جون سكوتوس أريجينا

يوهانز سكوت اريجينا (815 - 877) (بالإنجليزية: Johannes Scotus Eriugena) فيلسوف أيرلندي المولد ويعتبر أول فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية. نال تعليماً في سن مبكرة، وعاش في فرنسا. وعلى أساس الأفلاطونية الجديدة أبدع اريجينا مذهبه الصوفي الذي عرض جوهره في مؤلفه «في الطبائع الإلهية».

حياته

ولد يوهانز سكوت اريجينا، كما يدل على ذلك لقبه: Erigene (من Ireland = Erin) في أيرلندا في الخمس عشرة سنة الأولى من القرن التاسع الميلادي، وتوفي بعد سنة 870.

درس أولاً في أيرلندا، ثم ارتحل إلى بلاد الغال (فرنسا) حيث صار معلماً في مدرسة القصر الامبراطوري. وفي سنة 851 اشترك في المجادلات التي أثارها آنذاك الراهب جوتشالك حول القضاء والقدر وحرية الارادة الانسانية، فألف رسالة بعنوان: "في القدر" De Praedestinatione، وفيها أبدى آراء جلبت عليه نقمة المتشددين من رجال الدين.

وخلال السنوات العشرين التالية أنكب على دراسة آباء Iلكنيسة والكتب Iلمنسوبة إلى ديونسيوس الأريوفاغي، ومؤلفات مكسيموس متلقي الاعتراف وآباء الكنيسة الشرقية: أوريجانس، ابفانيوس، باسليوس، جريجوريوس النوساوي، جريجوريوس النازيانزي، ويوحنا الذهبي الفم، وكلها باليونانية الني كان يتفنها اريجين، وقد وجد مؤلفاتهم في مكتبة مدرسة القصر تلك: لأن البابا بولس الأول كان قد أهداها الى ملك الغال بييان القصر Pepin le Bref.

وكانت الكتب المنسوبة إلى ديونسيوس الاريوفاغي ( وهوأحد تلاميذالقديس بولس حين كان في أثينا وكان أحد أعضاء محكمة أثينا المسماة الاريوفاغ ومن هنا جاءت نسبته) - وهي كتب منحولة تسري فيها الفلسفة الأفلاطونية المحدثة - قد نالت انتشاراً واسعاً في المشرق، ثم في المغرب المسيحي، وكانت أول محاولة لترجمتها إلى اللغة اللاتينية هي تلك التي قام بها هلدوان Hilduin لكتها كانت سيئة. لهذا طلب شارل الأصلع، ملك فرنسا، من اريجين ترجمتها من جديد. فتولى كبر هذا الأمر اريجين، وأتمها وذلك ما بين سنة 851 إلى سنة 862.

وبعد أن فرغ من ترجمة الكتب المنسوبة إلى ديونسيوس الأريوفاغي ترجم كتاب "المشتركات" De ambiguis لمكسيموس متلقى الاعتراف، وذلك فيما بين سنة ٨٦٢ و ٨٦٤.

كذلك ترجم نصوصاً يونانية أخرى لاستعماله الخاص، إما كاملة أو قطعاً منها، مثال ذلك ترجمته لكتاب «صورة الانسان» تأليف جريجوريوس النوساوى وكتاب ancoratus لابفانيوس. وقد أورد منها في كتابه الرئيسي: « في تقسيم الطبيعة» .

وكل هذه الترجمات تمت من اللغة اليونانية إلى اللغة اللاتينية. والكتاب المبتكر الرئيسي الذي ألفه أريجين هو: «في تقسيم الطبيعة» De divisione naturae وقد أتمه حوالى سنة ٨٦٦. وهذا الكتاب المؤلف من خمس مقالات، مكتوب على شكل حوار بين الأستاذ والتلميذ وفيه عرض، بطريقة منظمة رغم شكل الحوار، العقائد الرئيسية في المسيحية وتعمق في تحليلها بروح أفلاطونية محدثة.

وفي السنوات من ٨٦٥ حتى ٨٧٠ ألف اريجين رسائل مفردة معظمها يشرح المؤلفات المنسوبة إلى ديونسيوس الاريوفاغي. وقد وصلتنا منها رسالة «عرض للترتيب السماوي» Expositiones super hierarchiamceiestiam

ولا نعرف شيئاً عن نشاط اريجين بعد سنة 870 ولا نعرف متى توفي. وقد انتشرت أسطورة تتعلق بنهايته تجعل منه شهيداً، بل وقديساً!

