تجزؤ سوق العمل
تجزؤ سوق العمل (بالإنجليزية: Labour Market Segmentaion) ترى النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، فى جوهرها، أن هناك سوقاً للعمل يضم بائعين ومشترين يدخلون فى منافسة مفتوحة مع بعضهم البعض، ويدار هذا السوق بصفة عامة بنفس الطريقة التى تدار بها الأسواق الأخرى. ولكن هناك بالطبع بعض الفروق و أوجه الاختلاف. فالعمل ليس سلعة متجانسة تجانسا تاماً: فالعمال يختلفون فى أذواقهم وتفضيلهم لأوقات الفراغ على أوقات العمل، فضلا عن تفضيلهم المكافآت المالية عن المكافات غير المالية. كما أنهم يختلفون فى رأس المال البشرى، وفى إنفاقهم على التعليم والتدربب، وتحسين مهارات العمل والخبرة. لكن على الرغم من كل هذا، يظل تحليل المعروض من العمل والطلب عليه ممكنا إذا نظرنا إلى العمل فى مجموعه.
وتعرض هذا النموذج الخاص بسوق العمل للتعديل والتدقيق بمرور الوقت بحيث أصبح قادراً على أن يفسر كيغ أن الأطباء ومصممى الأزياء، على سبيل المثال، يعملون داخل أسواق مختلفة عن بعضها تمام الاختلاف. وكان عالم الاقتصاد البريطانى ألفرد مارشال أول من قدم فكرة الجماعات غير المتناغمة داخل سوق العمل خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. وقد أمكن تعريف أهم الحدود الفاصلة داخل هذا السوق بأنها الحدود المهنية، و الجغرافية، والصناعية.
فأسواق العمل المهنية تنشأ بناء على تقسيم العمل وتزايد معدل التباين والتخصص، مع عجز العمال عن الانتقال بين المهن التى تحتاج مهارات مختلفة اختلافاً كبيراً وانفاقاً عالياً على التدريب والمؤهلات. فالأطباء والممرضات، على سبيل المثال، يشكلون أسواق عمل مهنية محتلفة كلية، على الرغم من كونهم يعملون جنباً إلى جنب داخل نفس المؤسسات -وعن طريق تقييد الدخول إلى المهنة من خلال تحديد الحد الأدنى من المؤهلات و الخبرة المطلوبة مثلا، يمكن لم يشغلون هذه المهن أن يتحكموا فى المعروض من العمل وأن يحسنوا من أجورهم.
كما يمكن تحديد سوق العمل من الناحية المكانية (الجغرافية)، حيث لايستطيع العمال ولاأصحاب العمل الانتقال إلى مكان آخر دون أن يتجشموا تكاليف كبيرة. ونتيجة لذلك تظل الأجور مرتفعة داخل المدن الكبرى، حتى عندما يوجد على سبيل المثال، عدد كبير من المتعطلين فى مناطق أخرى من الدولة. ويستخدم مصطلح سوق العمل المحلى عادة للإشارة إلى سوق العمل داخل مكان معين -كإحدى المناطق الصناعية أو البلدات أو المدن.
وتظهر أسواق العمل الصناعى عندما يتطلب أصحاب الأعمال فى بعض الصناعات عمالا ذوى مهارات خاصة أو مجموعة من المهارات، ويسعون إلى الاحتفاظ بالعمال أطول فترة ممكنة بعد حصولهم على التدريب. ويمكن، على سبيل المثال، لضباط البوليس، والموظفين المدنيين، وعمال المناجم أن ينتقلوا عبر المناطق المختلفة داخل الدولة، لدى أصحاب عمل مختلفين، حيث يمارسون نفس المهارات داخل عملهم، ويحصلون على نفس شروط العمل أو على شروط مماثلة للمعمول به فى الصناعة.
