يحيى بن الحسين





الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام هو: أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وأمه: أم الحسن بنت الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين[ومائتين]، وكان بين مولده وبين موت جده القاسم عليه السلام سنة واحدة، وحمُل حين ولد إليه، فوضعه في حجره المبارك، وعَوَّذه وبَرَّك عليه ودعا له، ثم قال لابنه: بم سميته؟ قال: يحيى. وقد كان للحسين أخ لأبيه وأمه يسمى: يحيى، توفي قبل ذلك، فبكى القاسم عليه السلام حين ذكره، وقال: هو واللّه يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره وظهوره باليمن، وقد ذكرها العباسي المصنف لسيرته عليه السلام.

صفته عليه السلام وذكرعلمه وفضله ونبذ من سيرته

كان عليه السلام موصوفا من أيام صباه بفضل القوة والشدة والبأس والشجاعة، والاشتغال بالعلم والتَّوَفُّر عليه.

فأما الزهد والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه به، لظهور الحال فيه عند الخاص والعام، والموافق والمخالف، ولأن الزهد أمر شامل لبيت القاسم بن إبراهيم عليه السلام عام في أولاده وأسباطه إلى يومنا هذا، لاسيما من لم يتَغَرَّب منهم ولم يختلط بأمرآء هذه البلدان.

- ومما حكي من قوته وشدته: أنَّه كان يأخذ الدينار بيده فيؤثر في سكته بإصبعه ويمحوها.

- ومن الحكاية المشهورة عنه أنَّه كان له على رجل حق قبل أن يلي الأمر، فماطله وامتنع من توفيته، فحَرِدَ عليه يوما، فأهوى إلى عمود حديد فلواه في عنقه، ثم سواه وأخرج عنقه منه.

- وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه، عن محمد بن علي بن سليمان الرسي، عن ابنٍ لمحمد بن القاسم عليه السلام، أن يحيى عليه السلام كان غلاما حَزَوَّراً بالمدينة، وكان طبيب نصراني يختلف إلى أبيه الحسين بن القاسم على حمار له يعالجه من مرض أصابه، فنزل عن الحمار يوما وتركه على الباب، فأخذ يحيى عليه السلام الحمار وأصعده السطح، فلما خرج الطبيب لم يجد الحمار، فقيل له: صعد به يحيى السطح، فسأله أن ينزله، فمن المثل السائر: إنما ينزل الحمار من صعد به. فأنزله وقد دميت بنانه، فبلغ ذلك أباه فزجره وخاف عليه أن ترمقه العيون.

- وحكي أنَّه كان عليه السلام: أسدياً، أنجل العينين، واسع الساعدين غليظهما، بعيد ما بين المنكبين والصدر، خفيف الساقين والعجز كالأسد.

- وحكى أبو العباس الحسني رحمه اللّه، عن بعض من ورد تلك الناحية من العرب أن يحيى عليه السلام كان يدخل السوق بالمدينة وهو حَدَث في أوان البلوغ، وقد امتاروا من موضع، فيقول: ما طعامكم هذا؟ فيقال: الحنطة. فيدخل يده في الوعاء فيأخذ منها في كفه ويطحنه بيده، ثم يخرجه فيقول هذا دقيق. يُرِيَ شدته وقوته.

فأما تقدمه في العلم، فاشتهاره يغني عن تقصِّيه، ومن أحب أن يعرف تفصيله فلينظر في كتبه وأجوبته عن المسائل التي سئل عنها، ووردت عليه من البلدان، نحو (كتاب الأحكام)، و(المنتخب)، وكتاب (الفنون)، وكتاب (المسائل)، و(مسائل محمد بن سعيد)، و(كتاب التوحيد)، و(كتاب القياس).

وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن الفضل بن العباس أنَّه سمع محمد بن يحيى المرتضى رضي اللّه عنه أو غيره يقول: إن يحيى بن الحسين عليه السلام بلغ من العلم مبلغ يُخْتَارُ عنده ويُصَنِّف وله سبع عشرة سنه.