فلسفته

العقل والنقل

ويرى ايريجين أن اللاهوت والفلسفة متفقان، ذلك أن للنفس ثلاث قوى هي: (١) الحواس وتدرك الظواهر (٢) الذهن ratio ويدرك بوصفه علة - الأشياة دون أن يحيط بماهيته، (أ) العقل Intellectus - وهو النوس Nous عند اليونان، وينطلق من حيث وصل الذهن إلى الله بوصفه موضوع المعرفة المحض والرؤية العقلية وليس فقط بمشاهدة المحسوسات الخارجية تدرك النفس وجود الله، بل يكفيها أن تدخل في ذاتها وتتأمل فيها، هنالك ستجد الثالوث الجوهري للخير الإلهي. وهذا الطريق الباطن افضل من الأول، وهو ثمرة ملكة أولى تسبق الذهنوالحس.وبعد أن تصعد النغس الى هذه القمة تعود فتنزل لتغني الذهن والحس:

لكن هناك نصوصا يبدو منها أن اسكوت اريجين يجعل الاولوية للعقل على النقل، للفلسفة على اللاهوت، إذ يقول مثلاً (( النقل يصدر عن العقل الحى، أما العقل فلا يصدر أبداً عن النقل).

كيف إذن يقول باتفاق العقل والنقل؟- بواسطة تأويل نصوص النقل على نحو يتفق مع ما يقرره العقل.

الطبيعة

يستعمل اريجين كلمة natura بمعنى عام يدل على كل ما هو موجود وما هو غير موجود. والطبيعة تنقسم الى أربعة أنواع :

١ - الطبيعة الخالقة غير المخلوقة

٢ - الطبيعة المخلوقة الخالقة

٣ - الطبيعة المخلوقة غير الخالقة

٤ - الطبيعة غير المخلوقة وغير الخالقة.

والأولى هي الله ، فهوخالق وغيرمخلوق . والثانية هي العلل الأصلية ، هي الصور التي جها يخلق الله ما يخلق ، والثالثة هي المخلوقات ، والرابعة هي الله بوصفه غاية الكل ، الله الذي اليه تعود كل الأشياء التي سبق أن خلقها . وأريجين يكرس الغالات الثلاث الأولى من كتابه « في تقسيم الطبيعة» للبحث في الانواع الثلاثة الأولى من الطبيعة ، بينما يكرس للنوع الرابع لمقالتين الرابعة والخامسة ، مع تداخل أحيانا . فلننظر في هذه الطبائع الأربع .

الطبيعة الخالقة غير المخلوقة: الله الخالق

هناك طريقان لمعرفة الله ووجوده ، ميزهما الأريوفاغي المزعوم، ويسمى الاول لسد والثاني^ىد¿، الأول يوجب ، والثاني يسلب، ولهذا انقسم اللاهوت الى نوعين : لاهوت سالب ، ولاهوت موجب .

يقوم اللاهوت السالب على أساس أن الله يعلوعلى العالم ، وأنه بعيد بعدا لا نهائيا ، ولهذا فان مهمة هذا اللاهوت السالب أن يمنع من وصف الله بصفات المخلوقات ، ويمنع العقل من أن يتصور الله غيرلا نهائي ، وذلك يحدث إذااراد العقل أن يحدد الله داخل حد , ولهذا ينكر امكان أن يحد الله . وينكر امكان التعبير عنه بالكلام الانساني .

أما اللاهوت الايجابي فيعى بالبحث في الله من حيث هو علة ، ولما كانت العلة تعبر عن نفسها فيما هي علة له ، كان في وسع هذا اللاهوت أن يصف الله بأوصاف ايجاية .

اللاهوت السالب يمنع من أن تؤخذ أوصاف الله الواردة في الكتب المقدسة بحروفها . لكن هذين اللاهوتين يصحح كلاهما الآخر. فان قال اللاهوت الايجاي: الله حق، خير، عدل ، حي ، عالم ، الخ - فان اللاهوت السالب يصحح هذه الأوصاف فيقول : الله حق فوق كلحق، وخيرفوق كل خير، وعدل فوق كل عدل . . . الخ .

كذلك نجد أن المقولات العشر الأرسطية لا تليق بالله، الا على سبيل المجازفحسب . . ان الله لايمكن التعبيرعنه . واذا وصل العقل ، في المرتبة الثالثة من قوى النفس كما حددناها من قبل ، الى رز ية الله ، فانه لا يراه في ماهيته ، ولا يراه في ذاته، إذ ا يستطيع أي مخلوق كاثناً من كان أن يرى الله في ذاته، حتى ولا الأبرار في أعلى عليين. كل ماهناك أن العقل إذا بلغ الدرجة العليا من المعرفة يفهم ان الله لا يمكن معرفته اي إدراك ماهيته. ولا يمكن تعريف الله إلا سلباً، وذلك بان ننفي عنهكل ما لا يليق به.

