النسبية (مذهب فلسفي)
هذه الصفحة عن المفهوم الفلسفي. إن كنت تقصد المفهوم الفيزيائي انظر النسبية
النسبية أو المذهب النسبي (بالإنجليزية: Relativism) كلمة تٌستخدم بصورة فضفاضة لوصف مجموعة من المواقف الفكرية والآراء الفلسفية التى ترفض الادعاءات بالموضوعية فيما يتعلق بمجال ما والمعايير أو المحكات المطلقة أو العمومية، وتؤكد على الصلة بين الحقائق في أي مجال من جهة ومنظور المراقب أو السياق الذي تُقيّم من خلاله من جهة أخرى.
وقد روج نقاد الوضعية - الذين كانوا مؤثرين فى الستينيات والسبعينيات - بطريق الخطأ لنوع من النسبية، باعتبارها البديل الوحيد. كما أن العمل الذى قدمه ميشيل فوكوه - فيما بعد - والذى ربط فيه بين أنظمة الحقيقة وبين علاقات القوة، أضاف إلى المنظورات النسبية فى مجال علم الاجتماع ومجالات علمية أخرى.
أشكال النسبية
تتعدد الأشكال المختلفة للنسبية، وتختلف فيما بينها من حيث نطاقها وحجم الجدل المحيط بها.
النسبية الأبستمولوجية
تنطوي النسبية الأبستمولوجية (المعرفية) على وجهة النظر القائلة بوجود حقائق نسبية لا مطلقة فيما يتعلق بمعايير الإيمان أو التبرير أو العقلانية، وبأنه لا يوجد معيار مطلق للمعرفة أو الحقيقة. فما يعتبر حقيقيا يكون استناداً إلى محكات داخلية ونسبية ترتبط بالثقافات المحلية أو المراحل التاريخية أو الاهتمامات والمصالح السياسية الاجتماعية (مثل مجتمع العلماء، الطبقة الحاكمة، البروليتاريا الثورية....إلخ).
النسبية الأخلاقية
يشمل نطاق النسبية الأخلاقية الاختلافات في الأحكام الأخلاقية بين الناس والثقافات وهي وجهة النظر القائلة بأنه لا يوجد معايير أخلاقية موضوعية. وهذه الوجهة من النظر، شأنها شأن وجهة النظر الخاصة بالنسبية الإبستمولوجية (المعرفية)، أصبحت قوية التأثير خاصة من خلال الترويج لمؤلفات الفيلسوف الألمانى نيتشة على يد فوكوه و آخرين.
والنسبية الأخلاقية أيضاً وعلى الرغم من ترحيب علماء الاجتماع (بفكرة النسبية) بروح التسامح و الاحترام للفسروق بين الثقافات، فإنه غالبا ما يتم نسيان أن وجهات النظر هذه ذات ارتباط تاريخى قوى باللاعقلانية السياسية - وبشكل خاص - بالنازية الأوروبية. ويجب أن نتذكر أنه من خلال وجهة النظر المتطرفة لمذهب النسبية الأخلاقية ليس هناك صلاحية عامة لقيم مثل الاحترام والتسامح، فهى مجرد خصوصيات لتقاليد أخلاقية معينة (مثل الليبرالية). ويمكن أن نجد أقوى عبارات التعبير عن مذهب النسبية المتطرفة، فى أعمال بول فاير آبند Feyerabd. وفى سلسلة من الحجج المتضاربة ضد رشد العلم ومنهجه وموضوعيته، يشير فاير آبند إلى نفسه على أنه ثرثار وقح. ففى أحد أعماله الذى يحمل عنوان: ضد المنهج، (الصادر عام 1975) يستخدم دراسات تاريخية فى التغير العلمى (كما فعل توماس كون Thomas Khun) ليبين أن هناك على الأقل حجة واحدة على نفس المستوى من القوة يمكن استخدامها لقبول العكس. وكان هدف هذا الجدل هو إضعاف الإيمان بالمنهج فى حد ذاته. والمبدأ الوحيد الذى كان فاير آبند مستعدا لتأييده هو المبدأ القائل بأن "كل شئ صالح". وفى كتاباته اللاحقة (مثل: العلم فى مجتمع حر، الصادر عام 1978)، وكذلك كتاب: وداعاً للعقل الصادر عام 1987)، عرض فاير آبند بصورة أوضح الأسس العاطفية و الأخلاقية للنسبية. وهو يرى عالماً يتزايد فيه انتشار وسيطرة طريقة الحياة ذات الطابع العلمى الصناعى الغربى مما بقلل من التنوع الثقافى ويدمر البيئة ويؤدى إلى إفقار الحياة. والمتهم الرئيسي فى هذا السيناريو هو المعلم وادعاءاته المرتبطة به، وهى الموضوعية والعقل. فقد تم إفساد هذا الثلاثى بإدماجه فى نغمة واحدة عالمية، بدرجة أنه يجب التخلى عنها لصالح حرية الكل بحيث تتوافر القوة والموارد بنفس العدالة لكل من السحر، والشعوذة، والطب التقليدى أو أى بدائل أخرى. و على العكس من فاي رآبند فهناك من يرى أن سوء استخدام العلم بواسطة المصالح القوية فى المجتمع لا يعد مبررا كافيا للتخلى عن كل الفوائد القائمة، والممكنة، والتى قد تترتب على عزله أو فصله عن تلك الاهتمامات. كما يمكن القول بان التخلى عن العقل (أو العلية) لم يكن من الناحية التاريخية أقل تدميرا من سوء استخدامه.
