الفن عند أرسطو
نخطىء كثيراً إذا ما اتخذنا من كتاب الشعر لأرسطو المعبر الحقيقي عن مذهبه في الفن، فإن هذا الكتاب ناقص كل النقص، كما أنه لا يدل على فكرة الفن الحقيقية عند ارسطو، لأن الفن لم يكن عنده مقسماً كما هي الحال اليوم، إلى فن بوجه عام، وإلى فن جميل بوجه خاص، وإنما الذي يريد أن يجد مذهب أرسطو في الفن، فعليه أن يكشف عنه في «الطبيعيات» و «ما بعد الطبيعة»، ثم في كتاب «السياسة»، خصوصاً في المقالة الثامنة من هذا الكتاب الأخير، إلى جانب كتاب «الخطابة».
وأول ما يلاحظ على نظرية الفن عنده، أنه لم يضع نظرية الجمال، وإنما اقتصر فقط على إعطاء فكرة عن الفن؛ وفرق كبير بين فكرة الجمال وبين نظرية الفن. فأفلاطون - وتبعه في هذا أفلوطين - يقدم لنا فكرة عن الجمال. فيبين لنا ما هو الجمال، وما ماهيته، وكيف يتحقق، وما هي الأحوال التي يجب فيها أن يتحقق، وما شروطه، وما خصائصه، وما المميزات التي تحدد طبيعة الجميل . . . إلخ. وأما أرسطو فإنه لا يقدم لنا أية فكرة عن هذه الأبحاث، وإنما يهتم فقط بالبحث في الفن بمعنى الإبداع أو الإنتاج أو النشاط، أي إظهار شيء في الخارج. وفي الحالة الأولى - أي في حالة نظرية فكرة الجمال - لا يشترط مطلقاً أن يعرف الإنسان شيئاً ما عن الفنون المختلفة، فقد يضع كل فكرة الجمال ويحدد ماهية الجميل، دون أن يعرف شيئاً عن الموسيقى، أو التصوير، أو النحت، إلى غير ذلك من الفنون الجميلة. أما الذي يكتب نظرية في الفن، فعليه أن يدرس هذه الفنون كما هي متحققة في الآثار الفنية، ثم يخرج منها بحكم وصفي على طبيعتها. واذا كان ارسطو لم يضع لنا شيئًا في فكرة «المنطقي» أو «ما هو وراء الطبيعة»، فهو كذلك لم يضع لنا شيئاً عن فكرة الجميل. فليس من المحتمل إذن إطلاقًا - كما قد يذهب إلى ذلك البعض - أن يكون أرسطو قد وضع كتاباً ضاع عن فكرة الجميل، بل إن أغلب ما نعرفه عن فكرة الجميل عند أرسطو، إنما يرجع إلى التلاميذ المباشرين، وإلى الشراح باعتبارهم متأثرين بروح أرسطو، لا باعتبار أن أرسطو هو الذي قال شيئاً في فكرة الجميل.
وقد كان أرسطو ينظر إلى الجميل باعتباره وجوداً، لا باعتباره موجوداً، فهذه التفرقة بين وجود الموجود وبين الموجود، تنطبق على نظرية الجميل عند أرسطو، فإنه نظر إلى الجميل باعتباره وجوداً لموجود، لا باعتباره موجوداً قائماً بالذات. فإذا ما بحثنا في الفكرة الرئيسية لكلمة الفن عند أرسطو، وجدنا أنها ترجع أولاً إلى المبدأ الأصلي الذي أقام عليه نظريته في الوجود، وهو مبدأ الهيولى والصورة، فالأصل دائمًا هو تحقق صورة في هيولى. هذا بالنسبة الى كل موجود، والحال على هذا النحو تماماً بالنسبة إلى الفن، وإنما الفارق بين الموجودات كأشياء طبيعية أو قسرية، وبين الموجودات كأشياء فنية، أن الصورة في الحالة الأولى توجد باطنة في الأشياء، والصورة هنا بمعنى الطبيعة، أما في حالة الأشياء الفنية، فإن الصورة تأتي من خارج؛ وهذا معنى التفرقة الرئيسية بين أشياء مبدؤها من ذاتها، وأخرى مبدؤها من خارج، وهذه الأخيرة