زينون الإيلي
زينون من إيليا أو زينون الإيلي (باليونانية: Ζήνων ὁ Ἐλεάτης) (490 ق.م – 430 ق.م) فيلسوف يوناني وأحد فلاسفة ما قبل سقراط، عاش زينون في القرن الخامس قبل الميلاد، في مستعمرة إيليا وهي مدينة يونانية على الساحلِ الجنوبيِ لإيطاليا. وهو من أنصار بارمنيدس في أن عالم الحس وهم باطل.
زينون الإيلي هو تلميد الفيلسوف بارمنيدس، لم يخالف أستاذه في شيء؛ وحتى في الجزء الخاص بالطبيعيات - ويلاحظ أن كل ما ورد لنا في هذا الباب مشكوك فيه - لم يخرج مطلقاً عما قال به برمنيدس. لهذا فمن الراجح أن زينون لم يقل شيئاً في الطبيعيات، لأن أستاذه قد قال كل شيء. وقد دافع زينون عن مذهب معلمه الذي آمن بأن كل ما هو موجود شيء ثابت ودائم لا يطاله التغيير. وقد حاول زينون أن يثبت أن الحركة والتغيُّر والتعدُّد (أن يكون الشيء مركباً من عدة مواد) أمر مستحيل. استخدم زينون أسلوباً في الجدل يطلق عليه الدليل غير المباشر. وبهذا الأسلوب، يكتشف من آراء معارضيه استنتاجات مستحيلة. طرح زينون الفكرة بشكل منطقي قائم على نفي الكثرة التي ترى الكون كله شيء واحد لا يقبل التجزئة، وله نظريات عديدة منها نفيه للحركة.
ويُعتقد أن زينون أنشأ 40 قضية جدلية على الأقل، لكن ثماني قضايا فقط منها كان نصيبها الخلود. وتؤلف مفارقاته الأربع حول الحركة أشهر قضاياه الجدلية الباقية حتى الآن. ويجادل زينون بسبيل الحجة في إحدى مفارقاته أن العدَّاء لايستطيع أن يصل إلى نهاية المضمار أبداً. ويُذكر أن العدّاء يصل أولاً إلى منتصف المضمار وبعد ذلك إلى منتصف المسافة الباقية، وهكذا بلا نهاية دون أن يصل إلى نهاية المضمار. وتثير قضايا زينون الجدلية مجموعة من المسائل العميقة حول الزمن والفراغ واللانهاية. وتظل هذه القضايا متربعة على رأس اهتمامات الفلاسفة والعلماء.
زينو ونيارخوس
يقال أن زينو قد تورط في مؤامرة لخلع الطاغية اليوناني نيارخوس وأنه خضع للتعذيب بعدها ليفصح عن أسماء معاونيه في المؤامرة.
دفاعه عن مذهب أستاذه برمنيدس
أقام برمنيدس مذهب الوجود بناء كاملاً لم يكن يحتاج بعد إلى مواد وإنما كل ما بقي هنالك هو أن يدافع عن هذا المذهب ضد خصومه، فوكلت مهمة الدفاع إلى تلميذيه: زينون الإيلي ومليسوس.
يمتاز زينون عن مليسوس في أن الأول كان رجلاً منطقياً ذا قدرة عظيمة على الحجاج، فبرع كل البراعة في الدفاع عن مذهب أستاذه، بينما كان مليسوس أقل قدرة حتى اضطر في النهاية إلى الخروج بعض الشيء عن مذهب أستاذه، تبعاً لإلزامات الخصوم التي كان لا بد له أن يأخذ بها في دفاعه عن هذا المذهب. والنتيجة التي تستخلص من الدفاع الذي قام به كل من زينون ومليسوس هي أن مذهب الوجود كما تصوره برمنيدس، لا يمكن أن يوفق بينه وبين المذهب المضاد له، وهو مذهب الكثرة والتغير. وكلما اشتد هذان التلميذان في الدفاع، ظهر لأصحاب هذا المذهب، إن كانو يريدون حقاً الاستمرار فيه، ألا يسلموا للخصوم بشيء، فإن في مجرد التسليم بشيء اعترافاً بفساد الباقي، لأن هذا المذهب يكون وحدة تامة.
