فلسفة ابن باجة
توفر ابن باجة على علمين من علوم الفلسفة هما: علم النفس، والعلم الطبيعي. و وأما العلم الالهي - كما لاحظ صاحبه الوزير ابن الحسن علي بن عبد العزيز بن الامام - فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصا تاما، الا نزعات تتقرأ من قوله في «رسالة الوداع» و «اتصال الانسان بالعقل الفعال»، واشارات مبددة في أثناء اقاويله، لكنها في غاية القوة والدلالة على براعته في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها وكل ما قبله من المعارف فهو من أجله وتوطئة له». (ابن أبي اصبيعة ج2 ص62)
ويمكن أن نطلق على فلسفته اسم: علم الانسان، لأن ما تناوله فيها يدور معظمه حول موضوعات هذا العلم
الإنسان
كل حي يشارك الجمادات في أمور، وكل انسان يشارك الحيوان غير الناطق في أمور. «فالحي والجماد يشتركان فيما يوجد للاسطقس الذي ركبا منه، مثل السقوط الى أسفل طوعا، والصعود الى أعلى قهراً. ويشارك الانسان الحيوان غير الناطق في النفس الغاذية والمولدة والنامية، كما يشاركه في الاحساس والتخيل والتذكر وما يوجد عنها مما هو للنفس.
لكن الانسان يمتاز عن الحيوان غير الناطق وعن الجماد والنبات بالقوة الفكرية. وهو لا يكون انسانا الا بها. والانسان بما هو حيوان تلحقه الأفعال التي لا اختيار له فيها أصلا، كالاحساس. لكنه بما هو انسان له افعال لا توجد لغيره من الموجودات. و«الأفعال الانسانية الخاصة به هي ما يكون باختياره. فكل ما يفعله الانسان باختيار فهو فعل انساني، وكل فعل انساني فهو فعل باختيار. واعني بالاختيار: الارادة الكائنة عن روية». (ابن باجة "تدبير المتوحد" ضمن مجموعة «رسائل ابن باجة الإلهية» ص 46، بيروت سنة 1968.)
أما الانفعالات العقلية- «ان جاز أن يكون في العقل انفعال» ( الموضع نفسه ) - فلا يختص بها الانسان، بل يشاركه فيها الحيوان: مثل الالقاء في الروع، والهرب من مفزع، وسائر الانفعالات. و«الفعل البهيمي هو الذي يتقدمه في النفس الانفعال النفساني فقط، مثل التشهي أو الغضب او الخوف، وما شاكله، والانساني هو ما يتقدمه أمر يوجبه، عند فاعله، الفكر، سواء تقدم الفكر انفعال نفساني أو أعقب الفكر ذلك... فالبهيمي (هو) المحرك فيه ما يحدث في انفس البهيمية من الانفعال، والانساني هو المحرك فيه ما يوجد في النفس من رأي او اعتقاد.» ومعظم أفعال الانسان مركب من بهيمي وانساني، وقلما يوجد البهيمي خلوا من الانساني.
«فأما من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت الى النفس البهيمية ولا ما يحدث فيها، فذلك الانسان أخلق به أن يكون فعله ذلك الهياً من ان يكون انسانياً. فلذلك يجب ان يكون هذا الانسان فاضلا بالفضائل الشكلية (هكذا في النسخ والمطبوعات، ولكن معناها غير واضح، فهل صوابها "الكلية"؟)، حتى يكون متى قضت النفس الناطقة بشيء لم تخالف النفس البهيمية، بل قضت بذلك الأمر، من جهة ان الرأي قضي به..، ولذلك كان الانسان الالهي - ضرورة - فاضلا بالفضائل الشكلية. (ابن باجة "تدبير المتوحد" ضمن مجموعة «رسائل ابن باجة الإلهية» ص 47-48، بيروت سنة 1968.)
