رواقية
الرُّواقيَّة هي مَذهَبٌ فَلسَفيٌّ هِلِنِستِيٌّ أنشأه الفيلسوفُ اليونانيُ زينون السيشومي في أثينا ببدايات القرن الثالث قبل الميلاد. تندرج الرواقية تحت فلسفة الأخلاقيات الشخصية التي تُستَمَدُّ من نظامها المنطقي وتأملاتها على الطبيعة. وفقاً لتعاليمها، فإن الطريق إلى اليودايمونيا (السعادة أو الراحة الدائمة) يكون بتقبل الحاضر، وكبح النفس من الانقياد للذة أو الخوف من الألم، عبر مَشُورَةِ العقلِ لفهم العالم وفِعلِ ما تقتضيه الطبيعة. عُرِفَ الرِّواقِيُّون لتعاليمٍ مِثل «الفضيلة هي الخير الوحيد»، وأنَّ بقيةَ الأشياءِ الخارجيةِ كالصحةِ، الثراءِ، واللذةِ ليست شراً أو خيراً في حدِّ ذاتها، لكنَّها تحملُ قيمةً بصفتها "مادة يسع للفضيلة أن تستعملها".
يذكر زينون السيشومي: "إن العالم كلٌّ عضويّ، تتخلله قوة الله الفاعلة، وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل، مع التأكيد أن الإنسان، لا يستطيع أن يلتمس هذه المعرفة، إلاّ إذا كبح جماح عواطفه، وتحرر من الانفعال". والرواقيون يدعون إلى التناغم مع الطبيعة، والصبر على المشاق، والأخذ بأهداب الفضيلة، لأن الفضيلة هي إرادة الله. بحيث تركز الفلسفة الرواقية على التناغم كإطار لفهم طبيعة الاشياء وكأسلوب للتخلص من الكدر الذي تسببه الاحاسيس. وقد اطلق عليهم لقب الرواقيون لانهم عقدوا اجتماعاتهم في الاروقة في مدينة اثينا، حيث نشأت هذه الفلسفة هناك، حوالي عام 300 ق.م. كما أطلق عليهم اسم أصحاب المظلة، وحكماء المظال، وأصحاب الأصطوان.
اعتقد الرواقيون أن المشاعر الهدامة، مثل الخوف والحسد، والحب الملتهب والجنس المتقد، هم بذاتهم، أو ما تبثق عنهم، هم أحكام خاطئة، وأن الإنسان الحكيم، أو الشخص الذي حقق كمالا اخلاقيا وفكريا، ليكون قد وصل إلى درجة لا الخضوع بها لهذه المشاعر. وبالتالي، فإن ما يدل على نفسية ودرجة ادراك الفرد هي تصرفاته واعماله وليس اقواله. ولكي يحيا المرء حياة صالحة، عليه ان يستوعب قوانين الطبيعة.
ومن أشهر الرواقيين المتأخرين، في عهد الرومان، لوكيوس سنيكا و ماركوس أوريليوس. اللذان أكدا أن الفضيلة هي ضرورة للسعادة، وبالتالي، فان للمرء الحكيم مناعة ضد النحس والمحن.
وقد انتشرت الرواقية لدى أتباع كثر في اليونان الرومانية وبقية انحاء الامبراطورية الرومانية واستمرت حتى اغلاق كل مدارس الفلسفة الملحدة في عام 529 الميلادية بأوامر من الإمبراطور جستينيان الأول الذي اعتبرهم مخالفون للشريعة المسيحية. وبتأثر من جوستن لبسيوس، تطورت الرواقية المحدثة بدمج الأفكار بين المسيحية والرواقية التقليدية.
الركائز الأساسية
الرواقية فلسفة طبيعية جبرية تعتقد بوحدة الموجود و ترى عكس الكلبية أن الهدف من الفكر ليس هو الشعور بالسعادة بل إن السعادة ليست إلا شعور عرضي يصاحب الوصول إلى الحقيقة بعد إعمال الفكر, أما قولهم أن الحكيم الرواقي عليه أن يتجاوز الانفعالات كالخوف والحسد.. راجع إلى اعتقادهم الجبري فما دام أن الإنسان في اعتقادهم مجبور على أفعاله ليس عليه أن يهتم بالانفعالات التي تصدر عن شعوره بالمسؤولية، إذ يروى أن زينو الرواقي مؤسس الرواقية كان يضرب عبدا له على خطأ اقترفه فذكره العبد بفلسفته التي تقول أن الإنسان مجبور على أفعاله لكي يعفو عنه فرد زينو قائلا وأنا أيضا مجبور على ضربك, و قد كان العبد الفيلسوف ابكتيتوس رواقيا .
المراحل التاريخية
مرت الرواقية بثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى، في القرن الثالث قبل الميلاد ومن روادها زينون وكليانثس؛
- المرحلة الثانية وتسمى الرواقية المتوسطة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد: من روادها ديوجين السليوسي، وبانيتيس الروديسي وخريسيبوس؛
- المرحلة الثالثة وتعرف بالرواقية الرومانية المتأخرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين ومن روادها سنيكا وإيبكتيتوس والإمبرطور ماركوس أوريليوس. معظم الكتابات الباقية أتت من هذه المرحلة.
الفلاسفة الرواقيون
الرواقيون هم دعاة مدرسة فلسفية انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد، تحت تأثير الأفكار التي تدعو إلى المواطنة العالمية، وتحت تأثير الأفكار ذات النزعة الفردية، وتحت تأثير التطورات التقنية التي فرضها التوسع في المعرفة الرياضية، وكان زينون وكريسيبوس أكبر الدعاة البارزين للمدرسة في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد وقد تحدد دور العلوم لديهم على النحو التالي:
- المنطق هو السور، الفيزياء هي التربة الخصبة، الأخلاق هي ثمرتها.
والمهمة الرئيسية للفلسفة تخص الأخلاق، وليست المعرفة أكثر من وسيلة اكتساب الحكمة والمهارة في الحياة، ويذهب الرواقيون إلى أن الحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، وتقوم السعادة في البلادة أو التحرر الانفعالي، وفي سلام العقل وفي رباطة الجأش، والقدر يحدد كل شيء في الحياة ومن يتقبل هذا يرضيه القدر، ومن يقاوم يرغمه القدر.
وكان الرواقيون ماديين في تصورهم للطبيعة، ويقولون بأن كل ما في العالم أجسام ذات كثافة مختلفة، والحقيقي يجب تمييزه من الحق، ولا شيء سوى الأجسام يوجد حقاً، والحقيقي من جهة أخرى غير متجسد ولا يوجد، والحقيقي ليس سوى عبارة.
وعند الرواقيين تتحد المادية بالمذهب الأسمى، والحواس تفهم الواقع على أنه أشياء جزئية، والعلم يسعى إلى فهم العام، غير أن هذا العام على هذا النحو لا يوجد في العالم، وقد سلم الرواقيون بوجود أربع مقولات وهي:
- القوام (الموجود)، الكيف، الحالة (أي «الكينونة»)، الحالة النسبية («الوجود إلى يمين شيء ما»)
والرواقيون، على عكس منطق المحمولات، ابدعوا منطقاً للقضايا لا يقوم على الأحكام القطعية بل على الأحكام النسبية، وأنشأ الرواقيون ضروباً من ارتباط الأحكام أشار إليها المنطق الحديث على أنها تضمين مادي.
وأبرز الرواقيون هم :
يعتبر زينون الرواقي (334 ق.م - 262 ق.م) مؤسس الفلسفة الرواقية.
ويليه كليانثس (330 ق.م - 30 ق.م) وخريسيبوس ( 279 ق.م - 206 ق.م) كروَّاد هذه الفلسفة الأوائل.
كتب خريسيبوس بغزارة أكثر من غيره، حيث الف ما يزيد عن 165 عملاً، لكن لم يبقَ من مؤلفاته إلا القليل.
أما الفلاسفة الرواقيين الذين وصلت إلينا أعمالهم الكاملة هم أولئك الذين عاشوا في الحقبة أزمنة الأمبراطورية سينكا الأصغر (4 ق.م - 65 م)، أبكتاتوس ( 55 م - 135 م)، والإمبراطور ماركوس اروليوس (121 م - 180 م).
وفي تاريخ الإسلام مثل هذه الفرقة الملحدون الدياصنة الذين انتشروا في العراق في العصر العباسي وكانت لهم مناظرات مع هشام بن الحكم تلميذ الإمام جعفر الصادق وقد كان هشام بن الحكم ملحدا ديصانيا قبل أن يصير من شيعة الإمام الصادق.
المواضع الفلسفية
الفلسفة والحياة
يعتقد الفلاسفة الرواقيون أن الفلسفة ليست مجرد تسلية أو علم لذاته بل طريقة في الحياة ولهذا نراهم يعرفون الفلسفة كتمرين أو كممارسة حياتية خالصة ويجب أن تكون هكذا.
انظر أيضاً
الموسوعة
الفلسفة الرِّوَاقِيَّة مذهب فلسفي ازدهر حوالي القرن الرابع قبل الميلاد واستمر حتى القرن الرابع الميلادي. بدأت في اليونان ثم امتد إلى روما. اعتقد الفلاسفة الرواقيون أن لكل الناس إدراكًا داخل أنفسهم، يربط كل واحد بكل الناس الآخرين وبالحق ـ الإله الذي يتحكم في العالم. أدى هذا الاعتقاد إلى قاعدة نظرية للكون، وهي فكرة أن الناس هم مواطنو العالم، وليسوا مواطني بلد واحد، أو منطقة معينة. قادت هذه النظرة أيضًا إلى الإيمان بقانون طبيعي يعلو على القانون المدني ويعطي معيارًا تقوَّم به قوانين الإنسان. ورأى الرواقيون أن الناس يحققون أعظم خير لأنفسهم، ويبلغون السعادة باتباع الحق، وبتحرير أنفسهم من الانفعالات، وبالتركيز فقط على أشياء بوسعهم السيطرة عليها.
لقد كان للفلاسفة الرواقيين أكبر الأثر في القانون والأخلاق والنظرية السياسية. على أنهم وضعوا أيضًا نظريات مهمة في المنطق، والمعرفة، والفلسفة الطبيعية. ويعتبر زينون مؤسس الفلسفة الرواقية.
كان الرواقيون الأوائل، وخاصة كريسيبيس، مغرمين بالمنطق، والفلسفة الطبيعية وكذلك بالأخلاقيات. وشدد الرواقيون المتأخرون ـ خاصة سنيكا وماركوس أُوريليوس وأبيكتيتوس ـ على الأخلاقيات.
انظر أيضًا:زينون الرواقي؛ أبيكتيتوس؛ ماركوس أوريليوس؛ سنيكا، لوسيوس أنايوس.
عبد الرحمن بدوي
ظاهرة التأثر بالنزعات الشرقية اوضح ما تكون لدى مذهب الرواقية، خصوصاً إذا لاحظنا أيضاً ان رؤساء هذا المذهب ند صدروا عن بلدان تقع في آسيا الصغرى أوفي الجزر الشرقية من الأرخبيل أوفي بلاد موجودة على الحدود مباشرة بين بلاد الفرس وبين البلاد اليونانية، فكأنهم قد نشأوا جمبعاً في بيثة كان التأثر فيها بالعناصر الشرقية واضحاً كل الوضوح. وإذا كانت أثينا قد استمرت مع ذلك مدة طويلة المركز الرئيسي للحركة الفكرية في بلاد اليونان، واستطاعت أيضاً ان تقاوم نفوذ الإسكندرية وروما المتزايد، فإنه يلاحظ كذلك ان رؤساء هذه المدرسة ، وإن علموا في أثينا، فإن بلادهم الأصلية كانت أقرب ما تكون إلى الشرق، والذين كانوا أثينيين حقاً كانوا اتباعاً وفي مركزثانوي بالنسبة إلى رؤساء المدرسة. فمن الناحية الجغرافية أيضاً نجد إذا أن انحطاط الفلسفة قد اقترن بانتقال مركزها الرئيسي من أثينا نحو الغرف.
والرواقية لها اتباع يونانيون وآخرون رومانيون، ولهذا انقسمت إلى دورين كبيرين: دور الرواقية اليونانية، ودور
٥٢٨
الرواقية
الرواقية الرومانية، ويمثل الدور الأول مؤسس مذهب الرواقية وهو زينون الرواقي، ثم تلميذه كليانتس، وقد كان أقدر على التحصيل وأقل في درجة الفهم، واخيراً كرييفوس، الذي بعد المنظم النهائي، والواضع لكل أجزاء المذهب الرواقي خصوصاً لان الملمج الذي اتبعه وطريقة البرهنة التي كانت خاصة به، كل هذا قد أعطى للمذهب الرواقي صورة نهائية على يديه أما الرواقية الرومانية فيمثلها على الأخص شخصيات رومانية ثلاث كذلك هي : ايكتاتوس ثم سينكا ثم ماركس أورليوس . ولن يستطيع المؤرخ أن يبين تطور الفلسفة الرواقية، ولا أوجه الاختلاف العديدة بين كبار مؤسسيها خصوصاً فيما يتصل بالدور الثاني، لأنه لم تبق لدينا آثار يعتد بها من هذا الدور؛ وزينون، مؤسس المدرسة، على الرغم من كل المؤلفات التيكتبها،لميبقلنامن آثاره شيء اللهم إلا شذرات ضئيلة، وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية الرواقيين (اليونانيين)؛ فما لدينا عن الفلسفة الرواقية ينحصر فيما خلفه لنا الرواقيون الرومانيون، وما تركه الخصوم أو الشراح أو امؤرخون من أقوال تتعلق بمذهبهم . وهنا يلاحظ أن ما تركه الرومانيون قد كان ذلك بعد أن أخذت المدرسة وجهة أخرى، بأن أصبحت أميل إلى العمل وأقل نظرية وحرصاً على التفكير الفلسفي الصرف، مما كانت عليه في الدور اليوناني .
