نخبة مثقفة

النخبة المثقفة أو الأنتليجنسيا (بالإنجليزية: Intelligentsia) هم فئة من الأشخاص المتعلمين المنخرطين في الأعمال الذهنية المعقدة التي لها دور نقدي وتوجيهي وقيادي في تشكيل ثقافة وسياسة مجتمعهم، تضم الأنتليجنسيا فنانين ومعلمين وأكاديميين وكتاب ورجال الحرف. يُعرف أفراد الأنتليجنسيا بالمثقفين.

نشأت طبقة الأنتليجنسيا في أواخر القرن الثامن عشر، في بولندا الروسية، خلال عصر التقسيم (1772-1795). في القرن التاسع عشر، صاغ المفكر البولندي برونيسو ترينتوفسكي مصطلح الأنتليجنسيا «المفكرين» للدلالة على الطبقة الاجتماعية المتعلمة والنشطة مهنيًا من البرجوازية الوطنية والتي يمكن أن يكون أفرادها قادة ثقافيين في بولندا، ثم تحت الحكم السلطوي للأوتوقراطية القيصرية الروسية، من أواخر القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين.

التعريفات

يطلق مصطلح الأنتليجنسيا، بشكل فضفاض، على أى شريحة متعلمة داخل المجتمع تهتم بالفكر- وتضم فى الغالب المثقفين والمديرين. وبمرور الزمن أصبح استخدام هذا المفهوم أكثر تحديداً، على الرغم من أن الاستخدام الأصلى للمفهوم يختلف عن استخدامه فى السياق البولندى والروسى أوائل القرن التاسع عشر. حيث تختلف الإنتلجنسيا فى كلا البلدين، بوصفها فئة اجتماعية، بفعل ظروف تاريخية واضحة.

صاغ الفيلسوف البولندي كارول ليبيلت مصطلح الأنتليجنسيا في كتابه «عن حب الوطن» الذي صدر عام 1844. في اللغة البولندية، أصبح الفهم الشعبي لكلمة الأنتليجنسيا قريبًا من تعريف ليبيلت، والذي عرّف طبقة الأنتليجنسيا بأنهم أشخاص متعلمون في المجتمع، يتعهدون بقيادة العملية الأخلاقية، كعلماء ومدرسين ومحامين ومهندسين وآخرين.

في الستينيات من القرن التاسع عشر، عمم الكاتب بيتر بوبوريكين مصطلح الأنتليجنسيا في الإمبراطورية الروسية. ادعى أن مفهوم الأنتليجنسيا نشأ من الطبقة الاجتماعية. الكلمة الروسية Intelligents مشتقة من الكلمة الألمانية Intelligenz (الذكاء) ووصفت الطبقة الاجتماعية التي تضم أشخاص يمارسون الأنشطة الفكرية؛ علاوةً على ذلك، وسع بوبوريكين تعريف الأنتليجنسيا (منتجو الثقافة والأيديولوجيا) ليشمل الفنانين (منتجو الثقافة العالية).

عرّف ماسيج يانوفسكي في كتابه الذي صدر عام 2008 «صعود الأنتليجنسيا»، 1750-1831، طبقة الأنتليجنسيا على أنهم موظفون مفكرون تابعون للدولة الحديثة، حدّت سياستهم في خدمة الدولة من التخلف الاجتماعي والقمع السياسي في بولندا المنقسمة.

في عام 2006، حدد فيتالي تيبيكين سمات طبقة الأنتليجنسيا على النحو التالي:

  1. المثل الأخلاقية السابقة لعصرها، والتعاطف مع الجار، اللباقة واللطف في المظاهر؛
  2. الأعمال الذهنية النشطة والتعليم الذاتي المستمر؛
  3. الوطنية القائمة على الإيمان بالشعب، والحب الذي لا ينضب للوطن الأم؛
  4. المثابرة الخلاقة لجميع وحدات الأنتليجنسيا (وليس فقط الجزء الفني منها، كما يرى كثير من الناس)، والزهد؛
  5. الاستقلال، والرغبة النابعة من الذات في حرية التعبير؛
  6. الموقف النقدي تجاه الحكومة الحالية، وإدانة كل مظاهر الظلم، والممارسات المناهضة للإنسانية، والمعاداية للديمقراطية؛
  7. الولاء للمعتقدات الشخصية النابعة من الضمير في ظل أصعب الظروف والميل إلى نكران الذات؛
  8. التصور المبهم للواقع، الذي يؤدي إلى تقلبات سياسية، وأحيانًا- إبداء مظاهر التحفظ.
  9. تفاقم الشعور بالاستياء بسبب قلة الإنجاز (الحقيقي أو الظاهر)، ما يؤدي أحيانًا إلى الانغلاق الفكري الشديد؛
  10. سوء الفهم المتكرر، ورفض الأشخاص من قبل ممثلين عن مجموعات مختلفة من الأنتليجنسيا، أو مجموعة واحدة، والتي تسببها نوبات من الأنانية والاندفاعية (وهي غالبًا من سمات طبقة الأنتليجنسيا الفنية).

