فلسفة ابن سينا
فلسفة ابن سينا (ألابن سينية، حكمة ابن سينا) هي مدرسة للفلسفة الإسلامية أنشأها أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البَلْخيّ. طور ابن سينا فلسفته طوال حياته بعد أن درس وتأثر بعمق بكتاب "ما وراء الطبيعة" لأرسطو. وفقًا لهنري كوربين وسيد حسين نصر، هناك فرعان لفلسفة ابن سينا: فلسفة ابن سينا الإسلامية، وفلسفة ابن سينا اللاتينية. وفقًا لنصر، كانت فلسفة ابن سينا اللاتينية قائمة على أعماله الفلسفية السابقة. اتبعت هذه المدرسة المدرسة المشائية وحاولت وصف بنية الواقع بنظام تفكير عقلاني. كتب ابن سينا على نطاق واسع عن الفلسفة الإسلامية، وخاصة موضوعات المنطق والأخلاق والميتافيزيقا، بما في ذلك الأطروحات المسماة المنطق والميتافيزيقيا. كُتبت معظم أعماله باللغة العربية التي كانت لغة العلم في حينها، كما له كتابات باللغة الفارسية.
كان لفلسفة ابن سينا اللاتينية وقع وتأثير كبيرين في القرن الثاني عشر الميلادي في أوروبا، ولا سيما في أكسفورد وباريس، وأثرت على بعض الفلاسفة البارزين مثل توما الأكويني، وروجر باكون ودانز سكوطس. بينما كان تأثير فلسفة ابن سينا اللاتينية ضعيفًا مقارنةً بالرشدية اللاتينية، فإن وفقًا لإتيان جيلسون، كان هناك تأثير كبير لإبن سينا على الفلسفة ألاوغسطينية. لعب مفهوم "الانبثاق" لابن سينا للمستوحى من الأفلاطونية المحدثة دورا أساسيًا في مدرسة علم الكلام (مدرسة الخطاب اللاهوتي) في القرن الثاني عشر.
من ناحية أخرى، تستند فلسفة ابن سينا الإسلامية على أعماله اللاحقة والتي تُعرف باسم "الفلسفة الشرقية" (حکمة المشرقیین). لذلك، أصبحت الفلسفة في الحضارة الإسلامية الشرقية قريبة من المعرفة العامة وحاولت تقديم رؤية للكون من وجهة نظر روحية. مهد هذا النهج الطريق لمدرسة الإشراق الإيرانية (حکمت الاشراق) للسهروردي.
أشار كوربين إلى الاختلافات بين فلسفة ابن سينا االإسلامية وفلسفة ابن سينا اللاتينية. إلى جانب ذلك، أظهر أنه يمكن تمييز ثلاث مدارس فلسفية مختلفة لابن سينا، والتي أطلق عليها اسم ألاوغسطينية المتأثرة بإبن سينا والابن سينية اللاتينية وفلسفة ابن سينا الإسلامية/الإيرانية.
كان المعتزلة في العصور الوسطى معاصرين لابن سينا، بينما انتقد البرنامج الفلسفي لابن سينا وطلابه من العالم المعتزلة الحنفي ابن الملحمي (توفي عام 1141)، الذي جادل بأن الفلسفة في التقليد اليوناني تستخدم لتبرير المعتقدات الخاطئة ولتمييع الطابع النبوي الإسلام. لقد طرح المسيحية كمثال للديانة النبوية التي أفسدها الفكر التجريدي اليوناني.
أصبح كتاب الشفاء متاحًا في أوروبا بترجمة لاتينية جزئية بعد حوالي خمسين عامًا من تأليفه تحت عنوان Sufficientia، وقد أفاد بعض المؤلفين أن "افلسفة بن سينا اللاتينية" ازدهرت لبعض الوقت بالتوازي مع الرشدية اللاتينية التي كانت أكثر تأثيرا. تم قمع تعاليم ابن سينا الفلسفية من قبل مراسيم باريس 1210 و1215.
أثرت نظريتي ابن سينا في علم نفس وعلم المعرفة في أعمال ويليام أوف أوفيرني أسقف باريس والفيلسوف ألبيرتوس ماغنوس، بينما أثرت الميتافيزيقيا على فكر توما الأكويني.
العقيدة ميتافيزيقية
تميز الفلسفة الإسلامية الفتية، والميتافيزيقيا الإسلامية المشبعة بالفكر الإسلامي، بشكل واضح من الأرسطية بين الجوهر والوجود. في حين أن الوجود هو مجال الاحتمال والعرضي، فإن الجوهر يبقى داخل الكائن بعيدا وراء مصادفة. تدين فلسفة ابن سينا، ولا سيما الجزء المتعلق بالميتافيزيقيا، بالكثير للفارابي. باتباع الفارابي، بدأ ابن سينا تحقيقًا شاملاً في مسألة الكينونة، وميز فيه بين الجوهر (ماهيات) والوجود (الوجود). لقد جادل بأن حقيقة الوجود لا يمكن الاستدلال عليها أو تفسيرها من خلال جوهر الأشياء الموجودة، وأن هذا الشكل والمادة في حد ذاته لا يمكن أن يتفاعل ويؤسس حركة الكون أو الخلق التدريجي للأشياء الموجودة. لذلك، يجب أن يكون الوجود ناتجًا عن سبب يستلزم، يمنح أو يضيف الوجود للجوه. للقيام بذلك، يجب أن يكون السبب شيئًا موجودًا ويتعايش مع تأثيره.
يمكن توضيح اعتبار ابن سينا لمسألة السمات الجوهرية من حيث تحليله الأنطولوجي لطرائق الوجود؛ وهي الاستحالة والطوارئ والضرورة. جادل ابن سينا بأن الكائن المستحيل هو ما لا يمكن أن يوجد، في حين أن الحالة في حد ذاتها (الممكن بذاته) لديها القدرة على أن تكون أو لا تكون دون أن تنطوي على تناقض. عند تحقيقها، تصبح الوحدة "وجودًا ضروريًا بسبب ما هو آخر غير نفسها" (واجب الوجود بغيره). وبالتالي، فإن الحالة الطارئة في حد ذاتها هي وجود محتمل يمكن تحقيقه في النهاية من طريق سبب خارجي آخر غير نفسه. تختلف الهياكل الميتافيزيقية للضرورة والصدفة. واجب الوجود بذاته صحيح بحد ذاته، في حين أن الوجود العرضي "خطأ في حد ذاته" و"حقيقي لشيء آخر غير نفسه". الضروري هو مصدر وجوده دون وجود مستعار. إنه ما يوجد دائمًا.
والضروري موجود "بسبب ذاته"، وليس له جوهر / ماهية غير الوجود. فضلًا على ذلك، إنه "أحد" لأنه لا يمكن أن يكون هناك أكثر من واحد أحد "ضروري - موجود - بسبب نفسه" دون فصل لتمييزهم عن بعضهم البعض. ومع ذلك، فإن تحقيق الفصل يستلزم وجودهم "بسبب أنفسهم" وكذلك "بسبب ما غير أنفسهم"؛ وهذا متناقض. ومع ذلك، إذا لم يكن هناك فصل يميزهم عن بعضهم البعض، فلا معنى أن هؤلاء "الموجودون" ليسوا واحدًا ونفس الشيء. يضيف ابن سينا أن "الضرورة - الموجودة - بسبب نفسها" ليس لها جنس، ولا حد، ولا ند، ولا ضد، وهي باري عن المادّة، والكيف، والكم، والعين، والوضع، والوقت.
انتقد بعض علماء الإسلام لاهوت ابن سينا في المسائل الميتافيزيقية ("الإلهيات")، ومن بينهم الغزالي وابن تيمية وابن القيم. أشار الغزالي أثناء مناقشة آراء الموحدين من الفلاسفة الإغريق ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو في "المنقذ من الضلال" إلى أن الفلاسفة اليونانيين "يجب أن يُكَرَّبوا بالكفر، وكذلك أنصارهم من الفلاسفة المسلمين، مثل ابن سينا والفارابي وأمثالهم". وأضاف أن "لا أحد من الفلاسفة المسلمين شارك كثيرًا في نقل تقاليد أرسطو كما فعل هذان الرجلان. [...] يمكن اختزال مجموع ما نعتبره فلسفة أرسطو الأصيلة، كما نقلها الفرابي وابن سينا إلى ثلاثة أجزاء: جزء يجب وصفه بأنه كفر ؛ جزء يجب وصمه بأنه ابتكار ؛ وجزء لا يلزم التنصل منه على الإطلاق.
في وجود الله
تعتبر فلسفة ابن سينا امتداداً لفكر الفارابى وهو كان فيلسوف عربي من أتبع الفلسفة المشائية. استوحى ابن سينا من الفارابى فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية بما في ذلك تصوره للموجودات والوجود كما نقل عنه نظرية الصدور وطور وأهتم بنظرية النفس بشكل خاص. صاغ ابن سينا برهان الصديقين وهي حجة شهيرة في إثبات وجود الله. يدعى منتقدي فكر ابن سينا أنه كان ينقل نفس مبادئ الفارابى الذي نادى بأن العالم أزلى وقديم وغير مخلوق، وأن الله يعلم الكليات لا الجزئيات، وتحدى العقيدة وفكرة النبوة والرسالة في الإسلام، ونفى أن الأجسام تقوم مع الأرواح في يوم القيامة (المعاد الروحاني لا الجثماني).
قدم ابن سينا حجة لوجود الله والتي ستُعرف باسم برهان الصديقين. جادل ابن سينا بأنه يجب أن يكون هناك "واجب الوجود" وهو كيان لا يمكن ألا يوجد، ومن خلال سلسلة من الحجج أثبته مع مفهوم الله الإسلامي. وصف مؤرخ الفلسفة الحالي بيتر أدامسون هذه الحجة بأنها واحدة من أكثر الحجج المؤثرة في العصور الوسطى لوجود الله وأكبر مساهمة لابن سينا في تاريخ الفلسفة.
مراسلات البيروني
نجت المراسلات بين ابن سينا (مع تلميذه أحمد بن علي المعصومي) والبيروني حيث ناقشوا الفلسفة الطبيعية الأرسطية والمدرسة المشائية. بدأ أبو ريحان بسؤال ابن سينا ثمانية عشر سؤالاً، عشرة منها كانت انتقادات لكتاب أرسطو عن السماوات.
علم اللاهوت
كان ابن سينا مسلمًا متدينًا وسعى إلى التوفيق بين الفلسفة العقلانية واللاهوت الإسلامي. كان هدفه إثبات وجود الله وخلقه للعالم علمياً ومن خلال العقل والمنطق. كانت آراء ابن سينا حول اللاهوت الإسلامي (والفلسفة) مؤثرة بشكل كبير، وشكلت جزءًا من جوهر المناهج في المدارس الدينية الإسلامية حتى القرن التاسع عشر. كتب ابن سينا عددًا من الرسائل القصيرة التي تتناول علم اللاهوت الإسلامي. تضمنت هذه الرسائل رسائل عن الأنبياء (الذين اعتبرهم "فلاسفة ملهمين")، وكذلك عن تفسيرات علمية وفلسفية مختلفة للقرآن، مثل كيفية توافق علم الكون القرآني مع نظامه الفلسفي. بشكل عام ربطت هذه الرسائل كتاباته الفلسفية بالأفكار الدينية الإسلامية. على سبيل المثال الحياة الآخرة للجسد. هناك تلميحات وإشارات موجزة من حين لآخر في أعماله الأطول، لكن ابن سينا اعتبر الفلسفة هي الطريقة الوحيدة المعقولة للتمييز بين النبوة الحقيقية والوهم. لم يذكر هذا بشكل أوضح بسبب الآثار السياسية لمثل هذه النظرية، إذا كان من الممكن التشكيك في النبوءة، وأيضًا لأنه كان يكتب في معظم الوقت أعمالًا أقصر ركزت على شرح نظرياته في الفلسفة واللاهوت بوضوح، دون الرجوع إلى النظر في الأمور المعرفية التي لا يمكن إلا للفلاسفة الآخرين النظر فيها بشكل صحيح.
انقسمت التفسيرات اللاحقة لفلسفة ابن سينا إلى ثلاث مدارس مختلفة؛ أولئك (مثل الطوسي) الذين استمروا في تطبيق فلسفته كنظام لتفسير الأحداث السياسية اللاحقة والتقدم العلمي ؛ أولئك (مثل الرازي) الذين اعتبروا أعمال ابن سينا اللاهوتية هي بمعزل عن اهتماماته الفلسفية الأوسع ؛ وأولئك (مثل الغزالي) الذين استخدموا بشكل انتقائي أجزاء من فلسفته لدعم محاولاتهم الخاصة لاكتساب رؤى روحية أكبر من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل الصوفية. كان التفسير اللاهوتي الذي دافع عنه أمثال الرازي هو الذي سيطر في النهاية على المدارس الدينية. حفظ ابن سينا القرآن عندما كان في العاشرة من عمره، وكتب خمس رسائل تعليق على سور من القرآن عند بلوغه. ومن بين هذه النصوص رسالة في إثبات النبوات، حيث يعلق على عدة آيات قرآنية ويقدر القرآن تقديراً عالياً. جادل ابن سينا بأن أنبياء الإسلام يجب اعتبارهم أعلى من الفلاسفة.
المنطق
تناول ابن سينا علم المنطق في معظم كتبه الأساسية:
في "الشفاء" على أوسع نطاق واستقصاء عرفناه في العالم الاسلامي.
وفي "الاشارات والتنبيهات"، وفي "منطق الشرقيين" الذي هو من بقايا كتاب "الانصاف"، وفي "النجاة" (ص ٢ - ص ٩٣، القاهرة سنة ١٩٣٨)، وفي "عيون الحكمة" (ص ١ - ص ١٥ في نشرة عبد الرحمن بدوي، القاهرة سنة ١٩٥٤)، وفي "الحكمة العروضية" وهو أول ما ألفه في هذا الباب، وفي ,الحكمة العلائية" ("دانش نامه علائي" ص ١ - ٦٤، نشرة خراساني، طهران، ١٣٥٥ ه ق)، وفي "القصيدة المزدوجة" في "المنطق" تناوله نظماً.
لكن السؤال هو: هل أتى ابن سينا بشيء جديد أضافه إلى ما ورد عند أرسطو وشراحه اليونانيين أو شراحه العرب مثل ابراهيم المروزي ومتى بن يونس والفارابي؟.
لو قرأنا منطق "الشفاء" لم نجد فيه جديداً على ما قاله أرسطو وشراحه، وهو نفسه يعترف بذلك. إذ يقول أنه يحاذي نص أرسطو في كتبه المنطقية، ونراه فعلاً يقتبس النص أحياناً بحروفه، وأحياناً يدمجه في داخل كلامه، وفي الغالب يعرض المسائل الواردة في كتب أرسطو المنطقية، دون تقيد بنص، ويورد الأمثلة إما عن كتب أرسطو هذه، وإما بالاستعارة من علم الطب.