ثم إننا لا نستطيع ان نعرف على وجه التأكيد إلى من يجب أن ننسب هذه الاختلافات التي ظهرت بين الأقوال في كل مسألة من المسائل التي تناولتها الفلسفة الرواقية. كما يلاحظ إلى جانبهذا ان أقوال الخصوم وشراح أرسطووأفلاطون لا تقدم لنا شيئاً يعتد به في هذا الباب . ولهذا يمكن القول بأن معرفتنا عن الفلسفة الرواقية معرفة ناقصة ٠ ولم يستطع أن يكملها ما نشره هانس فون ارنم بعنوان «شذرات الرواقيين القدماء»، ولهذا لم يكن أمام الشراح والمؤرخين غير وسيلة واحدة لعرض المذهب الرواقي، وهي أن يعرض دفعة واحدة مع الإشارة إلى الاختلافات التى نص عليها المؤرخون صراحة بين مؤسسى الرواقية . وإن الاختلاف بين الرواقيين ليظهر واضحاً في أول مسألة من مساثل الفلسفة، ونعنى بها الغاية من الفلسفة وترتيب أجزاء الفلسفة بعضها بالنسبة إلى بعض. فيلاحظ أولاً أن الرواقية يمتازمذهبها بثلاث مسائل رئيسية : الأولى أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العملية، والثانية ان الفلسفة العملية هي التي تقوم على العمل المطابق للعقل، والثالثة أن العمل المطابق للعقل هوالذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة. فيظهرمن هذه
الخصائص الرئيسية أن الغاية من الفلسفة أن تكون فلسفة عملية. وذلك أن الرواقيين ينظرون إلى الفلسفة بوصف انها الأخلاق، وأن الأخلاق أو الفلسفة بالمعفى العام هي أن يفعل الإنسان وفقا لقوانين العقل، وفي سيره بمقتضى العقل إنما يسير بمقتضى قوانين الطبيعة. لكن المهم في هذا كله، والغاية التي تسعى إليها كل فلسفة في نظرهم، هي أن تضع قوانين للسلوك الإنسافي الخير، ولهذا فإن أجزاء الفلسفة هي في الواقع أجزاء الفضيلة، لأن موفوع الفلسفة هو الفضيلة، وما فروع الفلسفة المختلفة إلا أنواع متعددة للفضيلة. فكأننا هنا أبعد ما نكون عن المثل الأفلاطوفي والأرستطالي الأض. فليست الحياة النظرية كما صورها أرسطوطاليس الغاية بالنسبة إلى الحكيم، بل كما يقول كرييفوس : إن الحكيم الذي يطلب من الفلسفة النظر لصرف، إنما يبغي أنيسيرعلىهواه، وليسعلى مقتضى الطبيعة، أي أنه لا يفعل الخير، وإنما يسير وفق أهوائه الخاصة ٠ وهكذا نجد أن الغاية من الفلسفة أن تكون فلسفة عملية تحدد الفضائل التي يجب على الإنسان أن يتحلى بها. ولكن هذه الغاية لا زالت غيرواضحة، فلا بد ان تتضح أكنر وأكثر عن طريف الطابعين الثاني والثالث لهذه الفلسفة؛ وهذا الطابع الثافي يقول إن العمل يكون خيراً إذا كان العقل هو الذي يسيره؛ والسير على العقل عند الرواقيين ليس شيئاً آخر غير السير على مقتضى القوانين الطبيعية , وهكذا نجد أن الفلسفة العملية ستنحل في نهاية الأمر إلى فلسفة نظرية، تقوم على معرفة قوانين الطبيعة، من أجل السير من بعدعلى مقتضاها.
ومن هنا اختلف الرواييون فيما بينهم حول تحديد فروع الفلسفة الرئيسية أو تصنيف العلوم الفلسفية، فنجد كممثل للحد المتطرف، أو للطرف اليسار من هذه المدرسة أرسطون الخيوسى. فهو يقول إن المنطق لا يؤدي إلى معرفة حقيقية -وإنما هو انواع من التدقيقات لا تفيد كثيراً في تحصيل المعرفة الحقيقية، فهومن أجل هذا غيرمفيد. أما المعرفة الطبيعية فلا نستطيع أن نصل إليها على وجه التدقيق، وذلك لأن ماهيات الأشياء الطبيعية لا يتيسر للمعقل أن يدركها على الوجه الصحيح، ومن أجل هذا فليس في استطاعتنا أن ندرس الطبيعيات دراسة حقيقية . فهناك إذن عدم نفع بالنسبة إلى المنطق، ومن ناحية أخرى عسر يقرب من الاستحالة فيما يتصل بالطبيعيات، فلم يبق إذن غير فرع واحد من فروع الفلسفة يجب على الفيلسوف أن يعنى بدراسته كل العناية، ألا وهو الأخلاق. ولا يريد أرطون من الأخلاق أن تعنى إلا بالمسائل العامة الكلية، فهو لايريد منها إلا أن تشتغل بتحديد الخير والشر والحسن والقبيح، والمبادىء لأولى الرئيية لتي يقوم عليها النظام الأخلاقي الصحيح، أما ما عدا ذلك فيما يتصل بالتحديد الجزئي للفضائل وتعيين الصفات الخاصة بكل فضيلة، وقواعد لسلوك العملية الجزئية، فلا يريد أرسطون أن يجعل الأخلاق تعنى به، لأنها تفصيلات جزئية تخرج بالأخلاق عن موضوعها الحقيقي، وهو تعيين الحبر والشر تعيينا صوريا عاماً، وإلا لما استطعنا أن نحدد على وجه التحقيق ماهية الفضائل، لأن البحث في. الجزئيات لا يكاد ينتهي.
لكن هذ الرأي المتطرف في النظر إلى أقام الفلسفة وغاياتها يبدو أنه لم يكن رأي الأغلبية من الرواقيين، وذلك من النقد أو المعارضة التي يوجهها أرسطون نفسه إلى الذين يعترضون على رأيه، وهو لا يقصد بهذه المعارضة أن تكون موجهة ضد الأفلاطونيين والأرستطاليين، وإنما يريد بها أولاً وقبل كل شيء أن تكون موجهة إلى أتباع المدرسة أنفسهم ■ وهذا واضح بالنسبة إلى القدماء من الرواقيين خصوصا، فنحن نعرف فيما يذكر لنا عن زينون أنه كان يقسم الفلسفة إلى أجزائها الرئيية الثلاثة؛ وهي لمنطق والطبيعيات والأخلاق، مدخلا في باب الطبيعيات ما يمكن أن يسمى باسم مباحث الوجود، وإن كانت هذه المباحث لا تشمل كل ما نعرفه عند أرسطو وأفلاطون تحت اسم ما بعد الطبيعة. وهذا يظهر ايضاً من عنوانات الكتب التي بقيت لنا أسماؤها منسوبة إلى زينون، ويظهر كذلك من الأقوال المختلفة التي يعرضها لنا المؤرخون منسوبة بصراحة إلى زينون. وهكذا نجد أن زينون قد قم الفلسفة إلى أجزائها الرئيية؛ وفعل مثل ذلك كليانتس، ثم كريسيفوس، مع اختلاف فيما بين هؤلاء فيما يتصل بالعناية التي وجهت إلى أحد هذه الفروع على حدة؟ فمثلاً نجد أن العناية بالطبيعيات ئم بالأخلاق قد بلغت حدا كبيرا عند زينون وعند كليانتس، الذي لا يمكن أن يعد غير مجرد صدى لأقوال أستاذه زينون، ثم نجد على العكس من ذلك أن كريسيفوس قد اهتم اهتماماً كبيراً بالمنطق، وهو معروف، خصوصاً في هذه المدرسة، بأنه الباحث المنعلقي الذي عني بالجدل وبالتدقيقات المنطقية إلى أقصى حد، ولكن هذا ليس معناه أن المنطق قد أهمله الآخرون، فمما يذكر عن زينون نفسه أن أسلوبه كان يسير دائماً بحسب القواعد لمنطقية، وفي صورة موجزة توضح تأثره بالمنطق كل التوضيح , فمن هنا نستطيع أن نقول. إن الرواقيين بوجه عام كانوا يجزئون الفلسفة تجزئة ثلاثية إلى : المنطق، والطبيعيات، والأخلاق.
نم يأقي الخلاف مرة ثالثة في الترتيب التصاعدي الذي يوضع لهذه الأقام الثلاثة. فهم متفقون فيما بينهم تقريبا على جعل المنطق أداة بمعنى الكلمة للقسمين الآخرين من الفلسفة، وهم يقولون بكل صراحة إن المنطق لا أهمية له في الواقع، إلا ان يكون أداة يميز بواسطته بين الصحيح والفاسد من أنواع البرهان . ولهذا كان اهتمامهم خصوصاً بالناحية البرهانية من المنطق، أما النواحي الأخرى التي تتناول المنطق الحقيقي، وهو المنطق بوصفه بيانا للعمليات العقلية التي يقوم جها العقل الإنسافي حينما يفكر، فلم يكد يوجه إليه الرواقيون غيرقليلمن العناية ي طرى يعد قبل.
لكن الاختلاف قد جاء من بعد في ترتيب الطبيعيات بالنسبة إلى الأخلاق. فقد رأينا أن الطابع الرئيسي للفلسفة الرواقية هو أنها فلسفة عملية، لأنها كانت تجعل من العسل الغاية الحقيقية للحياة الإنسانية، وتجعل بالتالي من العلم الذي يقوم نحته العمل الموضوع الرئيسي للتفكير؛ فمن هنا يخيل للإنسان في أول الأمر أنه لا بد للرواقي أن يعد الأخلاق في مرتبة عليا بالنسبة إلى ترتيب العلوم الفلسفية , إلا أنه يلاحظ من ناحية أخرى أن الفعل الأخلاقى لا يكون صحيحاً إلا إذا كان موافقاً لا تقتضيه قوانين الطبيعة، أعنى أن الفعل الأخلاقى يتجه إلى تحقيق ما مجري عليه نظام الطبيعة، فكأنه وسبلة إذا لتحقيق قوانين الطبيعة بالنسبة إلى الإنسان، أي أن الفعل الأخلاقي في مركز ثانوي بالنسبة إلى القانون الطبيعي. ذلك لأن كل فعل أخلاقي إنما يكون عن طريق الممارسة، والممارسة لا تكون إلا على أساس النظرية، فالنظرية إذن هي المبدأ الأول الذي يقوم عليه العمل الأخلاقي، أو بعبارة أخرى الغاية من كل تجربة أو فعل أخلاقى هي تحقيق، قانون طبيعى. فمن هذه الناحية نجد أن المركز الأول يجب إذا أن يضاف إلى الطبيعيات لاإلى الأخلاق.
وأتباع المدرسة في الواقع مختلفون فيما يتصل بواجب كل منهم، ومن هنا كان اختلافهم في العناية بكل جزء من هذين الجزئين. فنحن نجدهم قد عنوا عناية كبيرة جدا بالطبيعيات، ولا نستطيع أن نفسر هذا إلا على اساس وجهة النظر التي اتينا على عرضها منذ قليل. فكيف نحل المسألة إذاً فيما يتصل بترتيب هذين العلمين؟ لايمكن أن تحل المسألة إلا على أساس تاريخى صرف، بان نقول : إن التطور كان يتجه في ادى، لأمر - خصوصاً أن الفكر كان لا يزال خصباً يستطيع أن ينتج من الناحية الميتافيزيقة النظرية - عند زينون وكليانتس إلى
الرراقية
العناية بالطبيعة أكثر من الأخلاق أما الطور الثافي - وقد طغت النزعة العملية، وأقفر العقل الإنساني عند الرواقيين، ولميعد فادراً على ان يستجيب لنداءلنظرعلى حساب العمل-فكان طبيعياً، تبعاً لهذا، ان يكون للأخلاق فيه المقام لأول بالنسبة إلى الطبيعيات، وأن تنحل العلوم الطبيعية شيئاً فشيئاً، وهذا يظهر في أواخر الدور اليوناني عند كريسيفوس، وإن كان لا يزال غيرواضح كل الوضوح. ثم يأقي الدور الرومافي - وقد ساعدت طبيعة الروح الرومانية الخاصة على التطور على هذا النحو- نقول ما لبث أن جاء الطور الروماني، فإذا بالفلسفة الرواقية تصبح عملية صرفة، لا تكاد تتجاوز في شيء انواع الأعمال والقواعد المرتبطة بأنواع الأعمال التي يجب أن يؤديها الإنسان حتى يصل إلى الحياة العيدة، اوإلى الخلاص في هذه الحياة. فكان الوضع الصحيح في هذه الحالة ان تكون الأخلاق في الدرجة الأولى، وأن يكون للطبيعيات مقام ثانوي جدا إن لم تكن قد اخرجت بالفعل من ميدان النظر الفلسفي الرواقي. لكننا سنتابع دراسة الفلفة الرواقية مقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة، معنيين - على وجه الخصوص - بالقسمين الآخرين. فلنبدا بالمنطق:
المنطق الرواقي:وأول ما نلاحظه على لمنطق الرواقي أن المنطق كاد ان ينحل ويخرج عن الطريق الأصلي الذي رسمه ارسطو، وكان من الخيرمن أجل تطور المنطق ان يسلك . فبدلاً من ان يكون المنطق متجها إلى تحديد عمليات الفكر بصرف النظر عن التعبير عن هذه العمليات إلى حد كبير، نجد أن المنطق، نظراً إلى أن القوة الخالقة فيه قد فقدت، قد اتجه إلى الناحية الشكلية، حتى انتهى الامر أخيراً بأن أصبحت هذه الناحية الشكلية كل شيء فيه : فهذه الناحية تظهرفي تقسيمهم للمنطق إلى قسمين رئيسيين القسم الأول هو الديالكتتك، والقسم الثاني هو الخطابة. وذلك تبعا لتقسيمهم للكلام إلى نوعين: نوعمتلل ونوعمنطق، النوع المتسلسل يتعلق م الديالكتيك، والنوع الآخرتتعلق به الخطابة. وحتى في باب المنطق نجدهم عنوا عناية كبيرة بالناحية الشكلية الصرفة، أي ناحية الألفاظ والحدود أكثر من عنايتهم بالبحث في العمليات المنطقية العقلية الحقيقية التي يقوم بها الذهن اثناء التفكير الصحيح. ولا يعنينا طبعا غير الديالكتيك. اما المنطق بمعفى الخطابة فلا يعنينا في شيء ولهذا لن نتحدث إلا عن القسم الأخير، وهو القسم الديالكتيكى.
وهنا تجدهم يقمون هذا المنطق الديالكتيكى إلى
قسمين ريسيين لأن المنطق ينقم إلى ناحيتين : ناحية التمية، وناحية امسمى، او ناحية المحددأوبعبارة أوضح: ناحيةا لأفكار او التصورات، وناحية الألفاظ المعبرة عن هذه التصورات، فانقسم المنطف عندهم علي هذا الأساس. إلا انه يجب ان تضاف إلى المنطق، مفهودا على هذا النحو، نظرية المعرفة. وبذا يكون قد انقسم في النهاية إلى نظرية المعرفة، وإلى المنطق الصوري.