الطبيعة المخلوقة الخالقة

ويعني جها المثل الافلاطونية ، خصوصا كما فهمتها الافلاطونية المحدثة تحت اسم «النوس» ، وكما فسرها أوغسطين لصالح المسيحية ، وكماتتجلى بوضوح في الكتب المنسوبة الى ديونسيوس الأريوفاغي . وأريجين يحذوحذوهذا الاخير خصوصا .

هذه المثل ، أو العلل النموذجية كما يسميها اليونان 0*10^0^00 هي نماذج وصور وأشكال وماهيات مخلوقة قبل سائر الأشياء بواسطة وفي داخل العلة الأولى ووفقا لها تخلق العلة الأولى الأشياء. والثالوث يسبقها لكن من الناحية العقلية فقط وكما تسبق العلة المعلول. بيد أنها في الحقيقة ماوقة في القدم «للكلمة»، وقد أودعها الله في «الكلمة» منذ الأزل. والروح القدس هي التي ترتبها وتوزعها، وهي التي اخرجتمنهاالأجناس والأنواع والأفراد إلى غير نهاية.

الطبيعة المخلوقة غيرالخالقة

كل الاشياء خلقت اذن في « الكلمة». كيف يتم الخلق اذن؟

ان الثالوث الخالق، وان كان منطقيا يسبق العلل الأولى يقوم ويوجد في المخلوفات . وتبعا لذلك فان العالم أزلي ، بحكم أزلية الثالوث والعلل الأولى ، المودعة في « الكلمة » . ان الله هو بمثابة المنبع ، والعلل الأولى هي بمثابة النهر ، والمخلوقات هي الامواج التي يجري ٢ا تيار النهر. وما في المنبع (ال) يجري، خلال العلل الأولى، إلى المخلوقات. وكل ما وجد انما وجد بفضل انتشار من الموجود الالهي . لم يكن قبل الله شيء ، فنظر الله في ذاته ، وخلق المخلوقات ، فهي اذن أزلية في الله . والله في خلقه المخلوقات يخلق ذاته في نفس الوفت، لانه لا يصبح مرئياً وفعالاً إلا بها. وحين يفزع التلميذ منهذه الأقوال التي يبديها الأستاذ ، يقول لههذا الأخير ن ادراك هذه الأمور ليس ميسرا الآ لن اوتي روحا طاهرة من كل نجيل أرضي .

وبين العالم المعقول ، الذي ينفتح في سماء الملائكة ، وبين العالم المحسوس الذي ينزل الى أحط درجات الموجودات الخالية من العقل - يقوم الانسان - وهو يجمع بين المعقول والمحسوس. إنالانسان هومركز الخلق ، وخلاصة الكون ، وهو اوسيط والمخلص للكون ونفسه صورة للثالوث والفارق الوحيد بينهما أن الثالوث الالهي غيرمخلوق وأنه هو الله بفضل شرف ماهيته . بينما ثالوث النفس الانسانية مخلوق خلقه من هوصورة له ، وليس الهياً الا بسبب من فيض الجود الالهي عليه . وسائر الفروق انما نجمت عن الخطيئة الأولى . والجم الاناني انما اتخذته النفس الانسانية بعد ارتكابها للخطيئة كاداة لها . أما قبل الخطيئة فقد كان جسم الانسان روحانيا خالدا ، وسيصير هكذا بعد البعث . وكل ما يبقى ثابتاً في الجم ينتهي الى حالته الأولى قبل الخطيئة ، وكل ما يتغير منه انما هوما أضيف عليه بعدارتكابها. ويميزأريجين بين جسمين : جم روحافي ، وجسم هيولافي هو ال مؤ لف من العناصر الأربعة وعليه يجري التغير بأنواعه من استحالة وغمو ونقصان وهذا الجم الروحاني يشترك بين جميع الناس وهر واحد فيهم جيعاًع أولي، كلي، باطن . وينتج عنهذا أنه م يكن فبل الخطيئة توالد بين الناس كما لا يوجد توالد بين الملائكة. كذلك لم يوجد تمايز بين الذكروالأنثى.

والسبب في الخطيئة هو اساءة استخدام الانسان لحريته . وهذه الحرية لن يفقدها الانسان بعد الخطيئة ، ولم يوجد بين الخلق وبين الخطيئة فترة زمنية ، بل عقلية فقط . فمنذ أن خلق الله العالم خطى ء الانسان . وما نميه فترة البراءة ، او الجنة، لم توجد ابدا ، ولو كانت وجدت لما تخلى عنها الانسان وقد ذاقها. وما الجنة الآ الطبيعة الانسانية هي نفسها . ان الانسان ، بدلا من أن يتوجه الى الله ، توجه الى ذاته ، وتلك هي الخطيئة ، فهي خطيئة كبرياء . أما السبب في اساءة استعمال الانسان لحريته فهوأمر يعلن اريجين انه يجهله . ذلك أن لشر عدم ، والعدم لا شيء ، فسبب اساءة استعمال الانسان لحريته هر لا شي‘ ، اي الخلو من الارادة.

