اشتراكية حقيقية
كانت الاشتراكية الحقيقية أو الاشتراكية الواقعية (بالإنجليزية: Real Socialism) (أيضًا الاشتراكية القائمة فعليًا أو الاشتراكية المتطورة) شعارًا أيديولوجيًا شائعًا خلال عصر بريجينيف في بلدان الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي.
أشار المصطلح إلى النموذج السوفييتي للتخطيط الاقتصادي الذي فرضته الأحزاب الشيوعية الحاكمة في ذلك الوقت بالذات. منذ ستينيات القرن العشرين فصاعدًا، بدأت دول مثل بولندا وألمانيا الشرقية والمجر وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا بالمجادلة أن سياساتها تمثل واقعيًا ما هو ممكن بالنظر إلى مستوى إنتاجيتها، حتى وإن كانت لا تتوافق مع المفهوم الماركسي للاشتراكية.
أشار مفهوم الاشتراكية الحقيقية إلى نظام اشتراكي مستقبلي عالي التطور. وعلى الرغم من ذلك، تسبب النمو المتأخر للاشتراكية والمستوى الهزيل للمعيشة في بلدان مجلس التعاون الاقتصادي بالنظر بصورة متزايدة إلى مصطلح «الاشتراكية الحقيقية» على أنه مخادع وغير حقيقي. بدأت إطلاق الحزب لاسم الاشتراكية يكتسب دلالاتٍ ليست سلبيةً فحسب، بل أيضًا تهكمية. في السنوات اللاحقة وعلى وجه التحديد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بات المصطلح يُذكر على أنه يشير إلى شيء واحد فقط، كمرجع للاشتراكية على الطراز السوفييتي.
التعريف
بعد الحرب العالمية الثانية، باتت مصطلحات «الاشتراكية الحقيقية» أو «الاشتراكية القائمة فعليًا» الكلمات الملطفة السائدة المستخدَمة كوصف ذاتي لدى أنظمة دول المعسكر الشرقي السياسية والاقتصادية ونماذج مجتمعاتها. غالبًا ما يشار إليها من الناحية القانونية بـ«الجمهوريات الشعبية (الديمقراطية)»، حُكمت هذه الدول من قبل حزب ماركسي لينيني حليف للاتحاد السوفييتي، وحُكم بعضها بشكل استبدادي وكَيّفت صيغةً من الاقتصاد المخطط وروّجت للاشتراكية و\أو الشيوعية كأيديولوجيا لها. طُرح مصطلح «الاشتراكية الحقيقية (القائمة فعليًا)» لتفسير الفجوة الواضحة بين الإطار الأيديولوجي المروَّج له والواقع الاقتصادي والسياسي الذي واجهته مجتمعات هذه الدول.
نظراً لعدم إمكانية تطبيق مفاهيم مثل اشتراكية وشيوعية، إذا أخذنا فى الاعتبار اختلاف واقع الاشتراكية السوفيتية عن النموذج الذى يتضح خلال الأعمال الكلاسيكية الماركسية اللينينية، كان لابد من مفاهيم بديلة. فظهرت مفاهيم مثل "الاشتراكية القائمة فى الواقع" Actually Existing، و"الاشتراكية المتطورة" developed، و"اشتراكية الدولة" كمفاهيم بديلة اقترحها المؤيدون والمنتقدون على حد سواء. و"الاشتراكية الواقعية" التى ظهرت باعتبارها الاسم المفضل، تعنى أن التكوين الاقتصادى والسياسى والاجتماعى للمجتمعات السوفيتية كان يمثل فى الحقيقة نمطاً إنتاجياً مميزا له اتجاهاته الذاتية الجوهرية التى لا يمكن فهمها بردها إلى مفاهيم العلم الاجتماعى الغربى، أو بواسطة أدوات الإيديولوجيا الشيوعية الرسمية.