التاريخ الأوروبي

في أوروبا، كانت الأنتليجنسيا موجودة كطبقة (اجتماعية) حتى قبل طبقة المفكرين، وصيغ هذا المصطلح في القرن التاسع عشر. بوصفهم أشخاصًا وضعتهم مهنتهم (جسديًا واقتصاديًا واجتماعيًا) خارج الأماكن والوظائف التقليدية للطبقات الاجتماعية الملكية في المدينة والبلد (الملكية، الأرستقراطية، البرجوازية) في ذلك الوقت، كانت الأنتليجنسيا طبقة اجتماعية حضرية. شارك المثقفون في التنمية الثقافية للمدن، ونشر المعرفة المطبوعة (الكتب والنصوص والصحف)، والتنمية الاقتصادية في مجال الإسكان بالإيجار (مبانٍ شققية) للمعلمين والصحفيين والموظفين المدنيين.

في روسيا، قبل الثورة البلشفية (1917، وصف مصطلح «الأنتليجنسيا» فئة المتعلمين الذين سمح لهم رأس مالهم الثقافي (التدريس، التعليم، التنوير) بتولي قيادة سياسية عملية. في الممارسة العملية، تباينت حالة الأنتليجنسيا ومكانتهم الاجتماعية حسب المجتمع. في أوروبا الشرقية، حُرم المفكرون من الامتيازات السياسية وإمكانية الوصول إلى أدوات التنمية الاقتصادية الفعالة. في المقابل، في أوروبا الغربية، وخاصةً في ألمانيا وبريطانيا العظمى، حددت الطبقة البرجوازية المثقفة والمهن البريطانية أدوارًا للمفكرين العموميين في مجتمعاتهم.

فالإنتلجنسيا الروسية، التى ثشكلت من عناصر كانت تنتمى إلى الطبقات الإقطاعية التى كانت قائمة فى روسيا خلال القرن التاسع عشر، كانت تقع فى البداية على تخوم طبقتى الأوتوقراطية القيصرية وجماهير الفلاحين. غير أن عمليات إدماجهم (انظر مادة: الانغلاق) قد استعارت يعض شمائل وعادات الطبقة الارستقراطية الإقطاعية المتوسطة، ثم أضافت اليها فيما بعد رخصة المؤهلات التعليمية، التى حلت محل المؤهلات العسكرية وغيرها من المؤهلات. وقد عملت هاتان الخاصيتان على فصم عرى هذه الفئة عن بقية فئات المجتمع، وهى الفئات التى تتوهم الإنتلجنسيا بأنها تتحمل مسئوليتها. أما فى بولندا، فقد كان التمسك بالروح القومية، أو وعيها الذاتى، أثناء فترة التجزئ الأوروبى، حيث استمرت الأمة البولندية فى ظل دولة قزمية تحميها وتحافظ عليها، فكانت تلك هى ظروف ظهور جماعة الإنتلجنسيا البولندية.

وفى ظل غياب بورجوازية وطنية فى شرق أوروبا، وتعاظم دور الدولة ورأس المال الأجنبى، ظهرت روح انتلجنسيا مركبة: تجمع بين النزعة القومية مجدولة مع توجه غربى، ونزعة مضادة للتصنيع مع التركيز على القيم الثقافية والإنسانية، ونقد الدولة، ومشايعة أسلوب الحياة الخاص بالطبقة الأرستقراطية الممتوسطة ومعايير النمو السليم لطبقة الانتلجنسياذاتها. وتجسد كل ذلك فى كلمات أحد المعلقين الذى وصف ذلك الوضع بأنه يمثل: "التلازم التام للمواجهة بين المجتمع التقليدى والغرب الحديث" وبعد حلول الشيوعية كان من السهل أن نرى، كما لاحظ أحد المعلقين، كيف أن الإنتلجنسيا، فى روحها الممضادة للبورجوازية و المضادة للرأسمالية، كانت متوافقة مع الماركسية. ومع ذلك ففى الأقطار الخاضعة التى كانت تكون الكتلة السوفيتية، نجد أن الملمح الآخر للإنتلجنسيات- وأعنى إحساسها برسالتها كأداة للقيم القومية- قد أدى إلى تقويض النظام الشيوعى.

ومن اللغو أن نتساءل هنا، مع حلول اقتصاديات السوق، عما إذا كانت الرأسمالية سوف تؤدى فى النهاية إلى تحويل أجزاء من الإتتلجنسيا إلى معادلها الغربى، أى إلى فئة و اسعة من المثقفين لا إلى شريحة اجتماعية متماسكة. ويرى بعض النقاد فى الغرب أن طبقة أصحاب الرواتب أو طبقة الموظفين المهنيين، يمكنها، إذا ما استطاعت أن تتبلور عبر عمليات التجديد الداخلى والأشكال المختلفة للاهتمام بالمؤهلات الدراسية، يمكنها أن تشكل إنتلجنسيا غربية تتمايز، من خلال أسلوب حياتها، وإحساسها بشرف مكانتها، و أشكال الزواج المتبادل، عن جماهير مجتمع مابعد الصناعة، والمجتمع الراسمالى الجديد.