كذلك "منطق المشرقيين" الذي كنا نتوقع أن نجد فيه ما أعلنه في مقدمته من رغبة في التجديد ليس فيه شيء اكثر مما ورد في سائر كتبه في المنطق.
وفيما عدا بعض التفصيلات الفرعية الصغيرة (مثل الأقيسة المؤلفة من شرطيات فقط) لا نكاد نجد لابن سينا شيئاً يضيفه على منطق أرسطو وشراحه.
وإغما يمتاز ابن سينا بقدرته الهائلة على استيعاب أرسطو وشراحه، وحسن عرضه التفصيلي.
ما بعد الطبيعة
الحكمة وأقسامها
ونمضي من المنطق إلى بيان مذهبه في الإلهيات وما بعد الطبيعة بوجه عام. ونبدأ ببيان تعريفه للفلسفة - أو الحكمة كما يسميها - وأقسامها.
يقول ابن سينا في كتاب "عيون الحكمة" : "الحكمة استكمال النفس الانسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق لنظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية.
والحكمة المتعلقة بالأمور النظرية التي إلينا أن نعلمها - وليس إلينا ألبتة أن نعملها - تسمى حكمة نظرية. والحكمة المتعلقة بالأمور لعملية التي إلينا أن نعلمها ونعملها تسمى حكمة عملية. وكل واحدة من الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة : فأقسام الحكمة لعملية : حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية. ومبدأ هذه الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية، وكمالات حدودها تستبين بالشريعة الإلهية، وتتصرف فيها بعد ذلك القوة البشرية من البشر بمعرفة القوانين العملية منهم، وباستعمال تلك القوانين في الجزئيات.
والحكمة المدنية فائدتها أن تعلم كيفية المشاركة التي تقع فيها بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح لأبدان ومصالح بقاء نوع الانسان. والحكمة المنزلية فائدتها أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم به المصلحة المنزلية. والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجته، ووالد ومولود، ومالك وعبد. وأما الحكمة الخلقية ففائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية قتنائها لتزكو بها النفس، وتعلم الرذائل وكيفية توقيها لتتطهر عنها النفس.
وأما الحكمة النظرية فأقسامها ثلاثة: حكمة تتعلق بما فى الحركة والتغير، وتسمى حكمة طبيعية، وحكمة تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن عن التغيروان كان وجوده مخالطاً للتغير، ويسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده يستغني عن مخالطة التغير فلا يخالطه أصلاً، وان خالطه فبالعرض، لأن ذاته مفتقرة في تحقيق الوجود إليه، وهي الفلسفة الأولية، والفلسفة الإلهية جزء منها وهي معرفة الربوبية.
ومبادىء هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإفية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة.
ومن أوتي استكمال نفسه بهاتين الحكمتين والعمل على ذلك باحداهما، فقد أول خيرأ كثيراً"(ابن سينا: "عيون الحكمة، ص 16-17، نشرة عبد الرحمن بدوي في القاهرة سنة 1954)
وهذا تصنيف شامل لأقسام العلوم الفلسفية، فيه تحديد دقيق لموضوعاتها. ويتسم بالأحكام أكثر مما في "احصاء العلوم" للفارابي.
ولنأخذ الآن في عرض أهم آراء ابن سينا في الإلهيات.
العلم الآلهي
الموجود
وابن سينا يعرف العلم الإلهي بما عرفه به أرسطو، وهو أنه بحث في لوجود المطلق وأحواله ولواحقه ومبادئه. يقول ابن سينا: "الفلسفة الأولى موضوعها الموجود بما هو موجود، ومطلوبها: الأعراض الذاتية للموجود بما هو موجود - مثل الوحدة والكثرة والعلية وغير ذلك"(الكتاب نفسه ص 47).
والموجود إما جوهر وهو الذي لا يحل في موضوع أي هو ما يقوم بذاته، وإما عرض، وهو الذي يحل في غيره ولا يقوم بذاته وحده. والأول مثل الانسان، الفرس، الوردة الخ. والأعراض مثل اللون، والحجم، والمكان، والزمان، الخ.
"والجوهر أربعة: "جوهر مع أنه ليس في موضوع (فإنه) ليس في مادة، وجوهر هو في مادة. والقسم الأول ثلاثة أقسام : فإنه اما أن يكون هذا الجوهر مادة، او ذا مادة، أو لا مادة ولا ذا مادة، والذي هو تو مادة وليس فيها هو أن يكون منها. وكل شيء من المادة وليس بمادة فيحتاج الى زيادة على المادة وهي الصورة، فهذا الجوهر هو امركب. فالجواهر أربعة: ماهية بلا مادة، ومادة بلا صورة، وصورة في مادة، ومركب من مادة وصورة"(الكتاب نفسه ص48).
وأولى الأشياء بالوجود هي الجواهر، ويتلوها الأعراض. وأولى الجواهر بالوجود الجواهر التي ليست بأجسام.
وأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق غيرالجسماني، ويتلوه الصورة، ويتلوه الجسم، وتتلوه الهيولى المحضة، إذ هي محل لنيل الوجود وليست سببا يعطي الوجود، ثم العرض.
والهيولى أو المادة لا تتجردعن الصورة، بل توجد دائما مقارنة لصورة. اذ "لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتكون موجودة بالفعل، لأنها ان فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو: اما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ، أو لا يكون. فإن كان لها وضع وحيز، وكان يمكن أن تنقسم، فهي لا محالة ذات مقدار، وقد فرضت لا مقدار لها - هذا خلف. وا لم يمكن أن تنقم ولها وضع، فهي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي اليها خط، ولا يمكن أن تكون منفردة الذات منحازتها، لأن خطا اذا انتهى اليها، لاقاها بنقطة أخرى غيرها، ثم ان لاقاها خط آخر لاقاها بنقطة أخرى غيرها. ثم لا بخلو اما أن تتباين النقطتانعن جنبيها فتكون المتوسطة التي تلاقيها أثنتان لا تتلاقيان تنقسم ببنهما وقد فرضت غير منقسمة، -واما أن تكون النقطتان تتلاقيان، وبتلاقيهما تكون ذاتها سارية في ذات كل واحد منهما وذاتها منحازة عن الخطين فذاتاهما.منحازتان منقطعتان عن الخطين، فللخطين نقطتان غير الأوليين هما تجايتاهما، وفرضناهما نهايتيها - هذا خلف"(١)، ويستمر ابن سينا في هذه البرهنة المعقدة حتى يصل في النهاية الى اثبات أن المادة لا تتعرى عن الصورة الجسمية، وفي هذ يسير وفقاً لرأي أرسطو في مقابل رأي أفلاطون. لكنه في هذا يناقض ما قاله في "عيون الحكمة" وأوردناه منذ قليل حين قال بوجود مادة بلا صورة، وسنراه يضطر الى التخلي عن رأي أرسطو هذا حين يصل الى الكلام عن الجواهر المفارقة. لكن هذا التناقض يقوم في صلب الفلسفة الاسلامية كلها لأغها جمعت بين أرسطو وأفلاطون في مركب متنافر منذ البداية في كثير من المسائل.
الموجود محسوس ومعقول
وينبه ابن سينا إلى "ما قد يغلب على أوهام الناس (من) أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان أووضع بذاته كالجم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظ له من الوجود"(ابن سينا: "النجاة" ص203، القاهرة، ط2 سنة 1938).
ويرد ابن سينا على هذا الوهم الشائع ببيان أن الناس يتفقون على وجود المعنى الكلي، وهو المشترك بين الكثيرين مثل : "انسان" - في وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود. واذن فان البحث في المحسوسات نفسها يفضي الى الاعتراف بوجود غير محسوس هو المعافي الكلية التي تشترك فيها أنواع من المحسوسات.
العلية
والشيء ينال وجوده بعلة. ومعلوليته اما باعتبار ماهبته وحقيقته، أو باعتبار وجوده : فالمثلث حقيقته متعلقة بالسطح والأضلاع، وهما علتاه المادية والصورية، " أما من حيث وجوده فقد يتعلق بعلة أخرى أيضاً غير هذه، ليست هي علة تقوم مثلثيته وتكون جزءا من حدها، وتلك هي العلة الفاعلية أوالغائية التيهيعلة فاعلية لعلية العلة الفاعلية" (الكتاب نفسه ص ٤٤٢ ). والغائية لا تفيد وجود المعلول بالذات، بل تفيد فاعلية الفاعل. فهي اذن علة غائية بالنسبة الى المعلول، وفاعلية بالنسبة الى الفاعل.
"والفاعل الذي يفيد الشيء وجوداً بعد عدمه يكون لمفعوله أمران : عدم قد سبق، ووجود في الحال. وليس للفاعل، في عدمه السابق، تأثير، بل تأثيره في الوجود الذي للمفعول منه. فالمفعول انما هو مفعول لأجل أن وجوده من غيره، لكن عرض أن كان له عدم من ذاته وليس ذلك من تأثير الفاعل"(ابن سينا: "النجاة" ص ٢١٣. القاهرة، سنة ١٩٣٨).
والقوة تطلق على مبدأ التغيير في آخر من حيث انه آخر. ومبدأ التغييريكون اما في المنفعل، وهو القوة الانفعالية، واما في الفاعل وهو القوة الفعلية " ويقال قوة : لما به يجوز من الشى ء فعل أو انفعال، ولما به يصير الشىء مقوماً لآخر.1 ولما به يصيرلشيء غبرمتغيروئابتاً، فان التغيرمجلوب للضعف. وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحوشيء واحد، كقوة الماء على قبول الشكل فان فيه قوة قبول الشكل وليس فيه قوة حفظه. وفي السمع قوة عليهما جميعاً. وفي الهيولى لأولى قوة الجميع، ولكن بتوسط شيء دون شيء. وقد يكون في الشيء قوة انفعالية بحسب الضدين، كما أن في السمع قوة أن يتسخن وأن يتبرد. - وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحوشي ء واحدكقوة النار على الاحراق فقط، وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين(أي الإنسان الذي هو حر مختار). وقد يكون في الشيء قوة على كل شيء، ولكن بتوسط شى ء دون شى ء. وقد تكون القوة الفعلية على الضدين جميعاً كقوة المختارين منا ٠ والقوة الفعلية المحدودة اذا لاقت القوة المنفعلة حصل فيها الفعل ضرورة، وليس كذلك في غيرها بما يستوي فيها الأصداد.
وقد تغلط لفظة القوة فيتوهم أن القوة على الفعل هي القوة المقابلة لما بالفعل. والفرق بينهما أن هذه القوة الأولى تبقى موجودة عندما تفعل، والثانية انما تكون مرجودة مع عدم الذي هو بالفعل..." (ابن سينا: "النجاة" ص214-215)
وهذا تحليل جيد لفكرة العلية والفعل.
اثبات علة أولى
وهذا البرهان انما نجده في االاشارات والتنبيهات " وقد أقامه على مبدأين :
الأول : أن العالم سلسلة مرتبة من علل ومعلولات
والثافي : أن هذه السلسلة تنتهي يالضرورة الى علة أولى لا علة لها
وذلك لأن " كل جملة كل واحد منها معلول، فانها تقتضي علة خارجة عن آحادها. وذلك لأنها اما أن لا تقتضي علة أصلا، فتكون واجبة غير بمكنة - وكيف يتأق هذا وانما تجب باحادها ؟ واما أن تقتضي علة هي الاحاد بأسرها، فتكون معلولة لذاتها، فان تلك الجملة والكل شيء واحد ٠ وأما الكل - بمعنى كل واحد - فليس تجب به الجملة - واما أن تقتضي علة هي بعض الآحاد، وليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض، اذا كان كل واحد منها معلولا، لأن علته أولى بذلك - واما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها، وهو الباقي."(ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص451-452).
ويمكن تلخيص هذا على نحو أبسط هكذا:
كل جملة أي سلسلة من الأشياء كل واحد منها معلول : اما أغها تقتض علة خارجة عنها، واما لا تقتضي.
فان لم تقتض، فانها تكون واجبة لوجود، مع أننا قلنا ن كل واحد منها معلول للآخر.
واما أن تقتضي - وهذا ينقسم الى ثلاثة أقسام، لأن علة الجملة : اما أن تكون كل الآحاد ( أي افرادها)، أو بعضها، أوشيئا خارجاً عنها. والأول باطل، لان الشيء لا يكون علة نفسه. والثاني باطل، اذ ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض، ما دام كل واحد منها معلولا. فلم يبق الآ القسم الثالثوهوأن تكون علة الجملة شيئا خارجاً عنها - وهو المطلوب.
وإذن فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته.
"ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً. فانه ان رفع غبره أولم يعتبروجوده لم يخل : اماأن يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بغيره، - واما أن لا يبقى وجوب وجوده، فلا يكون وجوب وجوده بذاته. وكل ما هو واجب الوجود بغيره فانه ممكن الوجود بذاته، لأن ما هو واجب الوجود بغيره فوجوب وجوده تابع لنسبة ما واضافة. والنسبة والاضافة اعتبارهما غيراعتبارنفس ذات الشيء التي لها نسبة واضافة. ثم وجوب الوجود انما يتقرر باعتبارهذه النسبة ٠ فاعتبار الذات وحدها لا يخلواما أن يكون مقتضيا لوجوب الوجود، او مقتضيا لامكان الوجود، أو مقتضبا لامتناع الوجود ٠ ولا يجوز ان يكون مقتضياً لامتناع الوجود، لأن كل ما امتنع وجوده بذاته لم يوجد ولا بغيره، وأما أن يكون موجوداً مقتضيالوجوب لوج. د- فقد قلنا ان ما وجب وجوده بذاته استحال وجوب وجوده بغيره. فبقي أن يكون باعتبار ذاته : ممكن الوجود، وباعتبارايقاع النسبة الى ذلك الغير : واجب الوجود، وباعتبار قطع النسبة التي لى ذلك الغير : ممتنع الوجود، وذاته بذاته بلا شرط ممكنة الوجود"(ابن سينا: "النجاة" ص225-226).
البرهان على واجب الوجود بواسطة فكرة الممكن والواجب
على أن ابن سينا يعطي لهذا البرهان صورة اخرى غير التي وجدناها عند الفارابي، وهي القائمة على فكرة الممكن والواجب.
وقد عقد في " النجاة " فصلا لاثبات واجب الوجود على هذا النحو هكذا :
" لا شك أن هنا وجوداً. وكل وجود : فاما واجب، واما ممكن. فان كان واجبا، فقد صح وجود الواجب - وهو المطلوب.