هي التي تشمل الفن. فالفن إذن «إظهار خارجي لشيء داخلي في مغرض خارجي»، مع ملاحظة أن فكرة الداخلية والخارجية عند ارسطو لم تكن واضحة تماماً، بل كان الداخلي والخارجي يكاد الاثنان أن يكونا شيئاً واحداً، خصوصاً فيما يتصل بالفن. فإذا كنا في العصر الحديث نفرق بين الفن كشعور داخلي وبين الفن كتحقيق خارجي لشعور داخلي، حتى أمكننا أن نقول: «روفائيل بدون أيد»، مشيرين إلى أن الفن يمكن أن لا يتحقق في الخارج، ويظل مع ذلك فناً، فإن هذه التفرقة لا يمكن أن تنطبق على نظرية الفن عند أرسطو، فالاصل دائمًا أن الفن نشاط له مظهران: مظهر الإبداع أو الإنتاج، ومظهر الشيء المنتج. وهذه التفرقة تنطبق على الشيء الذي يسمى ام πραπειν ولكنها لا تنطبق على ποιειν، ففي حالة السلوك - وهو الشيء الأخير - لا نفرق بين الفعل ونتيجة الفعل؛ أما في الإبداع الفني فيجب أن نفرق بين الفعل ونتيجة الفعل. وذلك لأن الفعل في حالة السلوك أو العمل، هو الغاية من العمل؛ وليست النتيجة هي الغاية، لأنها شيء إضافي دائمًا بالنسبة إلى الفعل. أما في حالة الإبداع الفني، فيلاحظ أن الفعل ونتيجة الفعل مرتبطان معاً، بل إن نتيجة الفعل هي الأساس، أما الفعل في ذاته، فليس غاية بل وسيلة. وتبعاً لهذا يجب أن يحكم على الآثار الفنية، باعتبارها آثاراً، لا باعتبارها أفعالاً. أعني أن المهم دائما في الحكم على أي أثر فني، أن ننظر إلى الأثر الناتج لا إلى الفعل المنتج. فمهما كانت قيمة الفعل المنتج، فإنها لا تؤثر تأثيراً كبيراً في تقويمنا لأي أثر فني.
والفعل - بمعنى الإبداع الفني - ينقسم إلى ناحيتين: ناحية الممارسة العملية، وناحية التفكير النظري، فإلى جانب الصناعة الفنية يوجد التفكير النظري. ولهذا يعرف أرسطو لفن بأنه «إيجاد بعد تفكير، لشيء ملائم»، ولو أنه أحياناً كثيرة يغفل ناحية التفكير . إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام: إن الفن عند أرسطو شمل هاتين الناحيتين: الناحية النظرية، والناحية الصناعية، ولن يكون الفنان فنانًا حقًا، إلا إذا جمع بين الناحيتين.
أما ماهية الفن في ذاته، فهي أنه يحاكي. وفكرة المحاكاة هذه من الأفكار الرئيسية جداً في مذهب أرسطو في الفن، ولهذا يجب أن ننظر إليها في شيء كثير من التدقيق، خصوصاً وأنها أثارت كثيراً من التفصيلات والأقاويل، التي لا تتلاءم ونظرية أرسطو الحقيقية في الفن، والتي لا يمكن أيضًا أن تقدم لنا صورة حقيقية عن ماهية الفن. يعرف أرسطو المحاكاة بإنها «إيجاد ما لم تستطع الطبيعة إيجاده، على النحو الذي يمكن أن توجده الطبيعة عليه، لو أنها أنتجته» أي أن الفن محاكاة للطبيعة، بمعنى أنه محاكاة لأفعال الطبيعة، وليس إعطاء صورة مكررة، لما أنتجته الطبيعة، فالمشابهة هنا بين الطبيعة وبين الفن هي في أن كلا منهما يسعى نحو تحقيق شيء حي ملائم، وليس في أن الواحد صدى، أو تشبيه، أو نسخة أخرى من الآخر. والمحاكاة بهذا المعنى هي في الواقع عرض للأحوال التي توجد فيها الأشياء على نحو ما لو أن الطبيعة فعلت هذه الأشياء.