والانسان قد توجد له حالة «بها يشبه النباتبات، وذلك في الزمان الذي يحتوي عليه ( فيه ) الرحم: فانه يتخلق أولاً. فاذا كمل تخلقه، اغتذى ونما. وهذه أفعال توجد للنبات من أول وجوده، ولا يوجد له غيرها أول وجوده، وذلك عند النشوء. والحار الغريزي قد يفعل هذه الأفعال. واذا خرج الجنين من بطن أمه واستعمل حسه، أشبه عند ذلك الحيوان غير الناطق وتحرك في المكان واشتهى. وانما يكون ذلك لحصول الصورة الروحانية المرتسمة في الحس المشترك، ثم في الخيال. والصورة المتخيلة هي المحرك الأول فيه، فيكون عند ذلك في الانسان ثلاث محركات كأنها في مرتبة واحدة: القوة الغاذية النزوعية، والقوة المنمية الحسية، والقوة الخيالية. وكل هذه القوى هي قوى فاعلة. وهي موجودة بالفعل، لا عدم فيها: وهذا هو الفرق بين القوى الفاعلة والمنفعلة: فان في المنفعلة: العدم، لأن الصورة الروحانية المحسوسة هي اول مراتب الروحانية - على ما يتبين في كتاب «المتوحد» - لأنها ادراك، وتلك الصور الأخرى يدرك بها الجسم ولا يدركها. ولذلك لا تنسب الى النبات معرفة اصلا، وتنسب إلى الحيوان، فان كل حيوان هو حساس... فالانسان اذا كان في الرحم وأشبه النبات، فانما يقال له أنه حيوان بالقوة، وذلك أن روحه الغريزي يقبل الصورة الروحانية، فهو حيوان بذلك القبول. فأما الروح الغريزي في النبات، فلا يمكن فيه ذلك.» (ابن باجة: «اتصال العقل بالانسان» في «رسائل ابن باجة الالهية» ص 159)
والانسان له أحوال غختلفة بحسب مراحل العمر: ففي سن اليفاع يكون حيوانا فقط، فإنه انما ينفعل عن النفس البهيمية فقط. لكن من تنشأ لديه الروية فانه عند ذلك يكون انسانا بالاطلاق ومكتفيا بنفسه، ليس به ضرورة الى من يكفله.
غايات الانسان
وغايات الانسان ثلاث:
أ - اما بصورته الجسمانية،
ب - واما بصورته الروحانية الخاصة،
ج - واما بصورته الروحانية العامة.
فأما الأولى فهي للانسان من حيث هو جسم. وأما الثانية فانها قد توجد أيضاً في كثير من الحيوان، «مثل الحياء للأسد، والعجب للطاووس، والملق للكلب، والكرم للديك، والمكر للثعلب. الا ان هذه اذا كانت للبهائم، كانت طبيعية للنوع، ولم يختص بها شخص من ذلك النوع» (ابن باجة: «تدبير المترحد» في «رسائل... » ص ٧٥) بل ان أدرك شيء من ذلك لواحد منها، قرن بالنوع. والانسان وحده هو الذي تكون له هذه الصفات بأشخاصه، لا بنوعه.
والكمالات الفكرية أحوال خاصة بالصور الروحانية اانسانية، مثل صواب الرأي وجودة المشورة وكثير من القوى التي اختص بها الانسان: كالخطابة وقيادة الجيوش والطب وتدبير المنزل.
ومن الناس «من يراعي صورته الجسمانية فقط وهو الخسيس. ومنهم من يعاني صورته الروحانية فقط، وهو الرفيع الشريف. وكما أن اخس (مراتب) الجسمافي من لا يحفل بصورته الروحانية عند صورته الجسمانية ولا يلتفت إليها، كذلك أفضل مراتب الشريف من لا يحفل بصورته الجسمانية ولا يلتفت إليها...
ومن شرف الأشراف الكبار الأنفس صنف دون هذا، وهو الأكثر، وهو من لا يجفل بصورته الجسمانية عند الروحانية غير أنه لا يتلفها»(ابن باجة: «تدبير المترحد» في «رسائل... » ص 77-78) . لكن من يؤثر جسمانيته على شيء من روحانيته فلا يمكن أن يدرك الغاية القصوى. والفيلسوف هو بالجسمانية: انسان موجود، وبالروحانية يكون أشرف، وبالفعلية يكون الهيا فاضلا. وذو الحكمة يجب بالضرورة ان يصبح فاضلاً الهياً، وهو ياخذ من كل فعل أفضله، ويشارك كل طبقة في أفضل أحوالهم، وينفرد عنهم بأفضل الأفعال وأكرمها.