وحدثني رحمه اللّه عن أبي جعفر محمد بن العباس الحريري الفقيه، أنَّه سمع علي بن العباس الحسني تعالى يقول: إنَّه سمع أبا بكر بن يعقوب عالم أهل الرأي وحافظهم يقول ـ حين ورد عليه باليمن ـ: قد ضل فكري في هذا الرجل ـ يعني يحيى بن الحسين عليه السلام ـ فإني كنت لا أعترف لأحد بمثل حفظي لأصول أصحابنا، وأنا الآن إلى جنبه جَذَع، بينا أجاريه في الفقه وأحكي عن أصحابنا قولاً، إذ يقول: ليس هذا يا أبا بكر قولكم، فأَرَادُّه، فيخرج إلي المسألة من كتبنا على ما حكى وادعى، فقد صرت إذا ادعى شيئا عنَّا أو عن غيرنا لا أطلب معه أثراً.

وحدثني رحمه اللّه قال: دخلت الري سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وكنت ارتحلت إلى شيخ العلوية وعالمها أبي زيد عيسى بن محمد العلوي رحمه اللّه ـ من ولد زيد بن علي عليه السلام ـ وإلى غيره من ابن أبي حاتم وآخرين، وحضرت مجلس النظر لأبي بكر الخطاب فقيه الكوفيين وحافظهم، فجريت مع من حضر في مسائل النظر، فقال: ما قرابة ما بينكم وبين أصحاب اليمن من أولاد يحيى بن الحسين وأولئك الأشراف؟ فقلت له: كان يحيى بن الحسين من أولاد إبراهيم بن الحسن بن الحسن. ونحن من ولد داود بن الحسن بن الحسن، وداود وإبراهيم أخوان، فنحن وهم بنوا الأعمام، ولكن أم يحيى بن الحسين كانت عمة جدي. قال: علمت أن هذا عن أصل، وكان يعجبه كلامي.

ثم أنشأ يحدث، قال: كنا عند علي بن موسى القمي فَذُكِرَ له خروج علوي باليمن يدعي الإمامة، فقال: حسني أم حسيني، فقيل: بل حسني، ويقال: إن له دون أربعين سنة، فقال: هو ذاك الفتى، هو ذاك الفتى. مرتين، فقلنا من هو؟ قال: كنا في مجلس أبي خازم القاضي يوم الجمعة، فدخل شاب له رَوَاء ومنظر فأخذته العيون ومَكَّنُوه؛ فجلس في غمار النَّاس، فما جرت مسألة إلا خاض فيها وذكر ما يختاره منها ويحتج ويناظر، فجعلوا يعتذرون إليه من التقصير، ثم أسرع النهوض فقيل لأبي خازم: هذا رجل من أهل الشرف من ولد الحسن بن علي عليه السلام، فقال: النَّاس قد علمنا أن ما خالط قلوبنا من هيبته لمنزلة له. فاجتهدنا أن نعرف مكانه وسألنا عنه فلم نقدر عليه.

فلما كانت الجمعة الثانية اجتمع النَّاس وكثروا شوقاً إلى كلامه ورجاء أن يعاودهم، فلم يحضر، فتعرفنا حاله فإذا ذلك تخوف داخله من السلطان، فكان أبو خازم يقول: إن يكن من هؤلاء أحد يكون منه أمر فهذا. ثم عاود علي بن موسى فقال: ألم أقل: إن العلوي هو ذاك الفتى، قد استعلمت فإذا هو ذاك بعينه .

وحدثني رحمه اللّه، عن علي بن سليمان أنَّه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال: بعض أهل الرأي ـ وأكثر ظني أنَّه أبو عبد اللّه محمد بن عمرو الفقيه ـ : كان واللّه فقيهاً. قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى!!

وحدثني رحمه اللّه قال: سمعت أبا محمد الزركاني رحمه اللّه يقول: إنهم كانوا مع الناصر رضي اللّه عنه بالجيل قبل خروجه، فنُعِيَ إليه يحيى بن الحسين عليه السلام؛ فبكى بنحِيْبٍ ونشِيْجٍ، ثم قال: اليوم انهَدَّ ركن الإسلام. فقلت: ترى أنهما تلاقيا لّمَّا قَدِمَ يحيى بن الحسين طبرستان. قال: لا.

