لوسيان ليفي-بريل

لوسيان ليفي-بريل (بالفرنسية: Lucien Lévy-Bruhl) (1857 – 1939)، فيلسوف ومؤرخ للفلسفة وعالم اجتماع وأثنولوجي فرنسي. له بحوث في العقلية البدائية. كان أستاذاً بجامعة السوربون منذ 1899، أهم كتبه «الوظائف العقلية في المجتمعات البدائية» 1910، و«العقلية البدائية» 1922، وللأخير ترجمة عربية.

استطاع أن يؤثر تأثيراً بعيداً من خلال نظرياته عن الشعوب "البدائية"، التي كان يرى أنها تؤمن بتصورات جمعية تتسم بأنها سابقة على المنطق" (أو قبل منطقية) وروحية (انظر كتابيه كيف يفكر البدائيون، الصادر عام 1910)، والعقلية البدائية، الذى صدر عام 1922). وقد انتقد ليفى برول بوصفه ذا نزعة تمركز حول السلالة. ثم أعيد تفسير آرائه مؤخرا حيث اعتبر من أوائل المؤمنين بالنزعة النسبية الذين اهتموا بطرق التفكير التى لا تتسم بالطابع العلمى.

حياته

ولد ليفي بريل في باريس في 10 أبريل سنة 1857 من أسرة يهودية أصلها من مدينة ميتس Metz في الألزاس. وتعلم في ليسيه شارلمان حيث برز في الدراسة ونال جوائز في مسابقات المدارس الثانوية في فرنسا. وتردد في اختيار مهنة المستقبل: بين أن يكون من رجال الفلسفة، أو رئيساً لأوركستر، وقد ظل طوال حياته يهتم بالموسيقى. لكنه اختار الفلسفة ودخل في مدرسة المعلمين العليا في سنة 1876. وبعد الحصول على الليسانس في الفلسفة، حصل على إجازة التدريس (الاجريجاسيون) في الفلسفة في سنة 1876، وتتلمذ على جول لاشلييه أثناء مقامه في مدرسة المعلمين العليا.

وعين مدرساً للفلسفة في مدرسة ثانوية في بواتييه (1879 - 1882)، ثم في أينان (1882 - 1883). وفي سنة 1884 حصل على الدكتوراه في الآداب (قسم الفلسفة) من السوربون. وكانت رسالته الرئيسية عن فكرة المسؤولية، ورسالته الصغرى ( اللاتينية ) بعنوان: «رأي سنكا Seneca في الله». وعين مدرساً في ليسيه لوي لوجران (1883 - 1895). ثم عين في سلك التدريس العالي: فصار مدرساً بديلاً في مدرسة المعلمين العليا. وفي سنة 1896 عين مدرساً في قسم الفلسفة بالسوربون وتدرج في هيئة التدريس فيها حتى صار أستاذاً ذا كرسي لتاريخ الفلسفة الحديثة سنة 1904. وفي الوقت نفسه ظل يلقي محاضرات في المدرسة الحرة للعلوم السياسية وكان مؤسسها، بوتمي Boutmy قد كلفه منذ سنة 1886 بإلقاء دروس في تاريخ الأفكار السياسية والروح العامة في ألمانيا منذ سنة 1815.

لكنه وهو في السوربون لم يكن يسجل محاضراته كتابة، بل كان يلقي دروسه بدون شىء مكتوب، ومن هنا ضاعت هذه المحاضرات كلاماً شفوياً. ولم يبق لنا شيء، من محاضراته عن هيوم وشوبنهور؛ ودروسه عن ديكارت لم يبق منها إلا ذكرى أهاب بها تلميذه اتيين مبسون ( في «المجلة الفلسفية» عدد أكتوبر- ديسمبر سنة 1957 ص 432 - 451). لكنه استخرج ما أعدّه لمحاضراته في السوربون كتابين أحدهما في فلسفة ياكوبي Jacobi والثاني في فلسفة أوجيست كونت. ومن دروسه في المدرسة الحرة للعلوم السياسية استخرج كتاباً بعنوان: «ألمانيا منذ ليبنتس» .