الصور الروحانية
وكثيراً ما يتحدث ابن باجة في رسائله عن « الصور الروحانية ».
وعنده أن الروح تقال على ما تقال عليه النفس. «فالنفس والروح اثنان بالقول، واحد بالموضوع. والروحافي منسوب الى الروح... ويدلون به على الجواهر الساكنة امحركة لسواها، وهذه - ضرورة - ليست أجساماً، بل هي صور لأجسام، اذ كل جسم فهو متحرك». (ابن باجة: «تدبير المترحد» في «رسائل... » ص 49)
ويقسم ابن باجة الصور الروحانية الى أربعة أصناف:
- صور الاجسام المستديرة: وهي الأجرام السماوية التي تتحرك حركة دورية،
- العقل الفعال والعقل المستفاد،
- المعقولات الهيولانية،
- المعاني الموجودة في قوى النفس، وهي الموجودة في الحس المشترك، وفي قوة التخيل، وفي قوة الذكر.
والصنف الأول لا تداخله هيولى، والصنف الثالث له نسبة الى الهيولى، اذ وجودها في الهيولى، والصنف الثاني هو من حيث الأصل غيرهيولافي، وانما نسبته الى الهيولى هي أنه متمم للمعقولات الهيولانية - وهذا هو العقل المستفاد، او فاعل لها: وهذا هو العقل الفعال. أما الصنف الرابع فانه وسط بين المعقولات الهيولانية، والصور الروحانية.
والصور الروحانية اما عامة، وهي التي لها نسبة الى الانسان الذي يعقلها، - واما خاصة، ولها نسبتان: احداهما خاصة وهي نسبتها الى المحسوس، والأخرى عامة وهي نسبتها الى الحاس المدرك لها. مثال ذلك صورة جبل أحد عند من أحسه، اذا كان غير مثاهد له، فتلك صورته الروحانية الخاصة، لأن نسبتها الى الجبل خاصة. ولا فرق عندنا في قولنا: هذا جبل أحد ونحن نشير اليه في مكانه ويدركه البصر، أونشيراليه وهوموجود في الحس المشترك، أي حين نتخيله دون أن نراه.
فللصور ثلاث مراتب في الوجود.
- اولها الروحانية العامة، وهي الصورة العقلية، وهي النوع،
- والثانية الصورة الروحانية الخاصة،
- والثالثة الصورة الجسمانية
والروحانية الخاصة لها ثلاث مراتب:
- ١أولها: معناها الموجود في القوة الذاكرة،
- والثانية: الرسم الموجود في القوة المتخيلة،
- والثالثة: الصنم (= الرسم، المثال) الحاصل في الحس المشترك.
والصورة اما خاصة، واما عامة. أما العامة فهي المعقولات الكلية، والخاصة منها روحانية، ومنها جسمانية.
ولكل انسان أجناس من القوى: أولها القوة الفكرية، والثانية القوى الروحانية الثلاث، والثالثة القوة الحساسة، والرابعة القوة المولدة، والخامسة القوة الغاذية، وما يعد معها، والسادسة القوة الاسطقسية. والخامسة والسادسة لا نسبة لهما إلى الحيوان أصلا، ولهذا فان البعض يسمون الخامسة: طبيعة. وأما أفعال القوة السادسة فهى بالاضطرار صرفاً، ولا شركة بينها وبين أفعال الاختيار، واما أفعال القوة الخامسة فليست بالاختيار أصلا، ولابالاضطرارصرناً، اذ تختلف عن الاضطرارية بكون المحرك في الجسم، وانما يحتاج الى المتحرك وهوالمادة، التي هي الغذاء. - وأما الرابعة فهي أقرب الى أفعال القوة الخامسة، غيرأنها أقرب الى الاضطرار وهو اللمس. وأما القوة الثانية فلها أفعال وانفعال. فأما الانفعالات الحاصلة عنها فمجراها كمجرى الحس. وأما الأفعال الكائنة عنها فهي اختيارية، اذا كانت انسانية، وأما اذا كانت بهيمية، فهي باضطرار، وأما القوة الأولى وهي القوة الفكرية، فان التصديق والتصور فيها باضطرار، ولو كانا باختيار صدقنا بما يسؤونا.