نظرية المعرفة: بحث الرواقيون في الأسس التي تقوم عليها المعرفة، وفي مصادر المعرفة، وفي المعيار الذي يتخذ من اجل التمييز بين المعرفة الصحيحة والمعرفة الباطلة. وعلى الرغم من أن الأبحاث التي تركوها لنا فيمذا الصدد متناثرة لا تكون مذهباً تاماً في نظرية المعرفة، فإننا نستطيع ان نفصل القول في نظرية المعرفة عندهم على هذا الأساس: بأن نبحث اولاً في مصادر المعرفة والأساس الذي تقوم عليه فنجدان الرواقيين يميزون اولاً يين الصور الحسية وبين الإدراك الحسي، ويقولون إن الصور الحسية صادرة مباشرة عن المحسوسات؛ والمحسوسات هي الأصل في كل معرفة، ويفسرون الإحساس في هذه الحالة تفسيرا ماديا بأن يقولوا إن الاحساس هو انطباع اثر المحسوس في النفس- وفكرة الانطباع هذه اخذت بمعناها المادي الصرف، حتى إن كليانتس قد شبه هذا لانطباع بأنه كانطباع نقش الخاتم على الشمع تماماً
إلا أنه لا بد أن يكون هذا التفسير للإحساس قد ظهر لكرييفوس غبر مقنع لأنه مادي إلى حد بعيد، ولهذا حاول أن يعدل من هذه النظرية مع جولانه في داخل المذهب الرواقي الأصلي وهو المذهب المادي، فقال إن الإحساس عبارة عن تغير يحدث في النفس تحت تأثير موضوعات خارجية، وإلى هذا الإحساس او الصور الحسية ترجع كل معرفة، فهي الأساس.
إلا ان الرواقيين يقولون مع ذلك بوجود مصدراخر، سموه التذكر. فإن الانسان بعد ان يجمع عدة تصورات حسية، يتكون له عنها تصور كلي، غير أن هذا التصور الكلي ليس غير مجموعة التصورات الحسية الصرفة، فهنا نجد ان المذهب يسير منطقيا مع نفسه. ولكنا نجدهم بعد ذلك يخرجون على منطق المذهب فيقولون بوجود تصورات كلية، بالمعنى الذهني الصرف الخارجي عن كل إدراك حسي خارجي، وسموا هذا باسم «العلم»، ومجموعة التصورات الكلية هي التي تكون العلم في هذه الحالة. وهم يؤكدون إلى جانب هذا ان هذه التصورات لا مادية، لأها خارجة عن كل موضوع خارجي. كما اها خارجة
الروافية
٥٣١
عن التعبير عبا باللفظ، فهي اقرب ما تكون إلى الكليات كما تصورها افلاطون او على الأقل كما تصورها أرسطو. إلا أنه يلاحظ ان هذا لا يتفق في الواقع مع منطق المذهب، لأن الاصل في كل وجود حقيقي ان يكون وجوداً محوساً او وجود الأجسام، كما سنرى في مذهبهم الطبيعي، بينما نجد ان التصورات الكلية، التي قالوا بأها تكون العلم، خارجة عن المحسوسات ومنفصلة عن اي تصوير مادي . ولسنا ندري كيف تخلص الرواقيون من هذه المشكلة او هذا التناقض.
اما الصدف والكذب، فيكونان دائماً في الأحكام او القفايا؛ وهم يرجعون الصدق والكذب إلى احوال ذاتية نفسية صرفة، فبدلا من أن يقولوا إن الصدق هو مطابقة المضمون للموضوع الخارجي؛ يقولون إن الصدق والكذب يتوقف كل منهما على درجة الاقتناع انفسي، فما يأقي إلى النفس بقوة ويظهر لها في صورة لاقتناع يكون صادقاً، وما يبدو لها غير مقنع فهو كاذب، وعلى ذلك فالمعيار معيار ذاي.
إلا انهم ينظرون، أو في الواقع يرجعون هذا المعيار الذاي إلى الغاية الأصلية من الفلسفة عندهم، اا وهي الأخلاق. فإن الأصل فيكل نظر عندهم هو العمل، والذي يدفع إلى العمل هو اقتناع الإنسان بصدق تصور او ببطلانه، فعلى هذا ترجع مسألة التمييز في الأفعال إلى مسألة اقتناعية نفية، فلي بغريب إذا ان يكون الاقتناع وعدمه المصدرين الأساسيين للتمييز بين المعرفة الصحيحة، وغير الصحيحة. وهذه الخاصية: خاصية إرجاع النظر إلى العمل، هي إحدى الحجج القوية التي يوجهها الرواقيون إلى الشكاك، فإن أقوى حججهم ضد الثكاك هي أن إنكار كل معرفة يمنع الإنسان من العمل، لأن الإنسان لكي يعمل لا بد له أن يسيروفق تصورات في ذهنه يقتنع بأنها صحيحة، وعلى هذا فلا بد من الاقتناع بصحة تصورات، أي لا بد من القول بإمكان المعرفة الصحيحة، لكي يكون ثمت عمل، فحجة الثكاك إذا باطلة. وهكذا نجد أنه حتى في نظرية المعرفة نفسها، المرجع الأخيروالمعيار-كما اشرنا إلىهذا من قبل -هوداثما الأخلاق أو العل.
والواقع أنه ليس في هذه النظرية للمعرفة شيء جديد يعتد به، وإنما الملاحظ أن فيها استمرارا لذهب الكلبيين الذي يريد ان يجعل المعرفة حسية او صادرة عن الحس مباشرة، وإن كانوا قد اضطروا، فيآخر الأمر، إلىأن يقولوا بوجود لكليات فيالذهن.
المنطق الصوري: إن الأبحاث التي قام بها الرواقيون في المنطق تتصل مباشرة بالمنطق الأرستطالي؛ وإذا كان فيها شيء من التعديل او التوسع فمرجع ذلك إلى عناية الرواقيين بوجه خاص بالناحية اللفظية، وهذا ظاهر في كل اجزاء المطق، وليس فقط في باب الحدود.
وينقم كلامهم في المنطق إلى ابواب رثيسية: احدها خاص بالمقولات، والثافي بالأحكام أو القضايا، والثالث بالأقية. اما المقولات- وقد صرفنا النظر عن كلامهم في الألفاظ، لأنه لا قيمة له في الواقع، ولم يأتوا فيه بجديد من ناحية المنطق اللهم إلا من ناحية المصطلح، فقد اتوا بأباء جديدة في بابهم - نقول إنهم في المقولات قد غيروا تغييراً كبيراً في نظام المقولات عند ارسطو. فهم يأخذون على المقولات الأرسطية اولأ انها كثيرة العدد إلى حد كبير، وياخذون عليها ثانياً انا لا تعبر عن كل الصلات التي توجد في اللغة . وعلى الرغم ما لهذه الملاحظة الأخيرة من فيمة اليوم، فإنه يلاحظ ان من الواجب أن يفرق بين المقولات بوصفها محمولات عليا على الوجود، وبين المقولات كما يتصورها الرواقيون بوصفها دلالات على انحاء التعبير اللغوي. ومن هنا اق الرواقيون بلوحة جديدة للمقولات، فأرجعوا المقولات إلى اربع، وبدلاً من ان يتمروا على الطريقة التي اتبعها ارسطو في عدم إرجاعه هذه المقولات إلى مقولة عليا تضم نحتها بقية المقولات - اللهم إلا جن المقولات، وهذا ليس مقولة - نقول إنهم بدلا من هذا وضعوا مقولة عليا. وكما يلاحظ ترندلنبورج، تختلف المقولات الرواقية عن المقولات الأرسطية في ان الأخيرة توجد الواحدة منها بجوار الأخرى على شكل افقي - إن صح هذا التعبير- بمعى انه إذا نظر إلى شيء من ناحية مقولة، فإنه لا يكون منظوراً إليه في نفس الآن من ناحية مقولة اخرى، اما الرواقيون فيرتبون المقولات ترتيباً تصاعدياً على اساس ان العليا منها تضم ما تحتها، وكل تالية تتوفف على السابقة.
اما هذه المقولات الأربع فأولها مقولة الموضوع، ويلي هذه المقولة مقولة الصفة، ثم مقولة ثالثة هي مقولة الحال الخاصة، واخيراً مقولة الحال النسبية. فأما مقولة اموضوع، فهي تكاد تناظر مقولة الجوهر من حيث ان الجوهر في هذه الحالة سينظر إليه بوصفه المادة، وفي هذا ما فيه من اختلاف كبيرجدا بين الجوهر الأرستطالي وبين الموضوع الرواقي، لأن الموضوع الرواقي سيكون مادياً صرفا. ويلاحظ ان الرواقيين قد نظروا إلى الموضوع في هذه الحالة بأن جزءو، إلى موضوع اولي،
الرراقية
وموضوعآخر ثانوي، وذلك بحسب تقيم المادة إلى مادة اولى ومادة ثانية. وتأقي بعد هذه المقولة مقولة الصفة، والصفة هنا هي ما به.يتعين الثيء، اي هي مجموع الذايات الخاصة بشى ء من الأشياء، ولذا فإن الرواقيين ينظرون إليها هنا كما بنظر ارسطو إلى الصورة تماماً، ويقولون إنه بانضمام الصفة إلى الموضوع يتكون الثيء، كما انه بانضمام الهيولي إلى الصورة يتكون الجزني او الثيء. إلا اهم قد راوا أنفهم هنا مضطرين إلى ان يتصورا الصفة تصوراً مادياً كذلك بحبان كوها في الواقع حركات الهواء، بينما الصورة الأرستطالية عارية عن كل مادة. ومع ذلك، فالامذاد المتصل بين أرسطو وبين الرواقيين يبدو في شيء من الوضوح، نظراً إلى ان ارسطو قد حرص، خصوصا في كتبه الأخيرة، على أن يؤكد اقتران الهيولي بالصورة باستمرار.
اما المقوكتان الأخريان فها عرضيتان إلى أقصى حد، لأها عبارة عن مجموع الصفات العرضية التي يتصف بها شيء من الأشياء مثل اللون والمقدار والحركة. .. إلخ. وفي هذه الاحوال يلاحظ دائماً انه لا عبرة يهذه الصفات العرضية بالنسبة إلى تحقيق ماهية الشيء . والفارق بين كلا النوعين من الصفات هو ان الصفة الخاصة هي التي للموضوع بالنسبة إلى نفسم مثل صفة شيء من الأشياء، أما الصفة الأخرى فهي تأقي بنبة شيء إلى شيء آخر، ولهذا كانت صفة نبية أو مضافة لأها مقولة بالإضافة إلى شيء آخر: ومثال ذلك اليمين واليار، فوقوتحت.إلخ.
ويلاحظ في المقولات الرواقية عامة ان بينها ترتيب تصاعديا، إذ لا بد ان توجد مقولة الموضوع أولاً حتى تحمل عليها صفة من الصفات الذاتية، وبذلك يتكون الشيء بمعفى الكلمة، ويمكن بعد ذلك أن يكون قابلا لأخذ صفات عرضية، حتى إذا ما تقؤم بكلا النوعين من الصفات الذاتية والعرعية، تكون في ذاته، واصبح من الممكن ان يقال إن لم ارتباطأ بغيره من الأشياء، اي باًن تحمل عليه الصفة النببة او صفة الإ افة.
وهنا يلاحظ ان الرواقيين في الواقع لم يأتوا في باب المقولات بشيء يعتد به، لأنهم نظروا إلى المألة نظرة لغوية نحوية اكثر منها منطقية وجودية، عما بدل على أن البحث المنطقي قد اخذ يتتقل من صلته بالوجود إلى صلته باللغة وإلى نوع من الصورية واضح.
اما فيما يتصل بباب الألفاظ فإن المهم فيه أن الرواقيين يفرقون تفرقة كبيرة بين المقول، والقول، وموضوع القول، وعملية القول. اما امقول فهو الذي يسميه الرواقيون
ويعنون به التصور الخالص منكل أثر للتعبير الخارجي، اي التصور منظوراً إليه من وجهة نظر موضوعية صرفة. وبهذا يتميز المقول اولاً من الجم او الموضوع الذي يناظر التصور، ويتميز نانياً من اللفظ اللغوي أو التعبير الصرق الذي يعبر به عن المقول، ويتميزثاكا عن العملية الذهنية التي بها يتكون المقول. ويلاحظ من هذا التمييز بين المقول وبين موضوع القول، والقول، وعملية القول-أن المقول يتميز من هذه الأشياء كلها بأنه عارعن كل مادة، بينما بقية هذه الأشياء مادية صرفة، ذلك ان القول معبراً عنه في اللغة الصوتية هو مجموعة ذبذيات هوائية على نحو خاص، وموضع القول هو جم مادي متقوم في الخارج، وعملية القول عملية نفسبة تحدث عن طريق تغيرات تجري في النفس، والنفس عندهم مادية، فكأنه يلاحظ أن المقول وحده هو اللامادي، بينيا بقية هذه الأشياء الثلاثة مادية. وهنا يوجم إلى الرواقيين نف الاعتراض او التتاقض السالف الذكر، فيقال لهم إنه إذا كان الوجود الحقيقي هو الوجود المادي، ولا وجود غير الوجود المادي، فكيف تقولون إذن بأن المقول عارعن المادة، ومع ذلك هو ذو وجود حقيقي ؟ ورتلك مثكلة اخرى لم يعن بحلها الرواقيون، وإنما كانت في الوافع أثراً لفلسفة التصررات السقراطية الأفلاطونية الأرستطاليسية.
وأما في القضايا والأحكام، فإن الروافيين لم يعنوا إلا بالناحية اللغوية، ومن هنا فإنهم في نظرتهم إلى الصلة بين اموضوع والمحمول في القضية قد اقاموها على اساس النسب أو الإضافات الموجودة في اللغة، والمعبر عنها تفصيلاً في النحو. ولا اهمية لكل ابحاثهم في باب القضايا، اللهم إلا في وضع اصطلاحات جديدة كان لها الحظ بعد ذلك أن تكون هي السائدة في المصطلح المنطقي. ولهذا لن نعنى بالبحث فيها بالتفصيل، وإنما ننتقل منها مباشرة إلى الجزء الآخر الذي وجهوا إليه اكبر العناية وهو باب القياس. وههنا نجد الرواقيين فد جددوا كثيراً في هذه الناحية، خصوصاً فيما يتصل بانواع الأقية، فإنهم وجهوا كل اهتمامهم إلى الأقية الشرطية وكادوا ينكرون الأقية الحملية، إذ قالوا إن الاب الثرطية هي وحدها الصحيحة من الناحية الصورية، اما الأقيسة الحملية فيمكن أن تكون صادقة من الناحية المادية، اما من
الرواقية
الناحية الصورية فليست بيقينية. وهكذا نجد أن العناية قد انجهت عندهم إلى القضايا الشرطية . وهم هنا قد فصلوا القول في القياس الشرطي فأخذوا بالأنواع الخمسة التي كشف عنها ثاوفرسطس للأقيسة الشرطية من حيث تركيب الشرطيات بعضها مع بعض لتكوين الأقيسة المتصلة أو المنفصلة، هذا إلى أنم عنوا تفصيلاً بالاقيسة الشرطية المنفصلة، اي لأقيسة الاستثنائية المنفصلة، ولكنهم مع ذلك وعلى الرغم من توسعهم في باب الأقيسة الشرطية، لم يأتوا باشياء جديدة حقاً من حيث بيان العمليات الفكرية المنطقية في الأقيسة الشرطية والقضايا الشرطية، وإذا كانوا قد نظروا إلى القياس بحسبان ان الصحيح منه، من الناحية المنطقية الصورية، هو القياس الشرطي، فإنهم لم يدركوا مدى التجديد الكبير الذي اتوا به في هذا القول الذي اصبح له اليوم اخطر دور، خصوصا عند جوبلو والنازعين منزع المنطق الرياضي، إذ كادت الأقيسة، بل والقضايا، تنحل إلى قضايا شرطية، ولم يعد هناك قيمة كبيرة للأقيسة الحملية، ولا للقضايا الحملية.
