاتصال بين الذوات الوجودية. والعلاقة بين المتحدثين هي علاقة انكثاف من الواحد للآخر. لكن هذا الانكشاف ما يلبث أن يتحول من كشف للأشياء إلى كشف للتعبير عن الأشياء، أي إلى كشف لغة الحديث. فالمتحدث والسامع كلاهما يركز اهتمامه على فهم اللغة أكثر من اهتمامه بالكشف عن الأشياء المعبر عنها باللغة. ومن هنا تنتهي اللغة إلى أن تكون هي موضوع اللغة بدلاً من أن تكون وسيلة للكشف عن الموجود. فتنشا الظاهرة التي يسميها هيدجر باسم Gerede أي الثرثرة، والكلام الأجوف، والإشاعة، والكلام الضحل الذي لا ينفذ إلى حقائق الأشياء. فتستحيل اللغة حينئذ من وسيلة إلى غاية. ويناظر الثرثرة الكلامية الثرثرة الكتابية Geschriebe التي تحول الكتابة من رموز للإيضاح إلى لعب بالرموز نفسها. Emile Benveniste: Problèmes de Linguistiques Générale- p. 98 Paris, 1968, Gallimard éditeur. وكلا النوعين من الثرثرة يؤدي إلى وهم إدراك كل شيء دون النفوذ إلى شيء . وهذا يقف عائقاً دون إدراك الأشياء نفسها. ومن هنا قال الشاعر العظيم هيلدرلن : «إن اللغة أخطر النعم» . والواحد منا ينشأ في بيثة عمادها الثرثرة، وينمو وينضج على الثرثرة بنوعيها، وهذا من الأسباب الرئيسية في سقوط الوجود الإنساني Verfallen فمن منا لا يخضع لتأثير هذه الثرثرة؟ إنها هي زادنا في تفكيرنا وأحكامنا. إن الوجود -في-العالم بين الناس يحيل الانفتاح على العالم إلى انقطاع عن العلاقات الأولية مع الذات، ومع الموجودات، ومع العالم. لقد قصد باللغة أو القول في البداية أن تكون أداة فهم، وإذا بها قد صارت أداة سوء فهم كان التبليغ في الأصل أساساً للفهم، وإذا به لا يكون ممكناً إلا مع وجود سوء فهم متأصل. لقد كانت اللغة من فعل الإنسان، وبها يتميز من الحيوان وإذا بها تحدث أثرها في الإنسان، بحيث صار الإنسان يوجد بقدر ما يتكلم. فثم ارتباط وثيق أذن بين القول والوجود لدى الإنسان. وبين حدوث الوجود وبين اللغة ثم نوع من الدور I لقد صارت اللغة هي التي تعطي الوجود للأشياء. والإنسان لا يوجد, في , العالم إلا بقدر ما يملك لغة. الإنسان مشروع ذاته ٠ ولكن هذا المشروع يخطط بالقدر الذي به اللغة ليست من خلق الإنسان الذي يتكلمها، بل هي أمر يتقبله. فاللغة تجعل الأشياء الغائبة حاضرة، وغير الموجودة موجودة، والبعيدة قريبة. وفي الفصل ٤ ٣ من كتابه «الوجود والزمان» بعنوان: «الآنية والقول، اللغة» يبين هيدجر بعمق بالغ العلاقة بين الوجود وبين اللغة، على أساس أن وجود لآنية هو في المقام الأول فهم للموقف الذي يوجد منه الإنسان وهذا الفهم قد اتخذ اللغة أداة له «فالقول هو الإفصاح عما هو ممكن الفهم. ولهذا فإنه يقوم في أساس الإيضاح وا لإفصاح. والمعنى هو ما يفصح عنه في الإيضاح، وهذا المعنى يفصح على نحو أكثر أصالة في القول. وما هو مركب بواسطة إفصاح

اللغة القول، نحن نسميه مجموع المعنى، الذي يمكن أن يصاغ في كثرة من المعاني. . - والوجوم -في-العالم، بوصفه مفهوماً على نحو الشعور بالموقف، يعبر عن نفسه بالقول , ومجموع المعاني لما هو مفهوم يفضي إلى القول فالمعاني تتحول إلى كلمات(١) وانفتاح الآنية (= الوجود الإنساني) Dasein يتم بعضه بالقول، ولهذا فإن القول من مقومات وجود الآنية والسمع والسكوت هما من ممكنات القول وهذه الظواهر تمكن وحدها من توفير يضاح كامل للدور الوظيفي الذي يقوم به القول من أجل وجودية الوجود. والقول يضاح ذو معنى للتركيب القابل للفهم، الخاص بالوجود -في العالم، هذا الوجود -في-العالم الذي لا ينفصل عنه الوجود — مع — الغير، وهو يتحقق عينياً دائماً في الوجود — مع الاهتمام المشترك . وهذا الوجود — مع هو قول، من حيث أنه يوافق، أو يرفض، أو يدعو، أو ينبه، أو يناقش، أو يتدخل، ومن حيث أنه يشهد . والتبليغ Communication يجب أن يفهم بمعنى راسع أنطولوجي فالتبليغ الإداري مثلاً ما هو إلا حالة جزئية من التبليغ بالمعنى العام المستخدم في معناه الوجودي العام. وبهذا المعنى فإن التبليغ مهمته أن يؤلف الافصاح الخاص بالوجود - مع من حيث أنه فهم. وهو يتمم المشاركة في الشعور المشترك بالموقف، والمشاركة في فهم الوجود- هع - الغير. «والتبليغ ليست مهمته أن ينقل انطباعات، أوآراء، أو أماني من باطن شخص إلى باطن شخص آخر. بل الوجود معاً هو في جوهره رمنذ البداية دائماً ظاهر ومتجل في الشعور المشترك للموقف وفي الفهم المشترك ٠ والوجود - مع - الغير مشارك فيه -في القول - بصراحة، لكنه ثم، بينما هو لم يدرك، ولم يرفع إلى الاقتناء، لأنه لم يقدم بعد إلى المشاركة»(٢) إن الآنية تعبر عن نفسها بالقول، وما تعبر عنه هو وجودها خارج نفسها أو بالأحرى حالة عينية لشعورها بالموقف «في: اللغة: الآنيةوالشعور بالموقف يفحصان عن ذاتهما بواسطة لهجة القول، وتنغمه، (١) هيدجر: «الوجرد والزمان» الفصل ٣٤.