الذرية

(بالتحويل من المذهب الذري)

المذهب الذرّي أو الذرية (بالإنجليزية: Atomism) فكرة فلسفية تطوّرت في اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد. يعتقد الذرّيون أن العناصر الأساسية للحقيقة والعالم تتشكّل من ذرات غير قابلة للانقسام والإتلاف، وهي مادة سابحة في الفضاء. ويظنّون أن الذرّة لها حركة، ولكنها تنعدم وترتدُّ بعد ارتطامها. وقد تكوّنت الدنيا نتيجة هذه الحركات. ووجدت لفترة من الزمن ثم اختفت. وهذه العوالم والأشياء الظاهرية التي وجدت عليها تختلف فقط في الحجم والشكل وموضع ذراتها.

ويعتقد الذريون أن حركة الذرَّات تُحكم بالضرورة. إذن كل حدث هو نتيجة تصادم، وفي النظرية يمكن التنبؤ بها مبكرًا. وقد أدخل الفيلسوف أبيقور الفكرة التي تقول إن الذرات هدف للانحراف العَرضي، وظن أن الانحراف كسر نموذج الأحداث بحتمية وقدم قواعد للإدارة الحرة.

وقد صاغ العالم ليوقبوس المذهب الذري وطوره بتوسع أكثر ديموقريطوس، ثم عدله وبسطه إلى حد ما أبيقور، ونال شهرته على يد الشاعر الروماني لوكريشيس. وقد تم استقاء المصادر الأصلية لهذا المذهب من خلال قصيدة الشاعر لوكريتيوس: طبيعة الأشياء.

المذهب الذري يختزل المعرفة إلى ملاحظة العناصر المتناهية فى الصغر غير القابلة للإنقسام مثل الكائنات الإنسانية - ولكن ليس البنى الاجتماعية أو النظم الاجتماعية. والمذهب الذرى - فى صورته الخالصة - يقول بأن العناصر الأساسية لا تتمتع بقوة علية: فالعلاقه بين هذه العناصر خارجية وعرضية. ومع ذلك فإن رؤية المذهب الذرى للمجتمع يمكن مزجها مع التفسير الطوعى للظواهر الاجتماعية.

شرح المذهب

مؤس المذهب الذري هو ليوقبوس. إلا أن أقوال المؤرخين عن ليوقبس مختلطة تمام الاختلاط بأقوال ديموقريطس، حتى إننا لا نستطيع أن نتحدث عن الواحد دون التحدث عن الأخر، ولهذا فإن ما نقوله عن المذهب الذري يشمل الاثنين معاً.

يقول أرسطو في شرحه لكيفية نشأة المذهب الذري ما يلي: إن الإيليين قالوا بالوجود الثابت وأنكروا التغير لأن ذلك يستدعي القول بالخلاء، ولما كان الخلاء عدماً ولا شيء، فإن الحركة والتغير لا يمكن أن يكونا، فلما رأى الذريون ذلك قالوا بما قال به الإيليون من أن الوجود أزلي أبدي ثابت لا يقبل التغير؛ وقالوا أيضاً إن الخلاء لا شيء. لكنهم قالوا من ناحية أخرى، بعكس ما قال به الإيليون وهو أن الوجود يحتوي أيضاً إلى جانبه العدم والخلاء وذلك لأنهم لم ينكروا التغيرات ولم يعدوها من خداع الحواس كما قال الإيليون بل قالوا إن التغير شيء حقيقي، ولما كان شيئاً حقيقياً فيجب أن نبحث عن تفسيره، ولما كان تفسيره لا يتيسر إلا عن طريق الخلاء فقد وجب القول بالخلاء. فكأن هذا العدم أو هذا اللاوجود الذي هو الخلاء هو شيء أيضاً، أي أنهم رأوا من ناحية أخرى أن الأشياء ليست واحدة بل كثيرة وأن هذه الكثرة ليست كثرة محصورة بل هي كثرة لانهائية، ولذا قالوا أن الوجود يتكون في الأصل من أجسام لامتناهية في العدد، ولما كات هذه الأجسام متصفة بصفات الوجود عند برمنيدس، أي أن هذه الأجسام أزلية أبدية غير قابلة للتغير، فإن التغير لا يمكن أن يتم في داخل كل جسم من هذه الأجسام على حدة، ويقصد بالتغير هنا التغير من حيث الكيف، وهذا طبيعي لأن هذه الأجسام لا تحتوي على خلاء بل هي ملاء تام. ولما كانت الحال كذلك، فإن التغير غير ممكن الحدوث في داخل الأجسام، وعلى هذا فهذه الأجسام الأولى غير متغيرة من حيث الكيف، فهي متصفة إذا بصفات الوجود الثابت عند برمنيدس، ولما كانت هذه الأجسام خالية أيضاً من الخلاء، ولما كان الخلاء هو وحده الذي به يمكن أن تنقسم الأشياء، فإن هذه الأجسام لا تقبل القسمة، بل هي الأجسام النهائية التي تنحل إليها الأشياء، ولا تنحل إلى شيء من الأشياء.