لقد تطورت الفكرة الخاصة بالجماعاث غير المتنافسة بشكل أفضل، داخل النظريات التى تندرج تحت مسمى نظرية تجزؤ سوق العمل ,وثمة صياغتين أساسيتين لهذه النظرية: الصياغة الأولى: نظرية سوق العمل الثنائى (أو المجز)، والصياغة الثانية: نظرية سوق المعمل الداخلى. وقد طور هاتين الصياغتين، داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بيتر دورنجر ومايكل بيود فى كتابهما: أسواق العمل الداخلية وتحليل القوى العاملة، الصادر عام 1971، وغيرهما مثل ريثشارد إدواردز، ومايكل رايش ودافيد جوردون فى كتابهم: تجزؤ سوق العمل، الصادر عام 1975، كما أسهمت البحوث الإمبيريقية فى دعم وتطوير هاتين الصياغتين. أما فى أوروبا فقد تطور إطار نظرى واحد يجمع بين هاتين الصياغتين داخل نموذج واحد، على نحوما هو موضح فىالمشكل التالى:

وتتصدى نظرية سوق العمل الثنائى لتحديد الانقسام على المستوى التحليلى، بين قطاعين متمايزين داخل الافتصادوداخل سوق العمل الوطنى وهما: القطاع الأولى والقطاع الثانوى، حيث يتسم كل منهما بنظام مختلف تمام الاختلاف للأجور وخصائص العمالة و العمليات المختلقة. وترى هذه النظرية أن حراك العمل بين هذين النوعين من سوق العمل يكون محدوداً جدا فى الحالات العادية: فالحقيقة أن العمال داخل القطاع الثانوى يظلون مكبلين داخل هذا القطاع إذا لم يدخلوا الجامعة، مثلا، ويحصلوا على مؤهلات أعلى. ويتسم القطاع الثانوى بانتشار البطالة والبطالة الجزئية، كما أن الأعمال لاتتطلب إلا مهارات منخفضة، وتدريبا أقل نسبيا، ويمكن تعلمها نسبيا أثناء ممارسة العمل. وثقل عوائق حراك العمل داخل القطاع الثانوى. فلأن العمل داخل هذا القطاع غير جذاب وغيرمجز، فإن ذلك يؤدى إلى عدم الرغبة فى البقاء، ومن ثم نجد مستويات عالية من تغيير العمل، حيث ينتقل العمال بين أعمال مختلفة وأصحاب عمل مختلفين. وتكون الأجور منخفضة عادة، و لاتهيئ إلا أدنى شروط وظروف العمل. ويختلف المنظرون فى تركيز هم على الأعمال السيئة، من ناحية الأجورو الظروف المرتبطة بها، أو التركيز على العمل الذى لا يتطلب مستوى عالياً من المهارة، أو ما إذا كان كل من القطاع الأولى والقطاع الثانوى يتسم بثقافات عمل مختلفة اختلاقاً بعيداً. أما القطاع الأولى (الأساسى) فيضم عادة المستويات الأعلى والأوضاع الأعلى والأعمال ذات الأجور الأفضل مع أصحاب عمل يتيحون أفضل شروط وظروف العمل. وتركز بعض الصياغات النظرية الأخرى على أسواق العمل المهنية التى تقيد الدخول إلى هذه الأسواق. كما تركز: صياغات أخرى على أسواق العمل الصناعية وخصائص أصحاب العمل الذين يعملون داخل هذه الأسواق. وينقسم سوق العمل الثانوى إلى طبقتين إحداهما عليا والأخرى دنيا. وتلقى هذه المفاهيم الاقتصادية الخاصة بالقطاعات الأولية و الثانوية الضوء على النظرية السوسيولوجية الخاصة بالتدرج الاجتماعى والحراك الاجتماعى بين الطبقات وتجمع بينهما أوجه شبه قوية. كما نجد أن نظرية أسواق العمل الداخلية لها نظائر شديدة الشبه بالمناقشات السوسيولوجية ل: بلقنة أسواق العمل والإقطاع الصناعى، وقضيته حقوق الملكية داخل العمل. وترتبط نظرية تجزؤ سوق العمل بعلماء الاجتماع أكثر من ارتباطها بنظرية الاقتصاد الكلاسيكى (اتظر: الاقتصاد الحر)، كما مهدت لأبحاث متعددة التخصصات حول أداء سوق العمل لوظائفه.