وحدثني رحمه اللّه قال: حدثني جدي رحمه اللّه: أن يحيى بن الحسين عليه السلام قدم آمل قبل ظهوره والناصر رضي اللّه عنه مع محمد بن زيد بجرجان ومعه أبوه وبعض عمومته والموالي، فنزلوا حجرة بخان العلاء ـ قال: وأشار إليها ونحن نجتاز بالخان ـ يوما. قال: ولم أسمع بأنه بلغ من تعظيم بشر لإنسان ما كان من تعظيم أبيه وعمومته له، ولم يكونوا يخاطبونه إلا بالإمام. قال: وامتلاء الخان بالناس حتى كاد السطح يسقط وعلا صيته، وكتب إليه الحسن بن هشام مَنْ سارَّية وكان على وزارة محمد بن زيد بأن ما يجري يوحش ابن عمك. فقال: ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلا فقلنا عسى اللّه أن يفيدهم منا. وخرجوا مسرعين وثيابهم عند القَصَّار وخفافهم عند الأسكاف ما استرجعوها.

قال: وحملنا إليهم من منزلنا لحما نيئاً ودجاجا وشيئا مما يصطبغ به من حصرم وغيره، فتناولوا إلا اللُحمان فإنها ردت إلينا كهيئتها، فسألنا الموالي عن سبب ردها، فقالوا: إنَّه يقول: بلغني أن الغالب على أهل هذا البلد التشبيه والجبر، فلم آمن أن يكون من ذبائحهم، فقد سمعت أن أهلنا بهذا البلد لا يتوقون ذبائحهم.

أولاده عليه السلام

محمد المرتضى، وأحمد الناصر، وفاطمة، وزينب، وأمهم فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، والحسن، أمه صنعانية.

بيعته ومدة ظهوره ونبذ من سيرته في ولايته

كان سبب ظهوره أن أبا العتاهية الهمداني كان من ملوك اليمن؛ فراسله عليه السلام وهو بالمدينة بأن يحضر اليمن ليبايعه ويتسلم الأمر منه.

فخرج عليه السلام إلى هناك، فبايعه أبو العتاهية وعشائره وجماعة أهل تلك الناحية، وقام بين يديه مختلعاً متجرداً تقرباً إلى اللّه تعالى وإنابة إليه، وذلك سنة ثمانين ومائتين، أيام الملقب بالمعتضد، وله حين ظهر خمس وثلاثون سنة.

واستقام له الأمر، وخوطب بأمير المؤمنين، ونُعِتَ بالهادي إلى الحق وحصل بـ(صعدة) حرسها اللّه وكانت بين (خولان) فتنة وخلاف ومحاربات، فأصلح بينهم، ثم دبَّر أمر البلاد وأنفذ العمال إلى المخاليف.

ثم فتح (نجران) وأقام بها مدة وساس الأمور بها وبث العدل فيها، ثم عاد إلى (صعدة) حرسها اللّه.

ثم غلبت القرامطة على (صنعاء)، ورئيسهم رجل نَجَّار من أهل الكوفة يعرف بـعلي بن الفضل وادعى النبوة، وسمع من عسكره التأذين بـ (أشهد أن علي بن الفضل رسول اللّه)!! واجتمع إلى هذا الرجل عدد كثير من أهل اليمن وغيرهم، وهَمَّ بأن يقصد الكعبة ويخربها. فبلغ ذلك إلى يحيى بن الحسين عليه السلام، فجمع أصحابه وقال لهم: قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فَجَبُن أصحابه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم وكثرة عدد أولئك، وكان أصحابه في ذلك الوقت المقاتلة منهم ألف رجل، فقال لهم الهادي إلى الحق عليه السلام: تفزعون وأنتم ألفا رجل، فقالوا: إنما نحن ألف، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم. فقال له أبو العشائر ـ من أصحابه وكان يقاتل راجلا ما في الرجالة مثله ـ : مافي الرجالة أشجع مني، ولا في الفرسان أشجع منك. فانْتَخِب من الجميع ثلا ثمائة رجل وسلِّحهم بأسلحة الباقين حتى نبيتهم فإنا لا نفي بهم إلا هكذا. فاستصوب عليه السلام رأيه فأوقعوا بهم ليلا وهم ينادون بشعاره عليه السلام ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُرَهُ إِنَّ اللّه لَقَوْيُّ عَزِيْزٌ﴾ [الحج: 40]، فمنحوه أكتافهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم منهم شيئا كثيرا. حدثني بذلك أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن أبي عبد اللّه اليمني ـ فارس يحيى بن الحسين عليه السلام ـ .