وهنا يفرق أرسطو بين موضوعات الحواس المختلفة، ويجعل الموضوعات المبصرة هي وحدها الحقيقية الجديرة بأن تكون موضوعاً للفن. إلا أن المحاكاة في هذه الحالة ليس معناها تصوير الأشياء الطبيعية كما هي، وإنما معناها إيجاد عواطف وأحداث باطنة، كما تفعل الطبيعة سواء بسواء. تلك هي الحال في الرسم وفنون التجسيم بوجه عام، وكذلك الحال في المأساة. وهذا يظهر واضحاً في تعريف أرسطو للمأساة بأنها أثر فني، يصور فيه حادث مثير للحزن والاشفاق، ممثلاً في شخص أو أشخاص، ومهمة المأساة في مثل هذه الحالة أن تنقى العواطف أو تطهر الوجدانات، عن طريق المشاركة الوجداية، أو الجزع؛ فهنا يلاحظ دائمًا أن التقليد هو في الواقع تقليد لعواطف، أي تصوير لإحساسات ووجدانات أو بعبارة أخرى، هو عرض لأنواع الشعور التي يعانيها الإنسان في حالة ما، وهذا هو الفن في كل معناه.
إلا أن أرسطو كثيراً ما يخلط ين الأثر الفني وبين الفعل الفني، وذلك لأنه -كما قلنا - لا يفرق تفرقة دقيقة بين الفعل الفني الداخلي، وبين الأثر الفني الخارجي. أما ما هو الجميل الذي يسعى إلى تحقيقه الفن، فهنا نجد أن أرسطو لا يكاد يتجاوز التصويرات العادية الشعبية للفن بأنه نظام ومحاولات لإحداث عواطف الملاءمة والانسجام في نفس المشاهد.
النماذج المثالية في الفن عند أرسطو
ذهب أرسطو في إدراكه للصفات المميزة للمثالية في الفن إلى أنه ينبغي أن نتمثل الإنسان على حال من ثلاثة: إما أن يكون أفضل مما هو عليه في الحياة الواقعية، وإما أن يكون أسوأ مما هو عليه، أو كما هو تمامًا.
ففي مجال التصوير صور بوليغنوتوس Polygnotus الإنسان أرق مما هو عليه، وصوره باوزن Pauson أقل قدرًا، بينما صوره ديونيسوس Dionysus على نحو ما يبدو في الحياة.
ويسري الأمر نفسه على الأدب سواء أكان نثرًا أم شعرًا، فهوميروس Homerus يصور شخوصه أفضل من حقيقتهم. ويقدمهم كليوفون Cleophon مثلما هم عليه، في حين يعمد هيغيمون Hegemon مبتكر المحاكاة التهكمية إلى تصويرهم في القالب الهزلي فيعرضهم في صورة أدنى من حقيقتهم.
وتمضي الدراما على نفس النهج، فعلى حين تهدف الملهاة إلى تصوير البشر أسوأ من حقيقتهم، تدف المأساة إلى تصويرهم بأفضل مما هم في الحياة الواقعية. كذلك الحال في الفنون المرئية حيث تتمايز الصورة المثالية عن الصورة الواقعية وعن الكاريكاتير.
وكذلك كان المعبد اليوناني مسكنًا مثاليًا للآلهة صمم المعماريون أبعاده مأوى مهيأ لسكنى كائن متميز على بقية المخلوقات بوصفه العقل الأسمى. فأقاموا علاقة منطقية بين خطوطه ومساقطه وكتله حتى يحقق مكاناً يتوافر فيه الخلود والاستقرار على النقيض من وضع الطبيعة المتغير السريع الزوال.
وبنفس الروح تجنب المثالون الإغريق تصوير الكائن البشري أثناء الطفولة أو خلال سني الشيخوخة، فهما مرحلتان يتمثل فيهما النقص وعدم الكمال، ومن ثم كانتا غير جديرتين بتقديم النماذج المثالية، ولذلك شاعت المنحوتات التي تمثل أبطال الرياضة في سني نضجهم قبل العشرينات، وتناولت الآلهة وهم في عنفوان الرجولة المكتملة. كذلك كان من الأهداف الرئيسية للدراما خلق «الشخصيات المثالية الأصلية» archetypes المتعارضة دائمًا مع الشخصيات الفردية على الرغم من انبثاقها منها.