ويعد سوق العمل الداخلى وحدة إدارية، تشبه الوحدة الإدارية أو المصنع، حيث تتحدد مستويات العمالة والأجور بناء على مجموعة من القواعدوالاجراءات الإدارية الداخلية. وهو يختلف اختلافا تاما عن سوق العمل الخارجى داخل النظرية الاقتصادية التقليدية، حيث تخضع عمليات تحديد الأسعار والمخصصات وقرارات التدريب للعديد من المتغيرات الاقتصادية. لكن ثمة ارتباط بين السوق الداخلى والسوق الخارجى، حيث يمكن الانتقال بينهما من خلال منافذ معينة للدخول والخروج. كما أن الأعمال داخل السوق الداخلى يشغلها العمال الذين تأهلوا للدخول عن طريق الترقى أو التحويل. كما تكون الأعمال داخل السوق الداخلى بمناى عن الآثار المباشرة للقوى المنافسة داخل السوق الخارجى. وثمة منظور تحليلى آخر يركز على التحليل فى ضوء ثنائية الداخل والخارج، الذى يحدد المزايا المرتبطة بأوضاع معينة داخل سوق العمل، أو أنماط أصحاب العمل، أو الصناعة.
وفى دراسة أجراها لفريدج وموك للجماعة الأوروبية (فى كتابهما: نظريات تجزؤ سوق العمل، المنشور عام 1979 حاولا إدماج هذه المواقف النظرية داخل تصنيف رباعى لأسواق العمل تبعا لنوع الموسسة، كما هو موضح فى الشكل السابق. فالأعمالداخل القطاع لداخلى الأولى هى تلك الأعمال التى ترتبط بالوظائف الثابتة داخل المؤسسة، وهى الأعمال التى تحتاج إلى تدريب طويل داخل العمل وإلى مهارات خاصة بطبيعة العمل فى المؤسسة. كما تتسم هذه الأعمال بالأمان، وفرص الترقى الجيدة، والمستقبل المضمون، ومدى أوسع من حرية الاختيار و ا لمكافآت المادية الأعلى. ويحتاج العمل الحرفى المتخصص إلى مهارات مهنية خاصة أكثر من احتياجاته إلى مهارات إدارية، وغالباًمايتم الحصول عليه وفق عقد أو وفق نظام تعاقد يتولاه المستخدم نفسه، وهى أمور مميزة للقطاع الخارجى من سوق العمل الأولى. أما القطاع الثانوى الخارجى فيقدم الأعمال التى تحتاج إلى مستوى منخفض من المهارة، كما لا يتيح سوى قدر قليل من الاستقلال والمسئولية، وعوائد منخفضة وغير مستقرة، وظروف عمل قاسية، بما فى ذلك العمل المؤقت والعمل الموسمى. يينما يوفر القطاع الثانوى الداخلى الأعمال الأقل مرتبة، والتى تحتاج إلى بعض التدريب أتناء العمل، وتتسم بالأمان وفرص الترقى. ويوضح النموذج كيف أن الاتتقال بين المقطاعات الأولية الداخلية والقطاعات الثانوية الخارجية غير وارد فى حقيقة الأمر، ولايحدث إلا بدرجات واتجاهات مختلفة للحركة بين المقطاعات الممتقاربة، ويكون محكوما بالتغيرات فى رأس المال البشرى، واستجابة أصحاب العمل للبيئة الاقتصادية المتغيرة.
وتكشف البحوث الإمبيريقية عن الممجتمعات الصناعية أن المرأة، والأقليات الإثنية، والعمال المهاجرين يتركزون داخل سوق العمل الثاتوى. لكن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية يختلفون حول ما إذا كان يجب على التحليل الإمبيريقى أن يركز على العمال، أو الأعمال، أو المهن، أو المشركات، أو أماكن العمل، أو الصناعات، أو على أكثر من واحد من هذه العناصر: لقد دخلت مفاهيم أسواق العمل( أو القطاعات) الأولية والثانوية إلى مجال الفكر التقليدى السائد، حيث يعنى سوق العمل الأولى الأفراد الذين يتمتعون بأمان داخل العمل وبظروف عمل جيدة داخل القطاع العام، والشركات الكبرى والصناعات التى توجد بها كيانات تقابية قوية. أما سوق العمل الثانوى فى هذا الفكر فيعنى صغار أصحاب الأعمال، و القطاعات التى لايوجد بها تقابات قوية، وتتسم بأنها صناعات صغيرة ومتنافسة مثل صناعات التجزئة، حيث ظروف العمل أقل أمانا، وظروف العمل و الأجور هى الأشد قسوة.