أراد زينون أن يدافع عن مذهب الوجود الواحد الثابت، فلجأ من أجل هذا إلى طريقة غير مباشرة فبينما كان أستاذه يستخرج خصائص الوجود من ماهية الوجود نفسه استخلاصاً استدلالياً، لأن صفات الوجود تستخلص كلها من ماهية الوجود، نرى زينون على العكس يحاول الدفاع عن مذهب برمنيدس مستعملاً طريقة غير مباشرة، وذلك بأن يقول إن المذاهب المضادة لمذهب الوجود عند برمنيدس تفضي قطعاً إلى تناقض، ومعنى إفضائها إلى تناقض أنها غير صحيحة، وما دامت غير صحيحة فالمذاهب المضادة لها صحيحة. وعن هذا الطريق يثبت الأصل ببطلان النقيض. ولو أن في هذا المنهج الشىء الكثير من الجدل اللفظى، فإنه يلاحظ أن زينون لم يكن في جدله مشابهاً للسوفسطائية فالغرض متباين عند الاثنين، لأن زينون كان يرمي من وراء جدله إلى إثبات حقيقة إيجابية، هي مذهب الوجود عند أستاذه، بينما كان السوفسطائيون يرمون من وراء جدلهم إلى نتائج سلبية، هي القضاء على الفلسفة كما تصورت حتى ذلك الحين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يلاحظ أن الدقة المنطقية أو دقة الاستدلال عند زينون كانت دقة واضحة، وكانت تسير على أصول مرعية من المنطق، بينما لم تكن الحال كذلك عند السوفسطائيين.
ومذهب برمنيدس في الوجود يقوم على أصلين رئيسيين هما الوحدة والثبات، لذا كان على تلميذه أن يدافع عن هذا المذهب فيما يتصل بهذين الأصلين. ومن أجل هذا تنقسم حجج زينون إلى قسمين رئيسيين: قسم خاص بالتعدد وقسم خاص بالحركة. وفي كل من هذين القسمين توجد حجج أربع.
حجج زينون ضد التعدد
أولاً - الحجة لأولى خاصة بالمقدار، وفيها يقول زينون إنه إذا كان الوجود متعدداً، فإنه سيكون حينئذ لا متناهياً في الصغر ولا متناهياً في الكبر في آن واحد. وذلك لأنه إذا كان متعدداً، فمعنى هذا أنه مكون من وحدات، وهذه الوحدات بدورها إما أنها وحدات نهائية أو أنها تنحل إلى وحدات نهائية؛ وهذه الوحدات النهائية لا تنقسم. والآن: فإن ما لا ينقسم ليس له مقدار، وعلى هذا فإن كان ليس له مقدار فإنه إذا أضيف إلى شى ء أو نقص منه فإنه لا يؤثر شيئا، والشيء الذي إذا أضيف أو إذا انتزع لا يؤثر، هو لا شيء، ومعنى هذا في النهاية أنه إذا كان هذا الوجود متعدداً فهو مكون من وحدات هي لا شيء فالوجود إذن سيكون متناهياً في الصغر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا قلنا أو إذا أردنا أن نجعل للوجود مقداراً، فمعنى هذا أنه لابد لنا أن نضيف (ننسب) إلى الوحدات مقداراً: فإذا كان لكل وحدة مقدار، فإن الوحدة الواحدة تتميز من الوحدة الأخرى بوجود شيء مميز، وإلا لكان الاثنان شيئاً واحداً: وهذا الشيء المميز هو مقدار، ما دمنا قلنا إنه لكي يكون وجود فلا بد أن يكون ثمت مقدار. وعلى هذا فإنه بين الوحدة والوحدة وحدة ثالثة؛ وهذه الوحدة الثالثة ذات المقدار بينها وبين كل من الوحدتين الأخريين مقدار كذلك، وهكذا إلى ما لا نهاية . . . ومعنى هذا أن الوجود سيكون كبيراً كبراً متناهياً.
ومن هنا نرى إننا إذا قلنا إن الوجود متعدد، فإننا ننتهي إلى نتيجتين متناقضتين؛ وإذا كانت الحال كذلك فالمقدمة الأولى باطلة، فالوجود إذن ليس متعدداً بل هو واحد.