ص١٦١ Heidegger: Sein und Zeit. (٢) الكتاب نغه،ص٦٢. ونظمه، وبواسطة طريقة الكلام. وتبليغ الإمكانيات الموجودية للشعور بالموقف، أعني انكشاف الوجود يمكن أن يكون الغاية الخاصة بالقول الشعري»( ). واللحظات المؤلفة له هي: ما يتكلم عنه القول، والمقول من حيث هو مقول، رالتبليغ والتجلي. وهذه اللحظات ليست مجرد خصائص يكشف عنها تجريبياً في اللغة، بل هي خصائص وجودية مغروسة في التركيب الأنطولوجي للآنية . وابتداء منها وحدها تصبح اللغة ممكنة من حيث الأنطولوجيا. والمحاولات التي بذلت من أجل إدراك «حقيقية اللغة» اتجهت إلى هذه اللحظة أو تلك من هذه اللحظات . وهكذا فهمت اللغة على ضوء فكرة : «التعبير»، أو «الشكل الرمزي»، أو «التبليغ المفصح»، أو «تجلي الحياة التي عيشت»، أو «بنية الحياة». ويتضح دور الكلام في الفهم الوجودي للعالم إذا ما حللنا ظاهرة: السمع، فليس من قبيل الصدفة أن نقول أننا «لم نفهم»، حينما «لم نسمع» جيداً فالسمع جزء مقوم للكلام. وكما أن الانبعاث اللغوي للأصوات يتأسس في الكلام، كذلك الإدراك السمعي يتأسس في السمع. إن السمع هو الانفتاح الوجودي للآنية في مواجهة الغير، من حيث أن الآنية هي وجود -مع الغير. بل إن السمع ليكون الانفتاح الأولى الصادق للآنية في مواجهة شعورها بالوجود المملوك لها: إن هذا هو سمع الصوت الحبيب الذي تحمله كل آنية في داخلها ٠ إن الآنية تسمع لأنها تفهم. رالآنية - بوصفها وجوداً - في - العالم - مع الغير - يفهم، هي تتنبه لكل ما يوجود معها ولنفسها. والذين يوجدون معاً هم خاضعون جميعاً لقانون هذا الانتباه. وهذا السمع الانتباهي المتبادل، الذي يؤسس الوجود -مع-الغير، يتبدى على وفق الأحوال الممكنة للطاعة «للسمع»، للموافقة، أو على وفق الأحوال المعدولة لرفض الاستماع، للمعارضة، للتحدي، وللنفور»(٤) ومن يفهم هو وحده الذي يستطيع أن يصغي. ومن (٣) الموضع نفه. (٤) هيدجر : الوجود والزمان» ، ص١٦٣ م ٢٦٢ اسة يصمت يسهم في الفهم، فهو يسهم في مزيد من الفهم أكثر من ذلك الذي لا يعوزه الكلمات. وفيض الكلمات بمناسبة وغير مناسبة لا يضمن أبداً تقدم الفهم. بل على العكس الثرثرة المستمرة تستر ما يعتقد أنه فهم، وتفضي إلى وضوح خداع، أعني إلى إتفاه ما لم يفهم. «والسكوت لا يعني الخرس بل بالعكس: فإن الأخرس يميل دائماً إلى أن يتكلم. وأن يكون الإنسان أخرس لا يكفي لإثبات أنه يستطيع أن يسكت، بل بالعكس، الخرس يمنع من إثبات ذلك . أما الصموت بطبعه، فإنه لا يبين أنه يسكت أو يمكن أن يسكت ؛ ومن لا يقول شيناً أبداً ليس أيضاً قادراً على السكوت حين ينبغي السكوت . وإنما القول الحق هو الذي يمكن من الصمت الحق والآنية، لكي تستطيع أن تصمت، لا بد أن يكون لديها شيء لتقوله، وهذا يعني أنه يجب عليها أن يكون تحت تصرفها كشف حق وممتد بذاته . وفي هذه اللحظة يأخذ الصمت معناه، ويحطم الثرثرة. فالصمت - بوصفه حال القول - يفصح عن الفهم للآنية بطريقة أصيلة بحيث يؤسس القدرة الحقة على السمع والوجود — مع الناصح»(١). ولم يكن صدفة أن عرف اليونانيون الإنسان بأنه (حيوان ذو نطق) ، إذ لإنسان يتجلى بوصفه الموجود الذي يتكلم. وعلم المعاني semantique بوصفه نظرية في المعنى، يتأسس في أنطولوجيا الآنية. ويتساءل هيدجر ما هي حال الوجود التي ينبغي نسبتها إلى اللغة: هل اللغة أداة ميسرة في داخل العالم، أو تشارك في حال وجود الآنية، أو ليست هذا ولا ذاك؟ وما هو المعنى الأنطولوجي لنمو لغة ما وانحلالها؟ إن علم اللسان linguistique موجود، لكن وجود الموجود - الذي يتخذه علم اللسان موضوعاً له ٠ يظل غامضاً، والأفق الذي فيم يمكن أن يوضع السؤال يظل متلفعاً بالضباب. وهل من قبيل الصدفة أن كل المعاني تنتسب غالباً إلى العالم ويفرضها قابلية العالم لإعطاء معنى، وذات تمكن؟ أو على العكس، نحن هنا بإزاء واقعة ضرورية من الناحية الوجودية والأنطولوجية ولماذا؟ إن (١) الكتاب نفه،ص١٦٥. التأمل الفلسفي ينبغي عليه أن يتخلى عن «فلسفة اللغة» ابتغاء أن يرجع إلى ة الأشياء نفسها، ليسألها ويتهيأ له أن ينمي جملة مسائل وتصورات واضحة» . ومن أبرز الملامح في كتابات هيدجر اهتمامه الهائل باشتقاق الكلمات، والتعمق المفرط في ذلك إلى حد قد يخيل إلى الإنسان معه أنه إنما يريد أن يستخلص الفكرة من الاشتقاق . ذلك أن اللجوء إلى الاشتقاق يعني في العادة معرفة مختلف المعاني التي مرت بها الكلمة على توالي الأزمنة، وعلى تفاوت السياقات التي استعملت فيها لكن هيدجر لا يقصد أبداً إلى هذا، حين يحتفل للاشتقاق كل هذا الاحتفال إنما هو يصدر في هذ عن حقيقة آمن بها، ألا وهي أن تاريخ معاني كلمة ما هو تاريخ الوجود. ذلك أن كل تحليل للاشتقاق يؤدي بنا إلى المثول في حضرة الموجود. إذ الكلمة تكشف - من خلال هذا التاريخ الاشتقاقي - عن سلسلة من التحولات، ليست بالضرورة إفقاراً لها: «إن في تاريخ كل كلمة يتكشف تاريخ الوجود، لأن تاريخ الكلمات هو نفسه تاريخ الوجود. ومن وجهة النظر هذه، فإن الاشتقاق هو الطريق الوحيد للأنطولوجيا بوصفها إعادة بناء لتاريخ الوجود. ومع ذلك فإن كل تفكير يسعى لشمول تاريخ الوجود لا يضم في النهاية غير تاريخ الموجود في كليته وشموله، أعني تاريخ انفتاحات الوجود وتاريخ الحقيقةه , وتعدد المعاني وما بينها من روابط، في مجموع اشتقاقاتها، وسيلة للوصول إلى تاريخ الوجود. إن الاشتقاق يعني الكلمة بمعان عديدة ما كنا لنلتفت إليها لو أننا اقتصرنا على المعاني المحددة للكلمات. وثراؤها هذا نابع من كشفها للوجود وإيضاحها لمعانيه - ويولي هيدجر الرابطة في القضية (وهي فعل الكينونة sein, to be, être الخ) عناية خاصة، لأن الرابطة ليست فقط تؤسس العلاقة بين الموضوع والمحمول، بل وأيضاً تضع الرابطة بين تركيب القضية وتركيب الحقيقة (٢) هيدجر:الوجود والزمان«ص٦٦. Gianni Vattimo: Essere, Storia e Linguaggio in Heidegger, (٣) p. 158٠ Torino, 1963. اللغة