وحدثني عنه أنَّه قال: شهدت معه عليه السلام ثلاثا وسبعين وقعة مع القرامطة وكان يحارب بنفسه. قال: وإذا قاتل قاتل على فرس له يقال له: أبو الحماحم، ما كان يطيقه غيره من الدواب، لا لسمن كان به، بل كان وسطاً من الرجال لكنه كان شديداً قوياً، وكان يعرف بالشديد.

قال: ورأيته عليه السلام شَالَ برمحه رجلا كان طعنه به عن فرسه ورفعه فانثنى قضيب الرمح وانكسر.

وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه قال: سمعت غير واحد من أصحابه يحدث عنه أنَّه قبض على يد رجل بارزه وبيده السيف فَهَشَّم أصابعه على المقبض.

وحدثني أبو العباس رحمه اللّه قال: حدثني أبو العباس الفضل بن العباس رحمه اللّه، أنَّه قال: حدثني سليم مولى فلان وسماه لي وكان يلي خدمة الهادي عليه السلام في داره. قال: كنت أتبعه ـ حين يأخذ النَّاس فراشهم ـ في أكثر لياليه بالمصباح إلى بيت صغير في الدار كان يأوي إليه، فإذا دخله صرفني فأنصرف، فهجس ليلة بقلبي أن أحتبس، وأتيت على باب المسجد أنظر ما يصنع. قال: فسهر عليه السلام الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دموعه صلى اللّه عليه ونشيجاً في حلقه، فلما كان الصبح قمت فسمع حسي، فقال: من هذا. فقلت: أنا. فقال: سليم ما عجل بك في غير حينك ؟‍! قلت : ما برحت البارحة جعلت فداك. قال: فرأيته إشتد ذلك عليه وحَرَّج عليَّ أن لا أحدث به في حياته أحدا. قال: فما حَدَّثَنَا به سليم إلا بعد وفاة الهادي إلى الحق عليه السلام أيام المرتضى.

وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن أبي عبد اللّه اليمني رحمه اللّه قال: كنت أسمع الهادي عليه السلام كثيراً يقول: أين الراغب، أين من يطلب العلم، إنما يجينا مجاهد راغب في فضله متحرٍ ما عند اللّه لأهله، ولعمري إنَّه لأكبر فروض اللّه على عبده، وأحق ما كان من تقدمه يده، ولكن لو كان مع ذلك رغبة في العلم وبحث عنه لصادفوا من يحيى بن الحسين علماً جماً.

وقال أحمد بن يحيى: إنَّه سمع الهادي عليه السلام يقول: قد عَفُنَ العلم في صدري، كما يعفن الخبز في الجرة إذا طرح بعضه على بعض في جرة ثم لم يقلب.

وكان عليه السلام إبتدأ بتأليف كتاب (الأحكام) بالمدينة، ولما انتهى إلى باب البيوع اتفق خروجه إلى اليمن، واشتغاله بالحروب فكان يملي بعد البيوع على كاتب له كلما تفرغ من الحرب، وكان قد هم بأن يفرع ويكثر من التفريع، فحالت المنية بينه وبين ذلك عليه السلام.

وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه عن أبي الحسن الفارسي قال: سمعت علي بن العباس الحسني رحمه اللّه يقول: دخلت على يحيى بن الحسين عليه السلام بعيد سحر والشموع بين يديه وقد تدرع وتسلح لقتال القرامطة، وقد هجموا بجموعهم وقضهم وقضيضهم فوجدته مفكراً مطرقاً. فقلت: يظفرك اللّه بهم أيها الإمام ويكفيكهم فطال ما كفى. فقال: لست أفكر فيهم، فإني أود أن لي يوما كيوم زيد بن علي عليه السلام، ولكن بلغني عن فلان ـ وذكر بعض الطالبية ـ كذا وكذا من المنكر فغمني. فقال بعض من حضر: ويفعل أيضا كذا وكذا، فقال: سوءة لذلك الشيخ.