النسبية الطورية
ينطوي مفهوم النسبية الطورية أيضًا على غياب الحقائق المطلقة، إذا ترتبط الحقيقة دائمًا بإطار مرجعي ما، كاللغة أو الثقافة مثلًا (النسبوية الثقافية). تتشابه بعض أشكال النسبية مع الشكوكية الفلسفية. تسعى النسبية الوصفية إلى وصف الاختلافات بين الثقافات والأفراد دون أي تقييم، ف
النسبية الأنثروبولوجية مقابل النسبية الفلسفية
يشير مفهوم النسبية الأنثروبولوجية إلى الموقف المنهجي الذي يتخذه الباحث حين يعلق (أو يستبعد) تحيزه الثقافي في سبيل فهم المعتقدات أو السلوكيات ضمن سياقاتها. اشتهر هذا المفهوم باسم النسبية المنهجية، وهو مُعنى أساسًا بتفادي المركزية العرقية، أي تأثير المعايير الثقافية الخاصة على تقييم الثقافات الأخرى. تُعتبر النسبية الأنثروبولوجية هذه أساس التمييز بين «المقاربة الداخلية» و«المقاربة الخارجية»:
- المقاربة الداخلية للسلوك، هي توصيف المجتمع بعبارات مرتبطة بثقافة المشارك أو الفاعل، أي تصبح التوصيفات الداخلية معنيةً بثقافة المشارك وحسب، وغالبًا ما تشير هذه التوصيفات إلى وجود «الفطرة السليمة» ضمن حدود الثقافة الخاضعة للمراقبة.
- المقاربة الخارجية للسلوك، هي توصيف مراقب ما لمجتمع معين بعبارات قابلة للتطبيق على ثقافات أخرى، أي تصبح التوصيفات الخارجية محايدةً من الناحية الثقافية، وعادةً ما تشير هذه التوصيفات إلى الإطار المفاهيمي لعالم الاجتماع. (يصبح الأمر معقدًا عندما يكون البحث العلمي نفسه قيد الدراسة، أو عند وجود خلاف نظري أو اصطلاحي بين العلوم الاجتماعية).
تختلف النسبية الفلسفية عن النسبية الأنثروبولوجية اختلافًا تامًا، إذ تؤكد الأولى على استناد حقيقة افتراض ما إما على الإطار الميتافيزيقي أو النظري -أو الأسلوب الأداتي- الذي يجري من خلاله التعبير عن القضية، أو على الفرد أو الجماعات أو الثقافة الذين يفسرون القضية.
قد تتواجد كل من النسبية المنهجية والنسبية الفلسفية بشكل مستقل عن بعضهما البعض، إلا أن معظم علماء الأنثروبولوجيا يستندون إلى النسبية المتعلقة بالتنوع الفلسفي في نسبيتهم المنهجية.
النسبية الوصفية مقابل النسبية المعيارية
يتسم مفهوم النسبية بأهميته بين أوساط الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا. يمارس علماء الأنثروبولوجيا عمومًا النسبية الوصفية («ما هي طبيعة الأشياء» أو «كيف تبدو الأشياء»)، بينما ينخرط الفلاسفة في النسبية المعيارية («كيف يجب أن تكون الأشياء»). تتقاطع النسبية الوصفية مع النسبية المعيارية (على سبيل المثال، قد تُعنى الأولى بالمفاهيم، والأخيرة بالحقيقة). وتعتمد النسبية المعيارية تقييمًا للأخلاق أو لصحة المعتقدات في إطار معين.