الواقعية. وحتى في القضايا التي تبدو فيها الرابطة لا تؤدي وظيفة اثبات الوجود (مثل : العنقاء «يكون هو» طائر خالد) - فإنها تحيلنا إلى عالم يفترض فيه أن للموضوع موجوداً . واللغة في أصلها ليست علامات، بل إشارات Zeigen أي أنها تشير، بأن كشف عن شيء مستور. ولهذا فإن اللغة في أساسها شعر بالمعنى الاشتقاقي للمقابل اليوناني لكلمة شعر (= خلق، فعل، انتاج) وماهية اللغة تقوم في الوحدة بين التفكير والشعر. و«فقط حيث توجد اللغة يوجد عالم . ولما كان التاريخ لا يصير ممكناً إلا في عالم فإنه حيث توجد اللغة يوجد التاريخ. «واللغة ليست أداة تحت التصرف، بل هى الحادث الذي يتصرف فى الإمكان الأعلى لوجود الإنسان»(٢). الصلة بين المنطق والنحو: وننتقل من هذه الاعتبارات الفلسفية العامة إلى النظر التحليلي في الصلة بين المنطق والنحو. وقد تعرضا لها تفصيلاً، سواء من الناحية التاريخية ومن الناحية المذهبية، في كتابنا: «المنطق الصوري والرياضي»" ) ولن نعيد هاهنا شيئاً مما قلناه هناك. وإنما نورد أمثلة تطبيقية للنظريات التي عرضناها هناك لمختلف المفكرين. لقد تنبه ليبنتس إلى أهمية هذه المشكلة بكل وضوح، فقال؟ «إن اللغات هي أصدق مرآة للعقل الإنساني، وأن التحليل الدقيق لمعاني الكلمات يمكننا -خيراً من أي شيء آخر - من فهم عمليات العقل»(؛). وقد ترك لنا بعد وفاته كثيراً من الفصول التي تتناول تحليل الأشكال اللغوية من الناحية المنطقية، وقد نشر بعضها لويكوتيرا. Heidegger: Erläuterungen zu Hölderlins dichtung, 2. Aufl.٠ (١) p. 35. Frankfort-am-Rhein٠ 1951. (٢) المرجع السابق،ص٣٥. (٣) عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، ص ٣١ -٤٣، القاهرة، الطبعة الأولى سنة ١٩٦٢ والطبعة الثالثة سنة ١٩٦٨، (٤) (عند نهايته) Leibniz: Nouveaux Essais III, VII. بيد أن أحداً بعد ليبنتس لم يهتم بهذا اللون من البحث، كما لاحظ كوتيرا Couturat. ذلك أن الفلاسفة لم يهتموا باللغة وصلتها بالفكر ثم إن علماء اللغات، من ناحيتهم، قد تعلقت همتهم بالجانب المادي والفسيولوجي من اللغة، وهو علم الصوتيات Phonetique- وحتى في دراستهم لعلم المعاني semantique وهو الجانب الفكري من اللغويات، اهتموا أكثر ما اهتموا بالجزئيات، ويكاد يعد كل حكم تقدمي ضرباً من التجديف: «إن الكلمات علامات على أفكارنا. إنها علامات، شأنها شأن سائر العلامات، ولكنها أيسر مما سواها، لأنها تكتب ويتفوه بها، وتدرك بالسمع والنظر، ويتوافر فيها كل شرائط العلامات: وأول هذه الشرائط هو التطابق المتواطىء بين العلامة والإدراك المعلم ولكل إدراك علامة واحدة، ولكل علامة إدراك واحد. فهذا هو مبدأ اتواطؤ، الذي بينه بوضوح كبير أوستفلد Ostwald . «وهذا المبدأ يبدو حقيقة مألوفة مقررة، لأنه بين تماماً . لكن مداه يتضح، حين ياخذ المرء في تطبيقه على التحليل النقدي للغاتنا. إن كل تصور يجب أن يعبر عنه في اللغة بتعبير واحد أحد. ومبدأ الاقتصاد - بغض I لنظر عن المنطق - يقتضي ذلك . ومع ذلك فإن معنى الجمع يعبر عنه أربع مرات في العبارة التالية : «الأولاد الطيبون هم مطيعون": وذلك في الاسم وصفته والضمير الدال على الرابطة (هم) والصفة المحمولة ٠ وبالمثل نجد معنى المؤنث يعبر عنه ثلاث مرات في هذه الجملة : «الأم الطيبة مجتهدة»: أولا في «الأم» (وكان ذلك كافياً) ومرتين في الصفتين (الصفة ب المحمول). وكذلك فكرة الشخص في لغاتنا يعبر عنها مرتين: في الضمير (أو في الاسم) الذي يقوم مقام الفاعل، ثم في صيغة الفعل. وهنا يلاحظ المرء الأصل في هذه الاطنابات : إنه يقوم في تطور لغاتنا . واللغات القديمة، مثل اللاتينية، لم تكن في حاجة إلى ضمير فاعل إلى جانب الفعل" ) - بل الشخص واضح في شكل الفعل . لكن حينما ضعفت أشكال الفعل تدريجياً، أحس المرء بالحاجة إلى تحديد الإشارة إلى الشخص، (٥) وهذا ينطبق أيضاً على اللغة العربية، فالأصل الا يكون الضمير بارزاً، بل مستتراً: يكنب، أكتب، يكتبون . وا نقول : هو يكتب، أنا أكتب، هم يكتبون، الخ . اسة فأضاف الضمير إلى الفعل، ومع ذلك احتفظ في نفس الوقت بكل أشكال الفعل ذات الدلالات على الشخص. كذلك نجد أن حروف الجر تحل - إلى مدى بعيد-محل أحوال الإعراب Cas ، ومع ذلك نستمر في استعمال أحوال الإعراب مع حروف الجر. ومعنى هذا أننا نعبر عن الفكرة الواحدة مرتين. والآن قد صارت أحوال الإعراب في اللغات المنحدرة من اللاتينية إلى الزوال وحلت محلها حروف الجرI وهذه نهاية تطور منطقي. «وكل هذا يفسر تماماً الاطنابات التي تبهظ كاهل لغتنا، ولكنه لا يبرر أبداً هذه الاطنابات من الناحية المنطقية ٠ ويتبين من هذا أن المنطق الشعبي غير المشعور به، والذي يقوم عليه تطور لغتنا، يحمل في ذاته ميلاً عاماً للاستبعاد التدريجي للاستعماات المزدوجة والتكرار الزائد والمنطق الواعي يمسك بالتطورالطبيعي، من حيث أنه يقضي عليه. «وبالعكس، ولكن على أساس نفس المنطق الباطن، تحاول لغتنا أن تخلق كلمات خاصة للتعبير عن بعض الامتثالات التيليس لها بغد علاقة. فالاستفهام مثلاًليس له تعبير حتى Iلان في لغاتنا (مثلما نجد تعبيراً عن النفي، والشكل الخ) ، فيما عدا تغيير ترتيب الكلام بتأخير الفاعل وهي عملية غير مؤكدة ولا ميسرة. ولهذا فإن كثيراً من اللغات فيها كلمات أو تعابير صاغتها من أجل التعبير عن هذه الفكرة بخاصة : فمثلا في الانجليزية الكلمة ido وفي الدانيمركية الكلمة mon ، وفي الفرنسية est-ce-que (ويندر أن يستعمل اليوم التعبير الذي مثل reve-je وستبدل به التعبير est-ce-que je reve) ، وفي اللغة(١) الفرنسية الدارجة تظهر أداة للاستفهام جيدة وهي نا-، فمثلاًا! J;ai couruj’sais-ti وذلك على غرار الغائب المفرد est-il venu . وهكذا نرى أن المنطق الباطن يسعى دائماً إلى استعمال مبدأ التواطؤ أو على الأقل أن يقترب منه. لكنه في هذا السبيل يعوقه دائماً الاستعمال والمنقول، أي نتائج التطور الذي جرى على مدى القرون، الذي تحمله كل لغة في داخلها ٠ وحتى لغاتنا الحديثة ذات التطور العالمي يبهظ كاهلها بقايا الأحوال النفسية السابقة على التاريخ وعلى (١) وقي العربية تسنعمل الكلمات: الهمزة، وأم وعل، ومن، وكم، وكيق، وأين، وأنى، ومتى، وايان. ٠ . فاللغة العربية هي اغنى اللغات بادوات الاستفهام. المنطق، التي أنتجت هذه اللغات < أنها تتخلص من هذه البقايا ببطء شديد وعلى نحو ناقص تماماً. وفقط في اللغة المصنوعة، التي تضرب صفحاً عن الماضي، يكون من الممكن استكمال مبدأ التواطؤ بكل دقة وتحقيق كل مقتضيات المنطق . ولا يتبين المرء مقدماًإلى أي مستوى من التبسيط يمكن رد النحو الخاص بمثل هذه اللغة، رغم أنها تقدم كل العناصر الضرورية للتعبير الدقيق عن الأفكار، وربما بنسبة أعلى مما تستطيعه لغاتنا المعتادة» ٠ ومبدأ التواطؤ هذا لا ينطبق فقط على الإعراب، بل ويمكن تطبيقه أيضاً على معاني الكلمات المفردة، وخصوصاً على حروف الجر وحروف العطف. وفي مثل هذه اللغة المصنوعة سيتجلى الوضوح والتدقيق، إذ سيكون لكل حرف نحوي معناه بينما نحن نرى في لغاتنا أن للحرف النحوي particule معاني عديدة واستعمالات مختلفة، مما يولد الغموض والخلط. ويرى كوتيرا أن مبدأ التواطؤ هذا يخالف أكثر ما يخالف في مسألة الاشتقاق اللغوي. صحيح أنه يبدو في الظاهر أن مقتضيات المنطق مطبقة في اللغات الهندية الأوروبية، وذلك بأن يضاف إلى الجذر المعبرة عن المعاني بادنات prefixes ولواحق suffixes تعبر عن علاقات محددة ثابتة، مثلاً Atrides : نسل أتريوس، Pelopides: نسل بلوبس، مما يؤذن بأن de ' هي اللاحقة الدالة على لنسل أو الذرية. لكن لو كانت لغاتنا منطقية لكانت اللواحق كلها ذوات أشكال ثابتة في الدلالة على المعاني المعينة، وفي هذه الحالة ستكون لها معان ثابتة. بيد أن الأمر ليس كذلك في الواقع: إذ الواقع هو أن البادئة أو اللاحقة الواحدة تدل على معان عديدة، وأن معنى واحداً يعبر عنه ببادئات ولواحق عديدة، بحيث لا يوجد تواطؤ أبداً. فمثلاً في الفرنسية : اللاحقة able في الكلمات potable, mangeable تدل على: «ما يمكن أن...» (يؤكل، يشرب)، ولكنها في الكلمات: تدل على: «ما يجب estimable, admirable, aimable على الإنسان أن. ٠») يحبه، يعجب به، يحترمه). والعلامات الدالة على أصحاب الحرف عديدة: فهي iste Louis Couturat: «Die Prinzipien der logik», in Encyclopädie (٢) der philosophichen Wissenschaften, erster Band: Logik, p. 193-195. Tübingen, Verlag B. Mohr, 1912. اسة

في ier وهي pianiste, artiste, dentiste ،في الكلمات -on وهي Bott-ier, charpent-ier, serrur-ier الكلمات في en وهي charr-on, forger-on في الكلمات praticien, pharmacien الخ. واللاحقة الواحدة تستعمل في معان متباعدة جداً، فمثلاً اللازمة ,ier - تدل plum-ier, على لإناء أو الحاوي للشيء في الكلمات cordonn-ier وعلى الحرفة مثل encr-ier ,,charpentier. واللازمة ien تدل على التخصص في وعلى grammairien,, c٠méd-ien العمل والمهنة مثل المقيم في مكان، مثل: ,Egyptien, Brésilien . Parisien ويناظر البادئات واللواحق في اللغات الهندية الأوروبية صيغ لأفعال في العربية؟ ١ - فاعل: (أ) يدل على الفعل المتبادل بين طرفين: مثل ضاربه، وخاصمه، وحاربه. (ب) بمعنى فعل، مثل قاتلهم الله: أي قتلهم، ومثل :سافر الرجل. (ج) بمعنى فغل، نحو: ضاعف الشيء. ٢ - تفاعل: (أ) يدل على الفعل المتبادل بين الاثنين أو بين الجماعة، مثل: تجادا، تناظروا. (ب) وعلى الفعل الصادر عن شخص أو شيء واحد،مثل: تراءى له (ج) وبمعنى: أظهر، نحو: تغافل، تجاهل، تمارض - إذا أظهر غفلة، وجهلاً، ومرضاً. ٣- استفعل (أ) بمعنى التكلف، نحو استعظم، أي تعظم، واستكبر: أي تكبر. (ب) وبمعنى الاستدعاء والطلب: نحو استطعم، واستسقى، واستوهب. (ج) وبمعنى قعل - نحو: استقز، أي: قز. (د) وبمعنى صار - نحو: استنوق الجمل، واستنسر البغاث (أي صار نسراً أو شبيهاً به) * ٤ - افتعل: (أ) بمعنى فعل - نحو: اشتوى، أي شوى، اقتنى، أي قنى، اكتسب — أي كسب. (ب) ويكون لحدوث صفة -نحوم افتقر، افتتن، أي حدث له فقر، وحدث له فتنة. ه - تفعل: (أ) يكون بمعنى فعل - نحو: تخلصه، إذا خلصه. (ب) وبمعنى التكلف - نحو: تشجع (تكلف الشجاعة) ، تجلد (تكلف الجلد) ، تحلم (أي تكلف الحلم). (ج) وبمعنى اتخذ - نحو: توسد التراب (اتخذه وسادة)، تبنى فلاناً (اتخذه ابناً). (د) وبمعنى تجنب - نحو: تحرج، تأثم، تهجد (أيتجنب: الحرج، والإثم، والهجود أي النوم). (ه) التمهل في الفعل - نحو: تجرع، تبضر، تسمع، تفةم، أي تمهل في فعل هذه الأمور. (و) صار كذا - نحو: تمراً الرجل (أي صار ذا مروءة)، تأيمت المرأة (صارت أيما). (ر) بمعنى استفعل - نحو. تنجزه (أي استنجزه، طلب منه إنجازه) . (ح) اعتقد أنه كذا , نحو: تعظمه (أي اعتقد أنه عظيم). (ط) بمعنى فعل - نحو: تهيب (أي هاب) ، تظلمه (أي: ظلمه)(١). ونجتزىء بهذه الأمثلة، وهي تدل على أن أبنية الأفعال تدل على معان مختلفة جداً، وفي بعض الأحيان تكون متعارضة أو متناقضة في الصيغة أو البنية الواحدة: فالصيغة «تفعل» تدل على الاتخاذ كما تدل على التجنب، والصيغة: «أفعل» تدل على الصيرورة (نحو: أطفلت المرأة، صارت ذات طفل، ألحم الرجل، صار ذا لحم)، وعلى السلب (مثل: أشكيته - أزلت شكايته، أزجه - أزال منه الزج، أعجمته 1 أزلت عجمته) وهذا يدل أبلغ دلالة على مجافاة الاشتقاق اللغوي (١) راجعفيهذا : الثعالبي«ففه اللغةوسر العربية»،ص٣٤٠ - ٣٤٢، القاهرة ستة ١٩٥٤، السيرطي: "همع الهوامع، ج٢ ص١٦٢٠١٦١، القاهرة سنة ١٣٢٧م، ابن الحاجب: «الشافية من علمي الصرف والخط» ج٢ ، ص ٤٠ وما يتلوها، ابن قتيبة : «أدب الكاتب» صه ٣٤ وما يتلوها، القاهرة ١٣٤٦ه، ابن جنيم المتصغم ج١ ص٩٠ وما بعدها.