وإذا نظرنا نظرة عامة إلى المنطق الرواقي، وجدنا أن هذا المنطق كان اكثر شكلية، وبالتالي أدعى إلى إخراج المنطق من حظيرة الفلسفة والميتافيزيقا، وجعله أقرب إلى اللغة مما كانت الحال عليه عند أرسطو، كما يلاحظ أن المنطق الرواقي لم يأت بشيء جديد يعتد به، لافي باب الأقيسة الشرطية، ولا في أي باب آخر، لأن الناحية الشكلية فد تغلبت عليهم في منطقهم، فغفلوا عن طبيعة المنطق الحقيقية، وهي أنه يبين العمليات الفكرية التي يتم بها التفكير السليم، وإنما كان المطق عندهم أقرب إلى الآلة منه إلى العلم، أو أقرب إلى الفن منه إلى ال.
الطبيعيات الرواقية : أمتاز الرواقيون بأن مذهبهم في الطبيعيات مذهب مادي صرف، ويمكن أن يقسم إلى الأقام الرئيسية التالية: فينقم أولاً إلى البحث عن علل الوجود الأولى، وثانياً عن نثأة الكون وصفاته، وثالثاً عن الطبيعة غير العاقلة ورابعاً واخيراً عن الإنسان.
فلنتناول الآن كل قسم من هذه الأقسام على حدة، ولنبداً بالبحث عن علل الوجود الأولى، فنجد أن الرواقيين كانوا ماديين متطرفين في هذا المادية إلى اقصى حد. فقد بدأوا الفول مع افلاطون بان الموجود الحقيقي هو الذي يؤثر ويتأثر، وراوا ان الشيء الذي يقبل التأثير والتأثر هو وحده الجماني، فقالوا : إن الوجود الحقيقي هو الوجود الجماني فحسب.
فابتداء من الله حتى الصفات الموغلة في التجريد، كل هذه الأشياء هي الأخرى مادية، وتفسر على نحو مادي خالص.
وأساس هذه المادية الرواقية مبدأ افلاطوني صرف. فأفلاطون يذكر في محاورة «السوفسطائي، ان الموجود الحقيقي هو الذي يفعل اوهوما له قدرة على الفعل، إلا انه جعل الصور العارية عن كل مادة قادرة ايضاً على إحداث الفعل، وقال مثل هذا أيضاً ارسطو، بل إن ارسطو جعل الصورة هي مبدا الفعل الحقيقي إلا ان الرواقيين، وقد ابتدأوا من هذا الأساس، اختلفوا مع ارسطو وافلاطون في النتائج التي استخلصوها من هذا الأساس، فقالوا إن ما هو مادي هو وحده الذي يحدث الأثر، اما ما عداه فليس بذي أثر، اعني أنه ليس له وجود حقيقي، وإذن كل ما هو موجود جسم. كما ان الرواقيين لم يفهموا ا لجسم ممعق آخر غير المعنى العادي، فالجسم عندهم هو ذو الأبعاد الثلاثة : فقولهم كل موجود جسم ينطبق إذن على كل شيء، وبمعى انه شيء مادي ذو أبعاد ثلاثة.
وقبل عرض مذهب الرواقيين في الطبيعيات، يجدربناأن نتحدث عن الأساس أو التأثيرات التي خضع لها الرواقيون حتى قالوا بمثل هذه المادية المتطرفة، واول ما يلاحظ في هذا الصدد أن من الممكن إرجاعهذه المادية إلى نظريتهم في المعرفة، فهم لا يجعلون لغير الحس قدرة على الإدراك، لأغهم يجعلونه المصدر اوحيد لكل معرفة , وعلى هذا فمن حيث أن الحس لا يدرك غير الماديات، فقد قالوا : إن العالم كله او الموجود جسمي مادي. غيرأنه يلاحظ ان هذه النزعة الحسية في المعرفة لا تكفي وحدها لإثبات النزعة الحسية في الوجود، فكثيرمن الحيين او التجريبيين قد قالوا ايضاً بوجود غير مادي كما فعل لوك في العصر الحديث . فكأن التجربة الحسية ليست كافية لتفسير النتزعة المادية في الوجود، بل قد يكون العكس هو الأصح، إن لم يكن هوبالفعل كذلك. فالرواقيون قد قالوا بنظريتهم الحسية في المعرفة اعتمادا على مبدئهم الأصلي في النظرة إلى الوجود، وهو أن الوجود جمافي او مادي خالص، فلعل الرواقيين أن يكونوا قد تأثروا إما بامذاهب السابقة : مذاهب الطبيعيين الأقدمين، وإما بالمذاهب المعاصرة أي مذهب المثاثين. فنلاحظ في هذا الصدد أن الرواقيين قد اخذوا الشيء الكثير عن هرقليطس، وجعلوا نظريته المادية هي الأساس أو المؤيد لما يذهبون إليه من المادية في الوجود. إلا أنه يلاحظ أننا إذا قلنا بشى ء من التأثر بالمادية، فلا يمكن أن يكون ذلك عن طريق مباشر، بأن يكون الرواقيون امتداداً للمدرسة الهرقليطية لأن
٥٣٤
الرواقية
مدرسة هرقليطس قد فنيت منذ زمن بعيد، ولم يعد لها اتباع لو وجود. فالأحرى ان يقال حينثذ : إنه إذا كان الرواقيون قد عنوا بذكر مذهب هرقليطس، فإغما كان ذلك بعد ان آمنوا من قبل بالمادية، وحاولوا بعد هذا ان يحيوا المذاهب القديمة تأييداً لما يذهبون إليه، فماديتهم هي الأصل، واستشهادهم بمذاهب الطبيعيين القدماء وسيلة من وسائل التأييد فحسب.
بقي إذاً ان يكونوا قد تأثروا بالأرستطالية. وهنا نلاحظ أن تطور المذهب الطبيعي كان يؤذن بذلك، فإن ارسطو لم يستطع ان يبين على وجه الدقة الصلة بين الصورة والمادة او الهيولي. وإنما تركها صلة غامضة، وكان افلاطونياً إلى حد بعيد جدا، فلم يستطع أن يتخلص من الأهمية الأولى للصورة على الهيولي، فاضطرحينئذ إلى القول بأن الصورة هي الأصل وهي الكمال وهي التي بها يتم تحقيق الهيولي في الوجود. إا ان هذا كان معناه ايضاً - ما دام ارسطو يقول من ناحية أخرى بأن الموجود يكون دائما مكونا من هيولي وصورة، ولا توجد الصورة مجردة عن المادة إلا بالنسبة إلى الله -نقول: إنه كان على أرسطوتبعاً لهذا، لكي يمكن تفسير العلية الموجودة بين الهيولي والصورة، إما أن يقرب الصورة من الهيولي، حتى لا يجعل فارقاً بين الاثنين، ومن هنا يهب الهيولي صفات الصورة أو الصورة صفات الهيولي؛ وإما ان يترك المسالة غامضة دون حل، وهو بالفعل قد ترك المسالة على هذا النحو من التناقض والغموض. لكن جاء أتباعه خصوصاً ارستوكسين ثم اسطراطون فاستخلصوا النتيجة المنطقية لتطور هذا المذهب، وقالو بشيء من امادية يفرب كثيراً من المادية الرواقية. فكان على الرواقيين ان يستخلصوا النتائج النهائية للمذهب الأرستطالي، فيقولوا: إن الوجود الحقيقى أو الوجود الوحيد في الواقع هو الوجود المادي، وما عداه فلا يعئ وجوداً ، فمن هذه الناحية يمكن أن ينظر إلى الرواقية يحسبانها امتدادا منطقياً والزاماً على المذهب لأرسطي في الصلة بين الصورة والهيولي. غبرأنهمن الملاحظأن الشراح الأرستطاليين-وكل لذين تحدثوا عن الرواقية خصوصا في الطور الذي كان فيه الصراع قويا بين الفلسفة الرواقية والفلسفة المشائية -نقول إن الشراح لم يذكروا شيثاً عن هذه الصلة بين المشائية والرواقية. ولم يشيروا مطلقاً إلى أن الرواقيين إنما قالوا بمذهبهم على سبيل الإلزام والاستنتاج المنطقي المتطرف لمذهب أرسطو في العلاقة بين الهيولي والصورة. ومع أن كلام الشراح كثير جدا في هذ الباب، فإننا لا نجدهم مرة واحدة يشيرون إلى هذه العلاقة،
ولذا لا نستطيع أن نقول إن الرواقيين قد قالوا بمذهبهم المادي هذا كامتداد لتيار متطرف من تيارات المذهب الأرستطالي.
بقي إذن حل واحد نستطيع ان نفسربه هذه المادية الرواقية وهوالحل الذي ادلى به تسلراحين قال إن المدارس السابقة لا تفسر لنا مطلقاً هذه المادية الرواقية المتطرفة، بل يجب ان نبحث عنها في الطابع الأصلي للتفكير لرواقي، وهو الطابع العملي. فقد قلنا ان الرواقية تنزع نزعة مادية خالصة في تفكيرها الفلسفى، فكل شى ء موجه نحو العمل، وكل نظرياتهم في الطبيعيات إنما يقضد بها ان تكون اساساً أو وسيلة إلى قواعد في الاخلاقيات. وعلى ذلك، فيجب ان ننظر إلى طبيعة مذهبهم الفيزيائي على أساس النزعة العملية الأخلاقية. ونحن إذا نظرنا إلى المسالة من هذه الناحية وجدنا انه كان على الرواقيين أن يقولوا بمثل هذه المادية، وذلك لأنهم يبحثون عن العمل وتحقيق الفعلمن حيث انه مؤدإلى السعادة، ونحقيق الفعل يتم بالنسبة إلى اشياء مادية موجودة في الواقع، أي ان كل فعل يتلزم شيئاً مادياً جمانياً محوساً لكي يتم، وعلى هذا فإذا كان الأصلهو تفسير الأعمال؛ فلا بد إذن من إرجاع كل شيء وكل وجود حقيقي إلى ما هو مادي، إذ هذا وحده هو الذي يتم فيه الفعل، ومن أجل هذا قال الرواقيون بأن الوجود مادي فحسب.
إلا أن رودييه يقول إنه إذا كان صحيحاً أن النزعة العملية عند الرواقيين هي الأساس في ماديتهم، فيجب أن نفهم هذه النزعة العملية بمعنى خاص . ذلك أن أفلاطون قد نظر إلى العالم بوصفه معرضاً للتغير، وما يكون معرضاً للتغيرلا يمكن أن ينظر إليه بوصف أن من الممكن أن تتحقق فيه السعادة، أي لا يمكن إذن أن يكون مجالأ للأفعال والسلوك الأخلاقى، فلا بد إذن من النظر إلى المسألة على أساس أن الوجود الحقيقي إنما يتحقق دائماً في وجود اللاماديات، لأنا أبدية أزلية لا تخضع لشيء من التغير. ثم جاء أرسطوعلى أثره فجعل الفكر أنبل شيء في الإنسان وفي الوجود، فعلى الإنان من الناحية العملية أن يسعى إلى حياة الفكر المجردة-، وسيكون الفكر فيها حينئذ خالياً من كل مادة . وهنا يلاحظ أن أفلاطون وأرسطو قد اتجها نحو الأخلاق، ومع ذلك لم يقولا بشيء من المادية، بل اضطرتهما نظرتهما لأخلاقية إلى الارتفاع على العالم المحوس والقول بعالم غيرمحوس يمكن أن تتحقق فيه وحده السعادة . ولهذا لا يمكن أن تفسر، عن طريق الطابع العملي فقط، المادية الرواقية، وإنما يجب أن تفسر هذه المادية على أساس أن هذه النزعة العملية من نوعخاص، فيقال حينئذ
الرواقية
٥٣٥
إن هذه النزعة المادية نزعة إلحادية متصلة بالعالم الظاهر المادي بصرف لنظر عن أي عالم اخر، فالسعادة يجب أن تتحقق في هذا العالم المادي الذي نحيا فيه. وإذا كانت الحال على هذا النحو فلا بد من القول تبعاً لهذا بأن الموجودات في العالم المحسوس موجودات حقيقية، وأن ما عداها من اموجودات، مما هرخال من المادة، لا يمكن أن يعد موجوداً حقيقياً , فالطاع العملي في هذه الحالة متصق كذلك بأنه أرضى أي متصل بالعالم المحسوس المادي الذي نحيا فيه وحده، وجهذا يمكن أن بكون الطابع العملي هر الأساس في هذه المادية الرواقية الطرفة.
بهذا نستطيع أن نفر أصل النزعة المادية عند الرواقيين . وننتقل من هذا إلى الحديث عن الأسس التي قامت عليها هذه المادية، والأفكار الرئيسية الموجهة في هذا النظام الجديد المادي، فنقول إن الرواقيين لم يقولوا فقط إن الاشياء الكيانية العينية المتحققة في الوجود الخارجي من حيث هي أجام بمعنى الكلمة، هي وحدها لمادية، بل قالوا أيضاً إن للة مادي. ثم نظروا إلى الصفات والكيفيات أيا كانت، على أنها أشياء مادية : فالألوان والأصوات والطعوم. . . إلخ كلها أجام مادية، وذلك لأنها جميعا تيارات من شأنها أن تسير من المركز حتى المحيط، ثم تعود بالتالي من المحيط إلى المركز، وفي هذه الحركة المتبادلة من المحيط إلى المركز، ومن المركز إلى المحيط، يكون تكون الأشياء، وهذه التيارات هي ما يسمونه باسم النفوس 0٣0سم!ناء7٧. وفكرة النفوس أو البنويماتا تلعب الدور الأكبر في تفير الرواقيين لتكوين الأجام ولما يحدث فيها من تغيرات. فهم يقولون إن هناك حركة جزر ومد في النفوس التي تخترق الأشياء، وهذه الحركة صفتها الرئيسية أنها على شكل توتر يسمونه باسم تونوس ي0٧0 ، بأن يحدث في الجسم امتداد، وذلك بذهاب النفوس مغ المركز إلى امحيط؛ وأن يحدث فيها تركز وتقلص بأن تعود من المحيط إلى المركز ويستمر الرواقيون في تفسير الأشياء كلها على أساس فكرة التونوس ؟0 0 هذه، فهم لا يجعلون الاشياءالمادية تتركب على هذا الأساس فحسب، بل يجعلون الصفات والأشياء التي يمكن أن نعدها عارية من المادية خاضعة لهذا التوتر، ومحور التفكير في هذه المسألة يعود إلى فكرة أخرى هي فكرة «التداخل المطلق» بين الأجام بعضها وبعض، وهو المسمى كرازيس5لى٤0، فهم يقولون إن كل جسم يدخل في الاخر، وبدون معارضة، وبدون أن ينقسم، بل يظل بنوع من المرونة التامة كماهو في داخل الجسم الأخر. وعلى هذ الأساس نستطيع أن نفر كل
تغير في الوجود : فتخن الحديد، يتم بان تنفذ النار إلى داخل الحديد وتظل في داخله كما هي، وكلما كثر عدد الذرات من النار الداخلة في الحديد اشتد تسخن الحديد؛ وهكذا نستطيع ان نفسر عن طريق هذا التداخل المتمر بين الأشياء بعضها في بعض، وجود الصفات او تعلق الصفات بالأجام.