والصور الروحانية منها ما لها حال، ومنها ما لا حال له. اماالتي لاحال لهافهي التي تحصل مجردة اوتكون من الأنواع الموجودة كثيرا وعلى المجرى المعتاد.
وللصور الروحانية مراتب هي بها أكثر روحانية أو أقل روحانية. والصور التي في الحس المشترك هي أقل المراتب روحانية وهي أقريها الى الجسمانية،. ولذلك يعبر عنها ب «الصنم »، فيقال ان الحس المشترك فيه صنم المحسوس. ويتلوها الصورة التي في الخيالية، وهي أكثر روحانية وأقل جسمانية، ولها ينسب وجود الفضائل النفسانية. ويتلوها التي في القوة الذاكرة، وهي اقصى مراتب الصور الروحانية الخاصة.
القوة النزوعية
محرك النفس هو الانفعال الحاصل في الجزء النزوعي. وذلك يكون بالخيال، وبما يسميه ابن باجه بـ «الاجماع» وهو يساوي ما نسميه الآن العزم والتصميم - من أجمع أمره أي صمم عليه. « فالمحرك الأول الذي فينا مؤلف من خيال ونزوع. والنزوعي يعبر عنه بالنفس. ولذلك أقول: « نازعتني نفسي »... والخيال هو المحرك.» (ابن باجة «رسالة الوداع» في «رسائل... » ص ١٢٥، بيروت، سنة ١٩٦٨) والمتحرك هو الجزء النزوعي.
ويقول في موضع اخر ( الكتاب نفسه ص ١٢٦ )، « ان المحرك الأول مؤلف من أمرين: أحدهما هو المحرك، وهو الرأي أو الخيال، والآخر الذي به يحرك وهو النزوع... لكن نسبة الرأي الى النزوع نسبة المحرك إلى الآلة لتي بها يحرك. » أي أن الرأي هو المحرك، والنزوع هو الآلة التي يتم بها تحريك النفس بواسطة الرأي.
والمقصود بالرأي هنا الرأي الصواب.
اللذات
واللذات أنواع: فأولها لذات الشهوات البدنية، والثانية اللذات التي تنال عن الفضائل الشكلية (أو: الكلية).
واللذة تكون متصلة على ثلاثة أنحاء: (١) اذا كانت واحدة بالعدد، ( ٢ ) اذا كان موضرعها موجوداً باستمرار، (٣ ) اذا كان الفاعل لها موجوداً باستمرار.
ويقسم ان باجة اللذات تقسيماً ثنائياً بعبارة اخرى الى: لذات طبيعية، وهي لذة الملموسات كالالتذاذ بالحار والبارد والمحيطين بنا، وبما يرد اجسامنا كالمأكولات والمشروبات، وكالالتذاذ بنوع الأكل والشرب والنكاح، - ولذات عقلية، مثل الالتذاذ بالعلوم، وبالتخيل، وهذه تختلف عن الأولى بان الأولى تتقدم اصنافها أضدادها، فأما الثانية فلي ذلك فيها، وقولي: تتقدم أصنافها أضدادها مثل أن الجوع يتقدم لذة الأكل، والعطش يتقدم لذة الشرب، فأما العلوم فلا يمكن ذلك فيها، لأنها يقين، فزوالها انما يكون بزوال حال الموضرع كالنسيان، وتعري الموضوععنها، والا فلا يمكن ذلك فيها، لأنها كليات فليست في زمان، ولأن العلم بها يقين، فلا يمكن أن يستحيل بعناد. وانما يعدم بزوال الموضوع، وهو الانسان، او بتعريه عنها وهو النسيان... ولكن تبين أن العلم الأقصى - الذي هو تصور العقل، وهو وجود العقل المستفاد لا يكن فيه النسيان، اللهم الآ ان يكون ذلك خارجاً عن الطبع». (ابن باجة: «رسالة الرداع» ضمن «رسائل ابن باجه الإلهية» ص١٣٠. بيروت)
منازل الناس من حيث المعرفة الفعلية
ويميز ابن باجه ثلاثة اصناف من الناس من حيث المعرفة العقلية، هي:
أولا: «المرتبة الجمهورية» على حد تعبيره «وهى المرتبة الطبيعية. وهؤلاء انما لهم المعقول مرتبطاً بالصور الهيولانية، ولا يعلمونه الا بها وعنها ومنها ولها. ويدخل في هذه جميع الصنائع العملية.