ثم إنهم رأوا من ناحية أخرى تبعاً لحجج زينون أنه إذا قلنا بأن الأشياء تنقسم إلى ما لا نهاية، فالنتيجة لهذا هي أن الأشياء ستكون لا متناهية في الصغر أو لا متناهية في الكبر، ولذا كان عليهم أن يقفوا عند حد التقسيم، فيقولوا بأجزاء لا تتجزاً وهذه الأجزاء التي لا تتجزأ هي ما يسمى باسم الذرات أو الأجزاء التي لا تتجزأ أو الجواهر الفردة. والذرات يوجد بينها الخلاء، والخلاء نفسه موجود في داخل الذرات بينها بعضها وبعض، وليس موجوداً فحسب خارج الذرات كلها ومحيطاً بها.

والآن، فما هي صفات هذه الذرات؟ قلنا إن الذريين قد قالوا بأن التغير التام غير ممكن، وبأن التغير بالكيف لا يتم بالنسبة إلى الذرات بل ولا بالنسبة إلى الوجود كله. فإن هذه الذرات لما كان المراد منها أن تفسر اختلاف الأشياء والتغير، كان لا بد لها في هذه الحالة أن تكون من ناحية متصفة بصفات مختلفة، ومن ناحية أخرى لا بد أن يكون هذا الاختلاف راجعاً لا إلى اختلاف في الكيف بل في الكم وحده، ولذا أضاف الذريون إلى الذرات صفات كمية فحسب، فقالوا إنها تختلف من حيث الشكل والمقدار والوضع أولاً؛ وتلك هي الصفات الأولية الصادرة عن طبيعة الذرات نفسها. وهناك صفات أخرى هي الصفات الثانوية مصدرها إدراكنا وتأثرنا بهذه الذرات. فهناك صفات مثل الثقل والصلابة والكثافة واللون والذوق ناشئة عن إدراكنا لهذه الأشياء. ولهذا نراها تختلف باختلاف الأفراد: فالشىء الواحد قد يظهر ثقيلاً بالنسبة إلى شخص، خفيفاً بالنبسة إلى آخر، فهي صفات نسبية وليست صفات مطلقة كما هي الحال بالنسبة إلى الصفات الأولى.

أما الصفات الأولية فأهمها صفة الشكل، بل إن الذريين يحاولون أحياناً ان يرجعوا إلى هذه الصفة بقية الصفات، فالذرات تختلف بعضها عن بعض من ناحية شكلها، وتختلف في مرتبة الوجود من هذه الناحية، أيضاً، فالمستديرة المصقولة هي الحادة وهي الخاصة بالنار، بينما بقية الذرات الخاصة ببقية العناصر من أنواع أخرى غير هذا النوع المستدير. ومن هنا يلاحظ أن فكرة العناصر لم يقل بها الذريون، وهذا طبيعي أولاً لأن مبادىء الأشياء عندهم هي الذرات وهي لا تختلف من حيث الكيف، بينما عند أصحاب القول بالعناصر، العناصر هى المبادىء الأولى، وهى تختلف فيما بينها وبين بعض بالكيف. ويلاحظ ثانياً أن أصحاب القول بالعناصر يجعلون العناصر خمسة على الأقل، بينما الذريون لا يجعلون للمبادىء الأولى عدداً محدوداً، بل يقولون إن الذرات لا متناهية في العدد فلا يمكن ان نقول عنهم إنهم قالوا بفكرة العناصر.