وان كان ممكنا، فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده لى واجب الوجود. وقبل ذلك فاننا نقدم مقدمات :
١ - فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون في زمان واحد لكل ممكن الذات علل ممكنة الذات بلا نهاية. وذلك لأن جميعها : اما أن يكون موجوداً معاً، واما أن لا يكون موجوداً معاً فان لم يكن موجودا معا غير المتناهي في زمان واحد، ولكن واحد قبل الآخر، فلنؤخر الكلام في هذا. - واما ان يكون موجوداً معا ولا واجب وجود فيه، فلا يخلو : اما أن تكون الجملة بما هي تلك الجملة - سواء كانت متناهية أو غيرمتناهية - واجبة الوجود بذاتها، أو بمكنة الوجود فان كانت واجبة الوجود بذاتها، وكل واحد منها مكن، يكون الواجب الوجود متقوما بممكنات الوجود - هذا خلف. وان كانت عمكنة الوجود بذاتها، فالجملة محتاجة في الوجود الى مفيد الوجود : فاما أن بكون خارجاً منها، أوداخلا فيها. فان كان داخلا فيها : فاما أن يكون واحد منهاواجب الوجود، وكان كل واحدمنهابمكن الوجود- هذا خلف. واما أن يكون ممكن الوجود، فيكون هو علة لوجود الجملة، وعلة الجملة علة أولا لوجود اجزائها -ومنها هو - فهو علة لوجود نفسه. وهذا - مع استحالته - ان صح فهومن وجم ما، نفس المطلوب. فان كل شيء يكون كافيا في أن يوجد ذاته فهو واجب الوجود، وكان ليس واجب الوجود - هذا خلف.
فبقي أن يكون خارجاً عنها. ولا يمكن ان يكون علة ممكنة، فاناجمعنا كل علة ممكنة الوجود في هذه الجملة. فهي اذن خارجة عنها، وواجبة الوجود بذاتها
فقد انتهت الممكنات الى علة واجبة الوجود. فليس لكل ممكن علة مكنة، بلا نهاية.
٢ - ونقول أيضاً انه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه، وكل واحد منه ممكن الوجود في نفسه، لكنه واجب بالآخر، لى أن ينتهي اليه دوراً.
ولنقدم مقدمة أخرى فنقول : ان وضع عدد متناه من عكنات الوجود بعضها لبعض علل في الدور-فهوايضاً محال. وتبين ( أي : هذه المسألة ) بمثل بيان المسألة الاولى ويخصها : أن كل واحد منها يكون علة لوجود نفسه، ومعلولا لوجود نفسه، ويكون حاصل الوجود عن شيء انما يحصل بعد حصوله بالذات. وما توقف وجوده على وجود ما لا يوجد لا بعد وجوده، البعدية الذاتية، فهو محال اوجود. وليسحال المتضايفين هكذا: فإنهما معاً في الوجود، وليس يتوقف وجود أحدهما فيكون بعد وجود الآخر، بل توجدهمامعا: العلة المرجدة لهما والمعنى المرجب اياهما معا. فانكان لأحدهما تقدم، وللأخرتأخر-مثل الأب والابن، فتقدمه منجهةغير جهة الاضافة : فان تقدمه من جهة وجود الذات، ويكونان معا من جهة الاضافة، اواقعة بعد حصول الذات. ولو كان الابن يتوقف وجوده على وجود الأب، والأب يتوقف وجوده على وجود الابن، ثم كانا ليسا معا بل أحدهما بالذات بعد، لكان لا يوجد ولا أحد منهما. وليس المحال هو أن يكون وجود ما يوجد مع الشيء شرطاً في وجوده، بل وجود ما يوجد عنه وبعده. (ابن سينا: "النجاة" ص ٢٣٠ - ٢٣١).
ويتعمق ابن سينا تفصيل هذا البرهان أكثر فأكثر بعد ذلك، مما لا محل لعرضه ها هنا.
البرهان على المحرك الأول
كذلك يورد ان سينا ( ص ٢٤٠ -٣٤٣) البرهان على وجود محرك أول لا يتحرك، وهو البرهان الأرسطي الشهير. فلا داعي لاطالة الكلام ها هنا بذكره. (راجع شرح هذا البرهان في كتاب عبد الرحمن بدوي: "أرسطو"، القاهرة ط 1 سنة 1943).
صفات واجب الوجود
واجب الوجود غير مقول على كثيرين، وواجب الوجود "هو واجب الوجود من جميع جهاته. ولأنه لا ينقسم بوجه من الوجوه، فلا جزء له ولا جنس له. واذ لا جنس له، فلا فصل له. ولأن ماهيته انيته- أعني الوجود، فلا ماهية يعرض لها الوجود. فلاجنس له إذ لا مقول عليه وعلى غيره في جواب ما هو شيء. واذ لا جنس له ولا فصل، فلاحد له. واذ لا موضوع له، فلا ضد له. واذلا نوع له،فلاند له. واذهو واجب الوجود من جميع جهاته، فلا تغيرله. وهوعالم، لا لأنه مجتمع الماهيات، بل لأنه مبدؤها، وعنه يفيض وجودها.
وهومعقول وجود الذات، فإنه مبدأ. ولبس أنه معقول وجود الذات غيرأن ذاته مجردة عن المواد ولواحقها التي لأجلها يكون الموجود حسيا، لا عقليا.
وهو قادر الذات، لهذا بعينه، لأنه مبدأ عالم بوجود الكل عنه. وتصور حقيقة الشيء - إذا لم يحتج في وجود تلك الحقيقة إلى شيء غير نفس التصور - يكون العلم نفسه قذرة. وأما إذا كان نف التصور غير موجب، لم يكن العلم قدرة.
وهناك فلا كثرة، بل إنما توجد الأشياء عنه من جهة واحدة. فإذا كان كذلك، فكونه عالما بنظام الكل الحسن المختار هوكونه قادرا بلا اثنينية ولا غيرية.
وهذه الصفات له لأجل اعتبار ذاته مأخوذا مع اضافة. وأما ذاته فلا تتكثر - كيا علمت - بالأحوال والصفات، ولا بتنع ان تكون له كثرة اضافات وكثرة سلوب، وان يجعل له بحسب كل اضافة : اسم محصل، وبحسب كل سلب : اسم محصل. فإذا قيل له: "قادر" فهوتلك الذات مأخوذة بإضافة صحة وجود الكل عنه الصحة التي بالإمكان العام، لا بالإمكان الخاص. فكل ما يكون عنه يكون بلزوم عندما يكون، لأن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته.
وإذا قيل: "واحد" يعني به: موجود لا نظير له، أو موجود لا جزء له. فهذه التسمية تقع عليه من حيث اعتبار السلب.
وإذا قيل: "حق" عنى أن وجوده لا يزول، وأن وجوده هوعلى ما يعتقد منه. وإذا قيل: احي" عنى أنه موجود لا يفسد، وهو مع ذلك على الإضافة التي للعالم العاقل.
واذا قيل: "خير محض" يعني به أنه كامل الوجود بريء عن القوة والنقص. فإن شركل شيء نقصه الخاص. ويقال له: خير، لأنه يؤي كل شيء خيريته"(ابن سينا: "عيون الحكمة" ص58-59).
وواجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول: إنه يعقل ذاته، وهو اذن معقول لذاته، وعاقل لذاته. وكونه عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون في ذاته اثنينية في الذات ولا في الاعتبار، إذ المقصود هو أن له ماهية مجردة هي ذاته. واذن فكونه عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتة
وهو أيضا بذاته معشوق وعاشق، ولذيذ وملتذ. اذ "لا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحدة من كل جهة. والواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض. وهو مبداً كل اعتدال، لأن كل اعتدال هو في كثرة تركيب أو مزاج، فيحدث وحدة في كثرته ومال كل شيء وبهاؤه هوأن يكون على ما يجب له. فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب إ- وكل جمال ملائم وخيرمدرك فهو محبوب ومعشوق. وكلما كان الادراك أشد اكتناها واشد تحقيقا،
والمدرك اجمل وأشرف ذاتا، فاحباب القوة المدركة إياه واعتزازها به أكثر. فالواجب الوجود-الذي في غاية الجمال والكمال والبهاء، والذي يعقل ذاته، بتلك الغاية في البهاء والجمال وبتمام التعقل، ويتعقل العاقل والمعقول على انهما واحد بالحقيقة - تكون ذاته لذاته اعظم عاشق ومعشوق، وأعظم لاذ وملتذ. ,. وليس عندنا لهذه المعافي أسام غيرهذه الأسامي، فمن استبشعها استعمل غيرها"(ابن سينا: "النجاة" ص245).
أما كيف يعقل واجب الوجود الأشياء، فانه ذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل وجود، عقل اوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صارمنجهة ما واجبا بسببه" (الكتاب نفسه ص ٢٤٧).
انه يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم بالضرورة ما تتأدى اليه، وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات ومعنى هذا أن اته إنما يعلم الكليات، وبعلمه اياها يكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث ما لها من صفات كلية. وقد اشار الغزالي في "التهافت" إلى رأي ان سينا هذا وهو أن ابن سينا زعم أن الله "يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن. ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في لأرض، إلآ انه يعلم الجزثيات بنوع كلي"(أبو حامد الغزالي: "تهافت الفلاسفة" ص164 - المطبعة الكاثوليكية، بيروت، سنة 1962).
صدور الأشياء عن واجب الوجود
الله فاعل الكل بمعنفى انه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضا تاما مباينا لذاته. وفيض الكل عنه ليس على سبيل قصد منه، كذلك ليس كون الكل عنه على سبيل الطبع، بأن لا يكون وجود الكل عنه بغير معرفة ولا رضا منه، إذ كيف يصح هذا عنه وهو عقل عحض.
"وإنما يعقل وجود الكل عنه عل ل هومبدؤه، وليس في ذاته مانع او كاره لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير، وان ذلك من لوازم جلالته المعثوقة له لذاته... (وهو) راض بما يكون عنه. فالأول راض بفيضان الكل عنه.
ولكن الحق الأول إنما عقله الأول وبالذات أنه يعقل ذاته، التي هي لذاته مبدأ لنظام الخير في الوجود. فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن الفوة الى الفعل، ولا عقلا متنقلا من معقول الى معقول، فان ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه... بل عقلا واحدا معا، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود ذ يعقل أنه كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله"(ابن سينا: "النجاة" ص274).
ولا يجوز أن تكون أول المبدعات عنه كثيرة : لا بالعدد، ولا بالانقسام الى مادة وصورة ٠ بل ان أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته موجودة لا في مادة، أي أنه عقل محض لأنه صورة لا في مادة، وهوأول العقول المفارقة، "ويشبه أن يكون هو المبدأ المحرك للجرم الأقصى على سبيل التشريق"(الكتاب نفسه ص275).
ذلك أن المحرك الأول انما يحركعلى سبيل التشويق الى الاقتداء بأمره، وذلك للتشبه بالخير المحض.
وهكذا نرى ابن سينا يمزج بين نظرية الفيض عند أفلوطين، وبين نظرية العشق التي قال بها أرسطو في تفسير حركة الجسم الأقصى عن الله، بالرغم من انهما مختلفتان!
العقول المفارقة
والمتحرك الأول واحد.لكن لكلكرة من كرات السماء محركا قريبا يخصها ومعشوقا يخصها.
وأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي كرة الثوابت. وهنا يشير ابن سينا الى رأي أرسطو الذي " يضع عدد الكرات المتحركة على ما ظهر في زمانه" ويتبع عددها : عدد المبادىء المفارقة"(ص ٢٦٦). ثم يشيرالى رأي أفضل أصحابه أعني اتباعه وهو الاسكندر الافروديسي حين يقول في رسالته التى " في مبادىء الكل"(انظر كتاب عبد الرحمن بدوي: "أرسطو عند العرب"، القاهرة سنة 1947): " ان محرك جملة السماء واحد، لا يجوز ان يكون عدداً كثيراً، وان لكل كرة محركاً ومعشوقا ينخصانها " (ص ٢٦٦).
العقول المفارقة اذن كثيرة العدد، لكنها ليست موجودة معاً عن الأول، "بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود لأول عنه. ثم يتلوه عقل وعقل. ولأن تحت كل عقل فلكا بمادته وصورته التي هي النفس، وعقلا دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود. فيجب ان يكون امكان وجود هذه الثلاثة عن ذلك العقل الأول في الابداع، لأجل التثليث المذكور فيه. والأفضل يتبع الافضل من جهات كثيرة.
فيكون اذا العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول : وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته: وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها، وهي النف. وبطبيعة امكان الوجود الحاصلة له المندرجة فيتعقلهلذاته: وجودجرميةالفلكالأقصى لمندرجةفي جملة ذات الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشابك للقوة.
فبما يعقل الأول: يلزم عنه عقل. وبما يختص بذاته على جهتيه : الكثرة الأولى بجزئيها : أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن امكان الوجود يخرج الى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك.
وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي الى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا. وليس يجب أن يذهب هذا المعنى الى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق"(ابن سينا: "النجاة" ص 277-278)
والخلاصة أن كل عقل "بمايعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه، وجرم الفلك كائن عنه، ومستبقى بتوسط النفس الفلكية. "(الكتاب نفسه ص ٢٧٥).
ولكل فلك نفس هي كماله وصورته، لكن هذه النفس ليست جوهراً مفارقاً مثل العقل. ذلك أنها تحرك وتحدث التغيير في حركات الجرم. " واذا كان الأمرعلى هذا فلا يجوزأن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير اجسامها الا بوساطة أجسامها. فان صور الأجسام وكمالاتها على صنفيها" ( ص ٢٧٨ ) : اما صور قوامها يكون بمواد الأجسام، واما صور يكون قوامها بذاتها، لا بمواد الأجسام، وهذه الحالة الأخيرة هي حالة أنفس الأفلاك. وعلى هذا فان القوى السماوية المتعلقة بأجسامها لا تفعل الا بواسطة هذه الأجسام، ومحال أن تفعل بواسطة الجسم نفسا، لأن الجسم لا يكون متوسطا بين نفس ونفس. فما دامت تفعل نفسا بغير توسط الجسم، فان لها انفراد قوام من دون الجسم واختصاصا بفعل مفارق لذاتها ولذات الجسم فالذي يحرك أجسام الأفلاك هو نفوسها.
وفي كتاب " التعليقات " يقول ابن سينا ان ه عقول الكواكب بالقوة، لا بالفعل، فليس لها أن تعقل الأشياء دفعة، بل شيناً بعد شيء، ولا أن تتخيل الحركات دفعة بل حركة بعد حركة، والا لكانت تتحرك الحركات كلها معا، وهذا محال ٠ وحيث تكون الكثرة يكون ثم نقصان. ولما كانت الكواكب في ذواتها كثرة - اذ كان فيها تركيب من مادة وصورة هي النفس - كان في عقولها نقصان. وانما الكمال حيث تكون البساطة وهي الأول والعقول الفعالة "(ابن سينا: "التعليقات" ص٦٢، نشرة عبد الرحمن بدوي بالقاهرة سنة ١٩٧٣).