اللغة للمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه المنطق، وهو مبدأ عدم التناقض. وقد تميزت اللغة العربية بباب لا نجده في اللغات الأخرى — حسب علمنا i وهو «تسمية المتضادين باسم واحد» ، وهو من أعجب خصائصها، لأنه انتهاك فاضح لمبدأ عدم التناقض الذي هو ا لأصل الذي ينبني عليه كل تفكير منطقي سليم. وكما قال الثعالبي أن ذلك من سنن العرب المشهورة، كقولهم: الجون: للأبيض والأسود والقروء: للاطهار، والحيض - الصريم : لليل، والصبح-والحيلولة : للشك واليقين. , - والند : المثل والضد، وفي القرآن : «وتجعلون لله أنداداً» على المعنيين. - والزوج : الذكر، والأنثى.-والقا نع: السائل، والذي لا يسأل، والناهل! العطشان، والريان» . وقد خص السيوطي باب الأضداد بفصل طويل ممتاز في كتابه «المزهر» (ج١ ص٣٨٧-٤٠٢، القاهرة ط٤، سنة ١٩٥٨ م) استوعب مختلف الآراء في هذه الظاهرة الفذة. لقد حار علماء العربية في تفسيرها : فقال البعض إنها من الألفاظ المشتركة équivoques، «والمشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين: فما يقع على الضدين : كالجون، وجلل، وما يقع على مختلفين غير ضدين: كالعين» (ج١ ص٣٨٧) وأشار ابن فارس في «فقه اللغة» إلى إنكار ناس لهذه الظاهرة فقال : «من سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد، نحو الجون : للأسود، والجون : للأبيض. قال : وأنكر ناس هذا المذهب وان العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده» . ويقول إنه جرد كتاباً لذكر ما احتج به أصحاب هذا الرأي، ولكنه لم يصلنا. وعلى كل حال فهذا يدل على أن هذه الظاهرة بدت غريبة أو مستحيلة - وكان من شأن مبدأ التواطؤ أن يجعل البادئة أو اللاحقة الواحدة (في اللغات الهندية الأوروبية) أو الصيغة الواحدة (في اللغة العربية) دالة على معنى واحد: فلصاحب المهنة تستعمل لاحقة، وللحاوي للشيء لاحقة خاصة، وللمقيم في المكان لاحقة خاصة، وهكذا فمثل هذه اللغة المصنوعة على هذا النحو، ستكون - (١) الثعالبي:فقه اللغة»م٣٤٨- ٣٤٩. لقاهرةسنة ١٩٥٤. (٢) السيرطي: ٠المزهر» ج١ ص٣٨٧، هكذا يرى كوتيرا - أوضح وأكثر منطقية، وأشد انتظاماً من أية لغة من لغاتن المعتادة الطبيعية . صحيح أنها ستكون صناعية، لكن سيكون شأنها شأن الأسامي الكيماوية، والمصطلحات الفنية في الطب أو النبات أو سائر العلوم. وفي اشتقاق اللغات الهندية الأوروبية يضطر المرء إلى وضع تمييز أساسي بين صنفين من الكلمات: الجذور الإسمية، وهي التي تدل على ماهيات، ثم الجذور الفعلية، وهي التي تدل على نشاط أو أحوال أو إضافات . وهذا التمييز يناظر في جملته التقسيم إلى أصناف (أو تصورات) وإلى إضافات relations. والأخيرة تنشىء الأفعال مباشرة، بينم الأولى تولد الأسماء، أعني الأسماء والصفات في النحو. والعلاقة وثيقة جداً بين الاسم والصفة: ففي الفرنسية مثلاً: (une) blonde, (une) belle, (un) veuf, (n) aveugle, (un) avare وفي العربية يكفي للانتقال من الصفة إلى الاسم مجرد إضافة «أل» التعريف (ال)جميل، (ال)باحث، (ال)فاصل، الخ - أما الجذور الفعلية فتؤلف صنفاً محدوداً في اللغة الفرنسية، مثل: ,aimer, courir parier, dormir. ومن الممكن تحويلها إلى أسماء amour, course, parole, : فنقول على التوالي sommeil. بيد أن هذه الأسماء إنما تعبر عن «واقعة» النوم، الكلام، الخ، أي أنها تحيل النشاط إلى موضوع أو تصور فتفقده صفة الفعل. لكن للغة العربية، شأنها في هذا شأن اللغة الألمانية، ميزة كبرى على اللغة الفرنسية في هذا الباب: وهي أننا في اللغة العربية (كما في الألمانية) نستطيع أن نحيل أي مصدر إلى اسم، بينما لا نستطيع ذلك في الفرنسية، إلا في أحوال محددة، مثل le لكنه لا تستطيع أن تقول boire, le dormir, le manger le couronner, le supporter, le pencher, le saluer بينما نظائرها في العربية والألمانية موجودة ومن هنا تضطر الفرنسية في مثل هذه الأحوال إلى استعمال جمل طويلة للدلالة على ما تعبر عنه العربية والألمانية بلفظ واحد، وذلك باستخدام العبارة ..le fait de متلوة بالفعل المراد تحويله إلى اسم. ولهذا فإني عانيت صعوبة شديدة في التعبير بالفرنسية عن كثير من المعاني الواردة قي مذاهب اسة ٢٦٧ المتكلمين المسلمين، إذ تقوم هذه المعاني على مصادر محولة إلى أسماء، وهو أمر لا يتم في الفرنسية إلا بالنسبة إلى عدد محدود بالسماع والاستعمال. ومثل هذه الصعوبة عاناها الفلاسفة والكتاب الفرنسيون الذين يكتبون في الفلسفة الوجودية، لأنها - لدى الفلاسفة الوجوديين الألمان - تستخدم كثيراً المصادر المحولة إلى أسماء . (das) Existieren, (das) Móglich-sein, (das) Raum-geben, (das) Betroffenwerden, (das) Bewendenlas-sen كذلك نجد صعوبة بالغة في اشتقاق الفعل من الاسم في اللغات الهندية الأوروبية، ويتم الأمر على خلاف كل منطق. فلننظر مثلاً في الأفعال الستة الآتية، 1 لمشتقة من أسماء . (a) Patronner = etre patron (b) aveugler = rendre aveugle (c) plumer = enlever les plumes (d) ñcurir = produire des fleurs, garnir de fleurs (e) saler = ajouter du sel (0 couronner = omer d’une couronnne ومن هذه الأمثلة يتبين كيف أن اشتقاق اسم من فعل في اللغة الفرنسية مثلا يؤدي إلى معان متباينة أشد التباين، هي على التوالي: a) صار كذا، b) جعله كذا، C) نزع منهكذا، 0) أنتج كذا، e) أضاف كذا f) زينه بكذا. فما أشد تباين هذه المعاني، رغم أن طريقة الاشتقاق واحدة فيها كلها! وليس أشد من هذا انتهاكاً لمبدأالتواطؤ، وبالتالي للمنطق لقدكان المنطق يقضى بأن يكون المدلول واحداً لكل فعل مشتق على هذه الطريقة. ونظائر هذا في اللغة العربية، الصيغة: «فعل» (بتشديد العين) فهي تدل على: (أ) جعله كذا - في كلمات مثل : بغض، شبه، سود، حرك، مزق. (ب) زينه بكذا - في كلمات مثل؟ توج، نصب، وفر، زود. (؟)مار كذا-في كلمات مثل: برز (في كذا)، عمر (صار ذا عمر طويل). (د) فعل كذا: حمد (فعل الحمد)، أؤل (فعل التأويل)، صرح (قال قولا صريحاً). (ه) التكثير - في مثل: غلق (الأبواب)، ذبح (الأبناء). (و) التقصير -فيمثل: فرط. (ز) نسبه إلى كذا - في مثل: ظلمه (نسبه إلى الظلم)، جةله (نسبه إلى الجهل) وكذلك الحال في سائر أبنية الأفعال، كما ذكرنا من قبل. وقد لاحظ السيوطي أن اشتقاق الأفعال من الأسماء، أو على حد تعبيره: من الجواهر، قليل جداً في العربية. قال؟ «اشتقاق العرب من الجواهر قليل جداً. • ومن الاشتقاق من الجواهر قولهم: استحجر الطين، واستنوق الجمل»('). ولصياغة الفعل من الاسم، كان العرب في الغالب يتبعون ما يلي: ١ - تجريد الاسم من الحروف الزائدة. ٢ - ثم صياغة الحروف الباقية بعد ذلك بصيغة من صيغ الأفعال، دون تقيد بأنواع منها: إذ نجد الأوزان كلها: فعل (برق)، فعل (توج)، تفعل (تمذهب)، افتعل (استاف)، استفعل (استحجر)، تفعلل (تمنطق، أي درس المنطق وصار عالماً به) ، انفعل (اعتزل - صار على مذهب المعتزلة)، أفعل (أنجد -سار في نجد) وهكذا. من هذه الشواهد كلها يتبين أن لغاتنا العادية لا تساير المنطق في كثير من الأوضاع، بل قد تذهب أحياناً إلى حد الانتهاك العمدي الصريح لمبادىء العقل، كما رأينا، ومن هنا دعا البعض، مثل كوتيرا، إلى إيجاد لغة صناعية للعلم، نتخلص فيها من كل ألوان المخالفات للمنطق، التي أتينا على ذكرها، لغة تتسم بالوضوح، والمنطقية، واتباع مبدأ التواطؤ باستمرار في كل تراكيبها (١) السيوطي: "المزمر في علوم اللغة وانواعها» ج١ ص٣٥٠، الطبعة الرابعة منة ١٣٧٨ه - سنة ١٩٥٨م بالقاهرة.

اسة واشتقاقاتها وتكوين المشتقات فيها من الجرامد؛ لغة، فضلاً عن ذلك، تكون أسهل من أية لغة عادية، ويسهل على الغالبية العظمى من الناس تعلمها، فتصبح أداة دقيقة للتفاهم الدولي. وكما قال ه. شوخرت .H Schuchardt إن اللغة الدولية صارت حاجة ملحة للعلم، وللحياة العملية . ثم - هكذا يقول كوتيرا - «أليست اللغة العلمية في غالبيتها لغة مصنوعة؟ أليس كل علم مضطراً، خلال تطوره، إلى صنع لغته الخاصة به؟ إن مثل هذه اللغة تتجاوب مع أسمى حاجات العقل، ومع مطالب الحياة المعتادة؛ إنها تسعى إلى تحقيق المثل الأعلى للغة الإنسانية، وبإزائها ستكون لغاتنا المعتادة محاولات غامضة مشوشة، إن صدقت هذه الجملة العميقة التي تقول: «ما أرادته اللغة حطمته اللغات». وهل في وسع امرىء أن يشك في أن اللغات لم تحقق المثل الأعلى من اللغة إلاعلى نحو ناقص كل النقص؟ إن اللغة، التي ظلت ردحاً طويلاًينظر إليها بعض العلماء برهبة مستعبدة صوفية، ما هي إلا أداة من أدوات الفكر، ومن حق الفكر أن يشكلها ويعدل فيها حسب حاجاته وما ييسر له علمه. وإذا كان البحث في اللغات يعلمنا كيف تكونت اللغات في الواقع وتطورت، فإن من شأن المنطق أن يبين كيف ينبغي أن تكون اللغة من أجل أن تكون تعبيراً صادقاً عن التفكير. صحيح أن الملاحظة والتحليل الدقيق لأشكال اللغة يلقيان الضوء على عمليات التفكير. لكن للعقل الإنساني الحق في أن يحسن هذه الأداة كما يحسن سائر الأدوات اتي يستعملها، حتى تؤدي الغرض منها على أكمل وجه • «وعلى هذا النحو يستطيع المنطق، مثل سائر العلوم، أن يطبق تطبيقاً عملياً ، بأن يعمل على إيجاد ونشر لغة منطقية دولية، تؤدي دورها في تقدم الحضارة»(١) . وبهذه الآمال العريضة ختم كوتيرا بحثه عن العلاقة بين اللغة والمنطق. لكنها إن تحققت إلى حد كبير في الرياضيات وفي العلوم الفيزيائية والكيماوية والحيوية، فلا تزال اللغات العادية تتأبى على هذا المنطق وعلى إنشام نحو عقلي خاضع للمنطق. (١) البحث المذكررص٢٠١. ونحن في كتابنا «المنطق الصوري والرياضي» قد استعرضنا تاريخ المحاولات التي بذلت لإيجاد النحو العقلي سواء لدى اليونان، ولدى الأوروبيين في العصر الحديث، وأشرنا إشارة إجمالية للمحاولات التي تمت بالنسبة إلى النحو العربي . ولنورد هاهنا شواهد على ما بذله النحاة العرب في هذا السبيل. إن النحاة العرب قد أقاموا أدلة النحو على ثلاثة : نقل، وقياس، واستصحاب حال. «والنقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول بالنقل الصحيح، الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة فخرج عنه إذن ما جاء في كلام غير العرب من المولدين، وما شذ من كلامهم، كالجزم ب «لن" ، والغصب ب «لم» قرىء في الشواذ "ألم نشرح ٠ . » بفتح الحاء ، وكالجر ب «لعل» كما في : «لعل أبي المغوار منك قريب» . وقال: عل صروف الدهر أو دولاتها٠ وكنصب بعضهم جزئي! «لعل» و«ليت» قال: يا ليت أيام الصبارواجعا»(٢). والنقل ينقسم إلى تواتر، وآحاد والتواتر هو لغة «القرآن الكريم وما تواتر من ألسنة وكلام