وحدثني أبو العباس رحمه اللّه عن أبي عبد اللّه اليمني رحمه اللّه أنَّه فقده يومين لِحُمَّى كانت به، قال: فبينا أنا واضع رأسي إذْ قُرِع البابُ، فقمت إذ لم يكن في المنزل غيري، فإذا أنا بالهادي عليه السلام وبيده تُوْر مغطى فيه بعض ما يصلح للمحموم. قال: كذلك كانت عادته يمرِّض أصحابه ويداوي جراحاتهم بيده، وكان أسر الأشياء إليه الضيافة، ويتعهد من يطعم عنده بنفسه.

وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه، عن أبي القاسم عبد اللّه بن أحمد الطيب، عن أبي العباس الفضل بن العباس الأنصاري، وكان من خيار المهاجرين إلى يحيى بن الحسين عليه السلام. قال: كان يحيى بن الحسين يقول كثيراً: إنما أخذ لنفسي مثل ما أعطي أحدكم.

وإنه قسم يوماً شيئاً من التمر فحبس منه ضعفي ما أعطا الواحد منا فداخلني من ذلك شيء لقوله الذي كان يقوله، ورابني ذلك، إلى أن قدم بعض الغُيَّب من أصحابه من وجه بعثه هو فيه، فأخرج إليه نصيبه مما كان حبسه، فخنقتني العَبْرة وجعلت أقبل أطراف الهادي عليه السلام وأعتذر إليه وأخبره بالأمر. فقال: أنت في حل يا أبا العباس وسعة من جهتنا، ولكن حسنوا ظنونكم بإخوانك فإن المؤمن يكون عند حسن الظن بأخيه.

وكان شيخنا أبو الحسين علي بن إسماعيل الفقيه رحمه اللّه يحكي عن أبيه إسماعيل بن إدريس أنَّه قال: قدمت المدينة وقد وردها يحيى بن الحسين عليه السلام من اليمن مغاضباً لأهلها لأنهم لا يطيعون اللّه ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فاعتزل أمرهم، فوردت كتبهم على أبيه الحسين بن القاسم وعمومته بالمدينة يتوسلون بهم إليه، ويسألونهم التشفع إليه في معاودتهم، على أنهم لا يخالفونه في شيء، فعاودهم بعد مسألتهم إياه، وذكروا أنَّه منذ فارقهم قد اختلفت ثمارهم وزروعهم وأسرع الموت في مواشيهم وأنعامهم.

قال: فسألته عليه السلام عن ذبيحة المشبهة والمجبرة. قال: لا تحل. فقلت: أتَحِلُّ ذبائح اليهود والنصارى ولا تحل ذبائح المشبهة والمجبرة ؟ فضحك وقال: يا أبا علي لا تحل ذبائح اليهود ولا النصارى.

حدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه، عن عمه محمد بن الحسن رحمه اللّه، قال: سمعت علي بن العباس رحمه اللّه يقول: ركب يحيى بن الحسين عليه السلام إلى موضع هو مجمع يعظ النَّاس ويذكرهم، فبلغ أبا القاسم ابنه ركوبه فأسرج وركب وأسرع نحوه فعرض له في الطريق بعض الطبرية وحال بينه وبين الهادي فأهوى إليه بسوطه ينحيه وكانت من الهادي التفاتة إليه فلم يزل يقطع مسيره في تقريعه وعذله. ويقول: أبا القاسم، مؤمنٌ وليُ لله تعالى تكلمه بالسوط ؟!

قال: وسمعت علي بن العباس رحمه اللّه يذكر أن الهادي عليه السلام نزل يوما في بعض المواضع وجاء إليه ابنه أبو القاسم المرتضى، فأخذ بعض الطبرية كساء له كان عليه ولفه ووضعه ليجلس عليه أبو القاسم فجلس، ثم جاء غلام أبي القاسم بكساء في منديل على عاتقه فأمر الهادي بإخراجه، ثم قال للرجل: إجلس عليه كما جلس هو على مالك.

قال: وسمعت علي بن العباس يقول: كنا عنده يوما وقد حمي النهار وتعالى وهو يخفق برأسه، فقمنا، وقال: أدخل واغفي غفوة. وخرجت لحاجتي وانصرفت سريعاً، وكان اجتيازي على الموضع الذي يجلس فيه للناس، فإذا أنا به في ذلك الموضع فقلت له في ذلك. فقال: لم أجسر على أن أنام، وقلت: عسى أن ينتاب الباب مظلوم فيؤاخذني اللّه بحقه، ووليت راجعاً كما دخلت!!