إلا أن هذا التداخل المطلق اًغنةم» يجب ان يميز ينه وبين الخليط من ناحية، ثم بينه وبين المزيج من ناحية أخرى. فالتداخل المطلق يمتاز من الخليط أو المخلوط بانه يحدث في حالة الخليط أن الأشياء تكون موجودة بجانب بعضها البعض في حالة انقسام، بينما فيحالة التداخل المطلق لا يظل الجسم الداخل فيآخر كما هو دون انقسام. ومن ناحية أخرى يمتاز الكرازي من المركب بأنه في حالة المركب يحدث تغيرفي الكيف أي استحالة بالنسبة إلى الأجزاء المركبة، أما في حالة الكرازيس أو التداخل المطلق، فتظل الكيفية كما هي بالنسبة إلىكلمن العنصرين المركبين، ولا تحدث صفة جديدة عن طريق هذا التداخل المطلق. وفكرة التداخل هذه قد استطاع بها الرواقيون ان يفروا كثيراً من المسائل خصوصاً مسألتين رئيسيتين : هما مسالة حد الجسم، ثم مسالة الفعل من بغد . فهم يقولون اولاً إن ما يشاهد في الوهم من أن الجسم يحد بشيء ما، لا وجود له في الواقع، وإنما نحن ننظر فقط إلى المركز من حيث أنه لا ينتهي عند الحدود الظاهرة أمام الحواس، وإنما يسنمر بدرجة اقل شيئاً فشيئا، حتى نصل إلى نهاية العالم، ومن هنا فإن التداخل بالسبة إلى شيء، مهما قل حجمه، تداخل مطلق في كل الوجود. فيقول كريسيفوس مثلا إن قطرة من النبيذ كافية ليس فقط لتلويث بحر بأكمله، بل ولتلويث العالم بأسره ومرجع هذا انه لما كان النفوذ أو التداخل مطلقا، وكان الشيء غير محدود بهذه الحدود المادية الخارجية، كان من الطبيعى إذن أن ينظر إلى القطرة - أو إلى أي شيء مهما كان ضئيلاً - من حيث أن من الممكن أن ينظر إليها بحسب امتدادها حتى نهاية العالم. ولهذا أهميته الكبرى فيما يتصل بوحدة الوجود عند الرواقيين، فقد أدى هذا المذهب - كما سترى بعد قليل - إلى القول بوحدة العالم والتداخل المطلق بين أجزائه بعضها في بعض، وإلى القول بأن كل شيء يحتوي على الأشياء الأخرى، لأن التداخل مطلق بين كل الأشياء في كل الأشياء. فالحال هنا كالحال تماما في الذرات الروحية عند ليبنتس، والفرق بين الاثنين هو أن الذرات اللبينتسية ذرات روحية بينما الأجام كلها مادية عند الرواقين، وأن هناك استقلالاً بين الذرات بعضها وبعض عند يبنتس وأما
الرراقية
عند الرواقيين فالأجام متداخلة كلها بعضها في بعض؛ ولكي تفسر العلية عند ليبنتس لا بد من الالتجاء إلى فرض روحي هو فكرة «الانسجام الأزلي» ، أما عند الرواقيين فلا حاجة إلى مثل هذا المبدا الميتافيزيقي، لأن الأشياء متداخلة بعضها في بعض كل التداخل.
كما ان هذا المذهب من ناحية أخرى يفسر لنا تفيراً واضحاً فكرة الفعل من بعد، وهى الفكرة التى تلعب دوراً خطيراً جداً في الفيزياء منذ العصور القديمة حتى البوم . فهم عن طريق مذهبهم في التداخل المطلق يقولون إنه ليس ثمت في الواقع بعد، لأن الأشياء توجد بعضها في بعض، فلا حاجة حتى إلي إثارة فكرة الفعل من بعد» لأن الفعل من بعد ليس موجودا في الواقع. إذ كل شيء متصل بالآخر.فلا بعد إذن بين شيئين. وهم لا يقتصرون على الصفات بين الأشياء المادية، بل يقولون : إن الفضيلة والرذيلة إنما تقومان على أساس فكرة التوتري٧0ف إذ هي في الواقع صفات للنفس، وما هوصفة للنفس هومن النفس: فإذا كانت النفس جسمأ، فالفضيلة كذلك جم، والرذيلة كذلك جم. ثم هي إلى جانب هذا جم حي، فكما يقول سنيكا في إحدى رسائله : إن الفضيلة -كالنفس - جم، وإذا كانت ذات فعل فهي حية، إذن الفضيلة جم حي . وتبعاً لهذا المبدا لأخير، وهوان كل ما يفعل فهو حي، ونظرا إلى أن الرواقيين إنما قالوا بوجود مادي مطلق من حيث أن كل وجود لا بد أن يكون من شأنه القدرة على الفعل، فبضم هذا القول إلى ذاك الآخر ينتج أن كل موجود حي، ولهذا هم يقولون عن الفضيلة مثلا، أو عن أي صفة من الصفات، أو أي كائن من الكائنات إنه حيوان، لأنم يقولون إن الحياة موجودة في جميع الأشياء ما دام الفعل موجودا في الموجودات كلها . وهذا هو المذهب الحيوي عند الرواقيين.
وسنعرض الآن للأمور التي ينظر إليها الرواقيون على آساسمادية هي الأخرى بينماينظر إليهاالأخرون بوصف أنها لا مادية. وأول هذه الأمور: العلية فالرواقيون ينكرون كل علية بالمعنى المفهوم لدينا، وذلك لأنهم يقولون بأن العلل موجودة، وأماالمعلولات فغيرموجودة، بمعنى أن هناك أجاماً تحدث آثاراً، غير ان الاتار نفسها بوصفها معلولات لا توجد حقاً، وهذا ما يمكن أن يفسر به قول سنيكا: إن الحكمة موجودة، اما الحكيم فغيرموجود». فمعنى هذه العبارة أن الحكمة جم وموجود حقيقي، أما إضافة الحكمة إلى إنسان فلا يضيف شيئاً جديداً اكثر من الحكمة ننها إلى هذا
الإنسان. وعلى هذا فإنه إذا كان للحكمة فعل، فإن هذا الفعل من حيث هو فعل أو أثر ليس له حقيقة وجودية . وكذلك الحال إذا ما قلنا مثلا «كاتون يمشى» فإن صفة المشى لا تضيف جديداً إلى كاتون كما لا تضيف من ناحية أخرى جديداً إلى امشي، لأنها ليت صفة وليست شيئاً، وما ليس صفة أو شيء فلا يمكن أن بعد موجوداً حقيقياً، ولهذا - وعل طريقتهم اللغوية النحوية دائماً- بحثوا في اللغة من هذه الناحية، فأنكرو كل قيمة للأفعال من حيث أن الأثر الذي تعبر عنه لا يأي بجديد، وبالتالي لا يدل على وجود حقيقي، بل يذهبون في التدقيق اللغوي إلى حد أبعد من هذا بكثير. ففي اللغة اليونانية هيئتان للصفة المشتقه من الفعل،إحداهما تنتهي والأخرى تنتهي بيمء-فمثلا إداقلناي0!ءمانمأي مرغوب فيه وقلنايمءجء00أي واجب أن يرغب فيه، وإد الرواقيين يقولونع الصيغة الأولى للصفة المشتقةإنهاتدل على وجود حقيقي، بينما الأخرى لا تدل على شيء، ولأن الرغبة في الشيء صفة موجودة حقيقية في النفس فهي إذن موجودة في الواقع، بينما وجوب الرغبة في الشيء لا يضيف جديدا إليه، وبالتالي لا يدل على حقيفته بالفعل . وهكذا أنكر ال واقيون العلية بالمعنى المفهوم لدينا من أن الأثر ليس فقطمجردصم خالص من كل تغير لعنصرين أو اكثر، وإنما هم يقولون إن الأثر هو ضم أو جمع ففط بين العناصر المركبة للشىء، وبالتالى لا يقولون إن للأثر وجودا حقيقياً لأن مجرد لإضافة - دون التغير، خصوصاً إذا لاحطنا نظرية الكرازيس؟٤00٤- لا يهب الشيءصفة جديدة، ولا يحدث فيه أدنى تغيير، وعلى ذلك فلا وجود للأثر بما هو أثر. والنوع لثاني من الأشياء اللامادية التي نظر إليها الرواقيون على أساس أن ليس لها وجود حقيقي، هو المكان؛ فالمكان - كما رأينا عند أرسطو-هوالسطح الباطن للجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. فيلاحظ الرواقيون أن في هذا التعريف للمكان إضافة استقلال ووجود قائم بالذات للمكان، وهذا ما ينكرونه كل الإنكار، إذ يقولون إن المكان، بوصفه حاوياً تدخل فيه الأشياء، لا يمكن أن يعقل وإنما الواج أن ينظر إلى المكان على أنه الحجم أو المقدار لأن المقدار أو الحجم هو الجسم فإذا لم يكن يوجد غير الجسم وما هو جماني، فلا مجال للقول إذن بشيء غير جماني تحل فيه الأشياء ويكون عبارة عن وسط تسري فيه. وعلى هذا فالمكان في الواقع عند الرواقيين هو الأجام نفها من حيث حجمها ومقدارها، وكذلك الحال بالنسبة إلى المحل الذي تتعاقب فيه أشياء مختلفة، ومجل فيه جم معين، فإنه أيضاً لا وجود لم في الواقع، رإنما
الرراقية
٥٣٧
توجد أجام متداخلة بعضها في بعض، ومركزها فقط هو الذي نتوهم أن لم مكاناً عحدوداً بحدود. فالمكان والمحل كلاهما
وهم.
وتبعاً لهذا فلا مجال للقول أيضاً بالخلاء، لانه إذا كانت الأسياح متداخلة تداخلا مطلقاً بعضها في بعض، وكنا لا تحتاج إلى الخلاء ، إلا كفرض ميتافيزيقي أو مصادرة فيزيانية من أجل بيان إمكان الحركة، فإننا في مثل هذه الفيزياء التي بالتداخل المطلق، لاحاجة با من أجلتفسيرالحركةأوالتغيرإلى لخلاء. ثم إن الخلاء سيعد غير جم، وإلا فسيكون الخلاء جما في الجسم، وهذا مستحيل من حيث أن الجسم لا يكون جيا آخر حالاً في نفس المكان أو المحا 1 ومن هنا فلا بد أن نصف الخلاء بصفة أخرى غير الجم من حيث أن الجسم ذو أبعاد نلانة ومقدار؛ فكأن المذهب الرئيسي الذي تقوم عليه هذه الطبيعيات يؤذن أيضاً وجوب رفض فكرة الحلاء، فهم يقولون : إننا لوتصورنا إنسانا واقفا على نهاية العالم، ومد يديه، إذن لما صادف مقاومة، وبالتالي لم يصادف جما، أي أنه في هذه الحالة إذن إنما يصادف خلاء على أساس أن الخلاء هو امتناع المقاومة. فاضطر الرواقيون - وكانوا في هذا مناقضين لمذهبهم الأصلي - أن يقولوا بوجود الخلاء خارجا عن العالم. هذا وقد كانوا مضطرين إلى مثل هذا الفول، لأهم يقولون إن العالم يتحرك ككل، فأين يتحرك إذن، إن لم يكن فيخلاء ؟ فمن أجل هذا إذن اضطر الرواقيون إلى القول بالخلاء بوصفه شيناً محيطاً بالعالم الكلي؛ أما في داخل الأجام نفسها فلا
وجود.
والفكرة لثالثة التي رفض لرواقيون أن يقولوا بوجودها حقيقة هي فكرة الزمان.فهم يقولون بحسب مبدئهم ا لرئيي : إن الموجود الحقيقى ما يقبل الفعل والانفعال، وقد وجدوا أن مثل هذا القول يبدو ناياً بالنسبة للزمان و فلم يشاؤوا أن يقولوا إنه جم يفعل وبنفعل، ولهذا أنكروا وجوده. إلا أبم لم بستطيعوا مع ذلك ان يتمروا على هذا القول عل إطلاقه، فإن حقيقة الزمان كانت مفترضة ضمنا في مذهبهم الخاص بما في العالم من تطور ونزوع ونحقق متمر، وهذا كله يفترض وجود الزمان . نم إن الحركة ما كانت لتكون ممكنة، إا إذا كان ثمت زمان مفترض من قبل افتراضا. فمن هذه النواحي كلها يمكن القول بأن الرواقيين كانوا مضطرين في نفس الآن إلى القول بوجود الزمان على نحو من الأنحاء . فقالوا إن الزمان هو الفترة بين بدء العالم ونهايته، أي أن التطور الذي يجري عليه العالم
ابتداءأ من نقطة وانتهاء إلى أخرى، هذا هوما يسمى باسم الزمان. فكأنهم قد تصورو الزمان في الواقع تصورا أقرب ما يكون إلى تصور المسيحية للزمان، أعني بأنه الفترة ل ممتدة ببن بدء شي ء ونهايته، وهكذا نجد أن الرواقيين قد ضطروا إلى القول بالزمان، كما اضطروا من قبل إلى القول بامكان.