ثانياً: الحجة الثانية تقوم على العدد. وهنا يقول زينون إنه إذا كان الوجود متعدداً فمعنى هذا أنه لا محدود عدداً ومحدود عدداً في آن واحد، فهو محدود عدداً لأنه مهما يكن به من مقدار، فلن يكون أكثر مما هو به، فهو إذاً محدود. وهو أيضاً لا محدود من ناحية العدد، لأنه لكي نفرق بين الوحدة والوحدة، فلا بد من أن نتصور وحدة ثالثة وهكذا باستمرار إلى ما لا نهاية، وعلى هذا فإنه غير محدود من ناحية العدد. وهكذا ننتهي، كما انتهينا في الحجة الأولى، إلى نتيجتين متناقضتين، وهذا يؤذن ببطلان المقدمة، وعلى هذا فالوجود واحد.
ثالثاً: الحجة الثالثة تقوم على المكان. يقول زينون إنه إذا كان كل ما هو موجود فهو في مكان، فإن هذا المكان لا بد أيضاً ان يكون موجوداً في مكان. وهذا المكان الجديد سيكون بدوره موجوداً في مكان . . . وهكذا إلى ما لا نهاية. ولما كان ذلك غير ممكن التصور، فالمقدمة إذاً باطلة. ومعنى هذا أن الوجود واحد.
رابعاً: تقوم الحجة الرابعة على فكرة التأثير الكلي. ويضرب مثلاً لذلك، فيقول: إننا إذا اتينا بكيلة من القمح ثم بذرناها، فإنها ستحدث صوتاً، ولكن إذا أخذنا الحبة الواحدة من القمح وبذرناها وجدنا أنها لا تحدث صوتاً. فكيف تسنى إذن أن ينتج شيء كلي، هو الصوت هنا؛ من أشياء لا وجود لها ؟ معنى هذا أنه إذا كانت الأشياء متعددة فلا يمكن ان تنتج شيئاً، ما دامت الوحدات المتركبة منها لا تتتج وحدها شيئاً. وعلي هذا فالوجود، ما دام ينتج شيئاً، فإنه ليس متعدداً، وإذا فالوجود واحد.
حجج زينون ضد الحركة
أولاً: تسمى الحجة لأولى باسم الحجة الثنائية، لإنها تقوم على القسمة الثنائية. وتتلخص في أنه لكي يمر جسم من مكان إلى مكان، فلا بد أن يمر بكل الأجزاء الموجودة بين كلا المكانين، وعلى هذا فإن قام جسم من (أ) لكي يصل إلى (ب) فإنه لا بد له، لكي يصل إلى هدفه وهو (ب) أن يمر أولاً بالمنتصف، وليكن (ج)، لكن قبل أن يصل إلى (ج)، لا بد ايضاً أن يكون قد مر بمنتصف المنتصف، وليكن (د). ولكن يجب أيضاً، قبل أن يمر بالنقطة (د)، أن يمر بمنتصف الربع، وهكذا .. . فإذا كان التقسيم لا متناهياً، فإنه لا يمكن أن يصل إلى النقطة المطلوبة وهي (ب) إلا إذا مر بما لا نهاية له من النقط، ولما كان من غير الممكن أن يقطع شيء ما لا نهاية له من النقط في زمن متناه، فمعنى هذا أنه لا يمكن مطلقاً أن يصل الشيء إلى هدفه، أي أنه لا يمكن الحركة في المكان أن تكون. فعلى أساس المقدمة الأولى، الحركة إذا غير مكنة.
ثانياً: يقول زينون إن أسرع العدائين لا يمكن أن يلحق بأشد الأشياء بطأً، إذا كان هذا الشىء سابقاً له بأي مقدار من المسافة. فإذا تصورنا مثلاً أن آخيل، وهو العداء السريع، موجود ما؛ وأن هناك سلحفاة تسبقه بمسافة - فإنه إذا بدأ الاثنان مع الحركة في ساعة واحدة، فإن آخيل لن يلحق بالسلحفاة. وذلك لانه لكي يلحق بها لا بد له أولاً ان يقطع المسافة بينه وبين السلحفاة، وقبل أن يقطع هذه المسافة عليه أن يقطع منتصف هذه المسافة وهكذا باستمرار. . . وما دام المكان منقسماً إلى ما لا نهاية له من الأقسام، فلن يستطيع آخيل إذن أن يلحق بالسلحفاة.
ويلاحظ أن الحجتين السالفتين متشابهتان وتقومان على مسألة واحدة، هي تقسيم المكان إلى ما لا نهاية من الوحدات والفارق بين البرهانين هو أن الهدف في الحجة الأولى ثابت محدود، بينما في الحجة الثانية الهدف متحرك متغير باستمرار.