لكنه في السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وتحت تأثير صداقته مع دوركهيم، اهتم ليفي بريل بالأخلاق وعلم الاجتماع. وقام بأبحاث شخصية في هذا المجال، كانت ثمارها كتابين أحدثا دوياً لدى ظهورهما، وهما: «الأخلاق وعلم الآيين»، ثم «الوظائف العقلية في الجماعات الدنيا».

وكان كثير الاهتمام بالسياسة، النظرية والعملية على السواء. فشارك في الدفاع عن الضابط دريفوس، وكان دريفوس متزوجاً من إحدى قريبات ليفي بريل. وكان أيضاً وثيق العلاقة مع جان جورس ولوسيان هر Herr الاشتراكيين، ولم يخف انتماءه إلى الاشتراكية.

وفي سنة 1917 تولى رئاسة تحرير «المجلة الفلسفية» التى أنشاها ريبو Ribot. وفي نفس السنة صار عضواً في معهد فرنسا إذ اختير عضواً في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية.

وفي سنة 1925 أنشأ «معهد الإثنولوجيا» (علم الأجناس) واستعان في ادارته ببول ريفيه Paul Rivet ومارسل موس Marcel Mauss.

ولما بلغ السبعين في سنة 1927 تقاعد بوصفه أستاذاً لتاريخ الفلسفة الحديثة في السوربون.

وفي سنة 1932 تولى رئاسة لجان الامتحانات في مصر وفلسطين وسوريا.

وتوفي ليفي بريل في 13 مارس سنة 1939.

آراؤه الفلسفية

أهم آراء ليفي بريل الفلسفية تتناول الأخلاق والعقلية البدائية.

الأخلاق

أصدر في الأخلاق في سنة 1930 كتاباً صغيراً بعنوان: «الأخلاق وعلم الآين» حاول فيه بيان استحالة وعدم جدوى كل الأخلاق النظرية، سواء منها الأخلاق التي اتخذت طابعاً علمياً (مثل الأخلاق القائمة عى البيولوجيا، وتلك القائمة على علم النفس أو علم الاجتماع)، والأخلاق الميتافيزيقية التي وضعها الفلاسفة على مدى العصور. فهو يأخذ على كلا النوعين من الأخلاق أنه يريد أن يكون نظرياً ومعيارياً في آن واحد، فيقدم علماً ويفرض واجبات معاً، وهذان الأمران لا يجتمعان معاً في علم واحد. ذلك أن النظرية تتناول ما هو كائن، بينما الواجب يتناول ما ينبغي أن يكون. والدليل - في نظره - على عدم جدوى هذه الأنواع من الأخلاق كلها هو أنها - رغم اختلاف أساسها - متفقة في تعاليمها العملية: فمذهب المنفعة عند جون استورت مل يسعى جهده للوصول إلى نفس القواعد الأخلاقية التي قررها الإنجيل.

ومن ناحية أخرى تقوم هذه الأنواع من الأخلاق النظرية على مصادرتين خاطئتين: (1) فهي تفترض أن الطبيعة الإنسانية هي هي عينها في كل زمان ومكان، مع أن الواقع هو انها تختلف بحسب الحضارات. (2) وهي تفكر كما لو كان الضمير الأخلاقى كلا منسجماً، بينما هو في الحقيقة ينطوي على تناقضات، وهو يمزج بين تعاليم صادرة عن مصادر مختلفة.