وقدكان ملمحها المميز أولوية السياسة على الاقتصاد، وتضافر الاثنين معاً. فعلى الرغم من غياب ملامح الرأسمالية (مثل حقوق الملكية الواضحة، وأسواق السلع، ورأس المال، والعمل)، إلا أن هذا لا يعنى وجود الاشتراكية. فهذه الأخيرة تتطلب تنظيم الاقتصاد على أسس جمعية، مع التعاون من خلال خطة تعبر عن مصالح المنتجين المباشرين وتربط الاستهلاك والانتاج والاستثمار معا خلال المنطق الإنسانى لما يتم المتعبير عنه (وليس ما يفرض) من احتياجات. إن ملكية الدولة لوسائل الانتاج أدت فى الحقيقة إلى فراغ فى نظام الملكية. كما أن غياب حقوق الملكية شجع على الفساد، وأدى إلى تآكل المدافعية، وشوه الأولويات الإدارية، وشتت طاقات الدولة فى إحكام المسيطرة على الوظائف وتوجيهها بدلا من تخطيطها. كما حلت قوة جماعات الضغط محل تحديد وتشكيل المصالح المجتمعية. ثم أن إهمال المعايير الرسمية والعملية فى الأداء، فتبددت آليات تحديد المسئولية، و ألقت بالقوة فى أيدى الجماعات الحاكمة لهذا المجتمع الأحادى المركز، التى كانت تستهدف تعظيم قوتها على اقتصاد غير قابل للسيطرة. فالحزب والجهاز الإدارى للدولة وجهاز الأمن، والجيش كونوا صفوة قوة تشرف على مجتمع مجزأ، ولكنه مركزى من الناحية البيروقراطية. وأدى النمو الافتصادى الممكثف إلى استنزاف الموارد الطبيعية والبشرية لمجتمعات ارتبطت بأنماط تبعية غير قائمة على أى منطق اقتصادى، ولكنها مغروسة داخل إطار الاحتياجات الطاغية للمجتمع العسكرى الصناعى. وقد أصبحت الميزانيات الضعيفة، والنظام الهزيل للعمل، وعملية تسييس مكان العمل، واستخدام نظام الرعاية المعتمد على المصنع من أجل فرض نظام عمل لايسمح بوجود البطالة، ... كل هذه أصبحت خصائص لنظام إعادة التوزيع. وبدلاً من أن تعتمد المصالح الاقتصادية على الرشد الاقتصادى، فإنها شوهت بواسطة آليات إعادة التوزيع تلك. و أخيرا عملت المميزات المهنية والهيراركية المتدرجة على دمج معظم السكان بشكل اصطناعى ووضعتهم فى سلسلة من التبعية والاعتمادية.
وقد كان المجتمع يتسم بنظام لاطبقى حاسم، على الرغم من تواجد أشكال من الانغلاق الاجتماعى، خاصة داخل فئة الكادر الحزبى والمثقفين. فالوحدات البنائية المجزأة المشتتة غير المبلورة (التى لا تتخذ نظاما محدد) كانت موجودة إلى جانب المجتمع "الآخر" حيث الأبنية الاجتماعية الناشنة حديثا (المتبرعمة)، وفيها يقوم التنظيم الذاتى حول إشباع الاحتياجات الوسيطة والحقيقية فى نفس الوقت. فكانت هذه العلاقات الاجتماعية بمثابة بديل عن غياب المجتمع المدنى من ناحية، والمستوى الوسيط المفقود، الذى يربط الفرد والأسرة بالمؤسسات و المنظمات التى تكفلها الدولة من ناحية أخرى. وهدفت إلى اختراق التشرذم وتجاوز التعمية التى سمحت للحكام باستغلال قطاعات من السكان ضد بعضهم البعض فى أغلب الأحوال.
ومن وجهات النظر الداخلية الجديرة بالاهتمام عن الاشتراكية الواقعية، تلك التى طرحها رودولف باهروفى نقده الماركسى لمدولة ألمانيا الشرقية (فى كتابه: البديل فى أوربا الشرقية، الصادر عام ١٩٧٧) ويحدد باهرو تناقضا أساسيا فى الاشتراكية القائمة واقعيا ليس من الناحية الطبقية، وإنما باعتبارها نتاج "فائض الوعى" Surplus Consciousness الذى يمكن أن يغير المجتمع.