وهاتان الحجتان خاصتان بالمكان.
ثالثاً: قلنا إن الحجتين الأوليين تقومان على فكرة أن المكان منقسم إلى ما لا نهاية له من الأقسام، أما الحجتان الأخريان فقائمتان على أن الزمان ينقسم إلى ما لا نهاية له من الأقسام. وأولى هاتين الحجتين الأخريين هي تلك المسماة باسم حجة السهم. فلو تصورنا إن سهماً انطلق من نقطة ما لكي يصل إلى نقطة أخرى، فإن هذا السهم لن يتحرك وذلك لأنه من المعروف أن الشىء في الآن يكون غير متحرك، وعلى هذا فإذا كان الزمان منقسماً إلى عدة وحدات كل منها هي الآن، ولما كان السهم في انطلاقه يوجد دائماً في آن ولما كان وجوده في الآن وجوداً ساكناً، فإنه سيكون إذاً ساكناً باستمرار. ومعنى هذا أن السهم لا يتحرك أي أنه ينطلق ولا ينطلق، أي أننا ننتهي إلى نتيجتين متناقضتين مما يؤذن ببطلان المقدمة.
ولتوضيح هذه المسألة نقول إنه من المسلم به - كما اعترف بذلك أرسطو نفسه الذي رد على هذه الحجج جميعها - إن الشيء في الآن ساكن، لأننا إذا سألنا عن الشيء أين يوجد في هذا الآن أو ذاك، قلنا إنه يوجد في (أ) أوفي (ب) أو في (ج) ... إلخ ولا نستطيع أن نقول إنه في المسافة بين (أ) و (ب)،أوبين (ب) و(ج). ففي كل آن يوجد الشيء المقذوف إذاً في اثنائه ساكناً، ولما كان الزمان هو مجموع الآنات، فإن الشى ء المار في الآنات سيكون ساكناً إبان كل الآنات أي إبان الزمان، أي انه سيكون ساكناً باستمرار.
وهذه المشكلة مشكلة خطيرة أثارها زينون ولعبت دوراً خطيراً في تاريخ الفلسفة من بعد، وخلاصة هذه المشكلة هي أنه كيف يمكن، إذا قلنا بالتقسيم، أن نفسر الاتصال، لأن الواقع أن كل تقسيم معناه الانفصال، وفي هذا إنكار للاتصال، وفي إنكار الاتصال إنكار للتأثير، وفي إنكار التأثير إنكار للتغير.
رابعاً: الحجة الرابعة تقوم على فكرة أن الشيئين المتساويين في السرعة يقطعان مكاناً متساوياً في نفس الوقت. وعلى هذا، فإذا تصورنا ثلاث مجاميع وكل مجموعة من هذه المجموعات مكونة من أربع وحدات، ولتكن المجموعة الأولى مكونة من الوحدات:
4 3 2 1
ب ب ب ب ؛ والمجموعة الثانية مكونة من الوحدات:
1 2 3 4
ت ت ت ت ؛ والمجموعة الثالثة مكونة من الوحدات:
4 3 2 1
ث ث ث ث ؛ وأنها مرتبة أولاً في ملعب على حسب الصورة الآتية:
4 3 2 1
ب ب ب ب
1 2 3 4
ت ت ت ت
4 3 2 1
ث ث ث ث
فلنتصور الآن أن المجموعة (ب) غير متحركة. فحينئذ إذا تحركت (ت1) في اتجاه (ب4) بينما تحركت (ث1) في تجاه (ب1)، وكان هذ التحرك في نفس الحظة فإنه يشاهد حين وصول (ت1) إلى (ب4) أنه ستصل (ث1) تحت (ب1) فتكون على الشكل التالي:
4 3 2 1
ب ب ب ب
1 2 3 4
ت ت ت ت
4 3 2 1
ث ث ث ث
وهنا يلاحظ أنه لكي تصل (ت) إلى (ب4) تراها قد مرت بوحدتين بالنسبة إلى (ب) هما (ب3) و(ب4)، ولكنها من جهة أخرى قد مرت، وفي نفس الآن، بأربع وحدات من (ث1) هي (ث1) (ث2) (ث3) (ث4)، أي أنها قطعت في نفس المدة وحدتين وأربع وحدات معاً، ولما كانت كل وحدة من هذه الوحدات مساوية للأخرى، فمعنى هذا أن (ث1) قطعت في المدة عينها مسافة ونصفها، والآن: فإنه لما كنا قد قلنا تبعاً للمبدأ الرئيسي في علم الحركة إنه إذا تحرك جسمان متساويان في السرعة فإنهما يقطعان نفس المسافة في مدة واحدة، فإننا نجد هنا أن النتيجة التي وصلنا إليها تناقض هذا المبدأ، لأن الشيء الواحد قد قطع المسافة ونصف هذه المسافة في آن واحد. إذا فالمقدمة باطلة، ومعنى هذا أنه ليس ثمت حركة، وإذا فالحركة غير ممكنة.