العرب. وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو يفيد العلم» واشترطوا للنقل شروطا: من حيث عدد النقلة والعدالة. أما القياس فهو حمل فرع على أصل لعلة، وإجراء كلم الأصل على الفرع، أو هو «إلحاق الفرع بالأصل الجامع». ولا بد في كل قياس من أربعة أشياء: أصل، وفرع، وعلة، وحكم وذلك مثل أن تركب قياساً في الدلالة على رفع ما لم يسم فاعله، فتقول: «اسم أسند الفعل إليه مقدماً عليه، فوجب أن يكون مرفوعاً، قياساً على الفاعل». فالأصل: هو الفاعل، والفرع: هو ما لم يسم فاعله، والعلة الجامعة هي: الإسناد، والحكم هو: الرفع. والأصل في الرفع أن يكون للأصل الذي هو الفاعل، وإنما أجري على الفرع الذي هو: ما لم يسم فاعله - بالعلة الجامعة، التي هي الإسناد . وعلى هذا (٢) ابن الأنباري (المتوفى سنة ٥٧٧ه: «لمع الأدلة» ص٨١ - ٨٢. دمشق، منة ١٩٥٧م. (٣) الكتاب نغسه،ص٨٣م اللغة

النحو تركيب كل قياس من أقيسة النحو» . والنحو كله قياس، كسا قال ابن الأنباري، ولهذا قيل في تعريف النحو أن «النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب فمن أنكر القياس، فقد أنكر النحو ولا نعلم أحداً من العلماء أنكره لثبوته بالدائل القاطعة والبراهين الساطعة» . والذين أنكروا القياس في النحو اعترضو بما يلي: ١ - لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه، لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه: فإنه ليس حمل الاسم المبني - لشبه الحرف على الحرف في البناء - بأولى من حمل الحرف - لشبه الاسم على الاسم في الإعراب. وكذلك ليس ترك التنوين فيما لا ينصرف -لشبه الفعل - بأولى من تنوين الفعل لشبه الاسم» • (الكتاب نفسه، ص١٠٠) وبعبارة أوضح : إذا كنتم مثلاً تمنعون من الصرف بعض الأسمام لشبهها بالفعل، فلماذا لا تنونون الفعل بشبهه بالاسم - ما دام الأمر أمر مشابهة؟ ويجيب ابن الأنباري على هذا الاعتراض بقوله أنه ظاهر الفساد، «لأن الاعتبار في كون أحدهما محمولا على الآخر أن يكون المحمول خارجاً عن أصله إلى شبه المحمول عليه، فالمحمول أضعف لخروجه عن أصله إلى شبه المحمول عليه، والمحمول عليه أقوى لأنه لم يخرج عن أصله إلى شبه المحمول. فلما وجب حمل أحدهما على الآخر، كان حمل الأضعف على الأقوى، أولى من حمل الأقوى على الأضعف , وعلى هذا يخرج ما ذكرتموه من حمل الاسم على الحرف في البناء ، دون حمل الحرف على الاسم في الإعراب. وذلك أن الاسم لما خرج عن أصله قوي في بابه . فلما وجب حمل أحدهما على الآخر، كان حمل الاسم على الحرف في البناء , لضعفه في بابه ونقله عن أصله - أولى من حمل الحرف على الاسم في الإعراب لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله. وكذلك أيضاً ما لا ينصرف : لما خرج عن أصله إلى شبه الفعل من وجهين، ضعف في بابه • والفعل لما يخرج عن أصله قوي في بابه . فلما وجب حمل أحدهما على الآخر — (١) الكتاب نفسه،ص٩٣. (٢) الكتاب نفسه،صه٩. كان حمل ما لا ينصرف على الفعل في حذف التنوين -لضعفه في بابه وخروجه عن أصله - أولى من حمل الفعل على الاسم في دخول التنوين لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله«.(ص١٠١-١٠٢). ٢ - "إذا كان القياس حمل الشيء على الشيء بضرب من الشبه، فما من شيء يشبه شيناً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، فإن كان وجه المشابهة يوجب الجمع، فوجه المفارقة يوجب المنع وليس مراعاة ما يوجب الجمع — لوجود المشابهة — بأولى من مراعاة ما يوجب المنع لوجود المفارقة ٠ فإن : ما لم يسم فاعله، وإن أشبه الفاعل من وجه، فقد خالفه وفارقه من وجه. فإن كان وجه المشابهة يوجب القياس، فوجه المفارقة يوجب منع القياس» (ص ١٠٠ - ١٠١ ) . ويرد ابن الأنباري على هذا الاعتراض بقوله: «إنما يجب القياس عن اجتماعهما في معنى خاص، وهو معنى الحكم، أو ما يوجب غلبه الظن. والافتراق الذي ذكرتموه إنما هو افتراق لا في معنى الحكم، أو ما يوجب غلبة الظن. والافتراق لا في معنى الحكم ولا ما يوجب غلبة الظن لا يؤثر في جواز الجمع. وعلى هذا يخرج ما مثلتم به من قياس ما لم يسم فاعله على الفاعل في الرفع فإنه وإن كان يشابهه من وجه ويفارقه من وجه، إلا أن الوجه الذي يوجب القياس من المشابهة - أولى من الوجه الذي يمنع من جواز القياس من المفارقة، وذلك أن المعنى الموجب للقياس من المشابهة هو الإسناد، وهو المعنى الخاص الذي هو معنى الحكم في الأصل. وأما المعنى الذي يوجب منع القياس من المفارقة فليس بمعنى الحكم ولا له أثر في الحكم بحال. فلهذا كان قياس ما لم يسم فاعله على الفاعل في الرفع أولى من متعه ا) ١٠٤٠١.٣١). ٣ - «لو كان القياس جائزاً، لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الاحكام، لأن الفرع قد يأخذ شبهاً من أصلين مختلفين إذا حمل على كل واحد منهما وجد التناقض في الحكم. وذلك لا يجوز، فإن «إن الخفيفة المصدرية «شبه» «أن» المشددة من وجه، وتشبه «ما، المصدرية من وجه، «وأن» المشددة معملة، «وما» المصدرية غير معملة. فلو حملنا «أن» الخفيفة على «أن» المشددة في العمل وعلى «ما» المصدرية في ترك العمل، لأدى ذلك