وقد كان عليه السلام خرج من اليمن وعاود المدينة في بعض الأوقات مغاضباً لأهلها، وكان السبب فيه: أن بعض الأمراء هناك من أولاد ملوك اليمن من عشائر أبي العتاهية شرب الخمر فأمر بإحضاره ليقيم عليه الحد، فامتنع عليه، فقال عليه السلام: لا أكون كالفتيلة تضيء غيرها وتحرق نفسها. فتبعه جماعة منهم وأظهروا التوبة والإنابة وتشفعوا إلى أبيه في مسألة العودة فعاد.

وحدثني يوسف بن أحمد بن كج قال: حدثني القاضي أبو حماد المروزي، قال: حدثني أبو الحسن الهمداني المعروف بالحروري ، وكان رجلا فقيها على مذهب الشافعي، تاجر جمع بين الفقه والتجارة. قال: قصدت اليمن في بعض الأوقات، وحملت ما أتجر فيه إلى هناك ابتغاء لرؤية يحيى بن الحسين لِمَا كان يتصل بي عن آثاره، فلما حصلت بصعدة حرسها اللّه، قلت لمن لقيته من أهلها: كيف أصل إليه، ومتى أصل، وبمن أتوسل في هذا الباب؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدر، تراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بالناس الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد إلى قوم أعِلاّ في ناحية منه، فعادهم وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه، فغير شيئا أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فنفذت إليه وسلمت فرحب بي وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي، فعرفته أني تاجر وأني وردت ذلك المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي، وكان يكرمني إذا دخلت إليه، إلى أن قيل لي يوم من الأيام: إن غداً يوم المظالم وإنه يقعد فيه للنظر بين النَّاس، فحضرت غدات هذا اليوم، فشاهدت هيبة عظيمة، ورأيت الأمراء والقواد والرجالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات ويفصل الأمور، فكأني شاهدت رجلا غير من كنت شاهدته وبهرتني هيبته.

فادَّعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعي عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّف الشهود فتعجبت من ذلك، فلما تفرق النَّاس دنوت منه فقلت: أيها الإمام رأيتك حَلَّفْتَ الشهود!! فقال: هذا رأيي، أنا أرى تحليف الشهود احتياطاً عند بعض التهمة، ما تنكر من هذا؟ هو قول طاووس من التابعين، وقد قال اللّه تعالى: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا﴾[المائدة: 107]، قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقوله وقول من قال به من التابعين، والدلالة عليه، ولم أكن عرفت شيئا منه قبل ذلك.

وأنفذ إلي يوما من الأيام يقول: إن كان في مالك لله حق زكاة فاخرجه إلينا، فقلت: سمعاً وطاعةً من لي بأن أخرج زكاتي إليه وحَسَبْتُ حسابي فإذا علي من الزكاة عشرة دنانير، فأنفذتها إليه، فلما كان بعد يومين بعث إليَّ واستدعاني، فإذا هو يوم العطاء، وقد جلس لذلك والمال يوزن ويخرج إلى النَّاس، فقال لي: أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين. فقمت وقلت: اللّه اللّه أيها الإمام كأني أرتاب بشيء من فعلك، فتبسم وقال: ما ذهبت إلى حيث ظننت، ولكن أردت أن تشهد إخراج زكاتك.

وقلت له يوما من الأيام: رأيتك أيها الإمام أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم وتمشي في السوق، فقال لي: هكذا كان أبائي، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة.

وسيرته عليه السلام أكثر من أن يحتمل هذا الكتاب ذكرها. وقد صنف علي بن محمد بن عبيد اللّه العلوي العباسي سيرته وجمع في كتابه أكثرها، إلاّ أنا أوردنا هاهنا أشياء منها لم يوردها في ذلك الكتاب.

مبلغ عمره وموضع قبره

وتوفي: عليه السلام: في آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين عشية الأحد لعشر بقين من ذي الحجة، وكان ظهوره سنة ثمانين، فكانت مدة ظهوره وخلافته ثمان عشرة سنة إلا أياما، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وقد كان اعتل علة شديدة إلا أنَّه مضى وهو جالس لم تتغير جلسته.

ودفن عليه السلام في جانب من المسجد الجامع بصعدة.