وتختلف الذرات أيضاً من ناحية المقدار، وهذا راجع خصوصاً إلى الشكل لأنه عل حسب الشكل يكون غالباً المقدار؛ ثم ثالثاً صفة الوضع، فمن حيث موضع الذرات بعضها بالنسبة إلى بعض تختلف. والتغيرات الأصلية ترجع غالباً الى الاختلاف في الوضع، ومن هنا فإن هذه الصفة أولية أيضاً .

أما الصفات الأخرى الثانوية فأهمها من غير شك صفة الثقل، ولوأن ديقريطس وليوقبس لم يوضحا توضيحاً تاماً فكرة الثقل، فإن هذه الفكرة فكرة أساسية في المذهب الذري كما تبين ذلك بكل وضوح لأبيقور، ولكن يلاحظ أن بعضهم ينكر ذلك، قائلاً إن أبيقور لم يوضح القول في هذا إلا كنتيجة لنقد أرسطو لفكرة الذرات كما تصورها ديموقريطس وليوقبس، وعلى هذا فمن الممكن ألا يكون ديمقريطس وليوقبس قد قالا بمسألة الثقل. وعلى كل حال فإن أتسلر من أصحاب الرأي الأول، وهو ينكر هذه الرواية الأخيرة كل الإنكار.

والتغيرات كلها تنشأ عن طريق تجمع الذرات او انفصالها. لكن يجب ألا نفهم من هذا أن هناك كوناً مطلقاً، لأن الكون المطلق معناه الصدور عن لا شيء وهذا غير مكن، كما أن الفناء المطلق أو الفساد المطلق معناه الانتقال إلى لا شيء، وهذا غير ممكن كذلك. ولكن التغير النسبي أي التغير للخاص بالأشياء كلها في داخل العالم هو تغير ممكن بل موجود بالفعل، وهذا التغير مصدره اجتماع الذرات أو انفصالها ثم صفات الذرات واختلاف هذه الصفات بالنسبة إلى المركب الواحد عن المركب الآخر، ومن هنا فإن التغير مرجعه إلى أسباب كمية فحسب، لا تتجاوز الصفات الأولية أو اجتماع الذرات وانفصالها.

والآن كيف ينشأ العالم؟ في البدء كانت الذرات متحركة في الخلاء، والحركة عند ديموقريطس أزلية أبدية، ولهذا فليس هناك موضع للتساؤل: لماذا بدات الحركة وكيف بدأت؟ والحركة نوعان: نوع خاص بحركة الذرات الأولى في الخلاء، ونوع آخر خاص بحركة الذرات من أجل تكوين العالم - أما الحركة الأولى فهي حركة أفقية، فيها اصطدمت الذرات بعضها ببعض، ولما اصطدمت تكونت عنها حركة ثانية، هي حركة دائرية، أو على شكل دوامة، وهذه الحركة الدائرية هي التي حدث عنها هذا الوجود. ذلك أرجح الآراء فيما يتصل بحركات الذرات؛ وهناك رأي آخر يقول إن الذرات كانت متحركة أولاً في الخلاء اللانهائي ثم سقطت عن طريق نقلها إلى أسفل فلما سقطت اختلفت أوضاعها من حيث إن بعض الذرات أثقل من بعض، كما أن البعض منها اجتمع مع البعض الأخر، وتكون من هذا مركب، وعن هذا المركب نشأت حركة الدوامة، وعن هذا كله بدا الوجود. وهذا الرأي الأخير هو رأي اتسلر، ولكن الرأي الأول لا يزال حتى اليوم أرجح الآراء.