اسة إلى أن يكون الحرف الواحد معملاً وغير معمل قي حال واحدة. وذلكمحال» (ص ١ ٠ ١ ) ويرد ابن ا لأنبا ري على هذا الاعتراض بقوله : «هذا ظاهر الفساد أيضاً، لأنه لا يمكن أن يلحق بهما، وإنما يلحق يأقواهما وأكثرهما شبهاً: لأنه لا يتصور أن يستويا من كل وجه، بل لا بد أن يزيد أحدهما على الآخر، فلا يؤدي ذلك إلى تناقض الأحكام وعلى هذا يخرج ما مثلتم من حمل «أن» الخفيفة المصدرية على «أن» المشددة المصدرية في العمل وعلى «ما» المصدرية في ترك العمل. فإن «أن» الخفيفة، وإن أشبهت «أن» المشددة في المصدرية، كما أشبهت «ما» في المصدرية، إلا أن شبهها ل «أن» المصدرية أكثر من شبهها ل «ما» المصدرية، لأنها أشبهتها لفظاً ومعنى، وإن كان لفظها ناقصاً مخففاً» (ص٤ ١٠) ويلاحظ على هذه الاعتراضات والردود عليها أنها تقوم كلها على أدلة عقلية، مما يدل على المدى الذي ذهب إليه تغلغل النزعة العقلية في تفسير القواعد النحوية. والواقع أن كتاب «لمع الأدلة» لأبي البركات عبد الرحمن كمال الدين بن محمد ا لأنبا ري (المتوفى سنة ٥٧٧ه) يقدم نماذج جيدة للنحو العقلي الموغل في التحليل الذي وصل إليه النحو العربي في القرن السادس. لقد أشأ النحويون العرب علماً تمهيدياً للنحو، سموه «أصول النحو» ، يناظر تماماً «علم أصول الفقه» بالنسبة إلى الفقه. والغرض من «أصول النحو» بيان الأصول العقلية التي انبت عليها القواعد النحوية، ولابن الأنباري في هذا الباب اليد الطولى، خصوصاً في كتابه «أسرار العربية»" >. ومن بعده جاء السكاكي في «مفتاح العلوم» فحرص على بيان الأسباب العقلية للقواعد النحوية والأوضاع اللغوية. فهو في خاتمة باب «علم النحو» مثلاً «يتعرض لبيان علة وقوع الإعراب في الكلم»، وعلة كونه في الآخر، وعلة كونه بالحركات أصلا، وعلة كون في الأسماء أصلاً، وعلة كون السكون للبناء أصلاً، وعلة كون الفعل في باب العمل أصلا، وعلة توزيع الرفع والنصب والجر، وعلة أنواع الإعراب (١) ابن الأنباري •اسرار العربية، نشرة بهجة البيطار، دمشف، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمثت. المختلفة ٠ وسيواصل السعي في هذا المضمار موفق الدين بن يعيش (المتوفى سنة ٤٦٣ ه) وذلك في شرحه على كتاب «المفصل» للزمخشري، وهنا نجد صورة كاملة لنحو عقلي للغة العربية . لكن المتتبع لتعليلات هؤلاء النحويين لقواعد النحو والصرف ولحركات الإعراب، بل وللتفسير العقلي للشواذ الواردة على هذه القواعد يشعر بأن الكثير منها مفتعل، لكنها محاولة على كل حال لإيجاد نحو عقلي ولبيان ما في قواعد العربية من منطق خاتمة : والآن، إذا أردنا أن نلخص النتائج التي وصلنا إليها من خلال هذا الاستعراض للنظريات المختلفة المتعلقة بالصلة بين المنطق واللغة بوجه عام - لقلنا ا ١ - إن اللغة وإن كانت أداة ا لفكر، فإنها لا تخضع دائماً لمبادئه، بل تكسرها أحياناً عن عمد، رأخرى عن تطور غير ولع. ٢ - إن المحاولات العديدة لإيجاد نحو عقلي، أو لتعليل التراكيب والقواعد اللغوية والنحوية بطريقة عقلية، لم تفلح في «تعقيل» اللغة تعقيلاً تاماً، إذ لا بد من أن نخلي هامشاً واسعاً للمنقول الجماعي غير الواعي، إلى جانب القياس العقلي والتطبيق المنطقي . ٣-إنه لا بد من التفرقة بين اللغة المعتادة، واللغة العلمية: الأولى طبيعية وبالتالي تتأبى أحياناً على الدخول في القوالب العقلية الدقيقة، بينما اللغة العلمية لغة صناعية (أو مصنوعة) ولهذا فإنها تلتزم بالمبادىء المنطقية . ٤ - إنه إذا كان لنا أن ننشى لغة مثالية فلابدأن تقوم على مبدأين: مبدأ التطواطؤ Eindeutigkeit أي: العلامة الواحدة للمعنى الواحد، ومبدأ القلب الذي يقول إن كل اشتقاق للمعنى يجب أن يقابله اشتقاق للشكل، أعني إضافة أو حذف عنصر في الكلمة، فهذا هو معنى مبدأ القلب principe de reversiblite: وعلى هذين (٢) أبو يعقوب يوسف ين ابي بكر الكاكي (المتوفى سنة ٦٢٦ه) «مغتاح العلوم، ص٦٦ - ٧٦ القاهرة سنة١٩٣٧. لمبرت

المبدأين قامت محاولات إيجاد لغة دولية تتو افر فيها كل هذه الخصائص بيد أنها لم تفلح حتى الآن في فرض نفسها . وإنا لنجد في «معجم الفلسفة» لأستاذنا لالاند Lalande عند نهاية كل مصطلح فلسفي جذراً دولياً لهذا المصطلح وفيما عدا هذا التطبيق لا نكاد نجد تطبيقا آخر. وبالجملة فإن هذه الفكرة المثالية قد ضاعت وذهبت بذهاب أصحابها، شأن كل الأحلام النبيلة التي حالت بعقول المفكرين. ه - وإنه - إلى أن تتم محاولة هذه اللغة الدولية -فمن الممكن العمل على تطبيق هذه الفكرة على كل لغة، بالقدر الذي تسمح به روح هذه اللغة ودرجة تطورها. صحيح أن هذا من شأنه أن يباعد بين الأوضاع التقليدية، بما فيها من شواذ كثيرة، وبين الأوضاع الجديدة المنطقية. ولكن هذا الأمر لا قيمة له بالنسبة إلى الفوائد العديدة جداً من صياغة قواعد اللغة على أساس ذينك المبدأينم مبدأ التواطؤ، ومبدأ القلب. وليكن ذلك فاصلاً بين عهدين في تطور اللغة الواحدة: اللغة القائمة على الاستعمال والتقليد والنقل، واللغة القائمة على المنطق الدقيق. إن قيمة اللغة هي في قدرتها على التعبير المحكم الدقيق عن المعاني والأفكار، وليست في كثرة مترادفاتها، ولا في وجود أضداد بها، ولا في تأبيها على القواعد المحكمة الثابتة. واللغة أداة، والأداة ينبغي ألا تتحول إلى غاية، ولا أن تتعارض مع سيدها - وهو الفكر أو المنطق.

هوامش

  1. ^ وهو الرأي الذي يقول إن للكليات وجوداً حقيقياً، فى مقابل موقف الاسميين nominalists الذين كانوا يرون أن الكليات ليس لها وجود حقيقي، وما هي إلا أسماء وأصوات.