تفترض النسبية الوصفية أن لمجموعات ثقافية معينة أنماط مختلفة من التفكير ومعايير الاستدلال وما إلى ذلك، ومن مهام عالم الأنثروبولوجيا توصيف هذه الأنماط وليس تقييم صحة مبادئ أو ممارسات مجموعة ثقافية ما. قد يكون عالم الانثروبولوجيا خلال عمله الميداني نسبويًا وصفيًا عند تناوله بعض الأمور التي تجذب اهتمام الفلاسفة عادةً (على سبيل المثال، المبادئ الأخلاقية) وليس غيرها (على سبيل المثال، المبادئ المنطقية). وفي المقابل، غالبًا ما يجري التصدي للادعاءات التجريبية للنسبية الوصفية حول المبادئ المعرفية والمثل الأخلاقية ما شابه ذلك من خلال الحجج الأنثروبولوجية التي تصف هذه الأمور بأنها كلية، إذ تهتم الكثير من الأدبيات الحديثة المتمحورة حول هذه الأمور صراحةً بنطاق المسلمات الثقافية أو الأخلاقية أو اللغوية أو البشرية والأدلة عليها.
قد تدفع الحقيقة القائلة إن الأنواع المختلفة للنسبية الوصفية ما هي إلا ادعاءات تجريبية الفيلسوف إلى استنتاج الأهمية الفلسفية المحدودة لها، إلا أنه يوجد عدة أسباب تحول دون حدوث ذلك. أولًا، يزعم العديد من الفلاسفة -مثل كانط- استحالة وجود أنواع معينة من الاختلافات المعرفية بين البشر (أو بين الكائنات العقلانية)، لذا تضع الحجة القائلة إنه لا يمكن العثور على مثل هذه الاختلافات على أرض الواقع قيودًا مسبقةً على ما يمكن استكشافه من خلال الاستقصاء التجريبي وعلى أي شكل قد يكون حقيقيًا من أشكال النسبية الوصفية. ثانيًا، تلعب الادعاءات المتمحورة حول الاختلافات الفعلية بين المجموعات دورًا جوهريًا في بعض الحجج المتعلقة بالنسبية المعيارية (على سبيل المثال، غالبًا ما تستند حجج النسبية الأخلاقية المعيارية إلى مزاعم مفادها أن المجموعات المختلفة تمتلك رموزًا أو مثلًا أخلاقيةً مختلفةً). أخيرًا، يساعد التفسير النسبي الوصفي عالم الأنثروبولوجيا في فصل الجوانب الثابتة للطبيعة البشرية عن الجوانب المتغيرة، لذا يساعدنا الادعاء الوصفي المتمثل في اختلاف (أو عدم اختلاف) بعض الجوانب المهمة للتجربة أو الفكر باختلاف المجموعات البشرية في التوصل إلى شيء مهم حول الطبيعة البشرية والحالة الإنسانية.
تتعلق النسبية المعيارية بالادعاءات المعيارية أو التقييمية القائلة إن أنماط التفكير أو معايير الاستدلال وما شابه ذلك تكون صحيحةً أو خاطئةً من حيث علاقتها بالإطار العام. يُقصد بمصطلح «معياري» المعنى الأعم للكلمة، أي التطبيق على مجموعة واسعة من وجهات النظر. على سبيل المثال، يساوي الصواب المعياري الحقيقة في حالة المعتقدات. لا يعني هذا الأمر أن الصواب النسبي للإطار أو للحقيقة واضح دائمًا، إذ يكمن التحدي الأول في شرح ما يرقى إليه في حالة ما (على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالمفاهيم والحقيقة والمعايير المعرفية). تعني النسبية المعيارية (أي في نطاق النسبية الأخلاقية المعيارية مثلًا) ضمنيًا أن الأشياء (أو الادعاءات الأخلاقية مثلًا) ليست صحيحةً في حد ذاتها وحسب، بل مرتبطةً بقيم الحقيقة المتعلقة بالأطر الأوسع نطاقًا (كالقواعد الأخلاقية مثلًا). (تنطلق العديد من حجج النسبية الأخلاقية المعيارية من المقدمات المنطقية حول الأخلاق وصولًا إلى الاستنتاجات التي من شأنها أن تؤكد نسبية قيم الحقيقة، لكن غالبًا ما يُحبذ النظر إلى نوع النسبية موضع التساؤل بشكل مباشر).