العناية الإلهية
يعرف ابن سينا العناية بأنها : " احاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل، حتى يكون على أحن النظام، وبأن ذلك واجب عنه، وعن احاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق. فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل ".(ابن سينا: "الإشارات والتبيهات" ص 729 - 730)
ويعرفها في " النجاة " هكذا : " العناية هى كون الأول عالماً لذاته بما عليه الوجود من تظام الحير، وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الامكان، وراضيا به على النحو المذكور. فيعقل نظام الخير علي الوجه الأبلغ في الامكان ٠ فيفيض عنه ما يعقله نظاما ما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية الى النظام بحسب الامكان "(ابن سينا: "النجاة"، ص ٢٨٤)
لكن كيف نقول بوجود عناية، والشر واضح للعيان في الوجود ؟
يرد ابن سينا على هذا قائلا : " ان الشر على وجوه:
١ - فيقال "الشر": للنقص الذي هومثل الجهل، والضعف، والتشويه في الخلقة.
٢ - ويقال شر لا هومثل الألم والغم الذي يكون هناك ادراكاًما بسبب، لا ( بسبب ) فقد شيء فقط : فان السبب المنافي للخير، المانع للخير والموجب لعدمه ربما كان لا يدركه المضرور (هنا بمعنى الأعمى)، كالسحاب اذا ظلل فمنع شروق الشمس عن المحتاج الى أن يستكمل بالشمس. فان كان هذا المحتاج دراكاً، أدرك انه غير منتفع، ولم يدرك ذلك من حيث ان السحاب قد حال، بل من حيث هومبصر، وليس هومن حيث هومبصر مثأذيا بذلك متضرراً أومنتقضاً، بل من حيث هو شيء آخر".(ابن سينا: "النجاة"، ص 284-285)
فالشر يطلق اذن اما على أمور عدمية مثل الجهل الذي هو عدم العلم، أو تشويه الخلقة الذي هو عدم ستواء البنية، واما على أمور وجودية هي الحابسة للكمال عن مستحقه مثل السحاب الذي يمنع شروق الشمس عن النبات المحتاج الى حرارتها.
كذلك ينقسم الشر الى :
١ - شر بالذات، وهو العدم، لا كل عدم، بل عدم ما يقتضيه طبع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، مثل عدم حاسة من الحواس للانان أو الحيوان ,
٢ - شر بالعرض، وهو الحابس للكمال عن مستحقه، مثل البرد المانع للثمارعن النضوج، وهوأمرطارىء هوأحد شيئين : "امامانع وحال ومبعد للمكمل، واما مضاد واصل محقق للكمال. مثال الأول : وقوع سحب كثيرة وتراكمها واظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثانفي : حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص وما تبعه" ( ص ٢٨٦ ).
كذلك يفرق ابن سينا في داخل الشر الذي هو بمعى العدم بين :
١-ما يكون شراً يجسب أمر واجب، او نافع، أوقريب من الواجب.
٢ - وما يكون شراً يحسب الأمر الذي هو ممكن في الأقل، ولو وجد كان على سبيل ما هو فضل : من الكمالات التي بعد الكمالات الثانية، ولا مقتضى له من طباع الممكن الذي هو فيه.
وهذا النوع الثاني " ليس شرا بحسب النوع، بل بحسب اعتبار زائد على واجب النوع، كالجهل بالفلسفة أو الهندسة أوغيرذلك، فان ذلك ليس شراً من جهة ما نحن ناس، بل هوشربحسب كمال الأصلح في أن يعم. ٠. وانما يكون بالحقيقة شرا اذا اقتضاه شخص انسان أو شخص نفس، وانما يقتضيه الشخص لا لأنه انسان، أو نفس، بل لأنه قد ثبت عنده حسن ذلك، واشتاق اليه، واستعد لذلك.. اما قبل ذلك فليس مما يبعث اليه مقتضى طبيعة النوع نبعاثه الى الكمالات الثانية التي تتلو الكمالات الأولى" (ص ٢٨٦)
ويحاول ابن سينا أن يهون من شأن هذه الشرور بأنواعها
١ - فيقرر اولا أن جميع سبب الشر انما يوجد تحت فلك القمر، أي على الأرض، أما في النظام السماوي فلا يوجد شر.
٢ - وثانيا ان جملة ما تحت القمر طفيف بالقياس الى سائر لوجود.
٣ - وثالثا: الشر انما يصيب أشخاصاً مفردة، وفي أوفات دون أوقات، بينا الأنواع محفوظة، فهو يصيب مثلا أفراداً من الناس، لكنه لا يصيب النوع لانساني ككل.
٤ - ورابعا: هذا الشر في أشخاص الموجودات قليل، "ومع ذلك فان وجود ذلك الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة الى الخير. فان هذه العناصرلولم تكن بحيث تتضاد وتنفعل عن الغالب، لم يمكن أن تكون عنها هذه لأنواع الشريفة... فوجب ضرورة أن يكون الخير الممكن في هذه لأشياء نما يكون خيراً بعد أن يمكن وقوع مثل هذا الشر عنه ومعه. وافاضة لخبرلا توجب أن يترك لخيرالغالب لشريندر، فيكون تركه شرا من ذلك الشر، لأن عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده اذا كان عدمين -شرمن عدم واحد. وهذا ما يؤثر لعاقل الاحراق بالنار، بشرط أن يستم منها حياً، على الموت بلا الم. فلوترك هذا القبيل من الخير، لكان يكون ذلك شرا فوق هذا الشر الكاثن بايجاده... فان قال قائل: وقد كان جائزاً ان يوجد لمدبر لأول خيراً محضا مبراً عن الشر ؟ فيقال: هذا لم يكن جائزا في مثل هذا النمط من الوجود، وان كان جائزاً في الوجود المطلق. على أنه ان كان ضرب من الوجودامطلق مبراً، فليس هذاالضرب. وذلك (الجائزفي
الوجود المطلق) مما قد فاض عن المدبر الأول ووجد في الأمور العقلية والنفسية والسماوية. وبقي هذا (أي الوجود الممزوج بالشر) النمط في الإمكان، ولم يكن ترك إيجاده لأجل ما قد يخالطه من الشر" (٢٨٦ -٢٨٧) فإيجاده خير الشرين، أعنيخير من لشر الأكبرلولميوجد.
كذلك الشر يطلق على وجوه أخرى :
١ - فيقال شر للأفعال المذمومة،
٢ - ويقال شر لمبادئها من حيث الأخلاق،
٣ - ويقال شر للألام والغموم وما يشبهها،
٤ - ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله وفقدانه ما من شأنه ان يكون له
غيرأن الآلام والغموم وان كانت معانيهاغيروجودية، فاغها ليست اعداما.
والشر في الافعال انما هو : بالقياس الى من يفقد كماله بوصول ذلك اليه، مثل الظلم، أو بالقياس الى ما يفقد من كمال يجب في السياسة المدنية، كالزنا.
والشربالنسبة الى الأخلاق انماهوشربالقياس الى السبب الفاعل له، أو بالقياس الى قابله، أوبالقياس الى فاعل آخر يمنع عن فعله. فالظلم مثلا يصدر عن قوة طلآبة للغلبة والسيطرة، هي القوة الغضبية، وكمالها هو التغلب. وهي خلقت لتكون متوجهة نحو السيطرة ولهذا تطلبها وتفرح بها فهذا الفعل بالقباس اليها خير لها، ولوقصرت فيه لكان ذلك شراً بالنسبة اليها. فالظلم شر للمظلوم، لكنه كمال للقوة الغضبية عمد فاعله.
" وكذلك السبب الفاعل للألام والأحزان : كالنار اذا احرقت فان الاحراق كمال للنار، لكنه شر بالقياس الى من سلب سلامته بذلك لفقدانه ما فقد.
وأما الشر الذي سببه النقصان وقصور يقع في الجبلة فليس لأن فاعله فعله، بل لأن الفاعل لم يفعله " ( ص ٢٨٨ ).
وبالجملة يرى ابن سينا أن الشر أمر لا مفر منه في عالم الامكان، لكنه طفيف بالقياس الى الخير الموجود في هذا العالم، وليس من الحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة ببب أغراض شرية اقلية " فأريدت الخيرات الكاثنة عن هذه الأشياء ارادة اولية على الوجه الذي يصلح أن يقان ( معه ) ان الله تعالى يريد الأشياء، ويريد الثر أيضا على الوجه الذي بالعرض، اذ علم أنه يكون ضرورة، فلم يعبأ به ٠ فالخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض، وكل بقدر. وكذلك فان المادة قد علم من أمرها أنها تعجز عن أمور، وتقصرعنها الكمالات في أمور، لكنها يتمها ما لا نسبة له كثرة الى ماتقصرعنها. فاذاكان ذلك كذلك، فليس من الحكمة الالهية أن تترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة "( ).
وان اعترض معترض بأن الثر ض نادرأ او أقلياً بل هو أكثري، رد ابن سينا مفرقا بين الكثير والأكثري، قانلاً : ليس لأمر كذلك " بل الشر كثير، ولي بأكثري. وفرق بين الكثير والأكثري : فان ها هنا أموراً كثيرة هي كثيرة وليت أكثرية، فالأمراض : فاها كثيرة وليت أكثرية. فاذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر، وجدته أقل من الخير لذي يقابله ويوجد في مادته فضلاً عنه، بالقياس الى الخيرات الأخرى الأبدية. نعم الثرور الي هي نقصانات الكمالات الثانية فهي أكثرية، لكنها ليت من الثرور التي كلامنا فبها. وهذه الثرور مثل الجهل بالهندسة، ومثل فوت الجمال الرائع، وغير ذلك ما لا يضر في الكمالات الأولى ولا في الكمالات التي تليها فيما يظهر منفعتها... وهذه الثرور هي أعدام خيرات من باب الفضل والزيادة في المادة "(ابن سينا: "النجاة" ص 289)
وربما كان هذا الفصل الذي عقده ابن سينا لبيان حقبقة لثر في الوجود من أبلغ ما كتب في هذا الميدان، ويفوق كثيراً ما كتبه الاسكندر الافروديي في رسالته في "العناية "(٣).
بوحد من نرحنها العرية الفدية نحتار على الأفل. احداهما في الاسكرريان، والثابة في اسنانوس. ر١جع تصدي كتان ا ارسطو عند
الطبيعيات
الزمان
وبعد أن فرغنا من الالهيات، فلنعرض آراء ابن سينا في بعض المسائل الطبيعية ذات الصبغة الفلسفية. وأولها مشكلة الزمان. يقول ابن سينا عن الزمان:
(( وأما الزمان فهو شيء غير مقداره، وغير مكانه. وهو أمر به يكون "القبل" الذي لا يكون معه "البعد". فهذه القبلية له لذاته، ولغيره، وكذلك البعدية. وهذه القبليات والبعديات متصلة إلى غير نهاية. والذي لذاته هو قبل شيء هو بعينه يصير بعد شيء، وليس أنه "قبل" هو أنه حركة، بل معنى آخر. وكذلك ليس هو سكون، ولا شيء من الأحوال التي تعرض. فإنها في أنفسها لها معان غير المعاني التي هو بها "قبل" وبها "بعد". وكذلك "مع" فان للـ "مع" مفهوماً غير مفهوم كون الشيء حركة.
وهذه القبليات والبعديات والمعيات تتوالى على الاتصال، ويستحيل أن تكون "دفعات لا تنقسم - وإلا لكانت توازي حركات في مسافات لا تنقسم - وهذا محال. فإذن يجب أن يكون اتصالها اتصال المقادير. ومحال أن تكون أمور ليس وجودها معاً تحدث وتبطل ولا تتغير ألبتة: فإنه إن لم يكن امر زال ولم يكن امر حدث، لم يكن "قبل" ولا ٠ بعد بهذه الصفة. فاذن هذا الشيء المتصل متعلق بالحركة والتغير. وكل حركة على مسافة على سرعة محدودة فانه اذا تعين لها، أو تعين بها، مبدأ وطرف، لا يمكن ان يكون الابطاء منها يبتدىء معها ويفطع النهاية معها، بل بعدها. فاذن ها هنا تعلق أيضاً بال "مع" وال "بعد" وامكان قطع سرعة محدودة مسافة محدودة فيما بين أخذه في الابتداء وتركه في الانتهاء، وفي أقلمن ذلك امكان قطع أقل من تلك المسافة. وهذا لا ( = لي ) مقدار المسافة التي لا يختلف فيها الريع والبطيء، وغيرمقدار المتحرك الذي قد يختلف. فيه على الاتفاق في هذا، بل هو الذي بقول ان الريع يقطع فيه هذه المسافة، وفي أقل منه أقل من هذه المسافة " وهذا الامكان مقدار غيرثابت، بل متجدد. كما أن الابتداء بالحركة للحركة غيرثابت. ولوكان ثابتاً لكان موجوداً للسريع والبطيء، يلا اخنلاف
فهو إذن هو المقدار لمتصل على ترتيب القبليات والبعديات، على نحو ما قلنا. وهو متعلق بالحركة - وهو الزمان: فهو مقدار الحركة في المتقدم والمتأخر اللذين لا يثبت أحدهما عل الآخر، لا مقدار المسافة، ولا مقدار المتحرك )) (ابن سينا: "عيون الحكمة" ص26-27 نشرة عبد الرحمن بدوي، القاهرة، سنة 1954)
ونحن نعلم أن أرسطو قد حدّ الزمان بأنه "مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر" (أرسطو: "في الطبيعة" م4 ف11 ص220، 24-25). لكنه لا يتابع عرض أرسطو لمشكلة الزمان في المقالة الرابعة من "الطبيعة" ولا يثير ما أثار ارسطو من إشكالات عميقة، بل تعلق خصوصاً بمسألة العلاقة بين الزمان والمسافة، وهي مسألة ليست بذي بال في مشكلة الزمان.
ولا يزيد ابن سينا في "النجاة" شيئاً يذكر على ما ورد مركزاً في "عيون الحكمة" واقتبسناه بتمامه منذ قليل وكل ما هنالك:
١ - أنه يؤكد الارتباط التام بين الزمان وبين الحركة فيؤكد أنه ((لا يتصور الزمان إلا مع الحركة. ومتى لم يحس بحركة، لم يحس بزمان، مثلما قيل في قصة أصحاب الكهف)) (ابن سينا: "النجاة" ص116).
٢ - ويقرر أن (( الزمان ليس محدثاً حدوثاً زمانياً، بل حدوث ابداع، لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل بالذات ولو كان له مبدأ زماني، لكان حدوثه بعد ما لم يكن، أي بعد زمان متقدم، وكان بعداً لقبل غير موجود معه، فكان بعد قبل وقبل بعد، وكان له "قبل" غير ذات الموجود عند وجوده. وكل ما كان كذلك، فليس هو أول "قبل" وكل ما ليس أول "قبل" فليس مبدأ للزمان كله. فالزمان مبدع، أي يتقدمه باريه فقط )) (الكتاب نفسه، ص117).