وثانياً: المعرفة النظرية، وهى ذروة الطبيعة، الا ان الجمهور ينظرون الى الموضوعات اولا، والى المعقول ثانياً ولأجل الموضرعات. والنظار الطبيعيون ينظرون الى المعقول اولا، والى الموضوعات ثانيا... فهذه المرتبة النظرية يرى صاحبها المعقول ولكن بواسطة، كما تظهر الشمس في الماء: فإن المرئى في الماء هو خيالها، لا هي بنفها. وا لجمهور يرون خيال خياله، مثل أن تلقي الشمس خيالها على ماء، وينعكس ذلك الى مرآة وترى في المراة...
وثالثاً: مرتبة السعداء الذين يرون الشي، بنفسه،»(ابن باجة: «رسالة اتصال العقل بالانسان» ضمن «رسائل ...» ص ١٦٧.)
ثم يسوق ابن باجه أسطورة الكهف المشهورة الواردة في كتاب «السياسة» لأفلاطون (م٧ ص ١٧ ه ب - ١٩ ه ج) فيقول:
«فحال الجمهور من المعقولات تشبه احوال المبصرين في مغارة لا تطلع عليهم الشمس فيروغها، بل يرون الألوان كلها في الظل. فمن كان في فضاء المغارة رأى في حال شبيهة بالظلمة، ومن كان عند مدخل المغارة رأى الألوان في الظل. وجميع الجمهور فإنما يرون الموجودات في حال شبيهة بحال الظل،ولما يبصروا قطذلكالضوء. فلذلككما أنه لا وجود للضوء مجرداً عن الألوان عند اهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به.
وأما النظريون فينزلون منزلة من خرج من المغارة لى لبراح فلمح الضوء مجرداً عن الالوان، وراى جميع لألوان على كنهها.
وأما السعداء فليس لهم في الابصار شبيه، اذ يصيرون هم الشيء. فلو استحال البصر فصار ضوءا، لكان عند ذلك ينزل منزلة السعداء
وأما الالغاز (الالغاز: ضرب المثل، التصوير بأسطورة. واللغز = الأسطورة. mythe.) عن حال السعداء بحال من نظر الى الشمس بعينها، فذلك الالغاز لا يناسب الالغاز عن حال الجمهور، بل الالغاز عن حال الجمهور اشد مناسبة ومقاربة من هذه.
وأما افلاطون فلما كان يضع الصور، كان الغازه عن حال السعداء بحال الناظر الى الشمس مناسباً لالغازه عن حال الجمهور، فكان لغزه متناسب الأقسام. » (ابن باجة: «رسالة اتصال العقل بالانسان» ضمن «رسائل ...» ص 168-169.)
ثم يشير ابن باجة الى نظرية الصور ( = المثل ) الأفلاطونية، فقال ان الصور «معان مجردة عن المادة، يلحقها الذهن كما يلحق الح صور المحوسات، حتى يكون الذهن كالقوة الحساسة للصور، أو كالقوة الناطقة للمتخيلات. فيلزم عن ذلك ان تكون المعاني المعقولة من تلك الصور ابسط من تلك الصور، فيكون هنا ثلاثة المعاني المحسوسة، والصور، ومعاني الصور.» ويقصد بامعاني المحسوسة: المدركات الحسية، أو الامتثالات الناشئة عن معطيات الحس. ويقصد بالصور: الكليات في الاذهان. وربما يقصد بمعاني الصور: الصوري عالم المثل، وان كان كلامه ها هنا غير واضح.
ويرد على أرسطو في نقده لنظرية الصور (المثل) الأفلاطونية فيقول ان نقد أرسطو الوارد في كتاب «ما بعد الطبيعة،» (راجع ارسطو. «بعد الطبيعة» المقالة الثالثة عشرة، الفصول ٧-٤؛ ص ١.٧٨ب 1083أ 38) يصح لو كان المقصود من القول بالصور أنها تفعل فعل الكاثنات التي هي صور لها بأن نقول ان صورة النار تفعل فعل النار فتحرق، اذ لوكان الأمر كذلك للزمت المحالات التي ذكرها أرسطو.