وبدلاً من هذه الأخلاق النظرية، يريد ليفي بريل أن يضع أساس علم وضعي يقوم على الآيين، أي على الأعراف والعادات والتقاليد والممارسات العملية الموجودة في مجتمع مجتمع. ويريد من هذا العلم أن يسلك مسلك علم الفيزياء، وذلك بأن يستند إلى معطيات موضوعية بحتة، وأن يبحث عن قوانينها بدلاً من أن يسعى لتأويلها. وهذا العلم -ويسميه «علم الآيين» science des moeurs بدلاً من «علم الأخلاق» - لا يدعي تأسيس الأخلاق، بل يقتصر على تحليل الواقع الأخلاقي. وعليه أن يحسب حساباً للعواطف والامتثالات، بوصفها معطيات واقعية.

ويمكن بالاستناد إلى علم الآيين تأسيسن منهج عقلي للسلوك الأخلاقي، وشأنه شأن كل تكنيك فإنه يفترض معرفة سابقة. والقواعد المتخرجة عن هذا الطريق لا تصلح إلا بالنسبة إلى مجتمع محدد. إن الأخلأق نسبية إلى المجتمعات التي تمارسها.

العقلية البدائية

أما فيما يتعلق بالعقلية البدائية، فقد كرس ليفي بريل لدراستها عدة مؤلفات ودراسات، أهمها:

  1. «الوظاثف العقلية في المجتمعات الدنيا» (ألكان، سنة 1910)
  2. «العقلية البدائية» ( ألكان، سنة 1922)
  3. «النفس البدائية» (الكان،سنة 1927)

وفي هذه الكتب انتهى ليفي بريل إلى النتائج التالية:

1- على عكس فريزر وتيلر Taylor وأمثالهما ممن كانوا يرون أن الوظائف العقلية عند البدائي هي هي نفسها عند المتمدين، والفارق هو في استعمال البدائي لها على نحو خاطىء نتيجة لقصور معارفه - يرى ليفي بريل ان هناك فارقاً اساسياً جوهرياً في عقلية البدائي يميزها عن عقلية المتمدين، وهو فارق في التركيب العقلي والنفسي، وليس مجرد فارق عرضي ناجم عن درجة المعرفة. فالوظائف العقلية عند البدائي غيرها تماماً عند المتمدين، ولا ترجع إلى نمط واحد. إن البدائي لا يفكر تفكيراً خاطئاً، بل تفكيراً مختلفاً عن تفكير المتمدين. والسبب في ذلك أن لكل جماعة نفسية جماعية خاصة. وفي سبيل إيضاح هذ الرأي درس ليفي بريل الجماعات الأبعد عنا في طرائق البرهنة والتفكير، أعني تلك التي تتميز بالافتقار إلى التجريد والتصورات العقلية، وهي في مجموعها الجماعات التي لا تكتب وليست لديها كتابة وسبيلنا إلى معرفة عقلية هذه المجتمعات هو الدراسات التي قام بها علماء الأجناس، وأوصاف رحلات الرحالة والمبشرين في ديار هذه المجتمعات وقد أخذ عليه اجتماعيون، مثل Evans Pritchard الذي درس خصوصاً قبائل النوير والبجة في السودان - إن الرحالة والمبشرين إنما سجلوا ما اثار دهشتهم وما بدا لهم غريباً، دون أن يسجلوا حياة هذه المجتمعات كما تجري في العادة، وبهذا بالغوا في إبراز الفارق بينهم وبيننا. لكن ليفي بريل رد على هذا الاعتراض قائلاً إنه غير مهم، لأن مايهمه ليس هو أن يقدم لوحة كاملة عن أحوال المجتمعات البداثية، بل فقط أن يبرز الفروق بين العقلية البدائية وعقليتنا نحن.

2- ويمضي بعد ذلك إلى بيان هذه الفروق:

وأولها الامتثال الجماعي عند أبناء هذه المجتمعات الدنيا: وينعته لبفي يريل بأنه امتثال «صوفي» mystique، ويقصد بذلك أن امتثالاتهم تقوم على أساس الاعتقاد في قوى، وتأثيرات، وأفعال غير مدركة بالحواس ولكنها مع ذلك واقعية. ولا فارق عند البدائي بين ما هو طبيعي وما هو خارق على الطبيعة، بل كلاهما واحد.