لكن معنى هذا الكلام هو أن الزمان قديم قدم الباري، إذ هو لا يتقدمه بالزمان، بل بالذات، أي بالمرتبة. وما دام كذلك، فقد أحدثه منذ القدم، اذ يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني، غير أن رأي ان سينا ليس صريجاً تماماً ها هنا.
٣ - ويقررأن الزمان (( مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم والمتأخر، لا من جهة المسافة. والحركة متصلة. فالزمان متصل، لأنه يطابق المتصل، وكل ما طابق المتصل فهو متصل)(ص 118).
٤ - وإذن فالزمان يتهيأ أن ينقسم بالتوهم، لأن كل متصل يمكن أن ينقسم بالتوهم، لا بالفعل فإذا قسم ثبتت له في الوهم نهايات، تسمى الآنات.
٥ - والآن هو فصل الزمان وطرف أجزائه المفروضة فيه.
٦ - ولما كان الزمان لا ثبات لـ "قبله" مع "بعده" فإنه متعلق بالتغير، لا بكل تغير كان، بل بالتغير الذي من شأنه أن يتصل. والتغير الذي يتعلق به الزمان هو الذي يكون في الوضع لمستدير الذي يصح له أن يتصل. (( وأما السكون فالزمان لا يتعلق به ولا يقدره الا بالعرض... والحركات الأخرى يقدرها الزمان لا بأنه مقدارها الأول، بل بأنه معها، كالمقدار الذي في الذراع يقدر خشبة الذراع بذاته، وسائر الأشياء بتوسطه. ولهذا يجدر أن يكون في زمان واحد مقدار الحركات فوق واحد. وكما أن الشيء في العدد: أما مبدؤه كالوحدة، وأما قسمته كالزوج والفرد، وأما معدوده - كذلك الشيء في الزمان: منه ما هومبدؤه كالآن، ومنه ما هو جزؤه كالماضي والمستقبل، ومنه ما هومعدوده ومقدره وهو الحركة )) (ابن سينا: "عيون الحكمة" ص28).
والدهر هو المحيط بالزمان. وهو (( نسبة ما مع الزمان وليس في الزمان إلى الزمان من جهة ما مع الزمان. ونسبة ما ليس في الزمان إلى ما ليس في الزمان من جهة ما ليس في الزمان: الأولى به أن يسمى السرمد. والدهر في ذاته من السرمد. وبالقياس إلى الزمان دهر الحركة علة حصول الزمان.)) (الكتاب نفسه)
الزمان إذن متصل، ولاينقسم إلا بالتوهم، إما إلى آنات هي الماضي والمستقبل والحاضر، أو إلى ساعات وأيام وشهور وسنين.
المكان
يطلق المكان بمعنيي
(١) إذ يقال: "مكان" لشيء يكون فيه الجسم فيكون محيطاً به،
(٢ ) ويقال: "مكان" لشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه.
والمكان الذي يتكلم فيه الطبيعيون هو الأول. وهو حاو للمتمكن، مفارق له عند الحركة، ومساو له، لأنهم يقولون: لا يتأتى أن يوجد جسمان في مكان واحد فإذا كان كذلك، فينبغي أن يكون خارجاً عن ذات المتمكن، لأن كل شيء يكون في ذات المتحرك فلا يفارقه المتحرك عند الحركة. وقد قيل أن كل مكان مباين للمتحرك عند الحركة. فإذن ليس المكان شيئاً في المتمكن. وكل هيولى وكل صورة فهي في المتمكن. فليس إذن المكان بهيولى ولا صورة. ولا الأبعاد التي يدعي أنها مجردة عن المكان بمكان الجسم المتمكن: لا مع امتناع خلوها كما يراه بعضهم، ولا مع جواز خلوها كما يظن مثبتو الخلاء )) (ابن سينا: "النجاة" 118-119)
فالمكان ليس هيولى لشيء، ولا صورته. وليس هو الخلاء، اذ لا يوجد خلاء.
إن المكان شيء فيه الجسم. فاما أن يكون ذلك على سبيل التداخل، واما أن يكون على سبيل الاحاطة. ويبرهن ابن سينا برهنة طويلة على امتناع التداخل. كذلك ليس المكان هو الأبعاد التي بين غايات الجسم المحيط، "فهذا قول كاذب جداً" على حد تعبير ابن سينا (١٢٤)، اذ ليس بين الغايات شيء غير أبعاد المتمكن. إذن فذلك هو على سبيل الاحاطة.
(( وقد قيل أن المكان مساو. فاما أن يكون مساوياً لجسم المتمكن، وقد قيا انه محال، واما أن يكون مساوياً لسطحه، وهو الصواب. ومساوي السطح سطح. فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن، وهو نهاية الحاوي المماسة لنهاية المحوي. وهذا هو المكان الحقيقي. وأما المكان غير الحقيقي فهو الجسم المحيط)) (الكتاب نفسه ص 124)
ويبحث ابن سينا في الخلاء لابطاله، اذ لو كان الخلاء موجوداً، لكان فيه أبعاد وفي كل جهة، وكان يحتمل الفصل في الجهات كالجسم. ولو كان خلاء موجوداً لما كان يختص فيه الجسم المحيط إلا بجهة تعين، فيجب أن يكون لهذا المحيط جهة. ولو كان خلاء لكان له حيز من الخلاء مخصوص ووراءه أحياز أخرى خارجة عن حيزه لا يتحدد بها حيزه، ولا تتحدد هي لحيزه. (راجع: "عيون الحكمة" ص23-24، وراجع "النجاة" 119-123) ويستمر ابن سينا في بيان أنواع التناقض التي تنجم عن افتراض وجود الخلاء، وينتهي من ذلك إلى بطاله، كما فعل أرسطو من قبل.
النفس
أنواع النفس
النفس، كجنس واحد، تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
١ - النفس النباتية، وهي: كمال أول لجسم طبيعي آلي، من جهة ما يتولد ويربو ( = ينمو) ويغتذي. والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل أنه غذاؤه، ويزيد فيه بمقدار ما تحلل، أو أكثر، أو أقل.
٢ - النفس الحيوانية، وهي: كمال أول لجسم طبيعي آلي، من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالارادة.
٣ - النفس الانسانية، وهى: كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري واستنباط الرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلة.
(( وللنفس النباتية قوى ثلاث:
١ - القوة الغاذية، وهي القوة التي تجعل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه، فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.
٢ - والفوة المنمية، وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه - بالجسم المتشبه - في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً، متناسبة للقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء.
٣ - والقوة المولدة: وهى القوة التي تأخذ من الجسم الذي هى فيه جزءاً هو شبيه له بالقوة، فتفعل فيه - باستمداد أجسام أخرى تتشبه به - من التخليق والتمزيج ما يصيرشبيها به بالفعل )) (ابن سينا: "النجاة" ص158).
أما النفس الحيوانية فلها - بالقسمة الأولى - قوتان: محركة، ومدركة. والمحركة على قسمين إما محركة بأنها باعثة، وإما محركة بأنها فاعلة. فالمحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية والشوقية. ولها شعبتان: شعبة تسمى قوة شهوانية، وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة، طلباً للذة. وشعبة تسمى قوة غضبية، وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً، طلباً للغلبة.
وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات، من شأنها أن تشنج العضلات، فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ، أو ترخيها، أو تمدها طولاً، فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.
وأما القوة المدركة فتقسم قسمين: فإن منها قوة تدرك من خارج، ومنها قوة تدرك من داخل. والمدركة من خارج هي الحواس الخمس، وهي: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس. وحاسة اللمس يمكن أن تكون جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد واحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والرابعة حاكمة في التضاد بين الخشن والأمل.
والمحسوسات كلها تتأدى صورها الى آلات الحس وتنطبع فيها، فتدركها القوة الحاسة. وهذا ظاهر في اللمس والذوق والشم والسمع. أما في البصر فقد ظن به خلاف هذا: فظن قوم أن البصر قد يخرج منه شيء، فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج، ويكون ذلك ابصاراً، وفي أكثر الأمر يسمون ذلك الخارج من العين شعاعاً. (( وأما المحققون فيقولون أن البصر - إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل، وهو جسم لا لون له، متوسط بينه وبين البصر - تأدى شبيهه بتأدي الألوان بتوسط الضوء اذا انعكس للضوء من شى ء ذي لون فصبغ بلونه جسماً آخر. وان كان بينهما فرق. بل هو أشبه بما يتخيل في المراة.)) (ابن سينا: "النجاة" ص160) ويبرهن ابن سينا على بطلان الظن الأول، وهو رأي افلاطون، بينما أرسطو يرى الرأي الثاني الذي أخذ به ابن سينا.
(( وأما القوى المدركة من باطن: فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات، وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات ومن المدركات ما يدرك ويفعل معاً، ومنها ما يدرك ولا يفعل، ومنها ما يدرك ادراكاً أولياً، ومنها ما يدرك ادراكاً ثانياً.
والفرق يين ادراك الصورة وادراك المعنى أن الصورة هى الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً، لكن الحس الظاهر يدركه أولا ويؤديه الى النفس، مثل ادراك الشاة لصورة الذئب، أعني شكله وهيئته ولونه فان نفس الشاة الباطنة تدركها، ويدركها أولا حسها الظاهر.
وأما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولاً، ثم ادراك الشاة معى المضاد في الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها إياه وهربها عنه، من غير أن يكون الحس يدرك ذلك ألبتة.
فالذي يدرك من الذئب أولاً بالحس ثم القوى الباطنة: هو الصورة، والذي تدركه القوى الباطنة دون الحس: فهو المعنى.)) (ابن سينا: "النجاة" ص162)
أما القوى المدركة الباطنة الحيوانية فمنها:
١ - قوة فنطاسيا - أي الحس المشترك، وهي قوة تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس التي تصل منها إلى الحس المشترك.
٢ - الخيال والصورة: وهي قوة تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الخمس وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات.
٣ - قوة تسمى متخيلة بالنسبة الى النفس الحيوانية، ومفكرة بالنسبة الى النفس الانسانية. وهي قوة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض، وتفصل بعضه عن بعض.
٤ - القوة الوهمية وهي قوة تدرك المعافي غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية، كالقوة الحاكمة بأن الذثب مهروب منه، وأن الولد معطوف عليه.
٥ - القوة الحافظة - الذاكرة، وهي قوة تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزثية. ونسبة القوة الحافظة الى القوة الوهمية كنبة الخبال الى الحس.
النفس الناطقة
أما النفس الناطقة - وهي خاصة بالانسان وحده دون سائر الحيوان - فتنقسم قواها إلى: قوة عالمة، وقوة عاملة، قوة نظرية، و قوة عملية
((أما القوة النظرية فهي قوة من شأنها ان تنطبع بالصور المجردة عن المادة. فان كانت جردة بذاتها، فذاك، وإن لم تكن، فانها تصيرها مجردة بتجريدها اياها، حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء)) (ابن سينا: "النجاة" ص165).
ولتوضيح هذا التعريف نحدد معنى "القوة أولاً فنقول أن القوة تقال على ثلاثة معان:
١ - فيقال "القوة" للاستعداد المطلق الذي لا يخرج منه شيء إلى الفعل، كقوة الطفل على الكتابة،
٢ - ويقال قوة لهذا الاستعداد اذا بدأ يتحقق ولكن بمجهود، مثل قوة الصبي - الذي ترعرع وعرف القلم والدواة وبسائط الحروف - على الكتابة.
٣ - ويقال قوة لهذا الاستعداد اذا تم بالآلة، وحدث مع الآلة ايضاً كمال لاتعداد، بأن يكون له أن يفعل متى شاء، بلا حاجة الى الاكتساب.
والأولى تسمى قوة مطلقة وهيولانية، والقوة الثانية تسمى قوة ممكنة، والقوة الثالثة تسمى ملكة وربما سميت الثانية ملكة، والثالثة: كمال قوة.
والقوة النظرية تنسقم بحسب قسمة القوى هذه:
١ - فان كانت نسبتها الى الصور المجردة نسبة ما بالقوة المطلقة، سميت عقلا هيولانياً. وهي موجودة لكل شخص من النوع الانسافي، وسميت هيولانية تشبيها لها بالهيولى الأولى التي ليست هي بذاتها ذات صورة من الصور، ولكنها موضوعة لكل صورة.
٢ - وان كات تدرك بالمعقولات الأولى- وهي المقدمات التي يقع بها التصديق بداهة لا باكتساب، مثل اعتقادنا ان الكل أعظم من الجزء وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية - سميت عقلا بالملكة.
٣ - وان كانت الصور المعقولة حاضرة فيها تطالعها وتعقلها بالفعل، وتعقل أنها تعقلها، سميت حينئذ: عقلا متفاداً، لأن الصور تكون حينثذ متفادة من خارج
٤ - واذا اشتد الاستعداد في بعض الناس حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال لى كبيرشيء والى تخريج وتعليم، فان هذا يمى عقلا قدسيا، "وهو من جنس العقل بالملكة، إلا أنه رفيع جداً، ليس ما يشترك فيه الناس كلهم )) (ابن سينا: "النجاة" ص 167).
ترتيب القوى في النفس
إما من حيث الترتيب فانها يرئس بعضها بعضاً ويخدم بعضها بعضاً. والعقل القدسي بمثابة رئيس لها يخدم الكل، وهو الغاية القصوى، ويتلوه العقل المستفاد، ويخدمه العقل بالملكة، وآخره العقل الهيولاني الذي يخدم العقل بالملكة بما فيه من الاستعداد.
والعقل العملي يخدم جميع هذه، على اساس أن العقل العملي يدبر العلاقة بالبدن من أجل تكميل العقل النظري وتزكيته.
والوهم يخدم العقل العملي. ويخدم الوهم قوتان: قوة قبله هي جميع القوى الحيوانية، وقوة بعده هي التي تحفظ ما أداه.
والمتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذ: فالقوة النزوعية تخدمها بالانتماء لاتها تبعث على التحريك، والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب والفصل في صورها.
والقوة الخيالية تخدمها فنطاسيا، وفنطاسيا تخدمها الحواس الخمس.
والقوة النزوعية يخدمها الشهوة والغضب.
والشهوة والغضب تخدمها القوة المحركة المنبثة في الضل.
والى ها هنا تنتهي القوى الحيوانية.
والقوى الحيوانية بالجملة تخدمها لنباتية. وعلى رأسهذه توجد القوة المولدة، وتخدمها النامية، ثم الغاذية تخدمها جميعا. ثم القوى الطبيعية الأربع وهي: الهاضمة، والماسكة، والجاذبة، والدافعة - تخدم القوة الغاذية.