وانما المقصود بالصور انها معان مجردة عن المادة، ولا تفعل فعل الأشياء التيهي في مادة، والصور بهذا المعنى حقيقية، « واحدة، باقية، غير بالية ولا فاسدة » ( الكتاب نفسه ص ١٦٩ ).
ولا يتوسع ابن باجة في الكلام عن السعداء، أهل المرتبة الثالثة، الذين يرون الأشياء ذاتها كما لو كانوا يرون الشمس نفسها، بل يحيل الى رجاء أن يثبت ذلك « مفسراً مبيناً » ( الكتاب نفسه ص١٧٢س٦) لكن لم يصلنا شيء في هذا الباب، إن كان قد أنجز وعده هذا.
المدينة الكاملة
وهنا نصل الى الجانب السياسي في فلسفة ابن باجة، فنراه يستعمل عبارة « المدينة الكاملة » بدلا من المدينة الفاضلة» (وإن كان يستعملها أحياناً أيضاً أو يستعمل الاثنين معاً، راجع « تدبير المتوحد ») التي استعملها الفارابي، لكنه يظل مع ذلك في إطار آراء الفارابي، التي ترجع بدورها الى آراء افلاطون، ويتحدث عن نظم الحكم الأربعة، او السير الأربع على حد تعبيره.
ويشير ابن باجة في هذا الى أفلاطون صراحة من حيث دراسة تدبير المدينة او سياسة الدولة، فيقول: « فأما تدبير المدن فقد بين امره فلاطين في « السياسة المدنية » وبين ما معنى الصواب منه، ومن اين يلحقه الخطأ. وتكلف القول فيما قد قيل فيه. » (ابن باجة: « تدبير المتوحد » في « رسائل ... » ص 39)
والمدينة الفاضلة «أفعالها كلها صواب» فان هذه خاصتها التي تلزمها. ولذلك لا يغتذي اهلها بالأغذية الضارة، ولذلك لا يحتاجون الى معرفة أدوية للاختناق بالفطر ولا غيره مما جانسه، ولا يحتاجون الى معرفة مداواة الخمر، اذ كان ليس هناك امرغيرمنتظم. وكذلك اذا اسقطوا الرياضة، حدثت عن ذلك امراض كثيرة. وبين ان ذلك ليس لها، وعسى ان لا يحتاج منها الى أكثر من مداواة الخلع وما جانسه، وبالجملة: الأمراض التي اسبابها الجزئية واردة من خارج ولا يستطيع البدن الحسن الصحة ان ينهض بنفسه في دفعها... فمنخواص المدينة الكاملةأن لا يكون فيهاطبيب ولا قاض. ومن اللواحق الغامة للمدن الأربع البسيطة أن يفتقر فيها الى طبيب وقاض. وكلما بعدت المدينة عن الكاملة، كان الافتقار فيها الى هذين اكثر، وكان فيها مرتبة هذين الصنفين من الناس أشرف.
وبين ان «المدينة الفاضلة الكاملة قد أعطي فيها كل انسان افضل ما هومعد نحوه، وان آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذباً فيها، وان اعمالها هى الفاضلة بالاطلاق وحدها، وأن كل عمل غيره فإن كان فاضلا فبالاضافة الى فساد موجود، (ابن باجة: « تدبير المتوحد » في « رسائل ... » ص 41)
ونلاحظ على كلام ابن باجة هذا ما يلي:
1. انه يقول ان المدينة الفاضلة أو الكاملة ليس فيها طبيب ولا قاض. وهذا استنتاج من قول (أفلاطون: «السياسة»، ص ٣٧٣ د) سقراط عما يصيب المدينة حين تكبر وتزداد حاجاتها زيادة مفسدة، أي أن الحاجة الى الاطباء ناجمةعن فساد في الحالة الأولية للمدينة. وبالمثل يقال عن الحاجة الى القضاة.
غير أننا لم نجد في كتابي « آراء اهل المدينة الفاضلة » و « السياسة المدنية » اشارة الى ذلك. فاما أن يكون ابن باجة قد استمد ذلك مباشرة من قراءاته لترجمة كتاب « السياسة » لأفلاطون، وهو الأرجح لأنه يذكر كثيراً من المواضع في هذ الكتاب مما لا نره في كتب الفارابي، فضلا عن ان ترجمة « السياسة » لافلاطون كانت معروفة جيدا لدى فلاسفة الأندلس، بدليل أن ابن رشد لخصها اعتماداً على نص الترجمة. واما أن يكون ذلك ما ورد أو أشار اليه الفارابي في بعض ما لم يبلغنا من رسائله، وهو احتمال ضعيف.