والمسألة الرابعة، وهي مسألة خطيرة في نظرية المعرفة، قد وضعها أرسطو في الواقع . وكان على كل المدارس التالية أن تحسب حابها، وتقف منها موقفاً خاصاً ع ونعني بها مسألة الكليات :فياهوكلي كالنوع والجس، هل له وجودحقيقي في الخارج ؟وإنكان له وجود، فعلى أي نحويجب ان يتصررهذا الوجود ؟ثمما الصلة بين هذا الكلي وبين ما يطلق عليه من أفراد ؟ هذه المسالة الرئيسية، الفي سنرى العناة لكبرى با طوال العصور الوسطى، قد وجدت عند الروافيين حلا وسطا بين النزعة الأسمية المطلقة وبين الزعة الواقعية المطلقة كذلك، ولو أن موففهم هنا موفف متناقض، كما هي الحال بالنسبة إلى موقفهم في بقية لاشباء . فتبعا لذهبهم الرنيسي، كان لا بد للرواقيين ان يفولوا بأن الموجود الحقيقي قطعا هو الجم المتحقق في الخارج، أما الكلي من حيث انه مجموع الصفات القي تشترك فيها عدة انراد - فلا يمكن أن يكون له وجود حقيقى، وعلى هذا فلا سبيل إلى القول بان للكليات وجودا حفيفيأ في الخارج.
وهذا كله يجعل موقف الرواقيين هو موقف الاسميين، إلا أن ذلك لم يكن من شأنه أن يجعل الرواقين يقولون بنفس ما يقول به الاسميون. فالاسميون كانوا يقولون بأن وجود الكليات وجود موهوم من حيث الخارج لأنه وجود ذهني صرف، ولا صلة لم بالوجود الحقيقي إن هي إلا الفاظ أو اصرات ملفوظ بها ولكن حل المسألة يأقي بطريق أخرى، وذلك بظهر بوضوح في المسالة الخامسة والأخيرة، ونعني يها مسألة المقول : الكتون 70ثهعضقد تحدثنامن قبلعن نظرية ال لكتون عند الرواقيين وقلتا إن الرواقيين كانوا يفرفون بين المعنى المطلوب أو المتضمن في لفظ، وبين اللغة الصوتية التي تعبر عن هذا المعف بالفاظ موجودة في الخارج، ويفرقون بين هذين وبين شيء ثالث هو العملية الذهية التي تكون متحققة أثاء التفكير في معفى من المعاني أو حمل لفظ معين . وهم يقولون إن النرعين الأخيري جسميان، أما النوع لأول وهو لمعنى أو المقول، فليس له وجود جماني؛ لانه ليس موضوعا في اخارج كما أنه ليس كذلك لفظاً موجوداً في الخارج، ولير كذلك حالة
الرواقية
من حالات النف، ولهذا لم يثأ الرواقيون ان يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً في الخارج، او بأن لم وجوداً حقيقياً على وجم الطلاق.
فكان عليهم أن يبحثوا من بعد في ماهية هذا الوجود الخاص بالكتون670ء٨.فهم قد رأوا من ناحية ان ليس له وجود حقيقي، لأنه ليس جسماً ولا حالة لجسم، بينما راوا من ناحية اخرى ان له حالة خاصة من الوجود، إذ هناك فارق كبير بين الإطلاقالهرني وس الإطلاق المعنوي؛فكلةت>0أ07اء٧0’ي) مثلاً، إذا سمعها إنسان يوناني فهم منها شينا، اما إذا سمعها اجنبي فلن يفهم منها شيئا، فهناك اختلاف إذن بين اللفظ كلفظ يسمع، وبين اللفظ كدال على معنى، وهو في هذه الحالة ايضا مسموع، فالسمع غير الفهم، فلا بد إذن التمييز بين اللفظ كدال على معنى، وبين اللفظ كحركة صوتية هوائية، عما يعبر عنه فيما بعد 5ذع٧0 5س2 «أي الهواء الصوقي، أو النف الصوقي، . فاختلف الرواقيون فيما بينهم وبين بعض اختلافاً كبيرا حول فكرة اللكتون هذه من حيث طبيعة الوجود الواجب ان يضاف إليها، فمن قائل : إن للكتون وجوداً خارجياً ، ومن قائل : إن له وجوداً روحياً ؛ واياً ما كان القول فإن الوجود في هذه الحالة غير الوجود بالمعنى الذي يضاف إلى جسم أو صفة لجسم والرأي السائد عند هؤلاء الرواقيين جميعا ان للكتون وجوداً خاصاً ، يجب ان ميز من الوجود الخارجي، كما يجب اا يعد وجودا تاما بالمعى الحقيقى الجمافي؛ وعن طريق فكرة اللكتون هذه، وطبيعة الوجود الخاصة به، قالوا ايضاً أو فروا فكرة الزمان من حيث ان للزمان وجوداً، مهما قلنا إن الزمان ليس بذي أثر ولا تأثر، فعن طريق فكرة اللكتون هذه يحل إذن كثير من المشاكل. ولكننا نتاءل حينثذ: الم يخرج الرواقيون بهذا عن ماديتهم الأصلية ؟ اليس في القول بوجود آخر غير الوجود الجمافي المادي تناقض يتصل بأساس المذهب الألي؟
الواقع ان الرواقيين لم يستطيعوا أن يكونوا منطقيين على طول الخط - كما يقولون - بل اضطروا في نهاية الأمر كما سبق ان اشرنا في كلامنا عن نظرية المعرفة عندهم، إلى الاعتراف بوجود إن لم نقل إنه روحي، فيجب ان نقول عنه على الأقل إنه ليس وجودا ماديا.
وامادة عند الرواقيين كما راينا مكونة من تيارات أساسها التوتر بين حالة التضاغط أو التركز، وحالة الاستداد أو التخلخل. وهذا يدل على أن المادة عندهم ليت الكمية
والامتداد بالمعفى الكمي الذي نفهمه اليوم من المادة وإنما المادة عندهم ديناميكية، لأنها مجموعة من القوى في حركة مستمرة دائمة، ولذا فإن الفيزياء عند الرواقيين فيزياء ديناميكية كالغيزيا، الأرستطالية سواء بواء، إلا أن هناك فارقاً كبيراً مع ذلك بين الفيزياءالرواقية والفيزياء الأرستطالية من حيث طبيعة هذه الديناميكية: فالديناميكية لأرستطالية ليتمطلقة، ل تحتاج في هاية الأمر إلى ثبات وسكون هو ثبات الصورة، اما الرواقية فلا تعلم شيال عن هذا الثبات، وانما تنظرإلى المادة على اغها تحتوي في داخلها، على سبيل الكمون أو التضامن، كل ما ستصير إليه. وقد اضطر أرسطو إلى القول بوجود الصورة بوصفها أساساً وعلة اولى في التغيرلكي يمكن التعين ب وذلك انه إذا لم يكن للمادة نزوع نحو صورة بالذات معينة فإها ستضطرب حينئذ بين أنواع مختلفة من الصور، فلا تنتهي في الواقع إلى تحديد وتعين؛ فلا بد من القول بوجود صورة محدودة تنزع إليها المادة في تحققها وحركتها وتغيرها. اما الرواقيون فلم يقولوا بهذا وإنما قالوا بالديناميكية الخالصة للمادة. هذا إلى أن الديناميكية الرواقية كانت تجعل المادة في الواقع ذات حباة تامة لأنها تحتوي على تيارات حيوية حركية لا حصر لها، اما المادة الأرستطالية فمادة سلبية لا وجود حقيقياً لها في الواقع، كما ان الرواقيين يختلفون كذلك يهذه النظرة عن نظرة أنكساغورس، على الرغم مماهناك من الاتفاق الكبير، فيكثيرمن الأقوال الفيزيائية لدى كليهما، ذلك ان الفيزياء عند أنكساغورس الية تصور القوى بحسبانها آتية من خارج لكي تحل في المادة، اما الرواقيون فينظرون إلى المادة على اساس أن القوى باطنة فيها منذ البدء على هيئة الكمون أو التضامن. وإذا كانت عملية التداخلالمطلقكاملة -كماقلاحتىإنلقوة الواحدة تري في جميع انحاء الكون وأن القطرة الواحدة تري في المحيط بكل انحائه، فإن الحياة او القوة التى توجد في الكون بأكمله لا بد ان تكون تبعاً لهذا واحدة أيضاً . ولهذا كان على الرواقيين أن يقولوا إن العالم حيوان واحد تتخلله قوة واحدة كاملة، تنتظم جميع اجزائه، وهذه القوة هي والته شيء واحد، فكأن العالم هو انه، ذلك الحيوان الكامل الأكبر.
وهذه المادية الرواقية يجب أن يميز بينها وبين المادية بالمعنى المفهوم لدينا اليوم تمييزاً تاماً - فطابع المادية الرئيسي، كما نفهمه نحن الآن، هو تفسير المركب بالبسيط والأعلى بالأدن، وكل تفيراتها تفسيرات كمية، لا تتجاوز الانتقال أو النقلة في المكان. أما المادية الرواقية فتختلف عنهذاكل الاختلاف، إذ
الرواقية
٥٣٩
انها تفسر البسيط بالمركب والأدفى بالأعلى، من حيث انها تفترض في العالم مجموعة من القوى باطنة فيه بالذات : وهذه القوى ليست كميات صرفة، بل هي قوى حقيقية حية تؤثر فيه. فليس التفسيرإذن كميا على النحوالمادي الموجود في العصر الحديث، وإنما الأحرى أن يسمى تفسيراً ديناميكياً.
والصورة العامة للفيزياء الرواقية هي القول بوجود عالم جسماني تشيع فيه قوى عديدة تجعل منه كلا حياً مطلقاً ، خارجه الخلاء، والزمان فيه عبارة عن بدء للوجود واستمرار حق ناية هذ الوجود و على كل حال، فإننظربم، خصوصاً فيما يتصل باته، تجعل من هذا الوجود وجودا باطنا في ذاته، اعني انهم يقولون بوحدة الوجود على اساس ان الله هو القوة الحالة في جميع اجزاء المادة التي منها يتكون العالم.
الأخلاق: لثن كانت اغلبية المؤرخين تنظر إلى الأخلاق الرواقية على انها اخلاق عالية، فإنهم-اوالكثيرمنهم على الأقل - يعنون بالإشارة إلى تناقضهم في المبدأ الذي اقاموا عليه نظرتهم الأخلاقية. وليس هذا مقصوراً على امحدثين من المؤرخين فحسب بل نجد الأقدمين انفسهم قد عنوا عناية خاصة، وهم يتحدثون عن الأخلاق الرواقية، بالإشارة إلى هذا التناقض؛ فنجد شيشرون في كتابه حدود الخير والثر» في الفصلين الأخيرين يذكر بالتفصيل الحجج التي يوردها الخصوم ضد الأخلاق الرواقية لإظهار ما فيها من تناقض؛ ويردد هذه الحجج من بعد، وكل الحجج التي قال بها خصوم الرواقيين، فلوطرخس . فهو يقول عن هذه الأخلاق إنها تأمرنا باتباع الطبيعة،لكنها مع ذلك تنكرصفة لخير الأخلاقي علىكثي من الميول الطبيعية الخالصة؛ كما يذكر أيضا أن الرواقيين قد خالفوا معيارأحكامهم لأخلاقية، ألا وهو الذوق العام الذي جعلوا منه مقياساً لكل قيمة أخلاقية؛ ونجدهم مع ذلك يتجاوزون هذا المقياس، فيقولون عن الطبيعة إنها أحياناً لا تشيرإلى الشى ء النافع بوصفه خيراً او شراً. وكذلك أنصار الرواقيين في بد العصر الحديث قد حاولوا هم الآخرون ان يزيلوا هدا التناقض، لكنهم معذلكلم يستطيعوا أن يتخلصوا منه؛ فنجن رجلا مثل يوستوس لبسيوس في كتابه: «الديل إلى الأخلاق الرواقية» يذكر ان بعضاً من الميول الطبيعية لا يمكن أن يعد خيراً؛ ثم نجد المزرخين المحدثين، وعلى راسهم تسلر، يعبرون عن دهشتهم لما يرون في هذه الأخلاق من تناقض في مبادئهم ولوازم هذه المبادىء . فتسلر يذكر عن الرواقيين أنهم يقولون إن الخير هو أن يير الإنسان وفق ما تقتضيه الطبيعة،
ومع ذلك نجد الرواقيين ينكرون كثيرا من الأشياء الطبيعية الصرفة والتي هي ميول طبيعية أساسية في الإنسان، وإذا كنا نجدهم في اتجاههم المذهبي الأخلاقي العام يميلون إلى الزهد على النحو الكلي، فإنا نجدهم مع ذلك ينصحون احياناً بانتهاب اللذات على النحو الأرستطالي : فنجد بعضاً منهم لا يتورععن القول بأن الأرباح غير المشروعة احيانا مفيدة، ونجد آخرين، خصوصاً كريسيفوس، يقولون إنه من غير الممكن أن يعد لانسان شراً هذه الملاذ الدنيوية المعروفة : مثل الصحة والثروة.. . إلخ، ل ويطلبون من الإنسان ان يسعى لتحصيل هذه اللذات، ولا يأخذون على السياسي حرصه على التمجيد وزخرف الشهرة. وهكذا نجد اهم قد اضطروا إلى القول بأشياء هي في حقيقة لأمر تتنافى كل التنافي مع المبدأ الأصلي الذي أقاموا عليه نظريتهم الأخلاقية. وهذا التناقض قد سلم به كثير من المؤرخين. لكن جاء روديه، فحاول ان يبين ما في هذه الأخلاق من منطقية، فكتب في هذا بحتا طويلا عن منطقية الأخلاق الرواقية. وأول ما يجب ان نبدا به لكي نفهم طيعة الأخلاق الرواقية ان نستخرج من هذه الأخلاق المبدا الأصلي الذي قالوا به في المعرفة. فقد رأينا عند افلاطون وأرسطو ان هناك ثنائية بين الحساسية وبين العقل، وهذا اوضح ما يكون لدى ارسطو؛ فإن ارسطو وإن كان قد قال بلن في الطبيعة جبرا وضرورة، فإنه قال إلى جانب ذلك بأن فيها اتفاقاً وصدفة؛ فالجبر والضرورة، إنما يوجدان بالنسبة إلى الأجسام البسيطة وإلى الكواكب، اما إذا هبطنا من هذا العالم العلوي إلى العالم الذي تحت فلك القمر، وجدنا ان حظ البخت والاتفاق قد ظهر وازداد شيئا فشيئا كلما ازداد تعقد الكائن فيهذا العالم لأرضي؛ لأن الكائن في هذه الحالة قد جمع بين الصورة والهيولي أو بين القوة والفعل , فإنه لما كانت المادة او الهيولي ليست عنصرا للمعقولية الكاملة، فإنها السبب في وجود البخت والاتفاق في العالم الأرضي. اجل إن القوى التي يتركب منها الشي إذا نمت ونفسها سارت في طريق منطقي جبري ضروري، ولكنها إذا ما تقاطعت بعضها مع بعض حدث عنها خروج عن الضرورة، أي صدفة واتفاق. ومهمة العقل الإنساني ان يعالج من هذا الاتفاق والصدفة والبخت الموجودة في الطبيعة، وذلك بأن يرد الطبيعة غير العاقلة التي لا تخضع للضرورة، إلى الضرورة والجبر، والحساسية تنتسب إلى المادة ويخالطها شيءكثيرمن الاتفاق، فإذا كان العقل قد اق لتأخذ الطبيعة سبيلها المنطقي الضروري، فالعقل إذا قد جاء خصماً للحاسية او على أقل تقدير من شأن العقل ان يرد الحساسية
الرراقية
إلى صوابها؛ فثمة تعارض إذن بين العقل وبين الحساسية ولكن الرواقيين تبعا لنظرتهم في المعرفة ينكرون هذا التعارض لأنهم يجعلون من الحساسية المصدر الوحيد لكل معرفة؛ ولا يريدون ان يعترفوا بمصدر اخر للمعرفة غير الحز، . وعلى هذا فالحر والعقل لا تختلف نظرة الواحد عن الآخر، والتجربة هي دائما ينبوع امعرفة : ومن هنا فلا مجال للتحدث عن تعارض بين العقل وبين الحساسية. وإذا كانوا قد انكروا ذلك في باب المعرفة، فقد أنكرو هذا أيضاً في باب الوجود، فقالوا بأن الطبيعة ضرورة مطلقة لا يثوبها شيء من الاتفاق، فمن العبث إذن ان يتحدث الانسان عن تناقض بين ما يقضي به العقل وما تقضي به الطبيعة، وكل ما هنالك ذلك الموقف الذي يقفم الإنسان بالنبة إلى الأشياء الخارجية. فكأن التعارض هو تعارض ذاتي من حيث انه متصل بالحال النفسية التى يكون عليها المرء يإزاء فعل من الافعال الطبيعية.فإذاصحلنا إذا أن نقول بأنه لا وجود للضرورة دائما، فذلك إنما ينطبق على الضرورة الباطنة أي المتعلقة بالنف الإنانية في مواقفها المختلفة بإزاء الأحداث الطبيعية؛ أما الضرورة الموضوعية الطبيعية فهي ضرورة مطلقة لا تعرف اي انحراف ولا خروج عليها . وإذا كانت الحال كذلك فالمبدأ الأصلي الذي تقوم عليه الأخلاق أن يكون السير بمقتضى الطبيعة، فإننا إذا نظرنا إلى طبيعة الحياة الإنسانية، لوجدنا أن المبدأ الأولي الذي تقوم عليه الحياة هو المحافظة والإبقاء عليها، ثم العمل على ما تقتضيه طبيعتها، وطبيعة الحياة الإنسانية أن تكون عاقلة، لأننا قلنا إن ما يحدث في الطبيعة هو ضروري عقلا وتجربة، او حسا، فطبيعة الحياة الخارجية وطبيعة الحياة الانسانية سواء بسواء هي العقل، ولهذا فإن الوك يجب أن يكون السيربمقتضى العقل وبمعنى آخر السير بمقتضى الطبيعة، لأن العقل والطبيعة شيء واحد. ومهما تعددت الصيغ التي يستعملها الرواقيون في تحديدهم لمعنى الخير،فإنهم يتفقون جميعا في أن الطبيعة والعقل شيء واحد، وأن السلوك - وهو السير الموافق للعقل - يجب أن يكون حينئذ السير على ما تقتضيه الطبيعة. قنرى زينون يقول عن الطبيعة إنها العقل؛ ونرى سنيكا يتحدث عن الفضيلة بوصف أنها معرفة ما في الطبيعة من أشياء .