وحدة النفس
لكن التفس ذات واحدة، رغم أن لها قوى كثيرة. والنفس مبدأ هذه القوى كلها. والنفس توجد مع البدن، لكن حدوثها ليس عن جسم، بل عن جوهر هو صورة غير جسمية.
ويشير ابن سينا إلى رأي أرسطو القائل بأن متعلق القوة النظرية هو القلب، ومخالفته لأفلاطون في ذلك. لكنه يشكك في رأي أرسطو أيضاً، ويرى أن متعلقها هو بجوهر غير جسمي، من نوع الجواهر السماوية. بيد أنه لم يوضح هذا الرأي. (راجع "النجاة" ص191-192)
ويؤكد أيضاً في "عيون الحكمة" (ص٤٦) أن "مدرك المعقولات، وهو النفس الانسانية، جوهر غيرمخالط للمادة، بريء عن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والفعل".
والأنفس الانسانية متفقة في النوع والمعنى. ذلك أن النفس قبل حلولها في البدن هى مجرد ماهية فقط، وليس يمكن ان تغاير نفس نفساً بالعدد، وإذا كات ماهية فهي لا تقبل اختلافاً ذاتياً. (( ولا يجوز أن تكون واحدة الذات لأنه إذا حصل بدنان حصل في البدنين نفسان: فاما أن يكون قسمي تلك النفس الواحدة، فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم وحجم منقسما بالقوة -وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقررة في الطبيعيات، - واما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين، وهذا لا يمتاج أيضاً إلى كثير تكلف في إبطاله. فقد صح إذن أن النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه، ويكون البدن الحادث مملكتها والتها، ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحق حدوثها من المبادىء الأولية- نزاع طبيعي إلى الاشتغال به، واستعماله والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه، يخصها به، ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع لا بواسطته. فلا بد أنها وجدت متشخصة، وتلك الهيئات تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر، وان خفي علينا تلك الحال وتلك المناسبة، وتكون مبادىء الاستكمال متوقعة لها بوساطته وتزد فيه بالطبع لا بوساطته.
وأما بعد مفارقة البدن فان الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادها التي كانت، وباختلاف أزمنة حدوثها، واختلاف هيئاتها التي بحسب أبداتا المختلفة لا محالة بأحوالها )) (ابن سينا: "النجاة" ص184)
لكن لا يتضح من هذا النص بجلاء حل مشكلة هل انفس أفراد الناس مختلفة، أو واحدة ؟ واذا كانت واحدة، فكيف توجد في أبدان مختلفة وتنتسب الى أفراد مختلفين، وتستقل بمسؤوليتها وحسابها؟!
النفس لا تموت بموت البدن ولا تقبل الفساد
ويقرر ابن سينا أن النفس "لا تموت بموت البدن، ولا تقبل الفساد أصلا: أما أنها لا تموت بموت البدن، فلا كل شىء يفسد بفساد شى ء اخر فهو متعلق به نوعا من التعلق. وكل تعلق بشيء نوعاً من التعلق: فاما أن يكون تعلقه به تعلق المكافى، في الوجود، واما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، واما أن يكون تعلقه به تعلق المتقدم عليه في الوجود الذي هوقبله بالذات، لا بالزمان". ثم يفحص هذه الفروق الثلاثة فيقول:
١ - " فان كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافىء في الوجود - وذلك أمر ذاتي له، لا عارض - فكل واحد منهما مضاف الذات الى صاحبه - فليس لا النفس ولا البدن بجوهر. لكنهما جوهران. وان كان ذلك أمراً عرضياً، لا ذاتياً، فاذا فسد أحدهما بطل الآخر من الاضافة، ولم تفسد الذات بفاده.
٢ - وان كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود، فالبدن علة للنفس في الوجود حينئذ. والعلل أربع: فاما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود، واما أن يكون علة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان، أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم، وأما أن يكون علة صورية، واما أن يكون علة كمالية ومحال أن يكون علة فاعلية، فان الجسم بما هوجسم لا يفعل شيئاً، وانما يفعل بقواه، ولوكان يفعل بذاته، لا بقواه، لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل. ثم القوى الجسمانية كلها: اما أعراض، واما صور مادية. ومحال أن تفيد الاعراض أو لصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة، ووجود جوهر مطلق. ومحال أيضا أن يكون علة قابلية فقد بينا وبرهنا أن لنفس ليست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه، فلا يكون إذن البدن متصوراً بصورة النفس، لا بحسب البساطة، ولا على سبيل التركيب: بأن تكون أجزاء من أجزاء البدن تتركب وتمتزج تركيباً ما ومزاجاً ما، فتنطبع فيها النفس - ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو كمالية، فان الأولى أن يكون الأمر بالعكس. فاذن ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية...
٣ - وأما القسم الثالث ... وهوان يكون تعلق النفس مالجسم تعلق امتقدم في الوجود فاما أن يكون التقدم مع ذلك زمانيا، فيستحيل ان يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان، واما أن يكون التقدم في الذات، لا في الزمان لأنه في الزمان لا يفارقه، وهذا النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة كلما توجد يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود، وحينئذ لا يوجد هذا المتقدم في الوجود اذا فرض المتقدم قد عدم، لا أن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم، ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم الا وقد عرض أولا بالطبع للمتقدم ما أعدمه، فحينئذ عدم المتأخر. فليس فرض عدم التأخر يوجب عدم التقدم. ولكن فرض عدم التقدم نفسه، لأنه انما افترض المتأخر معدوما بعد أن عرض للمتقدم أن عدم في نفسه. واذا كان كذلك، فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض في جوهر النفس، فيفسد معه البدن، وأن لا يكون ألبتة البدن يفسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه: من تغير المزاج أو التراكيب. فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات ثم يفسد البدن ألبتة بسبب في نفسه. فليس اذن بينهما هذا التعلق.
واذا كان الأمر على هذا، فقد بطلت أنحاء التعلق كلها. وبقي أن لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادىء الأخر التي لا تستحيل، ولا تبطل.
وأما أنها لا تقبل الفساد أصلا - فأقول ان سبباً آخر لا يعدم النفس ألبتة وذلك أن كل شيء من شأنه أن يفسد بسبب ما، ففيه قوة أن يفسد، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى. ومحال أن تكون من جهة واحدة في شيء واحد - قوة أن يفسد وفعل أن يبقى: فان معنى القوة مغاير لمعنى الفعل، واضافة هذه القوة مغايرة لاضافة هذا الفعل، لأن اضافة ذلك الى الفساد، واضافة هذا الى البقاء. فاذن لأمرين مختلفين في الشيء يوجد هذان المعنيان فنقول ان الأشياء المركبة والأشياء البسيطة التي هي قائمة في المرتبة، يجوز أن يجتمع فيها فعل أن يبقى وقوة أن يفسد وأما في الأشياء البسيطة المفارقة الذات، فلا يجوز أن يجتمع هذا الامران ".
ولما كانت النفس بسيطة بساطة مطلقة فاها لا تقبل الانقسام الى قوة أن يفسد وفعل أن يبقى. فواضح من هذا أن جوهر الفس ليس فيه قوة أن يفسد. وبان إذن أن النفس لا تفسد البتة.
والبرهان ها هنا فيه مصادرة على المطلوب، لأن من قال إن النفس بسيطة بساطة مطلقة؟ أليس من يقول هذا يقول مقدما أن النفس لا تفسد، اذ البسيط لا يفسد، والمركب وحده هو الذي يفسد ؟
لقد استخدم ابن سينا هنا البرهان الذي أقامه أفلاطون، ولكن ليس له الحق في استخدامه لأنه لم يأخذ بالأساس الأفلاطوني لهذا البرهان، وهو أن النفس مثال بالمعنى الأفلاطوني لهذا اللفظ. لقد كانت مقدماته أرسطية، ولكن نتائجه أفلاطونية، وهذا خلط غير مقبول ها هنا لكن هذا شاهد آخر على الوضع الذي وجد الفلاسفة الاسلاميون فيه أنفسهم في الترجح بين أرسطو وبين أفلاطون.
وأخيراً في باب النفس يبطل ابن سينا مذهب التناسخ، وكان قد قال به أفلاطون.
وابن سينا يفند التناسخ على أس أن تهيؤ الأبدان لتلقي النفوس يوجب افاضة النفوس عليها من العلل المفارقة، وكل مزاج بدني يحدث، يحدث معه نفس تخصه فاذا فرضنا أن نفسا تناسختها أبدان، كان للبدن المستنسخ نفسان: أحداهما المستنسخة والثانية الحادثة معه. (( فكان حينئذ لحيوان واحد نفسان. وهذا محال، لأن النفس هي التي تدبر البدن وتتصرف فيه، وكل حيوان يشعر بشيء واحد يدبر بدنه ويتصرف فيه )) (شرح الطوسي على "الاشارات والبهات" ص٧٧٩، القاهرة سة ١٩٥٨، دار المعارف، وراجع الفصل الخاص بابطال النناسخ في "النجاة". ص١٨٩.).
التصوف النظري
وقد توج ابن سينا مذهبه العقلي بتصوف نظري يتمثل في:
1- النمط التاسع من كتاب "الإشارات والتنبيهات".
2- ثلاث قصص رمزية هي:
أ- رسالة "الطير" -نشرها ميرن في ليدن سنة 1893.
ب- "قصة سلامان وأبسال" -طبعت في مجموعة بعنوان: ابن سينا: "تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات" ص155-177، القاهرة سنة 1908.
جـ- "حي بن يقظان" -نشرها ميرن، ليدن سنة 1889.
العشق والشوق:
الأول هو أجل مبتهج؛ لأنه مبتهج بذاته، وهو أشد الأشياء إدراكًا لأشد الأشياء كمالًا، وهو بريء عن طبيعة الإمكان، والعدم اللذين هما منبعا الشر.
والعشق الحقيقي هو الابتهاج بتصور حضرة ذات ما.
والشوق هو الحركة إلى تتميم هذا الابتهاج، حين تكون الصورة المعشوقة حاضرة من وجه، غائبة من وجه آخر، فهو نقص لا يليق بالكمال الحقيقي الذي هو كمال الأول.
ولهذا، فإن الأول يوصف بالعشق، ولا يوصف بالشوق؛ لأنه لا يمكن أن يغيب عنه شيء.
الأول عاشق لذاته، ومعشوقه هو ذاته ومن ذاته، كما أنه معشوق من أشياء غيره بحسب إدراك الغير له.
"ويتلوه المبتهجون به وبذواتهم، من حيث هم مبتهجون به، وهم الجواهر العقلية القدسية، وليس ينسب إلى الأول الحق ولا إلى التالين من خلص أوليائه القديسين: شوق.
وبعد المرتبتين مرتبة العشاق المشتاقين: فهم، من حيث هم عشاق، قد نالوا نيلًا ما، فهم ملتذون، ومن حيث هم مشتاقون، فقد يكون لأصناف منهم أذى ما ...
والنفوس البشرية، إذا زالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا، كان أجل أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة، لا تخلص عن علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى.
ويتلو هذه النفوس نفوس أخرى بشرية، مترددة بين جهتي الربوبية، والسفالة على درجاتها.
ثم يتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة" (ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص785-787.).
وهكذا أثبت ابن سينا العشق للجواهر العاقلة، والشوق لبعضها، وفيه على ثبوتهما لباقي النفوس، والقوى الجسمانية.
مقامات العارفين
وبعد هذا التمهيد يتكلم ابن سينا عن أحوال أهل الكمال من النوع الإنساني، وهوم يسميهم ها هنا باسم "العارفين"، وقد خصهم بالنمط التاسع من "الإشارات والتنبيهات"، وهذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، كما يقول فخر الدين الرازي في شرحه عليه: "فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبًا ما سبقه إليه من قبله، ولا لحقه فيه من بعده"، والحق أن ابن سينا في هذا النمط قد حلق تحليقات صوفية رائعة، وإن كان من الصعب ربطها بسائر مذهبه العقلي المشائي الصريح.
يقول ابن سينا:
"إن للعارفين مقامات، ودرجات يخصون بها، وهم في حياتهم الدنيا، دون غيرهم، فكأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس، ولهم أمور خفية، وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك" (الكتاب نفسه ص789).
يعني أن للعارفين وإن كانوا لا يزالون في أبدانهم، فإنهم كما لو كانوا خلعوا أبدانهم جانبًا -كما يقول أفلوطين في التساعات"- وخلصت نفوسهم إلى عالم القدس، ولهم أمور خفية هي مشاهداتهم لما يعجز عن مشاهدته سائر الناس، وأمور ظاهرة، هي ما يختصون به من كرامات، لا يقر بها من لا يدركها، أما من يعرفها، فيقدرها تقديرًا كبيرًا.
ثم يشير بعد ذلك إشارة رمزية غريبة، فيقول: "وإذا قرع سمعك فيما يقرعه، ويرد عليك فيما يسمعه، قصة لسلامان وأبسال -فاعلم أن سلامان مثلًا ضرب لك، وأن أبسال مثل ضرب لدرجتك في العرفان، إن كنت من أهله، ثم حل الرمز، إن أطلقت".
ويشرح نصير الدين الطوسي قصة سلامان وأبسال هذه، فيقول: إنه وقعت له قصتان لسلامان وأبسال.
"إحداهما -وهي التي وقعت أولًا إلي- ذكر فيها أنه كان في قديم الدهر ملك ليونان والروم ومصر، وكان يصادقه حكيم، فتح، بتدبيره له، جميع الأقاليم. وكان الملك يريد ابنًا يقوم مقامه، من غير أن يباشر امرأة، فدبر الحكيم حتى تولد من نطفته، في غير رحم امرأة، ابن له، وسماه "سلامان"، وأرضعته امرأة اسمها "أبسال"، وربته، وهو، بعد بلوغه، عشقها ولازمها، وهي دعته إلى نفسها، وإلى الالتذاذ بمعاشرتها.
ونهاه أبوه عنها وأمره بمفارقتها، فلم يطعه، وهربا معًا إلى ما وراء بحر المغرب. وكان للملك آلة يطلع بها على الأقاليم، وما فيها ويتصرف في أهلها، فاطلع بها عليهما، ورق لهما، وأعطاهما ما عاشا به، وأهملهما مدة.
ثم إنه غضب من تمادي "سلامان" في ملازمة المرأة، فجعلهما بحيث يشتاق كل إلى صاحبه، ولا يصل إليه مع أنه يراه، فتعذبا بذلك، وفطن سلامان به، ورجع إلى أبيه معتذرًا، ونبهه أبوه على أنه لا يصل إلى الملك الذي رشح له، مع عشقه "أبسال" الفاجرة وإلفه لها.
فأخذ "سلامان" و"أبسال" كل منهما يد صاحبه، وألقيا نفسيهما في البحر. فخلصته روحانية الماء بأمر الملك، بعد أن أشرف على الهلاك.