نقد حجج زينون
إذا نظرنا الآن إلى حجج زينون هذه، وجدناها جميعاً، أو على الأقل أكثرها قابلة للنقد. فالحجة الثالثة من المجموعة الأولى وهي الخاصة بأن كل ما هو موجود فهو موجود في مكان، يجب أن تتضح من حيث المعنى ومن حيث مدى التطبيق، وذلك لأنه لا بد في النهاية من أن نقف عند مكان أخير مهما كان بعد هذا المكان. والحجة الرابعة خاطئة، لأن الحبة الواحدة من القمح تحدث أيضاً صوتاً مهما كان ضعف هذا الصوت؛ وباجتماع هذه الأصوات الضعيفة لحبات القمح المختلفة يتكون صوت واحد كبير، هو صوت كيلة القمح حين تبذر. والحجتان الأوليان - والاثنتان تقومان على فكرة واحدة كما قلنا - غير صحيحتين كذلك، لأن التقسيم إلى ما لا نهاية هو تقسيم بالقوة فحسب، كما سيقول أرسطو فيما بعد، وليس تقسيما بالفعل أي أنه إذا قسمنا شيئاً ما فمهما كان من عدد الأقسام التي نقسمه إليها فالعدد لا بد محدود . ثم إنه يلاحظ فيما يتصل بالحجة الأولى أنه ليس هناك زيادة ولا نقصان، لأنه بقدر ما يزيد عدد الأجزاء ينقص مقدار الأجزاء، لكن النتيجة باستمرار هي أن المقدار واحد. ولنشرح هذا فنقول . إذا أخذنا مقدار وليكن (أ) وقسمناه إلى أقسام عددها (ع) فإن كل قسم يساوي (1/ع) ومجموع الأجزاءهو (ع * 1/ع) أو معنى هذا أنه مهما كان عدد الأقسام فإن المقدار ثابت باستمرار. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يقال إن المقدار سيكون صغيراً إلى ما لا نهايةأو كبيراً إلى ما لا نهاية.
وحجج القسم الآخر يمكن الإجابة عنها كذلك، فالحجتان الأوليان (والأساس فيهما واحد كما رأينا من قبل) تقومان على أساس التقسيم في الواقع إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، ولكن هذه التجزئة لا تستمر إلى ما لا نهاية في الواقع أو بالفعل، بل بالقوة فقط تتم هذه التجزئة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يلاحظ أنه ما دمنا نقول بأن المكان ينقسم إلى ما لا نهاية له من الأقسام فعلينا أن نقول أيضاً إن الزمان الذي يتم فيه التحرك طول هذه المسافة المكانية لا بد أيضاً أن ينقسم إلى ما لا نهاية له من الأقسام، وعلى هذا لا يصح لنا أن نقول بأن ما لا نهاية له من النقط يُقطَع في زمن نهائي. فإذا سلمنا بأن المكان ينقسم إلى ما لا نهاية له من النقط، فعلينا إلزاماً أن نقول أيضاً إن الزمان ينقسم إلى ما لا نهاية له من النقط. فإذ كان من الممكن أن يقطع مكان لا نهائي من حيث التقسيم فهو سيقطع أيضاً في زمان لا نهائي من حيث التقسيم.