والطبيعة -كما قلنا - تير على أساس ضرورة مطلقة ، فلا مجال إذن للتحدث عن الحرية بمعنى الخروج على ما تقتضيه الطبيعة. فسواء رضي الإنسان أم لم يرض، فهولا بد سائر بحسب ما تقتضيه الطبيعة. والأحق والحكيم كلاهما يير إلى
نتيجة واحدة؛ أما الفارق بين الأحمق أو الجاهل وبين الحكيم، فهو في موقف الحكيم بالنبة إلى الأشياء الطبيعية وأحداث الكون، وموقف الجاهل من هذه الأشياء . أما الحكيم فيعلم طبيعة الأشياء وتبعا لهذه الطبيعة يسلك، بأن يوفق بين حساسيته ونيته وحالته الباطنة، وبين ما تقتضيه طبائع الأشياء ؛ بينما الجاهل يكون ذا حال باطنة ختلفة عما تقتضيه طبائع الأشياء، فيحدث نزاع بين حساسيتم وبين عقله ولكن على الرغم من هذا النزاع، فإن العمل الخارجي هودائماً ما تقتضيه طبائعالأشياء.
فالرواقيون يقولونكمايقول سقراط بأن العلم والفضيلة شيء واحد، وإذا علم الإنان شيثا، فهو بالضرورة مؤثر لهذا الشيء وفاعل له. وأما الشر فمصدره الجهل،فالحكيمفيهذه الحالة إذن هومن يعرف تماماقوانين الوجود، ويلائم شعوره الداخلي مع هذه القوانين الطبيعية. اما الجاهل، فهو الذي لا يستطيع ان يدرك هذه القوانين الطبيعية، فبضطرب، متعارضاً في حساسيتم مع ما تقتضيم القواين العقلية، وبالتالي - أو بمعفى اخر- مع القوانين الطبيعية.
وثمة تثبيه مثهور لدى الرواقيين يظهر أن افلوطين هو الذي اعطاه معناه الحقيقي بعد ان عذل معناه كثيراً عند الرواقيين المتأخرين، وهذا التشبيه هو أن الكون أو الطبيعة العاقلة كمدير التمثيل أو المخرج، الذي يوزع الأدوار على الممثلين تبعا لمؤهلاتهم وطبيعتهم. اما الممثل البارعفيفهم دوره تمام الفهم، ويحقق هذا الدور بأكمله، أما الجاهل فلا يستطيع ان يفهم دوره فيكون مدعاة للوم على المخرج. فكذلك الحال فيما يتصل بسلوك كل من الحكيم والجاهل: كلاهما لابدأن يفعل ما تقتضيه طبيعته، ولكن الأول في سلوكه يسير وفق ما تقتضيه هذه الطبيعة، ويكيف حالته النفسية على نحو ما تقتضيه، بينما الجاهل لا يستطيع أن يفعل ذلك، فيضطر إلى لوم المخرج او القانون الطبيعي، وإن كان سيضطر ايضاً إلى أن يفعل الدور الذي نيط به القيام به. فعلى الانسان في سلوكه إذن أن يوفق بين حالته النفسية وبين الحالة الخارجية. وفعل المرء في هذه الحالة، من الناحية الأخلاقية، هوفي النية التى تكون لديه، وفيها وحدها تكون خيرية الفعل . فإذا فعل إنسان فعلاً ما، وكان الفعل خيراً في ذاته، غير مقصود بان يكون خيراً من جانب فاعله، فإن صفة الخيرية مسلوبة عنه. وعلى العكس من ذلك إذا فعل الإنسان وكان فاصدا تحقيق الخير، ولم يستطع مع ذلك ان يحققه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن إلا أن يسمى أيضا
الرواقية
خيراً وحكيماً.فالحال هنا كالحال تماماً في رامي السهم، فالرامي البارع هو الذي يفعل كل ما في وسعه من أجل إصابة الهدف، وإذا فعل كل ما في وسعه فهو رام بارع سواء أصاب الهدف أم قامت عقبات وحدثت أشياء لم يكن من المنتظر أن تحدث فمنعت السهم من أن يصيب الهدف. أما الذي يصيب الهدف اتفاقا وصدفة، فلا يعد خيراً ، على الرغم من أنه وصل إلى النتيجة المطلوبة.
وهكذا نجد أن الفضيلة عند الرواقيين قد انتهت إلى أن تكون علماً فقط بما نقتضيه الطبيعة، وتكييفاًللنفس لكي تتجه نفسياً في الاتجاه الذي تسيرفيه قوانين الطبيعة فكأن المألة تنحصر في الواقع في علم الإنسان بالأشياء الخارجية من ناحية، ثم في الصورة التي يتقبل عليها المرء هذا العلم ■ ولهذا فإن المهم دائما في الفضيلة عندهم صورتها فحسب، لا مضمونها، لأن المضمون واحد باستمرار، من حيث أن ما تقتضيه الطبيعة هو الذي سيحد، ولا مجال للاختيار أو الحرية، مفهومة على أساس انها الإمكانية المطلقة لقول لا أونعم. وعلىهذا النحو انتهى الرواقيون إلى القول بأن الأفعال الإنسانية متصفة بصفة السوية أوالتساوي أوالحياد داأ٢٢0٢٠0ال0أ ٠ وهذا هومذهبهم المشهور في هذا الباب، وهو أن كل فعل أخلاقى هو في ذاته لا قيمة له ولا اعتبار، وإنما الفيمة الأخلاقبة للفعل هي دانماً في الموقف النفسي الذي يقفه الإنسان بإزاء هذا الفعل. وهذا أشبه ما يكون بفكرة الكسب عند الأشاعرة، من حيث أن الأفعال مقدرة أزلياً تقديراً مطلقاً ، وليس على العبد إلا ان يكتسب صفة الفعل، وهذا كل نصيبه في الفعل الأخلاقي : أعني أن يتكيف والحدث الخارجي على نحوخاص. ومن هذا المبدأ الذي تقوم عليه الأخلاق الروافية، تستخلص النتائج المشهورة التي عدت منذ القدم أغها تناقضات وهمية في الأخلاق الرواقية. فالحكيم عند الرواقيين هو هذا الذي يعلم قوانين الطبيعة ويوفق بين ما تقتضيه هذه القوانين وبين حالته النفية، وعليه ان يسلك سبيل الفضيلة، بأن يقصد إليها نفسياً قصداً تاماً؛ اما نتائج الفعل، فليس عليه بعدئذ إن كانت قد أصابت الهدف أم لم تصب، سواء أكانت خيرة موضوعيا أم كانت شريرة. وتبعا لهذا ينكر الرواقيون على كثير ممن كانوا يعدون فضلاء فضيلتهم، فينكرون على كاتون ولليوس أنهما حكيمان، وينكرون على شييون أنهم شجاع، لأنم لم يقصدوا إلى هذه الأشياء قصدا، ولم تكن نفوسهم مهيأةلهامن الناحية الباطنة، لكن المل الأعل للفضيلة الرواقية مفهومة .على هذا النحو غير ميسر التحقيق .
بيد أننا إذا سألنا الرواقيين عن إمكان تحقيق الفضيلة على هذا النحو، لقالوا إن الفضيلة على هذا النحوبمكنة التحقيق، غيران الأمثلة التاريخية علىهذا ا توجد: فسقراط لم يكن حكيماً، وإنما اقترب من الفضيلة. ولهذا كان لا بد من التفرقة بين نوعين من الأخلاق: بين أخلاق نظرية، هي التي تحقق الفضيلة على صورتها العليا التي عرضناها، ونعني بها ان يعلم المرء قوانين الطبيعة وأن يلائم بين حالته النفية وبين ما تقتضيه هذه القوانين - وبين أخلاق نستطيع أن نسميها أخلاقا شعبية أو عملية، وهي التي فيها يحاول الإنسان أن يقترب قدر الإمكان من المثل الأعل لسيلة الرواب. ومن ئ خرف الرواقيون بين نوعين من الفضيلة: فضيلة هي الحكمة صوفياً ٠أه٠ة، وخضبلة ض ١لفحلنةيمالآة٦آم0١ب<ل> لالحكميق هيالفضيلة مفهومة على النحو الأول، أي في الأخلاق النظرية، وال لة هي محاولة الانسان أن يحقق الفضيلة. ولهذا فإنهم يقولون أيضاً بصفة وسط بين الخير والشر هي التي يموها صفة • الملاثم» officium ؛ وهوهذا الذي يجمع بين الخيروبين الرمن حيث انه ليس خيراً مطلقاً، ولا شراً مطلقاً. وهنا نجد النناقض الشنيع الذي وقع فيه الرواقيون، فهم يقولون بوحدة الفضيلة، وإن الفضيلة لا يمكن أن تكون إلا وحدة، فإما أن يعرف الإنسان الأشياء، وإما أن يجهلها، ولا وسط بين العلم والجهل مطلقاً. والفضيلة ناشنة عن العلم والتكيف النفسي تبعاً لا يقتضيه العلم، فلا بد إذن، من أجل تحقيق الفعل، أن نحققها كاملة وإلا لن نستطيع ان نحققها إطلافاً. ولكننا نجدهم هنا حينما يريدون أن يخرجوا عن النظر وينزلوا إلى ميدان الواقع يضطرون إلى القول بصفة وسط في المعرفة وبالتالي في الأخلاق، هى في الأفعال الجامعة بين الخيروالشر، والتى تكون الفطنة بدلاً من الحكمة، ويجر هذا أيضاً إلى تفرقة ناكنة قالو بها وهي التفرقة بين الغاية وبين الغرض، وهي تفرقة كان لها أثر كبير، وكانت موضع العناية لدى المدارس الرواقية على اختلافها.
وأساس هذهالتفرقة بين الغايةي٣30وبين الغرض؟0076 ان الغاية هي تحقيق الفعل أو بذل كل مجهود من أجل تحقيق الفعل. فغاية الفعل هي الفعل في ذاته، أما الغرض فهو تحصيل نتيجة ما من النتائج. وعلى أساس هذه التفرقة تقوم التفرقة الأساسية في الأخلاق الرواقية بين الأخلاق النظرية، وهي تلك التي تتوقف عل الغاية، وبين الأخلاق العملية، وهي تلك التي تتوقف على الغرض. وعلى الرغم من التمييز الدقيق الذي قال به الرواقيون-كما سنعرض لهذا بعد قليل
٥٤٢
الرواقية
لهذين النوعين من الأخلاق، فإن ثمة طابعا مشتركا بين كلا النوعين، وهو انه يفترض دائماً في كل اخلاق ان تكون اخلاقا باطنة صادرة عن النية أو الحالة الباطنة التى يحياها المرء في نفسه. اما التمييز فقد ظهر خصوصاً في العصر امتاخر عند الرواقين الذين وجدوا في الجيل التالي للرواقية الأولى. وهذه التفرقة كالتفرقة التي قال بها يرمنيدس في نظرية المعرفة بين العلم بمعناه الحقيقي وبين الظن. فكما ان برمنيدس قد قال بنوعين من الحقيقة : حقيقة يقينية وأخرى ظنية، فكذلك يقول الرواقيون بنوعين من الأخلاق: اخلاق نظرية أو مثالية، وأخلاقعملية أوشعبية. وإنا لنجد هذه التفرقة اوضح ما تكون عند هريلوس: فإنه يميز بكل وضوح بين نوعين من الخير الأسمى : خير اسمى نظري هو الذي ينشد ه الحكيم، وخير اسمى عملي هو الذي يقنع به الرجل العادي.