وغرقت "أبسال"، واغتم "سلامان"، ففزع الملك إلى الحكيم في أمره، فدعاه الحكيم، وقال: أطعني، أوصل، أبسال إليك.
فأطاعه، وكان يريه صورتها، فيتسلى بذلك رجاء وصالها، إلى أن صار مستعدًا لمشاهدة صورة "الزهرة"، فأراها الحكيم له بدعوته لها، فشغفته حبًا، وبقيت معه أبدًا، فنفر عن خيال "أبسال"، واستعد للملك بسبب مفارقتها، فجلس على سرير الملك.
وبنى الحكيم الهرمين، بإعانة الملك، واحد للملك، وواحد لنفسه، ووضعت هذه القصة، مع جثتيهما، فيهما، ولم يتمكن أحد من إخراجها، غير أرسطو، فإنه أخرجها بتعليم أفلاطون، وسد الباب.
وانتشرت القصة، ونقلها حنين بن إسحاق من اليوناني إلى العربي.
ويعلق الطوسي على هذه القصة، فيقول:
"وهذه قصة اخترعها أحد من عوام الحكماء، ينسب كلام الشيخ إليه، على وضع لا يتعلق بالطبع، وهي غير مطابقة لذلك؛ لأنها تقتضي أن يكون الملك هو: العقل الفعال، والحكيم هو: الفيض الذي يفيض عليه مما فوقه، و"سلامان" هو النفس الناطقة، فإنه أفاضها من غير تعلق بالجسمانيات، و"أبسال" هي القوة البدنية الحيوانية التي بها تستكمل النفس وتألفها، وعشق "سلامان" لـ"أبسال": ميله إلى الذات البدنية، ونسبة "أبسال" إلى الفجور: تعلقها بغير النفس المتعينة بمادتها، بعد مفارقة النفس، وهربهما إلى ما وراء بحر المغرب: انغماسهما بالشوق مع الحرمان، وهما متلاقيان: بقاء ميل النفس، مع فتور القوى عن أفعالها بعد سن الانحطاط، ورجوع "سلامان" لأبيه: التفطن للكمال، والندامة على الاشتغال بالباطل، وإلقاء نفسيهما في البحر: تورطهما في الهلاك: أما البدن فلانحلال القوى والمزاج، وأما النفس فلمشايعتها إياه، وخلاص "سلامان": بقاؤه بعد البدن، وإطلاعه على صورة "الزهرة": التذاذه بالابتهاج بالكمالات العقلية، وجلوسه على سرير الملك: وصوله إلى كماله الحقيقي، والهرمان الباقيان على مرور الدهر: الصورة والمادة الجسميتان.
فهذا تأويل القصة، "وسلامان" مطابق لما عنى الشيخ، وأما "أبسال" فغير مطابق؛ لأنه أراد درجة العارف في العرفان، فها هنا مثل لما يعوقه عن العرفان والكمال، فهذا الوجه ليست هذه القصة مناسبة لما ذكره الشيخ، وذلك يدل على قصور فهم واضعها عن الوصول إلى فهم غرضه منها".
وتعليق الطوسي الأخير هذا ليس وجهًا؛ لأن المقصود منها هو الصراع بين النفس الناطقة الكاملة، وبين النفس الشهوانية، و"سلامان" يمثل الأولى، و"أبسال" تمثل الثانية أدق تمثيل، فلماذا يريد الطوسي أن يفهم من كليهما أنه يدل على درجة في العرفان، وأن كليهما من العارفين الكاملين؟!
ثم كيف يقول الطوسي نفسه أن هذه القصة نقلها حنين بن إسحاق من اليوناني إلى العربي، وقد عاش قبل ابن سينا بقرن ونصف، ثم يزعم بعد ذلك أنها "تدل على قصور فهم واضعها عن الوصول إلى فهم غرضه منها" -غرض من؟ غرض ابن سينا؟ وكيف، وهي سابقة عليه على الأقل بأكثر من مائة وخمسين سنة؟! لهذا لا نفهم كيف وقع نصير الدين الطوسي في هذه الزلة؟
ثم يسوق نصير الدين الطوسي القصة الثانية، فيقول:
"وأما القصة الثانية -وهي التي وقعت إلي بعد عشرين سنة من إتمام الشرح- فهي منسوبة إلى الشيخ "= ابن سينا"، وكأنها هي التي أشار الشيخ إليها، فإن أبا عبيد الجوزجاني أورد في فهرست تصانيف الشيخ ذكر "قصة سلامان وأبسال": له".
وحاصل القصة: أن "سلامان" و"أبسال" كانا أخوين شقيقين، وكان أبسال أصغرهما سنًا، وقد تربى بين يدي أخيه، ونشأ صبيح الوجه، عاقلًا، متأدبًا، عالمًا، عفيفًا، شجاعًا، وقد عشقته امرأة "سلامان"، وقالت لـ"سلامان": أخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك، فأشار عليه سلامان بذلك، وأبى أبسال عن مخالطة النساء، فقال له سلامان: إن امرأتي لك بمنزلة أم، فدخل عليها، وأكرمته، وأظهرت عليه -بعد حين، في خلوة- عشقها له، فانقبض أبسال من ذلك، ودرت أنه لا يطاوعها.
فقالت لسلامان: زوج أخاك بأختي، فأملكه بها، وقالت لأختها: إني ما زوجتك بأبسال ليكون لك خاصة دوني، بل لكي أساهمك فيه، وقالت لأبسال أن أختي بكر حيية، لا تدخل عليها نهارًا، ولا تكلمها إلا بعد أن تستأنس بك.
وليلة الزفاف، باتت امرأة سلامان في فراش أختها، ودخل أبسال عليها فلم تمتلك نفسها، فبادرت تضم صدرها إلى صدره، فارتاب أبسال، وقال في نفسه: إن الأبكار الخفرات لا يفعلن مثل ذلك.
وقد تعتمت السماء في الوقت بغيم مظلم، فلاح فيه برق، أبصر بضوئه وجهها، فأزعجها "= طردها"، وخرج من عندها، وعزم على مفارقتها.
وقال لسلامان: أني أريد أن أفتح لك البلاد، فإني قادر على ذلك، وأخذ جيشًا وحارب أممًا، وفتح البلاد لأخيه برًا وبحرًا، شرقًا وغربًا، من غير منة عليه. وكان أول ذي قرنين استولى على وجه الأرض.
ولما رجع إلى وطنه وحسب أنها نسيته، عادت إلى المعاشقة، وقصدت معانقته، فأبى وأزعجها "= طردها".
وظهر لهم عدو، فوجه سلمان أبسال إليه في جيوشه، وفرقت المرأة في رؤساء الجيش أموالًا ليرفضوه "= يتخلوا عنه" في المعركة، ففعلوا، وظفر به الأعداء، وتركوه جريحًا وبه دماء، وحسبوه ميتًا، فعطفت عليه مرضعة من حيوانات الوحش، وألقمته حلمة ثديها، واغتذى بذلك، إلى أن انتعش وعوفي.
ونرجع إلى سلامان، وقد أحاط به الأعداء وأذلوه، وهو حزين من فقد أخيه، فأدركه أبسال وأخذ الجيش والعدة، وكر على الأعداء وبددهم، وأسر عظيمهم، وسوى الملك لأخيه.
ثم واطأت (=اتفقت معهما في مؤامرة) المرأة طابخه وطاعمه، وأعطتهما مالًا، فسقياه السم.
وكان صديقًا كبيرًا: نسبًا، وعلمًا، وعملًا.
واغتم من موته أخوه، واعتزل ملكه، وفوض "الأمر" إلى بعض معاهديه، وناجى ربه، فأوصى إليه جلية الحال، فسقى المرأة والطابخ والطاعم -ثلاثتهم- ما سقوا أخاه، ودرجوا (=هلكوا).
فهذا ما اشتملت عليه القصة.
وتأويله: أن "سلامان" مثل النفس الناطقة.
و"أبسال" للعقل النظري المترقي إلى أن حصل عقلًا مستقامًا، وهو درجته في العرفان أن كان يترقى إلى الكمال.
وامرأة "سلامان": القوة البدنية الأمارة بالشهوة والغضب، المتحدة بالنفس، صائرة شخصًا من الناس.
وعشقها لـ"أبسال": ميلها إلى تسخير العقل، كما سخرت سائر القوى، ليكون مؤتمرًا بها في تحصيل مآربها الفانية.
وإباؤه: إنجذاب العقل إلى عالمه.
وأختا التي ملكتها: القوة العملية، المسماة بالعقل العملي، المطيع للعقل النظري، وهو النفس المطمئنة.
وتلبيسها نفسها بدل أختها: تسويل النفس الأمارة مطالبتها الخسيسة، وترويجها على أنها مصالح حقيقية.
والبرق اللامع من الغيم المظلم: هو الخطفة الإلهية التي تسنح في أثناء الاشتغال بالأمور الفانية، وهي جذبة من جذبات الحق.
وإزعاجه للمرأة: إعراض العقل عن الهوى.
وفتحه البلاد لأخيه: إطلاع النفس بالقوة النظرية على الجبروت والملكوت، وترقيها إلى العالم الإلهي، وقدرتها بالقوة العملية على حسن تدبيرها في مصالح بدنها، وفي نظم أمور المنازل والمدن، ولذلك سماه بـ"أول ذي قرنين": فإنه لقب لمن كان يملك الخافقين.
ورفض الجيش له: انقطاع القوى الحسية، والخيالية، والوهمية -عنها عند عروجها إلى الملأ الأعلى، وفتور تلك القوى لعدم التفاته إليها.
وتغذيته بلبن الوحش: إفاضة الكمال إليه عما فوق من المفارقات لهذا العالم.
واختلال حال سلامان لفقده أبسال: اضطراب النفس عند إهمالها تدبيرها، شغلًا بما تحتها.
ورجوعه إلى أخيه: التفات العقل إلى انتظام مصالحه في تدبيره البدن.
والطابخ: هو القوة الغضبية المشتعلة عند طلب الانتقام.
والطاعم: هو القوة الشهوية الجاذبة لما يحتاج إليه البدن.
وتواطؤهم على هلاك "أبسال": إشارة إلى اضمحلال العقل في أرذل العمر، مع استعمال النفس الأمارة إياهما، لازدياد الاحتياج بسبب الضعف والعجز.
وإهلاك "سلامان" إياهم: ترك النفس استعمال القوى البدنية، آخر العمر، وزوال هيجان الغضب والشهوة، وانكسار غاذيتهما.
واعتزاله الملك وتفويضه إلى غيره: انقطاع تدبيره عن البدن، وصيرورة البدن تحت تصرف غيره.
وهذا التأويل مطابق لما ذكره الشيخ "= ابن سينا"، ومما يؤيد هذه القصة أنه ذكر في رسالة "في القضاء والقدر": قصة "سلامان وأبسال"، وذكر فيها حديث لمعان البرق من الغيم المظلم، الذي أظهر لـ"أبسال" وجه امرأة "سلامان"، حتى أعرض عنها.
فهذا ما اتضح لنا من أمر هذه القصة، وما أوردت القصة بعبارة الشيخ، لئلا يطول الكتاب". (ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" مع شرح نصير الدين الطوسي ص799-788. القاهرة سنة 1958)
ونلاحظ على ما أورده نصير الدين الطوسي في شرحه هذا من كلام على "قصة سلامان وأبسال"، ما يلي:
1- أولًا أنه يقول: إنه وجد في فهرست مؤلفات ابن سينا، الذي وضعه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، أنه ذكر من بين مصنفات ابن سينا: "قصة سلامان وأبسال" له -أي لابن سينا، غير أننا لم نجد في فهرست أبي عبيد الجوزجاني لكتب ابن سينا، كما أورده البيهقي (البيهقي: "تتمة صوان الحكمة" ص59-60، دمشق سنة 1946.) "المتوفى سنة 565هـ"، والقفطي (القفطي: أخبار العلماء بأخبار الحكماء" ص نشرة لبرت، سنة 1903.) وابن أبي أصيبعة (ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ص440، بيروت سنة 1965.) أي ذكر "لقصة سلامان وأبسال"، من بين فهرست أبي عبيد الجوزجاني، فهل هذا الفهرست كما أوردته هذه المصادر الثلاثة ناقص؟
2- سنرى - حين الكلام عن "قصة حي بن يقظان" لابن طفيل أن ابن طفيل يجعل سلامان، وأبسال من سكان جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان، ثم يصورهما بعد ذلك تصويرًا بعيدًا عن التصوير الوارد في قصة ابن سينا كما أوردها الطوسي، ولهذا فإن كلام ابن طفيل لا يفيدنا شيئًا فيما يتعلق بحقيقة قصة "سلامان وأبسال"، كما تصورها ابن سينا، ولهذا ليس علينا إلا الاعتماد على ما ذكره الطوسي في شرحه على "الإشارات والتنبيهات"، وأوردناه بنصه.
أحوال العارفين
لتوضيح من هو "العارف" يضع ابن سينا تمييزات مهمة بين طلاب الحق:
فيميز بين العارف والزاهد والعابد:
أ- فالزاهد هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها.
ب- والعابد هو المواظب على فعل العبادات: من القيام والصيام ونحوهما.
جـ- وأما العارف هو المتصرف بفكره إلى قدس الجبروت، مستديمًا لشروق نور الحق في سره.
والعارف "يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئًا على عرفانه، وتعبده له فقط؛ ولأنه مستحق للعبادة؛ ولأنها نسبة شريفة إليه -لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا، فيكون المرغوب فيه أو المرهوب منه هو الداعي، وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس الغاية، بل الواسطة إلى شيء غيره هو الغاية، وهو المطلوب دونه" (ابن سينا، "الإشارات والتنبيهات" ص810-815).
ومعنى هذا الكلام أن العارف تتعلق إرادته بالحق لذات الحق، ولا يؤثر شيئًا على عرفانه، إلا الحق، إذ الحق مؤثر على عرفان العارف، وذلك لأن غير العارف يؤثر شيئًا غير الحق، وهو نيل الثواب والنجاة من العقاب، أما العارف لا يتعلق إلا بالحق وحده دون أي هدف آخر.
أما من يجعل الحق واسطة في تحصيل شيء، فإنه لم يطعم لذة البهجة به، وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا كمثل الصبيان بالقياس إلى المخنثين، وزهد غير العارف زهد على كره، فعلى الرغم من أنه في صورة الزاهد إلا أنه أحرص الخلق على اللذات الحسية، فإن التارك شيئًا ليستأجل أضعافه أقرب إلى الطمع منه إلى القناعة"، كما قال الطوسي في شرحه (الكتاب نفسه ص817، هامش)، "وإنما يعبد الله تعالى ويطيعه، ليخوله في الآخرة شبعه منها، فيبعث إلى: مطعم شهي، وشرب هني، ومنكح بهي"، أما العارف، وهو "المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار، فقد عرف اللذة الحق، وولى وجهه سمتها"، كما قال ابن سينا (الكتاب نفسه ص818).