ومن المستحيل حتى الأن أن نقدم تحديدا مقنعا لمعنى الاشتراكية الواقعية. ولن يتسنى ذلك إلا بعد الابتعاد عنها، فعندئذ فقط يمكن للمرء أن يرى بوضوح مبادئها الاقتصادية والسياسية وملامحها المؤسسية الرئيسية، ورواسبها الاجتماعية. فمن المؤكد أن الأزمات الصحية ومشكلات استنزاف البيئة، والأخلاقيات الضعيفة الخاصة بالعمل، والفقر، والإجرام، والانحراف السياسى، بالإضافة إلى صور الفشل الأخرى التى لاحصر لها، والتى لازمت هذا الاتجاه القهرى فى التحديث، من المؤكد أن كل هذا يميل إلى تقليص إنجازاتها المؤكدة.
دور الانقسام الصيني-السوفييتي
احتوى جانب آخر لمصطلح الاشتراكية الحقيقية على عناصر من الخلاف الصيني السوفييتي و«خلافاتٍ» أخرى، التي كانت في الواقع تباعداتٍ أيديولوجية، بين الاتحاد السوفييتي والدول التابعة من جهة وجمهورية الصين الشعبية وأتباعها أصحاب النسخة الأكثر ماوية من الأيديولوجيا الشيوعية من جهة أخرى. رغب السوفييت بفرض فكرة أن صيغتهم للاشتراكية كانت «حقيقية» وأن صيغة الصينيين وأتباعهم لم تكن كذلك، تحديدًا لأن الحركة الشيوعية التي ألهمتها الماوية، والتي أخذت بالنمو بسرعة كبيرة في العالم بصفتها بديلًا «يساريًا راديكاليًا» للأفكار السوفييتية، ادّعت على الدوام أن الاتحاد السوفييتي لم يعد اشتراكيًا وأنه غدر بالثورة. من أجل مواجهة هذه الاتهام بالتحريف الماركسي، ادعى السوفييت بتحدٍّ أن اشتراكيتهم كانت «اشتراكية حقيقية»، مشيرين إلى أن النماذج الأخرى للاشتراكية كانت غير حقيقية.
الثقافة الشعبية السوفييتية
استُخدم المصطلح أيضًا كنقد ساخر. استُخدمت «حقيقية» للسخرية من «الاشتراكية الحقيقية». على وجه التحديد، بات المصطلح هدفًا لنكاتٍ سياسية عديدة في الاتحاد السوفييتي، كانت الأمثلة التالية نموذجيةً.
- «هل تعلم الحدود بين الاشتراكية الحقيقية والشيوعية؟»-«تمتد الحدود على طول جدار الكرملين» ]في تلميح إلى أن حكام الاتحاد السوفييتي كانوا هم فقط من يعيشون في مستقبل شيوعي مشرق وَعد به كارل ماركس[
- «ما هي الاشتراكية الحقيقية؟»-«هي حينما لا يمكنك الحصول على أي شيء دون أموال، إلا أنك لا تستطيع أساسًا شراء أي شيء بأموالك» ]في تلميح إلى الطوابير الطويلة والنقص المتكرر لبضائع المستهلكين في المتاجر السوفييتية[.
- سُئل الراديو الأرميني: «هل من الممكن بناء الاشتراكية الحقيقية في أرمينيا؟». أجاب الراديو الأرميني: «أجل، لكن من الأفضل بناؤها في جورجيا».
في الغرب
استُخدم مصطلح «الاشتراكية القائمة فعليًا» من قبل الشيوعيين الأرثوذوكسيين في الغرب لمهاجمة خصومهم الخارجيين (عادةً التروتسكيين) أو نقادهم الداخليين (عادةً الشيوعيين الأوروبيين). استُخدم تحقيق الاشتراكية «الفعلية» كرد على انتقادات القمع الذي مارسته هذه الجماعات داخل «البلدان الاشتراكية».