وقد اشار شيشرون إلى هذا التناقض وعزاه خصوصاً إلى هريلوس، فقال لا شيء أسوأ من أن نعد ان هناك نوعين من الخير الأسمى. فالخير الأسمى لا يمكن ان يكون غير خير واحد، فإذا تعدد فقد فقد صفته الأولى وهي انه الخير الأسمى، اعني ان هذه التفرقة تجعكا نقع في تناقض. ويحرص رودييه على توكيد هذه التفرقة، لأنه على اساسها يريد أن يبين أن في الأخلاق الرواقية منطقية، ولم يكن فيها التناقض الذي اشرنا إليه في بدء كلامنا عن الأخلاق لديهم. ذلك ان هذه التفرقة إذا صيغت بوضوح معناها أنه لا تناقض بين ان يقول الإنسان إن المثل الاعلى في لاخلاق الشعبية هو ان يتبع لإنسان الميول الطبيعية الأولى الأساسية، وبين ان يقول في الأخلاق النظرية إن المثل الأعلى هو أن يفعل الانسان بحسب ما تقتضيه الطبيعة، وان ينظر إلى الأحداث بعد ذلك بحسبا^ا متساوية فلا فارق في الواقع بين خير وشر، ما دام كل شيء ضروريا. ولهذا كان من الممكن ان ينعت الرواقي الاخلاق بأنها ليست علم الخير والشر بمعنى ان الأخلاق تقوم في الواقع على أساس أن هناك اشياء ضرورية وهذه الأشياء الضرورية يجب على الحكيم ان يتكيف وإياها في باطن نفسه، ولا داعي. إذن لاختيار فعل وتفضيله على اخر، ما دامت هذه الأفعال ضرورية.
والثابت ان هذه التفرفة لم تأت في الواقع إلا في دور متأخر في الجيل الثافي او الثالث للرواقية. فقد نجد يعض إشارات ضثيلة إلى هذه الناحية، وفي شيء كثير من الغموض عند كريفوس، ولكننا لا نجدها واضحة إلا عند اتباع متأخرين
اشهرهم ذيوجانس البابلي ثم تلميذه انتيياتر، وكانت العلة في هذا التغيير الذي طرا على تصور الرواقيين للفضيلة العليا أو الخير الأسمي تلك الخصومة العنيفة التي شنها على الرواقيين 'حدأتياعالأيقورينوهواكرنيادس’. فقدأخذكرنيادسعلى الرواقية ان المثل الأعلى الذي تنشد تحقيقه لا يمكن ان يتحقق، وبالتالي لا يمكن الإنسان ان يحصل السعادة . ويذكر في هذا الباب قول قاله كرنيادس حينما ذكر عن احد الولاة إنه ليس والياً لأنه ليس حكيماً، وليست روما مدينة لان الذين يسكنونها ليسو وطنيين فأشار كرنيادس بهذا إلى أن الرواقيين حينما يطلبون من الفضيلة ان تتحقق، إنما يطلبونها على اساس لا يمكن في الواقع ان يتحقق، وبالتالي لا يمكن العمل أن يتم. ولهذا اضطر الرواقيون في هذا الجيل، وعلى رأسهم ذيوجانس البابلي، إلى التخفيف من حدة المثل الأعلى الرواقى بأن يقولوا إن الأخلاق يجب ان ترجع في النباية إلى الملانمات 3قءق0٢٢ ، بدلاً من أن ترجعإلىالغغاثلالعميا)0’،''01»?و0)0».ضأنذيوجاضوأساتر قد ارادا مع ذلك ان يبقيا على فكرة الفضائل العليا فاضطرا من اجلهذا إلى القول بأن ال0070٤0٣»هي والهذعا^0 شيء واحد. فكان هذا مصدراً - في راي رودييه - لما حدث بعد ذلك من خلط في مذهب الرواقية الأخلاقي، والظر إليه على انه متناقض. اي ان هذا التناقض يمكن ان يحلعلى الطريقة التاريخية بأن يقال إنه في الجيل الأول ومعظم الجيل الثافي كان الرواقيون ينظرون إلى الأخلاق بحسبانها تقوم على ال ل60070609٣0وينكرونعلى |للاثق0٢٢ صفة الأخلاقية، ولكنهم في الدور الثافي من الرواقية الأولى-وهو الدور الذي تحدده في الواقع خصومة كرنيادس - اضطروا إلى المساومة والتخفيف من غلو وحدة المذهب الأخلاقي الأول، فقالوا حينثذ إن لأخلاق يمكن - إن لم يكن يجب- أن تقتصر على ال ئقءف0٢۴ لأن ال ل؟46091060٤غير ممكتة التحقيق.
إلا اننا نجد مع ذلك أن يعضاً من الرواقيين الذين ينتسبون إلى هذا الدور الكرنيادي، قد حاولوا أن يرجعوا إلى الأخلاق الرواقية الأولى، وعلى رأس هؤلاء ارسطون الخيوسي. فأرسطون لا ينكر فقط - كما فعل زينون - أن بكون كثير من الناس قد حققوا المثل الأعلى للأخلاق كما يجب أن يتصورها الرواقى، بل ينكر كذلك أن يكون إنان مامنقبلقدحقق شيئاً منهذا؛ ثم يلح في وجوب تحقيق لاخلاق عل أساس ان الأخلاق الحقيقية هي وحدها الأخلاق التي تصدر عن الأخلاق النظرية، لا عن الأخلاق الشعبية. فكأننا نجد إذن في أرسطون
الرواقية
طرفاً مغالياً جداً او رد فعل قوي ضد التأثير الذي احدثه كرنيادس في تشكيل الأخلاق الرواقية عند دي وجانس البابلي وتلميذه انتيباتر. ومما يشهد بذلك ان ارسطون قد جعل المقام الأول للطبيعيات، وذلك لأن الأخلاق سترجع في هذه الحالة في الواقع إلى العلم بما تجري عليه احداث الطبيعة بالضرورة، ثم مسايرة هذه الأحداث الطبيعية من الناحية النفسية. وقد أكد ارسطون ان الفضيلة واحدة، وان لا وسط إطلاقاً بين الفضيلة والرذيلة، لأن العلم عنده - كما اشرنا إلى شيء من هذا فيما سبق - واحد لا يقبل درجات، وبالتالي لا تقبل الأخلاق درجات : فإما فضيلة وإما رذيلة ولا وسط بين الاثنتين. والواقع ان الأخلاق إذا ما تصورت كما تصورها الرواقيون الأولون ثم ارسطون، كان لا بد أن تنحل إلى الطبيعيات، أي تكون في الواقع فرعاً نانوياً بالنسبة إليها.
إلا ان التيار الذي جدده أرطون لم يلبث أن اختفى في الجيل التالي له مباشرة، وإذا بنا نجد شخصية اخرى من أشهر الشخصيات الرواقية هي شخصية بانتيوس الرودسي تسلك نفس المسلك الذي سار فيه هريلوس وأنتيباتر. ومع ذلك فإن المؤرخين مختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف فيا يتصل بطبيعة مذهب بانتيوس: هل كان حقا تتابعا واستمرارا لمذهب هريلوس وانتيياتر، ام كان في الواقع امتداداً للاتجاه الذي جدده أرسطون؟
فقلمان وتلروكثيرجداً من المؤرخين للفلفة اليونانية يقولون إن بانتيوس كان سائراً في نف الاتجاه الذي سارفيه من قبل هريلوس وانتيياتر، بل غالى جداً في هذا الاتجاه فكان متطرفاً كتطرف ارسطون في لاتجاه الآخر، إذ قال -تبعاً لما يغول انصار هذا الرأي - إن الأخلاق لا يجب فقط ان تصدر عن الأحوال الخاصة، بل يجب أن نصدر ايضاً عن المزاج الشخصي، فكأن الأخلاق ستخرج إذن عن مبدئها الأصلي وهوالسيربمقتضى الطبيعة، بصرف النظر عن أثرهذا المقتضى فيما يتعلق بالميول الفردية. وإنما ستأخذ الأخلاق، في هذه الحالة، مظهراً أقرب ما يكون إلى لأبيقورية، لأنها ستنحل في الواقع إلى بحث عما يلانم الشهوات والميول الطبيعية وانصراف عما تقتضيه الضرورة كضرورة، أي أننا نجد في هذا الاتجاه قضاءا على كل أخلاق رواقية بالمعفى الصحيح . وهذا ظاهر خصوصأ عند بانتيوس فيما يتصل بفكرة «المفضلات»، وهي الأشياء المتوسطة بين الخير والشر، والتي يمكن أن تكون مترادفة في الواقع مع ال oft’iciil . فإن بانتيوس يفصل درجات مختلفة
لهذه الأخلاق ويقول إن الإنسان يستطيع ان يحقق بعض الأجزاء دون البعض الآخر، وأن يقترب من الخير أو من الشر ثم يقول من ناحية اخرى إن الأصل، في الواقع، هوتحصيل النتائج المترتبة على الفعل، لا الفعل من حيث هو فعل، اعفي أن الصلة بين الغاية والغرض ستكون عكس الصلة التي رأيناها من قبل، فيصبح الغرض هو الأصل، والغاية وسيلة لهذا الغرض لا قيمة لها في ذاتها، وإنما القيمة في الأغراض التي تتحقق.
ولكن رودييه تبعا للمبدأ الذي توخى ان يبينه في عرضه للأخلاق الرواقية، انكر أن يكون بانتيوس ممن ساروا في الطريق الذي بداه ذيوجانس البابلي وأنتيياتر، وإنما قال بانتيوس بالتفرقة الرثيسية بين الأخلاق الشعبية والأخلاق النظرية، ولم يقل برفض هذه الأخلاق الأخيرة لحاب الأخلاق الأولى بل جعل لكل نوع منهما ميدانه الخاص به: اما الحكيم فعليه ان يسلك سبيل الأخلاق النظرية، والرجل العادي عليه ان يسلك سبيل الأخلاق العملية. إلا ان رودييه قد اضطر مع ذلك إلى التسليم بأن الكثير من اقوال بانتيوس يرجح انه كان اميل إلى عد الأخلاق الشعبية هي الأهم إن لم تكن الأصل، وإنه لما كانت الأخلاق النظرية غيرمكنة التحقيق على وجه الأطلاق وكان لا بد للانسان من ان يعمل، وكان عليه حينئذ أن يأخذ بالأخلاق الشعبية. ويفصل القول فيها أكثر عا فعل، بالنسبة للأخلاق الألى، ومن هنا جاءتنا عن بانتيوس هذه الأقوال والحكم العملية المتصلة بتفاصيل الحياة العامة وجزئياتها عما اعطى للرواقية بعد ذلك طابعاً خاصاً كاد ان يكون هو الممثل الحقيقي لها حتى طغى على نظرة المؤرخين إلى الرواقية. وطبيعى ان يكون بانتيوس قد اتجه هذا الاتجاه لأن هذا ما كان ينتظر من رجل ذهب إلى روما وعاش فيها كي يكون متثاراً لأولي ا لأمر في روما، وما كان يطلبه الرومافي في هذه الأحوال هو ان يكون قادراً على ان يسلك سبيلا عملية معينة، تحدوه فيها طائفة من الحكم العملية المتصلةبتفصيلات الحياة، فلابدان يكون بانتيوس - وقد وجد طبيعة الجو الذي عاش فيه حيشد تدعو إلى الأخذ بالجانب العملي وتفصيل القول فيه-لابد إذن أن يكون بانتيوس قد عى عناية كبيرة بالأخلاق الشعبية العملية، ولم يعد يعفى بالناحية الأخرى ناحية الأخلاف النظرية، إلا عناية ضثيلة جدا. فمهما قال رودييه فيما يتصل بكون بانتيوس لم يكن يسير في نفس الاتجاه الذي بدأه ذيوجانس البالي وانتيباتر، فإنه عما لا سبيل إلى الشك فيه-وهذا ايضاً
رويس
شيء كان يقتضيه منطق التطور المذهبي والحضاري - نقول ما لا شك فيه أن الأخلاق عند بانتيوس انتهت إلى أن تكون استمراراً، بل واستمراراً متطرفاً، للاتجاه الظاهر عند ذيوجانس، وعلى هذا فلا مجال لهذا التدقيق الكبير فيما يتصل بشخصية بانتيوس.
وهذا التطور في الاتجاه الذي بدأه ذيوجانس البابلى هو عينه سيستمر حتى نهاية الرواقية والحضاة اليونانية . خصوصاً بعد أن انتقلت الرواقية من العقول اليونانية الخالصة إلى العقول الرومانية. فإن الرواقية التيقال بها كثيرمن الرومان أمثال سنيكا وماركس أورليوس كانت متجهة إلى الناحية العملية أي الحكمة العملية في الحياة، وانصرفت نهائياً عن ااسس النظرية الاولى التي قامت عليها الأخلاق الرواقية، فإنهم لم يأخذوا إلأ بالناحية الشعبية العملية، لأنم وجدوا فيها ما يلائم مزاجهم وطبيعتهم الخاصة، وقد كان الروماني يطلب من الفلسفة عموما في هذا الظرف أن يتخذ منها وسيلة لقيادة ضميره، فكان ينظر إلى الفيلسوف بوصفه فائداً للضمير وموجهاً لم، فلم يكن غريباً إذن أن تأخذ الأخلاق هذا الطابع العملي الصرف الذي انتهى بها إلى مجموعة من الأمثال والحكم، كما هو مشاهد في تأملات ماركس أورليوس.
وشيء اخيريجب أن نشير إليه، يطبع الرواقية بوجه عام في نظرتها إلى الأخلاق بطابع خاص: هو النزعة الكونية، فالرواقي كان يجسب نفه مواطنا للعالم أجمع، وبالتالي كات تعنيه كثيرا هذه الفروق المختلفة بين الناس. إلا أنه يجب أن يلاحظ أن هذه النزعة الكونية يجب أن يميز تمييزاً دقيقاً بينها وبين النزعة العالمية، فهم لم يكونو يجدون حرجاً في ان يكون الانان متصفا بالنزعة القومية الوطنية وفي الأن نفسه مواطناً للكون كله، أما النزعة العالمية، وهي التي بين أمة وأمة، وتخرج بالأمم عن حدودها فتنتهي إلى ما يسمى باسم «الشفقة الانانية» . Caritas humano genere - هذه النزعة العالمية المقترنة بالثفقة الانانية العامة لم توجد في الأخلاق اليونانية لأول مرة إلا عند الأبيقوريين. أما الرواقيون فقد قالوا بأن الانسان مواطن للكون، وإن كان مواطنا في الآن نفسه لمدينة خاصة يحرص على أداء واجباته بإزائها. فالفارق إذن بين النزعة الكونية والنزعة العالمية يقوم في ان النزعة الكونية تنظر إلى الانان بوصفه جزءا من كون أكبر ملتئماً فيه، بينما النزعة العالمية تنظر إلى الانان يوصفه عضواً في جماعة عامة هي الجماعة الانانية.