وحجة السهم ولو أنها أبرع الحجج فإنها أيضاً ظاهرة الخطأ، وذلك لأن فيها مغالطة منطقية من النوع المسمى باسم أغلوطة الحد الرابع (Quaternio terminorum) أي استعمال اللفظ الواحد بمعنيين مختلفين في قياس واحد؛ فحين يقول زينون إن السهم في حالة إنطلاقه يوجد في نفس المكان، فإن قوله في نفس المكان إما أن يكون بمعنى أن السهم يوجد في مكان واحد بعينه لا ينتقل منه إلى مكان آخر، وإما أن يكون بمعنى أنه يوجد دائماً في مكان مساوِ؛ وزينون يستعمل عبارته بالمعنين وينتقل من المعنى الواحد إلى المعنى الآخر؛ وفي هذا الانتقال يرتكب المغالطة المنطقية، لأنه من الصحيح أن السهم موجود دائماً في كل آن في مكان مساوِ ولكن ليس معنى هذا أنه موجود في كل الآنات في نفس المكان، بل هو منتقل من المكان الواحد إلى المكان الآخر.
بيد أن مشكلة السهم أعقد من هذا بكثير. لأنها بعينها مشكلة الاتصال في الوجود والتأثير بالتماس، فإذا تصورنا الزمان أو المكان مقسمين إلى أجزاء، فعلى أي أساس يكون التقسيم؟ كل تقسيم لا بد أن يكون على أساس التفرقة وإلا لم يكن ثمت تقسيم. ومعنى هذا أن بين الجزء والجزء شيئاً يفصل بين الجزئين، والصعوبة هي في الانتقال من الجزء إلى الجزء: كيف يتم وكيف يكون التأثير من الجزء الواحد إلى الجزء الآخر ما دام بينهما فاصل؟ وهذه المشكلة قد أثارت الكثير من الجدل حولها وما زال هذا الجدل قائماً حتى اليوم، فلحجة زينون هذه الشيء الكثير من الوجاهة.
أما الحجة الرابعة فبينة الخطأ، لأنها تقوم على أساس قياس حركة الشيء بالنسبة لشيء آخر سواء أكان هذا الشيء الآخر متحركاً أم ساكناً. وزينون لا يفرق في القياس بين أن يكون المقيس عليه في هذه الحالة ساكناً أو متحركاً، مع أنه من الواجب أن تكون هناك تفرقة. وإلا وقعنا في نفس الخطأ الذي أوقعنا فيه زينون.
أبو الجدل
على الرغم من الاعتراضات أو الردود التي نستطيع ان نسوقها ضد حجج زينون فيجب أن نعترف أنه كان لهذه الحجج ولهذا النوع من التفكير شأن خطير في الفلسفة إبان ذلك الحين لأن المنهج الذي سار عليه زينون كان منهجاً جديداً كل الجدة مما جعل أرسطو يعده مكتشف الجدل. والمشكلة التاريخية لهذه الحجج أكبر بكثير ما نتصوره لها من قيمة حقيقية. فقد أثارت مشكلة التغير والظواهر ووضعتها في أحد صورة لها. وكان على كل باحث في الطبيعة، أي في التغير، أن يحسب لهذه الحجج حسابها ولهذا نرى أفلاطون وأرسطو يجدان نفسيهما مضطرين إلى الرد عليها قبل أن يبحثا في الحركة.
يمكن اعتبار زينون هو مخترع الجدل الفلسفي الذي برع فيه أفلاطون، وكانط، وهيغل. فزينون وجد في بداية عصر السفسطائيين، وكانت للفلسفة في زمانه منزلة عظيمة، فقد كان حكام أثينا وأصحاب الرأى فيها يستقدمون الفلاسفة ويستضيفونهم في بيوتهم ويغدقون عليهم الأموال ويستمعون إليهم ويتعلمون على أيديهم وقد قال أرسطو عن زينون أنه مؤسس علم الجدل، من حيث أنه كان يسلم بإحدى قضايا خصومه ويستنتج منها نتيجتين متناقضتين ويثبت بذلك بطلانها.
أوحت أفكار زينو لإيمانويل كانت بأهم أفكاره حول إنكار فيما بعد حقيقة الزمان والمكان واعتبارهما باطلان ليس لهما وجود وانهما حيلة عقلية لنستعين بهما على التعبير عن أفكارنا. ولم يكن قبل العصر الحديث حين تقدم هيجل بنظريته الشهيرة التي أزال فيه هذا التناقض بين الكثرة والواحد.
التفاضل والتكامل
كان لحجج زينون الفضل في ظهور علم النهايات "التفاضل والتكامل" على يد لايبنتز ونيوتن. فزينون بحججه عن اللا تناهى وضعنا أمام مشكلة كان حلها إيجاد حساب اللا نهايات.