الطبيعة غيرالمخلوقة وغيرالخالقة، أوالله بوصفه غاية الكل

وجميع الموجودات ستعود الى حضن خالقها. إن البداية والنهاية أو المبدا والمعاد وجهان لشيء واحد . والمبدأ والمعاد بالنسبة الى الانسان هما الله ، منه بدأ واليه يعود .

ومراحل هذه العودة هي :

١ - ينحل الجسم الانسافي امادي ٢-ثم يبعث ٣-ثم يتجلى مع جم روحافي ٤ - ثم يعود الانسان إلى العلل الأولى ٥- ثم تتحرك الطبيعة الانسانية والعلل الأولى في الله وهنالك يصبح الله هو الكل في الكل، وذلك حين لا يكون ثم الآ الله» erit enim Deus omnia in omnibus,quando nihil eriti nisi solus Deus

وعودة المخلوقات الى الله كان ينبغي أن تتم بواسطة الإنسان، لكناانان ، بارتكابه للخطيئة ، صارعاجزا ، عن أداء هذا الدور . لهذا جاء لمسيح وسيطا بين الله والانسان ليتولى القيام بهذه المهمة لقد اتخذ الله صورة الناسوت ، ليعيد الانسانية والخليقة كلها الى الألوهية . والمسيح اتخذ صورة الناسوت لأن الانسان يحتوي على الخليقة كلها وهوخلاصتها .

وما يعود الى الله ليس هذا العالم الخاضع للكون والفاد ، فكل هذا سيفنى . لكن جوهر الاشياء سيبقى ، وجوهرها هو العلل الأولى ، هو الصور . وما الاجسام التي نراها الا ظلال لذلك الجوهر الموجود في العلل الأولى . لقد بقيت الجواهر في العلل الأولى، والعلل الأولى بقيت في ,الكلمة» . والبعث انما سيكون لهذه الجواهر ، للعلل الأولى ، وهيهي التي ستعود إلى اله.

فان قيل : اذن سيفنى الأفراد ولن يكون هناك فرديات متميزة ؟ يجيب اريجين بالنفي ، مستخدما التشبيهات لشرح هذا الحال : فيقول ان الفرديات ستبقى برغم الوحدة ، كما تبقى الاصرات الفردية في الكورس (جوقة الانشاد) وتبقى المصابيح الفردية في النور الشاملداخلكنيسة، الخ. إن لطائع المختلفة يمكن ان تتحد دون ان تمتزج .

وماذا اذن عن الحياة الآخرة ؟

يقول اريجين ان الشر سيمحى من الخليقة حين تعود الى الله . لهذا لن يكون هناك عذاب مادي له مكان محدد هو الجحيم. بل العذاب عذاب الضمائر. أما الجنة فهي عودة كل الخليقة الى الله، والمقربون والأبرار والأخيار المصطفون سيكونون بالقرب من الله دون ن يتحولوا اليه - فهذا امتياز للمسيح وحده - أما الاشرار فسيكونون بعيدين عن الله , وعقابهم هو شعورهم بهذا البعد عن الله ، والجحيم اذن هو بقاؤهم بعيدين بالفكرعن الله. اما الأوصاف المادية التي اوردها آباء الكنيسة في وصفهم للجحيم فانها تشبيهات حسية لتقريب المعنى الى فهم عامة الناس وهم حسيون جسدانيون.

تقويم

يعد كثير من الباحثين في فلسفة العصور الوسطى أريجين مفكرا حرا جدا . . . ينبغي وضع اسمه في أول ثبت شهداء الفلسفة » على حد تعبيد هوريو، ويستندون في ذلك الى النصوص التي يؤكد فيها أريجين سيادة العقل على النقل ، وضرورة تأويل النقل لصالح ما يقضي به العقل . والواقع أن أريجين ، لو قورن بسائر فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية، لوجدناه ينفرد باراء جريئة لا نكاد نجد لها نظيرا حتى لدى المفكرين الكبار في القرنين الثالث عشر والرابع عشر ويمكن مقارنته بابن رشدمن ناحية، وبابن عربي من ناحية أخرى: الأول في حرية الفكر، والثاني في آرائه الحلولية والاتحادية .