٢ - أما قوله ان أفعال أهل المدينة الفاضلة كلها صواب، فهو لازم عن فكرة المدينة الفاضلة نفسها. لكن ليس فيه التنويع الذي قرره الفارابي(٢) راجع مثلا: «السياسة المدنية»، ص ٨١، بيروت ١٩٦٤. حين قال بتفاوت أهل المدينة الفاضلة في مراتب الفهم والكمالات.
ويقول ابن باجة ايضاً « ان من خواص المدينة الكاملة ان لا يكون فيها نوابت، اذا قيل هذا الاسم بخصوص: لأنه لا آراء كاذبة فيها، ولا بعموم: فانه متى كان، فقد مرضت وانتقضت أمورها وصارت غيركاملة »(ابن باجة: «تدبير المتوحد» في «رسائل... » ص ٤٣).
وقد اشار الفارابي الى هؤلاء « النوابت» فقال ان « النوابت في المدن منزلتهم فيها منزلة الشيلم في الحنطة، او الشوك النابت فيما بين الزرع، او سائر الحشائش غير النافعة والضارة بالزرع او الغرس ». (الفارابي: «السياسة المدنية» ص ٨٧، بيروت سنة ١٩٤٦.) ولكنه قال انهم يوجدون في المدن الفاضلة ايضاً - يقول: «واما النوابت في المدن الفاضلة فهم أصناف كثيرة...» (ص ٤ ١٠ من الكتاب نفسه) ويعددهم، فهم: « المقتنصون » - وهم الذين نسميهم اليوم باسم: «الانتهازين»، و«المارقة»، والمضللون (بكسراللام) والمزيفون للقيم.
المتوحد
وينتهي ابن باجة الى القول بأن جميع السير - أي نظم الحكم - التي بلغنا خبرها والموجودة في زمانه أيضاً مركبة من السير الخمس: أي السيرة الفاضلة (المدينة الفاضلة) والسير الأربع الفاسدة وهي الجاهلة، والفاسقة، والمتبدلة، والضالة. لكن « معظم ما نجده فيها (هو) من السير الأربع». (ابن باجة: «تدبير المتوحد» في «رسائل... » ص ٤٣). أما السعداء، وهم أهل المدينة الفاضلة « فان امكن وجودهم في هذه المدن ( الأربع ) فانما يكون لهم سعادة المفرد وصواب التدبير انما يكون تدبير المفرد، سواء كان المفرد واحداً، أو أكثر من واحد، ما لم تجتمع على رأيهم أمة أو مدينة. وهؤلاء هم الذين يعنيهم الصوفية بقولهم: « الغرباء »، لأنهم، وان كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم، قد سافروا بأفكارهم الى مراتب اخر هي لهم كالأوطان »(الكتاب نفسه، ص ٤٣.)
ويقول ابن باجة انه قصد في رسالته «تدبير المتوحد» أن يبين حال المتوحد وكيف يتدبر حتى ينال أفضل وجوداته، فانه فرد خارج عن عادة الناس، أو «خارج عن الطبع» كما يقول.
لكن ابن باجة لا يحدد لنا تحديداً مفصلاً دقيقاً حال هذا المتوحد، بل تنتهي رسالة «تدبير المتوحد» إلى نظرة واقعية إلى الانسان، فيقول «إن الانسان فيه أمور كثيرة، وإنما هو إنسان بمجموعها: ففيه القوة الغاذية ... وفيه القوة الحساسة والخيالية والذاكرة ... وفيه القوة الناطقة وهذه (هي) الخاصة به» (الكتاب نفسه ص ٩٦) والانسان طبيعته كالواسطة بين السرمدية والفاسدة. وفيه معنى يكون به سرمديا، ومعى يكون به كائناً فاسداً. ويتساءل: ما هذان المعنيان ؟ ويقول إنه ينبغي الفحص عنهما، لكنه لا يقوم بهذا الفحص، شأنه في كثيرمما وعد به ولم ينجزه. على أنه من الواضح أن رسالة «تدبير المتوحد» تبدو مبتورة، شأنهاشأنسائر ما وصلنا من رسائل ابن باجة. والأرجح أن ابن باجه نفسه هو الذي ترك مؤلفاته ناقصة مبتورة لم تتم كتابتها، ما دامت النسخة الخطية التي اوردت هذه الرسائل وهي نسخة بودلي في اكسفورد هي ما قيده تلميذه وصاحبه علي بنعبد العزيز بن لامام، ولا نظن انه هو الذي بتر أواخرها، بل قيدها على حالها كما تلقاها من ابن باجة نفسه.