وبعد هذا ينشأ الوجود وكل نشأته عن الذرات. ويوجه ديموقريطس عناية خاصة إلى الإنسان والكائنات الحية على وجه العموم، ويجعل هذه الكائنات حية عن طريق نوع خاص من الذرات، هو الذرات اللطيفة المستديرة، أي عن طريق الذرات النارية، وفي الجسم الإنساني توجد هذه الذرات مختلطة بذرات الجسم وتوجد في كل مكان منه، إلا انه يلاحظ أن هذه الذرات تتجمع في أماكن معينة تجمعاً كبيراً دون الأماكن الأخرى لأن في الجسم مواضع خاصة بأنواع معينة من الانفعالات. ففي العقل توجد أرقى أنواع الذرات وعن هذا الطريق ينشأ التفكير ؛ وفي القلب نوع أدنى من الذرات وعن هذا الطريق ينشأ الخيال؛ كما يوجد نوع ثالث في الكبد ومنه تنشأ العواطف. والتفكير راجع قطعاً إلى الذرات فالتصورات التي تأتي من الخارج تأتي على شكل ذرات، والتأثير يتم هنا عن تصور سيال يأتي من الخارج وينتقل إلى أعضاء الحس ومنه إلى العقل فكما أن أنبادوقليس قد قال من قبل بفكرة السيال من أجل أن يبين تغير الأشياء من حيث تأثير بعضها في بعض على بعد، كذلك نرى ديموقريطس يفسر تغير الأشياء فيما يتصل بتأثيرها على بعد عن طريق افتراضه وجود سيالات مستمرة فيما بين الذرات بعضها وبعض. ومن هنا يفسر كيف يحدث التأثير دون تماس.

وعلى هذا نرى أن تفسيره للظواهر النفسية تفسير مادي صرف، فكأنه في الجزء الخاص بعلم الحياة كان أيضاً مادياً، ولم يقل بوجود شيء روحي أو حياة طبيعية من شأنها ان تحدث هذا التغير في الأشياء .

وقد وجه ديموقريطس بعض عنايته إلى الأخلاق فتصور الأخلاق من ناحيته تصوراً حسياً كما يقتضي ذلك مذهبه، وقال إن السعادة هى اللذة والخلو من الألم إلا أنه لم يتصور هذه اللذات تصوراً لذياً صرفاً بوصفها لذة وألماً فحسب، بل إلى جانب ذلك تصورها على أنها سعادة عقلية، ولذا انتهى إلى القول بأن السعادة الحقيقية هي سعادة الهدوء والفراغ من المشاغل والتأثيرات الخارجية، فكان بذلك شبيهاً كل الشبه بتلميذه في المذهب الذري أبيقور. وعلى الرغم من هذه العناية بالأخلاق لا يمكننا أن نقول إن مذهبه في الأخلاق كان مذهباً أخلاقياً بمعنى الكلمة، بل هو لا يخرج عن كونه ملاحظات أخلاقية توسع فيها بعض التوسع، فبحث في المسائل الأخلاقية، ولكنه لم يبحث في الأسس التي تقوم عليها الأخلاق.

فإذا نظرنا الآن نظرة عامة إلى المذهب الذري، وجدنا أن هذ المذهب قد جمع بين المذاهب السابقة جميعاً. فهو يجمع من ناحية بين صفات الوجود عند الإيليين وبين الكثرة والتغير عند هرقليطس؛ كما يحاول الأخذ بحجج زينون وتأثير هذه الحجج، وعلى هذا فمذهب الذريين جمع بين المذاهب المختلفة. ويؤخذ عليه أنه مادي صرف لا يخرج من التفسير الآلي إلى أي تفسير عقلي أو روحي. وقد حاول البعض أن يصور هذا المذهب بأنه مذهب سوفسطائي، ومن أتباع هذا الرأي اشلير ماخر ثم رتر؛ إلا أن هذا الرأي قد فنده اتسلر تفنيداً نهائياً لأنه رأى أن هؤلاء ينسبون إلى المذهب الذري صفة السوفسطائية نظراً لإنه لم يكن في اتجاهه في المعرفة مذهباً علمياً تاماً، والواقع فيما يرى اتسلر - أن صفة السوفطائية لا يمكن ان تضاف الى مذهب إلا إذا كان لا يؤمن بالحقائق الموضوعية ويجعل الإنسان مقياس كل شيء. ويتصور كل الأشياء تصوراً ذاتياً لا تصوراً موضوعياً. وهذه الصفات لا تتوافر في الذريين، ولذا لا يمكن أن نعدهم من بين السوفسطائيين.

انظر أيضاً