وأرسطو هو القائل في كتابه «الشعر»: «إن الشعر أكثر فلسفة من التاريخ، لأن الشاعر يحكي ما يمكن أن يفعله الكبياديس». Alcibiades [أحد قادة أثينا العسكريين وتلميذ سقراط]. وهو يعني أن الشاعر [أو الفنان] يمكنه الانطلاق بخياله وتصور ما يمكن أن يكون عليه النموذج المثالي دون التقيد بتصوير الواقع كما هو بل كما ينبغي أن يكون.
الواقعية الجمالية عند أرسطو
ارتبطت نشأة أرسطو Aristotle (322 - 384 ق.م ) وثقافته بالوقائع المتفاعلة مع الأحداث اليومية وحقائق الحياة. إذ كان أبوه طبيبًا درس عليه علوم الأحياء وعلم وظائف الأعضاء، واشتد اهتمامه بتأمل الطير والحيوان ودراسة الأسماك والحشرات. ومن ثم أحاطت دراسته العلمية شطحات فكره بسياج من الواقع، فلم ير في الأفكار سوى تعميمات تأخذ طريقها إلى الفكر ابتداء مما تقرره الحواس، ورفض الابتعاد عن الحقيقة المادية العينية التي أراد أفلاطون تجاوزها وتخطيها بوصفها زائفة خداعة، وأعطى للملاحظة قيمتها فجاء كلامه أكثر ارتباطا بالواقعية، وأرسى بذلك لمنهج التفكير الواقعي قاعدة متينة، وأقام وزنًا للتجربة وللحواس الإنسانية، وأشاد - نتيجة لهذا - بالمحاكاة، وأقر دورها في الفن معارضًا أستاذه أفلاطون الذي نظر للمحاكاة mimesis بازدراء وذهب إلى أنها تزيف للفن مع اعترافه بوجودها حقيقة مؤكدة وظاهرة فعلية في عالم الفن.
وكان للواقعية الأرسطية أثرها على الفن المتأغرق فشقت سبيلها إلى فن العمارة وإلى الأعمدة التي تميزت بالتيجان ذات الطراز الكورنثي Corinthian المزدانة بصفوف محفورة على هيئة أوراق الأكانثا مخالفة بذلك زخرفة الطرازين الدوري Doric والأيوني Ionic القائمة على التجريد.
وقد عزز أرسطو التيار الواقعي حين اكتشف أن الهدف من الفن هو إمتاع المشاهد وإثارة إعجابه، وحدد لحظة المتعة بتعرف المشاهد على حقيقة النموذج موضوع التقليد والمحاكاة. وأدى هذا الفهم الأرسطي إلى تدعيم النزعة الطبيعية في الفن عن غير قصد، ذلك أن الفكرة الأرسطية تحصر المتعة في التعرف على النموذج موضوع العمل الفني دون ما نظر إلى حقيقته أو إلى جماله أو قبحه، فلا فرق بين أن يكون موضوع المحاكاة ماردًا أو جيفة أو غير ذلك مما هو دميم منفر، وانتهت هذه الفلسفة إلى ابتداع مبرر لتصوير الحياة بكل ما تنطوي عليه من شائه وجميل ولم يقتصر تطبيق الواقعية على الإنسان فحسب وإنما امتد إلى الطبيعة ذاتها ومشاهدها المصورة وهو ما لم تألفه الفنون الإغريقية من قبل، وغدت واقعية المشاهد الخلوية في الفنون سمة لازمت الفن السكندري. وهكذا مضى الفن الإغريقي متبعًا نهجين متباينين هما الجمال المثالي والواقعية.
وحين نحى أرسطو عن الفكر اليوناني طبيعته المجردة تجردًا مطلقًا وأعطى أهمية للنزعة التجرييية للحواس أحل التعبير عن الشعور محل تطبيق المبادئ العقلانية العامة، وبرهن على هذه المقولة بنظرية الكاثارسيس catharsis أو التطهير النفسي من خلال الفن. ومن هنا ظهرت المفارقة التي جعلت من الفن تعبيرًا عن الوجدان في نفس الوقت الذي هو فيه مطهر للوجدان.