وأولى درجات حركات العارفين: الإرادة، وهي "ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني، أو الساكن النفسي إلى العقد الإيماني -من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سيرة إلى القدس، ينال من روح الاتصال، وما دامت درجته هذه، فهو مريد".
والمريد يحتاج إلى الرياضة، والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض:
الأول: تنحية ما دون الحق عن مستن الإيثار (= طريقة التفضيل والاختيار).
والثاني: تطويع النفس الأمارة -للنفس المطمئنة، لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي.
والثالث: تلطيف السر للتنبه.
والأول: يعين عليه الزهد الحقيقي.
والثاني: تعين عليه عدة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن به من الكلام موقع القبول من الأوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي بعبارة بليغة، ونغمة رخيمة وسمت رشيد.
وأما الغرض الثالث فيعين عليه، الفكر اللطيف، والعشق العفيف الذي يأمر فيه شمائل المعشوف، وليس سلطان الشهوة"، (الكتاب نفسه ص820-827).
فرياضة النفس هي نهيها عن هواها، وصرفها إلى طاعة مولاها، وذلك بالالتفات إلى الحق الأول وحده لتنقطع إليه، وتنصرف عما عداه، فيصير ذلك ملكة لها: لأن الغرض النهائي من الرياضة هو نيل الكمال الحقيقي، بيد أن ذلك يتوقف على حصول الاستعداد لذلك، وزوال الموانع داخلية كانت أو خارجية. فالرياضة تتجه إلى: إزالة الموانع الخارجية، وتطويع النفس الأمارة بالسوء لسلطان النفس المطمئنة، حتى يتحول التخيل عن الجانب السفلي إلى الجانب القدسي، ثم تلطيف السر للتنبيه بمعنى تهيئة باطن النفس، كي تتمثل فيه الصور العقلية بسرعة، وينفعل عن الأمور الإلهية المبهجة للشوق، والوجد بسهولة، ومما يعين المريد على ذلك: العبادة المقرونة بالفكر، والألحان التي ترقق النفس، فتصرفها عن استعمال القوى الحيوانية، والكلام الواعظ أي الذي يفيد النفس التصديق بما ينبغي أن يفعل، خصوصًا إذا اقترن بكون القائل ذكيًا، بليغ العبارة، رخيم الصوت، ويعين على تلطيف السر للتنبيه: الفكر اللطيف، والعشق العفيف الذي يجعل النفس لينة رقيقة ذات وجد، معرضة عما سوى المعشوق، لا سلطان للشهوة عليها.
فإذا ما ترقى المريد في رياضته حتى يبلغ حدًا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق عليه، لذيذة كأنها بروق تومض إليه، ثم تخمد عنه -وهو المسمى عندهم أوقاتا.
وكل وقت يكتنفه وجدان: وجد إليه، ووجد عليه؛ لأن الأول حزن في استبطاء الوحيد، والآخر أسف على فواته.
"ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي، إذا أمعن في الارتياض.
ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح منه شيئًا، عاج منه إلى جناب القدس، يتذكر بين أمره أمرًا، فغشته غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء.
ولعله إلى هذا الحد تستعلى عليه غواشيه، ويزول هو عن سكينته، فيتنبه جليسه لاستيفازه (= لاستنهاضه) عن قراره.
فإذا طالت عليه الرياضة، لم تستفزه غائية، وهدى للتلبيس فيه (ابن سينا: "الإشارات والتنبيهات" ص828-829)، وذلك أنه إذا باغته الأمر العظيم، "فقد تستفزه لكون الناس غافلة عن هجومه غير متأهبة له، فينهزم دفعة، أما إذا توالى، واستمر ألف الإنسان به، زال عنه الاستفزاز؛ لأن النفس قد تتأهب لتلقيه، إذ هي متوقعة لعودة، والعارف ينكر من نفسه الاستفزاز المذكور، لاستنكافه عن الترائي بالكمال، فلذلك يؤثر كتمان ما يرد عليه، ويستعمل التلبيس فيه"، كما شرح الطوسي (الكتاب نفسه هامش ص830).
لكن السالك تبلغ به الرياضة بعد ذلك "مبلغًا ينقلب له وقته سكينة: فيصير المخطوف مألوفًا، والوميض شهابًا بينًا، وتحصل له معارف مستقرة، كأنها صحبة مستمرة، ويستمتع فيها ببهجته، فإذا انقلب عنها، انقلب خسران آسفًا، ولعله إلى هذا الحد يظهر عليه ما به، فإذا تغلغل في هذه المعارفة، قل ظهوره عليه، فكان هو -وهو غائب- حاضرًا، وهو ظاعن مقيمًا، ولعله إلى هذا الحد إنما يتيسر له هذه المعارفة أحيانًا، ثم يتدرج إلى أن تكون له متى شاء، ثم إنه يتقدم هذه الرتبة، فلا يتوقف أمره إلى مشيئته، بل كلما لاحظ شيئًا لاحظ غيره، وإن لم تكن ملاحظته للاعتبار، فيسنح له تعريج عن عالم الزور إلى عالم الحق، يستقر به، ويحتف حوله الغافلون".
وإذا تمت رياضته، واستغنى عنها لبلوغه مطلوبه وهو الاتصال الدائم بالحق، "صار سره مرآة مجلوة، محاذيًا بها شطر الحق، ودرت عليه اللذات العلى، وفرح بنفسه لما بهاتين أثر الحق، وكان له نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، وكان بعد مترددًا"، بسبب اتجاه نظره مرة إلى الحق، ومرة إلى ذاته المبتهجة بالحق.
"ثم إنه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط" -أي لا يرى ما سوى الله، وهنا تتم الغيبة عن النفس، "وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي بزينتها، وهناك يحق الوصول"- أي أن ملاحظته لنفسه بالمجاز، لا بالحقيقة؛ لأنه متوجه بكليته إلى الحق.
ويلخص الطوسي هذه الدرجات كلها في تسع:
الثلاثة الأولى منها تشتمل على مراتب بداية السلوك، وهي: أول الاتصال، ويسمى بـ"الوقت"، التمكن، بحيث يحصل في غير حال الارتياض، الاستقرار الذي يزول معه الاستقرار.
والثلاثة التي بعدها تشتمل على مراتب وسطى هي: ازدياد الاتصال، وقد عبر عنه بصورة الوقت ثانية، وتمكن هذه الحال حتى يلتبس أثر الحصول بأثر عدم الحصول، واستقرارها بحيث يحصل متى شاء، لا في وقت دون وقت.
والثلاثة الأخيرة تشتمل على مراتب المنتهى، وهي: حصول الاتصال مع عدم المشيئة، واستقراره مع عدم الرياضة، وثبوته مع عدم ملاحظة النفس.
ثم إن ابن سينا بعد أن فرغ من ذكر درجات السلوك، وانتهى إلى درجات الوصول، أراد أن ينبه على نقصان جميع الدرجات قبل درجة الوصول.
وينتهي إلى تقرير حقيقة العرفان، فيقول: إن العرفان، مبتدئ من تفريق، ونقض، وترك ورفض، أما التفريق فمن ذات العارف، وما عسى أن يشغله عن الحق، أما النقض فاطراح الشواغل، أما الترك فالتخلص من الشواغل ابتغاء توخي الكمال لأجل ذاته، وأما الرفض فهو أن يرفض ذاته بالكلية.
وتلك درجات التزكية.
ويتلوها بدرجات التحلية، "وبيان درجاتها بالإجمال -كما يشرح الطوسي- أن العارف إذا انقطع عن نفسه، واتصل بالحق، رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، وكل علم مستغرقًا في علمه الذي لا يعز عنه شيء من الموجودات، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأبى عليها شيء من الممكنات: بل كل وجود، وكل كمال وجود فهو صادر عنه، فائض من لدنه -صار الحق حينئذ بصره الذي به يبصر، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، ووجوده الذي به يوجد، فصار العارف حينئذ متخلقًا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة، وهذا معنى قوله: "العرفان ممعن في جميع صفات": هو جمع صفات الحق للذات المريدة بالصدق، ثم إنه بعد ذلك يعاين كون هذه الصفات، وما يجري مجراها: متكثرة بالقياس إلى الكثرة، متحدة بالقياس إلى مبدئها الواحد، فإن علمه الذاتي هو بعينه قدرته الذاتية، وهي بعينها إرادته، وكذلك سائرها، إذ لا وجود ذاتيًا لغيره: فلا صفات مغايرة للذات، ولا ذات موضوعة بالصفات، بل الكل شيء واحد، كما قال عز من قائل: "إنما الله إله واحد"، فهو لا شيء غيره، وهذا معنى قوله: "فتنة إلى الواحد"، وهناك لا يبقى واصف ولا موصوف، ولا سالك ولا مسلوك، ولا عارف ولا معروف، وهو مقام الوقوف" (من شرح الطوسي على "الإشارات والتنبيه" ص839-841 هامش).
ثم يبلغ ابن سينا أوج التمجيد للعارف بعبارات تحلق في سماء الوجد الصوفي، مما لا نكاد نجد له مثيلًا عند أكابر الصوفية الواصلين، مع أن سلوك ابن سينا في الحياة على الضد تمامًا من سلوك الصوفية السالكين، وذلك في الفصول من 21 إلى 27 من هذا النمط التاسع من "الإشارات والتنبيهات".
يقول ابن سينا:
"العارف هش بش، بسام، يبجل الصغير، من تواضعه، كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل، مثلما ينبسط من النبيه.
وكيف لا يهش، وهو فرحان بالحق، وبكل شيء، فإنه يرى منه الحق؟!
وكيف لا يسوي، والجمع عنده سواسية؟! ...
العارف له أحوال لا يحتمل فيها الهمس من الحفيف، فضلًا عن سائر الشواغل الخاجلة، وهي في أوقات انزعاجه بسره إلى الحق، إذا تاح حجاب من نفسه، أو من حركة سره قبل الوصول، فأما عند الوصول: فأما شغل له بالحق عن كل شيء، وأما سعة للجانبين بسعة القوة، وكذلك عند الانصراف في لباس الكرامة، فهو أهش خلق الله ببهجته.
العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، كما تعتريه الرحمة، فإنه مستبصر بسر الله في القدر.
وإذا أمر بالمعروف، أمر برفق ناصح، لا بعنف مغير، وإذا جم "= عظم" المعروف، فربما غار عليه من غير أهله.
العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟
وجواد، وكيف لا، وهو بمعزل عن محبة الباطل.
وصفاح للذنوب، وكيف لا، ونفسه أكبر من أن تجرحها ذات بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا، وذكره مشغول بالحق!
العارفون قد يختلفون في الهمم، بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر، على حكم ما يختلف عندهم من دواعي العبر.
وربما استوى عند العارف القشف، والترف، بل ربما آثر القشف، وكذلك ربما استوى عنده التفل والعطر، بل ربما آثر التفل، وذلك عندما يكون الهاجس بباله، استحقار ما خلا الحق.
وربما أصغى إلى الزينة، وأحب من كل جنس عقيلته، وكره الخداج والسقط، وذلك عند ما يعتبر عادته من صحبة الأحوال الظاهرة.
(قشف الرجل: إذا لوحته الشمس أو الفقر، فتغير وأصابه قشف، والمتقشف: الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع. التفل ضد العطر. عقيلة كل شيء: الكريه. الخداج: النقصان. السقط: رديء المتاع.)
فهو يرتاد البهاء في كل شيء؛ لأنه مزية حظوة من العناية الأولى، وأقرب إلى أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه.
وقد يختلف هذا في عارفين، وقد يختلف في عارف بحسب وقتين.
والعارف ربما ذهل فيما يصار به إليه، فغفل عن كل شيء، فهو في حكم من لا يكلف وكيف، والتكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله، ولمن اجترح "= كسب" بخطيئته إن لم يفعل التكليف؟!
وذلك؛ لأن "العارف ربما ذهل -كما يشرح الطوسي- في حالة اتصاله بعالم القدس عن هذا العالم، فغفل عن كل ما في هذا العالم، وصدر عنه إخلال بالتكاليف الشرعية، فهو لا يصير بذلك متأثمًا؛ لأنه في حكم من لا يكلف؛ لأن التكليف لا يتعلق إلا بمن يعقل التكليف، في وقت تعقله ذلك، أو بمن يثأثم بترك التكاليف، إن لم يكن يعقل التكليف، كالنائمين، والغافلين، والصبيان الذين هم في حكم المكلفين".
ويختم ابن سينا هذه الصفحات الملتهبة بشواظ من جنبات القدس بقوله:
"جل جناب الحق عن أن يكون شريعة (الشريعة: مكان ورود الذين يطلبون الشرب والسقاية) لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد" (ابن سينا بشرح الطوسي: "الإشارات والتنبيهات" ص 843-851)، إذ ما أقل عدد الواصلين إلى الحق!
الخلاصة
والخلاصة أن مذهب ابن سينا يعد أوسع نتاج في الفكر الفلسفي في الإسلام. وقد حاول فيه المزج بين فلسفة أرسطو -وهو قد تمثلها خير تمثيل- وقسمات متناثرة من فلسفة أفلاطون، لكن الاتجاه السائد في مذهبه هو الفلسفة المشائية، ولئن كان أقل التزامًا بنصوص أرسطو من ابن رشد، وبالتالي أقل فهمًا لها منه، فإن ذلك كان أيضًا ميزة من جهة أخرى، من حيث أنه أفسح له المجال ليستقل أحيانًا بفكره الخاص، صحيح أن تجديداته أو محاولات الأصالة لديه، قد أخفقت بوجه عام، ولم تكن "فلسفته الشرقية"، غير أمل لم يتمكن من تحقيقه بالفعل، لكنه استطاع على كل حال -في موسوعته الفسلفية الكبرى "الشفاء"، أن يقدم أوفى دائرة معارف فلسفية، عرفتها العصور الوسطى.
أما تأثيره سواء في العالم الإسلامي، والعالم اللاتيني الأوروبي في العصر الوسيط، فقد كان هائلًا؛ لأن عرضه للفلسفة الأرسطية عرضًا ملخصًا واضحًا مثيرًا للمشاكل، كان خير مصدر لدراسة الفلسفة وعلوم الأوائل بعامة.
ومن هنا سنجد في العالم الإسلامي سلسلة، تمتد من القرن الخامس إلى القرن الحادي عشر الهجري، تتأثر بفلسفته أو تستلهمها، أو توسع جوانب بدأها. ويكفي في ذلك أن نذكر أسماء السهروردي المقتول "المتوفى سنة 587هـ/ 1191م"، وفخر الدين الرازي "المتوفى سنة 606هـ/ 1209م"، ونصير الدين الطوسي "المتوفى سنة 672هـ/ 1274م"، وملأ صدرا الشيرازي "المتوفى سنة 1050هـ/ 1640م".