وثانيها اختلاف الكيفية التي بها يربط البدائي بين امتثالاته عن الكيفية التي نربط نحن بها امتثالاتنا. إذ يرى ليفي بريل أن البدائي في تفكيره لا يخضع لقوانين منطقنا وحدها، ومن هنا ينعت عقلية البدائي بأنها «سابقة على المنطق» Prelogique. لكنه لا يقصد بهذا أنها مناقضة للمنطق أو ضد المنطق، كما زعم خصومه. كذلك لا يقصد بهذا الوصف أن عقلية البدائي تمثل في تطور الفكر مرحلة سابقة على ظهور الفكر المنطقي. يقول ليفي بريل: «حينما أنعت (عقلية البدائي) بأنها سابقة على المنطق فأنا بهذا أقصد فقط أنها لا تلتزم قبل كل شيء، كما يلتزم فكرنا، بالامتناع عن التناقض». ذلك أن هذه العقلية لا تكترث بالتناقض، ويستوي لديها التناقض وعدم التناقض في التفكير. وهذا هو ما يسميه ليفى بريل ب «المشاركة» Participation. وتبعاً لمبدأ المشاركة، فإن الأشياء يمكن، في وقت واحد معاً، أن تكون وأن لا تكون هي عينها، ويمكن أن ترتبط بعلاقات لا شأن لمنطقنا بها. فالبدائي يرى أن الكائنات ذات الأنف والكائنات غير ذات الأنف تشارك كلها في قوى متصلة تسمى الـ mana.

ولما كانت العمليات المنطقية والعمليات السابقة على المنطق مختلطة في ذهن البدائي، فإنه أقل استعداداً منا للتجريد والتعميم .

والبدائي يدرك الأشياء من الناحية الكيفية أكثر ما يدركها من الناحية الكمية. وهذا يتجلى خصوصاً في طريقته في العد: فالأعداد ذوات خصائص كيفية أكثر منها كمية. ولهذا أثره أيضاً في لغة البدائي. فإن ألفاظهم وفيرة جداً، شتى، لأنها قليلة التجريد. وهذا يؤدي إلى زيادة دور الذاكرة.

3- والبدائي في تصوره للعالم يختلف عنا بسبب تصوره للعلية. ذلك أن أن العقلية البدائية تهمل الأسباب الثانوية لصالح الأسباب الصوفية (الروحانية). فما نراه نحن علة، لا يرى فيه البدائي غير فرصة (ومناسبة) لتدخل القوى الصوفية (الروحانية). إن البدائي يسعى إلى معرفة القوى الخفية والمستورة التي تؤثر في الأشياء؛ أما الأسباب المدركة بالحس فلا يقيم لها كبير وزن. والعلة الصوفية (الروحانية) خارجة عن المكان وعن الزمان. ولهذا فإن تصور البدائي للزمان والمكان يختلف تماماً عن تصورنا نحن لهما إذ يراهما كماً متجانساً.

4- والعقلية البدائية لا تفصل الفرد عن النوع الذي ينتسب إليه، وفيما يتصل بالإنسان فإنها لا تتصور الشخص خارج الجماعة التي ينتمي إليها.

كذلك لا تميز بين الجسم والنفس، وتتصور الشخص واحداً أو اثنين أو كثرة. وهذا يفسر اعتقاد البدائي في إمكان وجود الشخص الواحد في عدة أماكن متباعدة في وقت واحد، أو ازدواج الشخص في الأحلام. والدليل على ذلك معتقدات البدائيين الخاصة بالموت: فهم يعتقدون أن الجماعة كلها تصاب بموت أي فرد منها؛ والميت يذهب إلى عالم الموتى مع بقائه متحداً بالجثة.