وكل ما يقوله عن هذا المتوحد هو أن طبيعته كريمة سنية روحانية، وان طبعه فلسفى بالضرورة وإلا كان جسمانياً «وكان فيلسوفاً بهرجاً. فهذا الطبع الفلسفي، إذا كان مزمعاً ان يكون على كماله الأخير، فهويفعل هذا الفعل. ولذلك كل من يؤثر جسمانيته على شيء من روحانيته، فليس يمكن ان يدرك الغاية القصوى. وإذن فلا جسماني واحدا سعيد، وكل سعيد فهو روحاني صرف.
إلا أنه كا يجب على الروحاني أن يفعل بعض الأفعال الجسمانية، لكن ليس لذاتها، ويفعل الأفعال الروحانية لذاتها-كذلك الفيلسوف: يجب ان يفعل كثيراً من الأفعال الروحانية، لكن لا لذاتها، ويفعل جميع الافعال العقلية لذاب, وبالجسمانية هو الانسان موجودا، وبالروحانية هو أشرف، وبالعقلية هو إلهي فاضل.
فذو الحكمة - ضرورة - فاضل إلهي، وهو يأخذ من كل فعل افضله، ويشارك كل طبقة في افضل احوالهم الخاصة بهم، وينفرد عنهم بأفضل الأفعال وأكرمها. وإذا بلغ الغاية القصوى - وذلك بأن يعقل العقول البيطة الجوهرية التي تذكر في «ما بعد الطبيعة» وفي كتاب «النفس» وكتاب «الحس والمحوس» - كان عند ذلك واحدا من تلك العقول، وصدق عليه انه إلهي فقط، وارتفعت عنه أوصاف الحسية الفانية، وأوصاف الروحانية الرفيعة، ولاقى به وصف: إلهي بسيط.
وهذه كلها قد تكون للمتوحد، دون المدينة الكاملة.»(ابن باجة: «تدبير المتوحد» في «رسائل... » ص 79-80)
وإذن هذه الصفات قد تكون للمتوحد، سواء اكان فرداً أم أكثر، لكنها لا تكون لمدينة ولا لجزء منها، وإنما هي غاية المدينة التي تقصدها دون أن تحققها. ولا يمكن المتوحد ان يفعل هذه الصفات عند أهل المدينة، ولا أن يكون حافظها فيهم، إذ هو متوحد.
ومعنى هذا أن ابن باجة لم يطالب بأن يكون حاكم الدولة هو الفيلسوف، بل اكتفى بأن أشار إلى أوصاف المثل الأعلى للسعيد، وأكد انه متوحد لا تأثير له في لمدينة، أعني في الدولة. فكان أكثر واقعية من أفلاطون، بل ومن الفارابي. وربما كان السبب في هذه الواقعية أنه عانى السياسة بالفعل لما كان وزيرا لأبي بكر يوسف بن تاشفين في فاس بالمغرب.
خاتمة
وواضح من هذا العرض لآراء ابن باجة أنه كان شديد التأثر بأفلاطون اكثر منه بأرسطو، وأنه استند كثيراً إلى مؤلفات الفارابي من بين الفلاسفة المسلمين، ولم نجده يذكر ابن سينا أبدا في أي كتاب من كتبه التي وصلتنا -فهل لم تكن كتب ابن سينا قد وصلت الأندلس بعد؟
وإنتاجه الذي وصلنا شذرات، غير محكمة التاليف، ويغلب عليها طابع التعليقات لا الكتب التي قصد إلى تاليفها قصداً، ومن هنا التفكك والتكرار، فضلا عما يبدو عليها من أنها مبتورة.